التوجيه المدرسي واستحقاقات الجودة التربوية

image_pdf

يعتبر تطوير المنظومة التربوية والارتقاء بها في مدارج الجودة والإتقان من المشاغل الملحّة لأية دولة تحرص على المضي قدما في طريق التقدّم الاجتماعي، وعلى مجاراة نسق التطور الذي تتنافس عليه الأمم وتهيّؤ له كل المحرّكات والضمانات التي توجد المنظومة التربوية في قاعدتها. فأي أمل في تحقيق النجاحات الاقتصادية والإجتماعية وفي الإصطفاف ضمن الأمم المتقدمة لن يكون ممكنا دون منظومة تربوية راقية، مبدعة، تقدم منتوجا جيدا وتدعم أسسها باستمرار وتعدل عناصرها ومكوّناتها كلما اقتضى الأمر واستدعت المستجدات العلمية والتربوية ذلك. وينبني تطوير هذه المنظومة على عديد العناصر يتعلق بعضها بالبرامج والمقررات وبعضها بالمناهج والمقاربات البيداغوجية وبعضها بالحياة المدرسية والمناخات العامة التي يجري فيها آداء المنظومة برمتها. وفي هذا التمثل يتنزل التوجيه المدرسي الذي يحيط بجانب مهمّ جدّا من آداء التلاميذ فيؤثر فيه بعمق ويرشده ويخرجه من دائرة التذبذب والمزاجية، ومن خلال ذلك يمرّ تأثيره إلى المنظومة التربوية بكاملها ليضمن لها خطوة هامة على درب الجودة التربوية الشاملة.

فما معنى الجودة التربوية ؟ وما المقصود بالتوجيه المدرسي، لأن المصطلح له معان مختلفة بين المشرق العربي ومغربه ؟ وكيف يكون هذا التوجيه أحد مداخل الجودة التربوية الذي لا غنى عنه، سواء لعمق فعله في المنظومة التربوية وتعدّد إضافاته لها أو بفعل تأثيراته على اختيارات التلاميذ وعلى مختلف تمثلاتهم الذاتية والموضوعية؟

1 – في معنى الجودة التربوية:

ظهر مفهوم الجودة الشاملة Total Quality Management ( TQM ) بالولايات المتحدة الأمريكية في ثمانينات القرن العشرين في الحقل الاقتصادي بالأساس وذلك بفعل المنافسة العالمية واكتساح الصناعات اليابانية العالم وخاصة أسواق العالم الثالث. وهو ما مثل مشغلة فعلية للولايات المتحدة ولحلفائها المسيطرين عادة على الأسواق العالمية خوفا من خسارتهم لها ومن تراجع نفوذهم بها. وكانت الجودة تعني في مجملها الإيفاء بمتطلبات الحريف المستفيد بكل دقة والإلتزام بشروطه وبالمواصفات التي يطلبها. وهو ما أدى إلى إدخال تغييرات جذرية على منظومة الإنتاج برمتها في كل مراحلها وضبط مؤشرات وأدوار دقيقة يلتزم بها كل طرف يشارك في هذه المنظومة. وبذلك تعرّف الجودة الشاملة على أنها ” نظام يتضمّن مجموعة من الفلسفات الفكرية المتكاملة والأدوات الإحصائية والعمليات الإدارية المستخدمة لتحقيق الأهداف، ورفع مستوى العميل والموظف على حدّ سواء، وذلك من خلال التحسين المستمرّ للمؤسسة وبمشاركة فعالة من الجميع من أجل منفعة الشركة والتطوير الذاتي لموظفيها، وبالتالي تحسين نوعية الحياة في المجتمع “(1). وانطلاقا من هذه الدائرة الاقتصادية اكتسح مفهوم الجودة الشاملة جميع القطاعات ومرّ إلى المجال التربوي ليستهدف مجمل السمات والخصائص التي تتعلق بالأنشطة التعليمية وتفي باحتياجات التلاميذ المستفيدين، أي أن الجودة التربوية صارت تعني درجة من الإتقان والتميّز ومستوى تربويا راقيا تبلغه المنظومة التربوية من خلال إستجابتها إلى مجموعة من الشروط والمؤشرات المتفق عليها عالميا تخص جميع المحاور من القيادة والتسيير الإداري إلى المقررات والمقاربات والمناهج وكذلك مناخات الحياة المدرسية. ويعرف البعض هذه الجودة التربوية بأنها تعني ” أداء العمل بأسلوب صحيح متقن وفق مجموعة من المعايير التربوية الضرورية لرفع مستوى جودة المنتج التعليمي بأقل جهد وكلفة محققا الأهداف التربوية وأهداف المجتمع وسد حاجة سوق العمل من الكوادر المؤهلة علميا “(2). ويعرفها أحمد درياس بأنها ” أسلوب تطوير شامل ومستمر في الآداء يشمل كافة مجالات العمل التعليمي، فهي عملية إدارية تحقق أهداف كل من سوق العمل والطلاب، أي أنها تشمل جميع وظائف ونشاطات المؤسسة التعليمية ليس فقط في إنتاج الخدمة ولكن في توصيلها، الأمر الذي ينطوي حتما على تحقيق رضا الطلاب وزيادة ثقتهم وتحسين مركز المؤسسة التعليمية محليا وعالميا “(3). وجلي غلبة الرؤية الاقتصادية للمسألة حتى على مستوى المفاهيم المستعملة. بل أنه تم تطوير نظام الإيزو 9000 المعمول به في مؤسسات التصنيف الاقتصادي International Standardization Organization ليتوافق مع الميدان التربوي فظهر ما يسمّى الإيزو 9002 ويتضمن 19 بندا تمثل مجموعة متكاملة من المتطلبات الواجب توافرها في نظام الجودة المطبقة في المؤسسات التعليمية للوصول إلى خدمة تعليمية عالية(4). كما اشتغل الباحثون على مؤشرات الجودة التربوية وضبطوا عناصرها دون أن تكون بينهم اختلافات كبيرة. ونذكر في هذا الصدد المقياس الذي طوره ” إدوارد ديمنج ” رائد فكرة الجودة الشاملة، ويتكون من ” أربعة عشر نقطة توضّح ما يلزم لإيجاد ثقافة الجودة وتسمى هذه النقاط ” جوهر الجودة في التعليم ” وتشمل ما يلي(5):

