الشعار الديمقراطي

image_pdf

   *آلان باديو/ ترجمة: وحيد الهنودي

على الرغم من كل ما يجعل قيمة السلطة تتآكل يوما بعد يوم، فمن المؤكد أن كلمة “ديمقراطية” تظل الشعار المهيمن في المجتمع السياسي المعاصر، شعار لنظام رمزي لا يمكن المساس به. تستطيع أن تقول ما تشاء عن المجتمع السياسي، تُظْهِر تجاهه شراسة “نقدية” غير مسبوقة، وتشجب “الرعب الاقتصادي”، ففي اللحظة التي تقوم بذلك باسم الديمقراطية (من قبيل ” كيف يمكن لهذا المجتمع الذي يدّعي أنه ديمقراطي، فعل هذا أو ذاك؟)، سَيُغْفَرُ لك. إذ في النهاية وباسم شعارها، وإذن باسمها هي نفسها، قد حاولتم محاكمة هذا المجتمع. إنكم لم تغادروا، لقد بقيتم مواطنيه، كما يقال فأنتم لستم برابرة، نجدكم ودون شك في الانتخابات المقبلة ثابتين في موقعكم الديمقراطي.

أؤكد إذا ما يلي: لنلمس فقط واقع مجتمعاتنا، ينبغي وكتمرين ما قبلي، خلع شعارها. لن نقول حقيقة العالم الذي نحيا فيه إلا متى تركنا جانبا لفظ “ديمقراطية”، ونجازف بأن لا نكون ديمقراطيين، وإذن أن نكون مستهجنين فعلا من قِبَلِ “جميع من في العالم”. فعندنا “جميع من في العالم” لا تقال إلا من خلال الشعار. إذا فـ”جميع من في العالم” ديمقراطيون، وهو ما يمكن أن نسميه أوليّة الشعار.

بيد أن الأمر يتعلّق بنا نحن من العالم وليس بـ”ـجميع من في العالم”. العالم وكما يتجلى ليس هو ذاك الذي لـ”جميع من في العالم”، إذ أن الديمقراطيين أناس الشعارات، أناس الغرب، الممسكين باليد الطولى، والآخرون وبوصفهم آخرين هم من عالم آخر، والذي ليس عالما بأتمّ معنى الكلمة. فقط مجرد فضاء للبقاء على قيد الحياة، فضاء للحروب والفاقة، والأسوار والأوهام. في هذا النوع من “العالم”، الفضاء، نقضي وقتنا في قضاء الحوائج لإعداد الرعب، أو للرحيل، لكن إلى أين؟ للديمقراطيين فعلا، الذين يزعمون حكم العالم وهم في حاجة لأن نعمل من أجلهم. وعند اختبار ذلك وتحت شعار ما فإن الديمقراطيين لا يريدونك حقا فضلا عن كونهم لا يحبونك. في العمق، ليس ثمة سوى زواج أقارب سياسي: فالديمقراطي لا يحب إلا ديمقراطي. بالنسبة للآخرين الذين أتوا من مناطق الجوع والقتل نتحدث أولا عن وثائق وحدود ومعسكرات الاعتقال، ومراقبة أمنية ورفض لم شمل الأرحام… يجب أن تكون “مندمجا”، مع ماذا؟ مع الديمقراطية دون شك. ولكي يتم قبولك، ومن الممكن وفي يوم ما يتم الترحيب بك، عليك أن تتدرب، ولساعات طويلة، في منزلك لتكون ديمقراطيا وأن تعمل بجدّ، قبل أن تتخيل ولوجك إلى لعالم الحق. بين قاذفتي قنابل،  وثلاث مظلات إنزال للجنود، ومجاعة ووباء، أنجز دليل الإعداد خاصّتك، كتيّب الديمقراطي الصغير! إن امتحانا عسيرا في انتظارك! فمن العالم الخاطئ إلى العالم “الحق” الممر مغلق. الديمقراطية، نعم، غير أنها محجوزة للديمقراطيين، أليس كذلك؟ عولمة العالم ، فعلا، لكن بشرط أن يثبت من هو خارجه أنه أخيرا يستحق أن يكون في الداخل.

 بالمحصّلة فإن “عالم” الديمقراطيين ليس عالم “كل العالم” وبعد ذلك فإن الديمقراطية، وبوصفها شعارا وحراسا للجدران حيث ينعم عالمها الصغير ويعتقد أنه يحيا، تجتمع أوليغارشية محافظة، وقيادتها دوما من المحاربين وتحت الاسم المغتصب للعالم، وهو ليس سوى منطقة لحياتها الحيوانية.