1 ـ إيجاد التناسق بين الأهداف. 2 ـ تبني فلسفة الجودة الشاملة. 3 ـ تقليل الحاجة للتفتيش.

4 ـ إنجاز الأعمال المدرسية بطرق جديدة. 5 ـ تحسين الجودة، الإنتاجية، خفض التكاليف

6 ـ التعليم مدى الحياة. 7 ـ القيادة في التعليم. 8 ـ التخلص من الخوف. 9 ـ إزالة معوقات النجاح. 10 ـ خلق ثقافة الجودة. 11 ـ تحسين العمليات. 12 ـ مساعدة الطلاب على النجاح

13 ـ الالتزام. 14 ـ المسؤولية.

وبتأملنا في هذه النقاط يمكن أن نسجّل عديد الإستنتاجات أولها إلتزام هذا المقياس ” بتحقيق الهدف الأساسي للجودة ألا وهو رضا المستفيد والمتمثل بالطلبة والمعلمين وأولياء الأمور والمجتمع المحلي وسوق العمل والتحسين المستمر في عناصر العملية التعليمية “. أما الإستنتاج الثاني فيخص الوشائج الوثيقة التي يمكن أن نلحظها بين هذا المقياس ومنظومة التوجيه المدرسي في عديد النقاط خاصة منها الأولى والرابعة والثامنة والتاسعة والحادية عشر والثانية عشر، فهي تقترب كثيرا من الأهداف التي يسعى إليها التوجيه المدرسي في مختلف أنشطته ومراحله، بما يجعل منه آلية فعلية لاقتحام مجال الجودة التربوية ومدخلا من مداخلها الحاسمة. لكن لنوضح مسألة التوجيه أولا.

2 – التوجيه المدرسي، شمولية المعنى وكثافة الأنشطة:  

التوجيه المدرسي هو مرافقة تربوية للتلاميذ يقوم بها مختصون، لإقدارهم على رسم مسارات مستقبلهم الدراسي والجامعي والمهني وحسن اختيار اختصاصاتهم وبناء مشاريعهم وفق تدقيقات علمية موضوعية تبنى على أساس التوافق التام بين المؤهلات الخاصة والقدرات الشخصية والرغبات المرسومة. ويهدف إلى ضمان النجاح والتميز الدراسي في مختلف المسالك والإختصاصات والتوفق إلى بناء مشاريع ناجحة في جميع مراحلها الدراسية والمهنية والإجتماعية. لذلك يمثل التوجيه المدرسي ميدانا حساسا وشاسعا تتقاطع عنده عديد الإختصاصات والمعارف الخاصة بعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية مع عديد المعارف الميدانية والتطبيقية الخاصة بعلوم الشغل والمهن والمستقبليات والإحصاء والتكنولوجيات الرقمية الحديثة، وهو ما جعل من التوجيه اختصاصا معقدا ومستقلا بنفسه تحت يافطة علم النفس التوجيه، له مختصوه وأدبياته ومؤسساته الأكاديمية وآليات اشتغاله. واتساقا مع ذلك يلاحظ البعض أنه ” يقصد بالتوجيه مجموع الخدمات التربوية والنفسية والمهنية التي تقدم للفرد ليتمكن من التخطيط لمستقبل حياته وفقا لإمكاناته وقدراته العقلية والجسمية وميوله بأسلوب يشبع حاجاته ويحقق تصوّره لذاته ” (6).

ولئن ظهر التوجيه المدرسي، كمبحث مستقل بذاته، منذ مطلع القرن العشرين ونما بسرعة بين أمريكا وأوروبا بالتوازي مع النمو الاقتصادي والتطوّر العلمي والتكنولوجي الذين شهدهما النصف الأوّل من ذلك القرن، فإنه لم يظهر عندنا كخدمة مهيكلة حائزة على جميع عناصر المقاربات التربوية من أدبيات وقوانين وهياكل ومشرفين مختصين واشتغال جامعي أكاديمي إلا مع الإصلاح التربوي الثاني الذي أنجز في بداية تسعينات القرن الماضي. وظهر تبعا لذلك سلك مختصي التوجيه المدرسي والجامعي بالمندوبيات الجهوية وبالمعاهد الثانوية يؤمنون هذه المرافقة التربوية التي يحتاجها جميع التلاميذ، فيلتقون بهم بفصولهم في مناسبات عديدة في مستويات المرحلة الثانوية أساسا يعرفونهم بالإختصاصات والشعب الثانوية والجامعية ويرشدونهم إلى آليات وسبل الإختيار الصائب وإلى ضمانات التوفق في التعامل مع المستقبل الدراسي والمهني. كما يساعدونهم على تمثل ذواتهم وعلى الإنتباه إلى مؤهلاتهم الحقيقية وكيفية توظيفها على أحسن وجه لرسم مسارات مضمونة النجاح. ويتوسع إشتغال هؤلاء المختصين إلى البحث ودراسة الظواهر المدرسية المستفحلة والحادثة ومتابعة الحياة المدرسية، وإلى تكوين الأسلاك التربوية وتأطيرها، أو الإحاطة بمستوى الإعدادي أيضا سواء لتيسير إندماج التلاميذ الجدد أو لتأهيل المقبلين منهم على المناظرات الوطنية للنجاح فيها بتميّز.

وواضح أن هذه الأنشطة ثريّة جدا وحاسمة في تطوير الخدمات التربوية المقدمة بمختلف المؤسسات وخارجها أيضا في عديد الندوات والتظاهرات التربوية والشراكات التي تعقدها الوزارة ومؤسساتها مع أطراف أخرى صحية ومهنية واجتماعية تتقاطع أنشطتها جميعا مع التوجيه المدرسي في أكثر من نقطة وأكثر من مناسبة.

ونحن نعتمد هذا الزخم في النشاط ومختلف هذه التفاعلات لنؤكد أهمية الدور الذي يلعبه التوجيه المدرسي في ارتقاء المنظومة التربوية درجات في مسار الجودة الشاملة، فبصماته جلية في إفادتها وفي مساعدة المستفيدين منها على وجه الخصوص، أي التلاميذ، بما يجعل منه أحد العناصر الهامة في تلبية إستحقاقات الجودة التربوية.

3 – التوجيه المدرسي، مدخل أساسي لضمان الجودة التربوية:  

يستدعي تأكيد مساهمة التوجيه المدرسي في ارتقاء العملية التربوية بالمعاهد وفي تجويد آدائها وإتقانه، كشف تأثيره الإيجابي على سير المنظومة ككل وتوضيح استفادتها الفعلية منه، وعلى توجيه اختيارات التلاميذ الوجهة الصحيحة وتعديل آدائهم الدراسي وإنضاج سلوكياتهم بصفة عامة. 

أ – التوجيه المدرسي وتأثيراته على المنظومة التربوية:

إن المتابع لمجريات الأمور في المنظومة التربوية التونسية وسيروراتها التاريخية يلاحظ الإضافة المهمة التي كسبتها بفضل إقرار تطوير التوجيه المدرسي في شكله الجديد وإيجاد المراجع القانونية الضرورية التي تضبط إجراءاته وتنظّم سيرورته على مستوى المواعيد القارة والمراحل المعنية والمتدخلين فيه. بدأ ذلك مع المنشور 106 خاصة الصادر عن إدارة التعليم الثانوي بتاريخ 6 نوفمبر 1992، الذي أكد تقسيم المرحلة الثانوية إلى مسالك تعليم عام وشعب إختصاص تفضي جميعا إلى الباكالوريا ” حفاظا على توازن النظام التربوي وشمولية التكوين وتلافي السلبيات التي أفرزها نظام التوجيه سابقا باعتباره لم يعد يوافق السن التي تظهر فيها عادة مؤهلات التلميذ واستعداداته الحقيقية “(7). إذ كان التوجيه يقرر في نهاية المرحلة الإعدادية أي موازيا لسن المراهقة بكل تفاعلاتها. وفي هذا التجديد تبنّ واضح لمبررات علمية تضفي على هذا الإختيار كثيرا من المصداقية والإقناع. وحدد هذا المنشور الإختصاصات وأنواع الباكالوريا التي تفضي إليها جميعا، بخلاف ما كان سابقا عندما كانت الإختصاصات التقنية تنتهي بالحصول على ديبلوم تأهيل تقني لا يمكّن من المواصلة بالتعليم العالي. وقع إقرار بعث باكالوريا تقنية، وتفريع شعبة العلوم السابقة إلى شعبة رياضيات وشعبة علوم تجريبية وألغيت شعبة رياضيات تقنية. وعاد العمل باختصاص الإقتصاد والتصرف وتمّ تثبيت إختصاص الآداب.

والمتأمل في هذه الهيكلة الجديدة يلاحظ استجابتها أكثر لمؤهلات التلاميذ ورغباتهم وإعطائهم المزيد من الأمل وتغذية طموحهم إلى تحصيل أرقى الشهادات العلمية الجامعية بدل التعسف على أغلبهم وإنهاء طموحاتهم عند الديبلومات التقنية المتوسطة. وفي هذا تطوير هامّ للمنظومة التربوية ككل التي أصبحت محترمة أكثر لتلاميذها ومغذية لروح البذل والعطاء عندهم، وارتقت إلى معالجة مشاغلهم واختياراتهم معالجة علمية من طرف متدخلين لهم دراية معمقة بنفسية التلميذ وبتوجهات ميوله وتفكيره. وهنا تأتي أيضا الإضافة المعتبرة الثانية التي جاء بها هذا المنشور وهي بعث سلك المستشارين في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي، يقع إنتقاء أعضائه من أساتذة التعليم الثانوي عبر الإختبارات الكتابية والشفوية الحاسمة ويقع تكوينهم تكوينا معمقا نظريا وتطبيقيا على مدى سنتين للحصول على الماجستير المهني في الإعلام والإرشاد والتوجيه المدرسي والجامعي. وبذلك توضع عملية التوجيه المدرسي بين يدي مختصين لهم دراية كاملة بمساراتها وآلياتها وقادرين على كشف خصوصيات المستفيدين منها، بعد أن كانت موكولة سابقا لأطراف يعوزهم كل ذلك ويكتفون بالإعلام بمواعيدها وبتوزيع بطاقات الإختيارات وجمعها.

ويضيف المنشور أنه في انتظار جاهزية هذا السلك التي تتطلب سنتين يقع تكليف أساتذة متفرغين من ذوي الخبرة والإشعاع ليكونوا منسقين في الإعلام والتوجيه على مستوى المندوبيات الجهوية بعد تمكينهم ممّا يستوجب من التكوين والوثائق، مع تكليف أستاذ أو أكثر بالتوجيه على مستوى كل معهد في مرحلة لاحقة،  بما يعني جدية المسعى وحرصا بيّنا على استعجال الإرتقاء بالتوجيه المدرسي ومن ورائه الإرتقاء الفعلي في درجات الجودة التربوية. ويكلف هذا الأستاذ المنسق ” بإعلام التلاميذ وأوليائهم وإرشادهم حول النظام التربوي وشعب التعليم الثانوي والآفاق الجامعية والمهنية المفتوحة أمام كل شعبة “… ما يستدعي منه ” الإطلاع على الدراسات والحصول على الوثائق والمعطيات الكفيلة بإعانة التلميذ في اختياراته للشعب المدرسية والجامعية “(8).

يكون التوجّه بالإعلام والتكوين حسب هذا المنشور إلى التلاميذ والأساتذة والأولياء على حدّ سواء، في مناسبتين على الأقل خلال السنة الدراسية، أي أن الإستفادة من أنشطة التوجيه المدرسي شاملة وتنسحب على جميع المتدخلين في هذه العملية التربوية حتى يكون التأطير كاملا وعميقا، إعلام وإرشاد لهؤلاء وتكوين ورسكلة في علم النفس التوجيه وعلم النفس المراهق وفي المرافقة والإصغاء وتنشيط المجموعات وآليات التعامل الإيجابي مع التلميذ لأولائك. فيتحسن بذلك آداء الجميع وترتقي المنظومة التربوية وتتجوّد خدماتها وتتحسن بالتالي مخرجاتها جميعا، ويصبح التوجيه المدرسي بالفعل ركنا أساسيا من خطة الإصلاح التربوي. وهو نفس التوجّه الذي كرّسته المناشير اللاحقة الخاصة بتراتيب التوجيه المدرسي الذي صارت تعقد له المجالس التمهيدية والنهائية والتعديلية أيضا في عملية إعادة التوجيه، بما يجعل مرافقة التلميذ مكتملة ويجعل الإرتقاء مسترسلا في درجات الجودة والإتقان، خاصة وأن أنشطة مستشاري التوجيه امتدت لاحقا إلى التعليم العالي مع التلاميذ الناجحين في الباكالوريا. ولم تقتصر الإضافات المعتبرة التي جاء بها التوجيه المدرسي على المنظومة التربوية فقط بل شملت أيضا التلميذ المستفيد من هذه المنظومة ومن تجويد خدماتها.  

ب – التوجيه المدرسي، آلية الاحتفاء بالتلميذ ودعم مكانته في المشهد المدرسي:  

يشدِّد القانون عدد 65 لسنة 1991 المؤرّخ في 29 جويلية 1991 والمتعلق بالنظام التربوي على أن التلميذ هو قطب العملية التربوية ومدارها وعنده تلتقي جميع الإجتهادات والإصلاحات، وهو ما أعاده وأكّد عليه القانون التوجيهي للتربية والتعليم عدد 80 لسنة 2002. وهو نفس التوجّه الذي انبنى عليه نظام التوجيه المدرسي والجامعي الذي بدأ العمل به مع الإصلاح التربوي الثاني لسنة 1991 هادفا إلى تأطير التلميذ بشكل متكامل والإرتقاء بمعارفه وتكوينه.

التوجيه المدرسي يعرّف التلميذ، وبقية المستفيدين، بالمسالك والشعب الدراسية المتوفرة في المستويين الثانوي والعالي، ويوضح له شروط الإلتحاق بها والنجاح فيها. ويكون ذلك في مختلف مواعيد الإلتقاء به مباشرة أو عن بعد، أي ليس في المواعيد المدرسية القارة فقط لأن فرص مرافقة التلميذ مفتوحة ميسرة سواء بالأقسام أو بمكاتب الإصغاء والمرافقة بالمعاهد أو بخلايا التوجيه بالمندوبيات أو عبر الصفحات والمواقع الألكترونية المختلفة. كما يُطلع التوجيه المدرسي التلميذ على الإختصاصات المهنية وعلى سوق الشغل وشروط الإستفادة منها والإندماج بها، ويوفر له الأدلة والوثائق التي يحتاجها ويجعلها في متناوله بجميع الصيغ الممكنة. وفي هذا دعم نفسي كبير للتلميذ وإشعار له بمكانته القيمة في المنظومة التربوية وباحترام شخصه واختياراته وبتوفر الإستعداد المطلق والفعلي لسماعه والحوار معه والأخذ برأيه كلما أقنع به وكان مصيبا. وهذا من شأنه إحداث تغيير فكري وسلوكي جيّد لدى التلميذ بما يتوافق مع العمل التربوي السليم ويدعمه. ويكون القطع بذلك مع أساليب تربوية بالية تغيّب التلميذ وتتعسف على رغبته وتنسحق معها شخصيته. إن طمأنة التلميذ التي يوفرها التوجيه المدرسي وضمان مرافقة مفيدة له وداعمة لشخصيته تشعره بالتفهم الفعلي لاختياراته ودوافعها ودوافع تراجعه عنها أيضا أو تعديلها متى ارتأى ضرورة ذلك، تساهم كلها في توفير مناخ تربوي محفّز على العمل والإنضباط وعلى اعتزاز التلميذ بمؤسسته التربوية فيعاملها ويعامل من فيها بكل احترام وتقدير ورقي حضاري ويتشوّق باستمرار إلى الإلتحاق بهم والعمل معهم. أمّا إذا توترت المناخات التربوية وانعدمت الدافعية لدى التلميذ فلن يرجى منه الشيء الإيجابي والمطمئن.

التوجيه المدرسي يتفهّم نفسية التلميذ وتفاعلاتها ويقدّر إختياراته ومبرراته ويوفر له المساعدة الضرورية على استشراف المستقبل وفق بناء منطقي مقنع يشعر التلميذ أنّه الفاعل فيه عمليا وأنه الماسك بخيوطه بوعي صحيح والموجّه لمساراته بمسؤولية كاملة أو بحريّة مسؤولة ومقتنعة بكل خطوة يقرّرها. وهذا ما يحتاجه التلميذ فعلا ليركز في دراسته وينضبط في سلوكه ولتتفتح مواهبه وتنمو مؤهلاته فيبدع فعلا في النتائج والمردودية.

وبالإضافة إلى ذلك فإن التوجيه المدرسي ينمّي لدى التلميذ مجموعة من الكفايات الأفقية التي يحتاجها طوال حياته ويعتمدها في أي سلوك أو تصرّف يأتيه مثل كفاية الإختيار وبناء المشروع، فالتلميذ مقبل على حسم عديد المواقف ليس في توجيهه المدرسي وتثبيت مسلك دراسته فقط، بل في حياته الاجتماعية والأسرية والمهنية أيضا. والتوجيه المدرسي يعلمه كيف يكون الإختيار مبنيّا دائما على معطيات موضوعية مقنعة في إطار تخطيط شامل يستحضر كل المبررات والغايات والعناصر الداعمة لنجاح هذا البناء أو المشروع بمختلف مراحله وتفرّعاته وبعد تقييمات علمية للميول والإهتمامات والمؤهلات. وهنا يكون التمكن من كفاية الإستشراف أيضا والتمثّل الصحيح للمستقبل بناء على استشارات وحوارات مفيدة وعلى تقييم موضوعي للعناصر الضامنة لحسن التخطيط للمشروع ولنجاحه، وهو ما يعرف عند التربويين بالتعلم عبر الممارسة. وهذا يطوّر لدى التلميذ كفايات إضافية تخص كيفية البحث والتوثيق والإستفادة من عناصر المحيط وحسن توظيفها أو دمجها في المخطط الشخصي العام. فيكون التمكن أيضا من سبل التعامل الموفق مع الوثائق والمراجع المكتوبة والرقمية وتوظيف التكنولوجيات الحديثة والمضامين الرقمية الخاصة بالتوجيه المدرسي والجامعي الموجودة على الصفحات والمواقع التي تديرها المؤسسات المختصة أو المستشارون، وفائدة ذلك دائمة على مرّ الزمان وليست ظرفية منتهية باختيار التخصص الدراسي. وبهذا يثري التوجيه المدرسي ثقافة التلميذ ويشحذ وعيه بذاته ويعلمه التقييم الموضوعي لفرص البناء واستحضار عناصر النجاح وتطوير الآليات الخاصة لتحقيق الأهداف وتجسيد الطموحات والأحلام بكل موضوعية. وجميع هذه العناصر تنعكس إيجابا على المناخات التربوية لتصبح جاذبة داعمة وفي ذلك فوائد كبرى للمنظومة التربوية بأكملها ولتجويد آدائها وارتقائها درجات في مسارات التميّز التربوي.

ج – التوجيه المدرسي والتحفيز على الإرتقاء بالنتائج المدرسية:

 يساهم التوجيه المدرسي بفعالية كبرى في تحسين النتائج المدرسية للتلاميذ وتستفيد بذلك المنظومة بأكملها فتوظفه في تحسين ترتيبها في مختلف التقييمات العالمية المبنية على نوعية النتائج المدرسية في قسط كبير منها. وحتى وإن أعوزتنا ظرفيا المدعمات الإحصائية التي تثبت صحة قولنا فإن لنا من المؤشرات ما يجيز لنا تأكيد هذا الدور الذي يلعبه التوجيه المدرسي باقتدار كبير. فمعلوم أن شرعية الإختيار في التوجيه المدرسي تبنى في جانب هام منها على التميّز في المواد المرجع أوّلا ثم على القدرات والإمكانيات ثانيا وعلى موافقة الولي ثالثا. والمواد المعنية هي اللغات والتاريخ والجغرافيا بالنسبة لشعبة الآداب، والرياضيات والفيزياء والتكنولوجيا وعلوم الحياة والأرض بالنسبة للشعب العلمية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والفرنسية والأنجليزية بالنسبة لشعبة الإقتصاد والتصرف والإعلامية والرياضيات والتكنولوجيا والعلوم الفيزيائية بالنسبة لاختصاص تكنولوجيا الإعلامية. وهو ما يوضحه الجدول الموالي المنقول عن منشور التوجيه المدرسي:

معـاييـر التـوجيـه فـي نهاية السـنـة الأولى من التعليم الثانوي
المسلكالمواد المرجعشروط التوجيه
الآدابالعربية – الفرنسية – الأنجليزية – التاريخ والجغرافيا– رغبة التلميذ وميولاته – نتائجه المدرسية ومؤهلاته – موافقة مجلس التوجيه
العلومالرياضات – العلوم الفزيائية – التكنولوجيا  – علوم الحياة والأرض
الإقتصاد والخدماتالرياضيات – التاريخ والجغرافيا –  الفرنسية – الأنجليزية
تكنولوجيا الإعلاميةالإعلامية  – الرياضيات – التكنولوجيا – العلوم الفزيائية

وجميع هذه المواد تحتسب في مجموع الإمتحانات بضوارب معتبرة. وحتى وإن كان جمع المعدلات يشمل جميع المواد دون استثناء، فإن مداولات مجالس التوجيه ترتكز على التميز في هذه المواد المرجع وتشترطه لتزكية رغبات التلميذ منذ الوهلة الأولى. وهذا ما يدفع التلاميذ غلى العمل المكثف سنة التوجيه وتوظيف جميع قواهم لتطوير مؤهلاتهم المدرسية عامة وتأكيد تميزهم في المواد المرجع خاصة، وذلك عبر مزيد التركيز والإجتهاد بالقسم وعبر متابعة دروس الدعم والدروس الخصوصية خارجه. وهذا كله ينعكس ايجابيا على النتائج المدرسية بالطبع ويؤسس لتطوّرها لدى جميع المعنيين بالتوجيه في كل المستويات. فتكون للتوجيه المدرسي بذلك مساهمة معتبرة في الإرتقاء بالنتائج المدرسية سواء من خلال الحصص الجماعية التي تنجز مع جميع الأقسام أو من خلال المقابلات الفردية واللقاءات الخاصة التي يؤمّنها المستشارون مع التلاميذ المسترشدين، أو من خلال عديد القنوا المتاحة الأخرى.

ومعلوم أن مسألة تحسين النتائج حساسة جدا بالنسبة لوزارة التربية لعدة اعتبارات داخلية تخص آليات الحكم وخارجية في علاقة بعديد المنظمات الدولية وأندية التقييم والتصنيف العالمي، وهي تعوّل عليها كثيرا لإثبات جودة التعليم الذي تشرف عليه وحسن تأطير وتكوين مخرجاته. ولبلوغ هذه الغايات بعثت وزارة التربية في السنوات الأخيرة بجميع المندوبيات والمعاهد المعنية لجانا جهوية ومحلية لتحسين النتائج المدرسية. ويلعب مستشارو التوجيه المدرسي والجامعي أدوارا قيادية هامة في هذه اللجان يشاركون من خلالها بفعالية كبرى في إعداد ومتابعة الخطط والبرامج الجهوية والمحلية الضامنة لتحسين النتائج المدرسية، مع بقية الأطراف المعنية بالطبع. وقد بدأت أعمال هذه اللجان تعطي النتائج المرجوّة منها، بدليل ارتفاع نسب النجاح في الباكالوريا الذي بدأ يتحقق في السنوات الأخيرة، وللتوجيه المدرسي والجامعي بصمة واضحة في ذلك بالتأكيد، إلى جانب بقية الفاعلين التربويين المشاركين في هذه اللجان تخطيطا وتسييرا. بل إن مقترح بعث هذه اللجان ذاته هو من مخرجات أعمال المستشارين العامين للتوجيه المدرسي والمتفقدين العامين للتربية إثر تقييمهم لنتائج باكالوريا 2015 الضعيفة والتي لم يتجاوز النجاح فيها نسبة 32 %. بعثت على إثرها لجان وطنية مكوّنة من هذين السلكين تكفلت بجميع المعاهد التي كانت نسب النجاح بها دون النسبة الوطنية. وانطلق العمل على المستويين الجهوي والمحلي لتتجاوز نسب النجاح في السنتين الأخيرتين مثلا ضعف ما كانت عليه في تلك السنة. كما يشتغل المستشارون وبحرص كبير منهم على التهيئة النفسية للتلاميذ، وأساسا تلاميذ الأقسام النهائية الذين يستعدون لاجتياز الإمتحانات الوطنية. فيؤطرونهم لهذه الإمتحانات على مدى السنة الدراسية: يعلمونهم كيفية الإستعداد لها دراسيا وذهنيا ونفسيا واجتماعيا، منذ بداية السنة الدراسية وفي وسطها وخلال فترة المراجعة. يتعلم التلميذ كيف يكون حضوره بالقسم إيجابيا ومنتظما، كيف يشارك في مختلف الأنشطة، كيف يستفيد من العمل الجماعي وكيف يركّز في مذاكراته الفردية، كيف يراجع وكيف يتعامل مع الإمتحانات ومع مختلف الوضعيات الدراسية والنفسية التي يمرّ بها خلال السنة، فيتدرّب بذلك على كيفية التخطيط للنجاح، والتميّز فيه خاصّة. فالنجاح الدراسي لا يهدى ولا يحدث صدفة، بل يبنى بتدرّج من المستويات الدنيا إلى العليا، ومنذ بداية السنة الدراسية إلى آخرها. وفي التوعية بذلك يتميز مستشارو التوجيه المدرسي، بما يجعلهم مشاركين بفعلية في تحسين النتائج المدرسية.

أمّا مع أقسام الباكالوريا فلا يكتفي المستشارون بتقوية عزيمة التلاميذ ودعمها وتعريفهم بمسارات النجاح في تلك السنة، بل يعلمونهم أيضا بمختلف التفاعلات التنافسية التي تحدث في التوجيه الجامعي، حيث يسير هذا الأخير على أساس الجدارة المرتكزة على الأعداد والمعدلات المحرزة في امتحان الباكالوريا، التي يدخل بها التلاميذ في منافسات حادة مع الراغبين في التوجيه مثلهم إلى أي توجيه محدد. منافسات تسببها محدودية الأماكن في جميع الإختصاصات التي تعلنها طاقة الإستيعاب المثبتة عادة بدليل التوجيه. ويعلم المستشارون التلاميذ أن الفوز في هذه المنافسة يكون على أساس مجموع النقاط التي حصّلها المترشح في عملية حسابية معقدة تدمج فيها أعداد كثير من المواد وبضوارب مختلفة. ويكون الإستعداد لهذه المنافسات مبكرا يضطلع فيه المستشار بدور المرافق النفسي والأستاذ المدرس بدور المرافق البيداغوجي، فتكون بذلك المساهمة في النتائج المحرزة مناصفة بين الطرفين.

وبذلك نلاحظ المنافذ الكثيرة للتوجيه المدرسي إلى النتائج المدرسية بما يجعله مدخلا مهما من مداخل تحسينها والإرتقاء بها في سلم الجودة والتميّز.              

على سبيل الخاتمة:    

بهذا يتأكد لدينا أن التوجيه المدرسي يوجد التناسق الفعلي بين الأهداف الخاصة بالتلميذ من جهة، وبالمنظومة التربوية من أخرى، في استحضار للأهداف الوطنية الكبرى، ويحرص على تهيئة التلاميذ لمستقبل يزخر بالمستجدات العلمية والتكنولوجية. وفي التوجيه المدرسي صارت الأعمال تنجز بطرق داعمة جديدة بعيدا عن الخوف والتردد الذي يكبّل المسعى ويحبط العزيمة. فتنزاح بذلك الكثير من معوقات النجاح وتنمو لدى التلميذ كفايات جديدة وثقافة خاصة قوامها النظر لمجريات الأمور نظرة موضوعية واعية ومتأكدة من فرص نجاحها. كما تجري جميع أنشطة التوجيه بشكل محكم وداعم للمنظومة التربوية. وجميع هذه الفوائد التي يحققها التوجيه المدرسي للتلميذ وللمنظومة التربوية ككل إضافة إلى تحسن النتائج وارتفاع نسب النجاح وتطور المعدلات المحصلة من طرف التلاميذ سواء في الإمتحانات الوطنية أو في التقييمات الدولية، هي جميعا من صميم مؤشرات الجودة التربوية الشاملة التي حددها المختصون، وهو ما يجيز لنا القول أنّ التوجيه المدرسي مكسب فعلي للمنظومة التربوية وأحد المداخل الهامة للجودة التربوية. بل إن المنظومة التربوية ولجت دربا جديدا من الجودة منذ أن وقع إرساء التوجيه المدرسي بصيغه الحالية المطوّرة.    

الهوامش:

1 – د. مسعد محمد زياد ( جامعة الخرطوم )، إدارة الجودة الشاملة في المؤسسات التربوية التعليمية http://www.drmosad.com/index306.htm

2 – نفس المرجع السابق.

3 – نفس المرجع السابق

4 – د. محمد  يوسف أبو ملح ( غزّة )، الجودة الشاملة والإصلاح التربوي ( أنظر بنود الجودة 19 بهذا المقال ). https://naqaae.yoo7.com/t70-topic

5 – د. مسعد محمد زياد، مرجع مذكور سابقا

6 – جودت عزّت عبد الهادي وسعيد حسني العزّة، مبادئ التوجيه والإرشاد النّفسي، ص 14، دار الثقافة، عمان 1999

7 – المنشور عدد 106 صادر عن إدارة التعليم الثانوي بوزارة التربية التونسية بتاريخ 06 نوفمبر 1992

8 – نفس المرجع السابق

__________
* محمد رحومة العزي/ مستشار عام التوجيه المدرسي والجامعي/ وخبير الحياة المدرسية بوزارة التربية التونسية/ قابس – جوان 2020.

جديدنا