عندما نسقط الشعار ونعالج علميا بأي منطقة يتعلق الأمر – المنطقة التي ينشط فيها الديمقراطيون ويتكاثرون- يمكننا الوصول إلى السؤال الهام: إلى أي شروط يجب أن تخضع منطقة حتى تتمكن من تقديم نفسها وبشكل خاطئ كعالم تحت شعار الديمقراطية؟ أو أيضا: من أي فضاء موضوعي، ومن أي جماعة تم إقامة الديمقراطية وهل هي ديمقراطية؟          

يمكننا أن نعيد بعد ذلك قراءة ما يشكّل أول عوز في الشعار الديمقراطي، وهو ما قيل فعلا عنها في الكتاب الثامن من الجمهورية. يسمّي أفلاطون “ديمقراطية” المنظمة الحاكمة، نوع من الدستور. سيقول لينين أيضا بعد ذلك بزمن طويل: ليست الديمقراطية إلا شكلا للدولة. لكن وبالنسبة لهما ما يجب أن نفكّر فيه ليست موضوعية هذا الشكل بل وقعه الذاتي، أو من الديمقراطية إلى الديمقراطي. إن قوة الإزعاج للشعار الديمقراطي تتمركز في النوع الثاني الذي تصوغه، في كلمة، الأنانية والرغبة في المتع البسيطة هي السمة الحاسمة.

لقد كان لين بياو Lin Piao في ذروة الثورة الثقافية يقول، وهو من وجهة النظر هذه أفلاطوني، الشيء الذي يجب أن نقوله بشكل عابر، أن الجوهر الزائف للشيوعية (التي استولت على روسيا) هي الأنانية، أو أن ما يتملّك الديمقراطي الرجعي هو الخوف من الموت.

 من البيّن أن مقاربة أفلاطون تتضمن جزء تفاعليا خالصا. فقناعته تتمثل في أن الديمقراطية لن تنقذ المدينة الإغريقية. وبالفعل هي لم تنقذها. أنقول نحن أيضا أن الديمقراطية لن تنقذ غربنا الشهير؟ نعم نقولها، ونضيف فقط إننا بذلك نعود لمعضلة قديمة: إما الشيوعية ومن خلال إعادة خلقها أو الفاشية البربرية التي قد تمت إعادة خلقها هي ذاتها. فقد كان للإغريق المقدونيين وبعد ذلك الرومان. وعلى كل حال العبودية وليس التحرر.

أفلاطون وكأرستقراطي عجوز التفت إلى أشكال (أرستقراطية عسكرية لها تكوين فلسفي)، والتي افترض وجودها مع أنه في الواقع قام بخلقها. إن ردة فعله الأرستقراطية تفترض أسطورة سياسية. هذا السؤال الكاشف والمتنكر في شكل حنين للماضي، ونحن نعرف المتغيرات المعاصرة. والأكثر لفتا للنظر، بالنسبة لنا، الوثنية الجمهورية، شديدة الانتشار في برجوازيتنا الفكرية الصغيرة. حيث يزدهر الاحتجاج بـ”قيمنا الجمهورية”. من أي “جمهورية” يغتذي هذا الاحتجاج؟ أتلك التي خُلِقَت في مجازر الكمونيين  Communards؟ أتلك التي نمت في الفتوحات الاستعمارية؟ أتلك التي لكليمنصو Clemenceau مفسد الإضرابات؟ أتلك للذي نظّم مذابح 14-18؟ تلك التي أعطت كل السلطة لبيتانPétain؟ إن “جمهورية” جميع الفضائل قد تم اختراعها لأجل القضية: الدفاع عن الشعار الديمقراطي الذي نعلم أنه جد شاحب، فالجميع ومثل أفلاطون وحراسه الفلاسفة، يعتقد أنه يرفع الراية الأرستقراطية التي أكلها العثّ. إن كل حنين للماضي هو حنين لشيء لم يوجد.

ومع ذلك فإن النقد الأفلاطوني للديمقراطية بعيد عن أن يكون فقط كاشف أو أرستقراطي. إن بحثه يهدف في آن جوهر الحقيقة التي تكوّنها، في مستوى الدولة، والموضوع الذي يتكوّن في عالم تشكّل هكذا، ما يسميه “الإنسان الديمقراطي”.

   إن أطروحتيْ أفلاطون هما الآتيتين:

1.العالم الديمقراطي ليس عالما بالفعل.

2.الرّعيّ الديمقراطي لا يتشكل إلا فيما يتعلق بمتعه.

إن هاتين الأطروحتين حسب اعتقادي جد مؤسستين، وسأقوم هنا بتحليلهما.

 فيم لا تسمح الديمقراطية سوى بموضوع المعرفة؟ بحث أفلاطون شكلين من العلاقة بالمتعة. المُكَوَّنة في العالم الديمقراطي الزائف. الأولى وعندما نكون شباب، وهي الفورة الشهوانية. والثانية عندما نكون شيوخا، وهي عدم التمييز بين المتع. في العمق فإن تربية الرعيّ الديمقراطي للحياة الاجتماعية السائدة يبدأ من التوهم بأن كل شيء متاح (التمتع دون عراقيل)، يقول الفوضوي بن الثمانية وستون سنة، “ملابسي وحذائي النايك وتبّاني”، ويقول متمرّد “الضواحي” الزائف. بيد أن نفس الحياة الديمقراطية تكتمل في الوعي الوثني بأن الجميع متساوون. وإذا ليس ثمة ما يستحق إن لم يكن أولا وقبل كل شيء معيار كل قيمة ممكنة: المال وبعد ذلك الأدوات اللازمة لحماية الملكية: كالبوليس والعدالة والسجون. ومن الجشع الضار الذي يتخيّل نفسه وحرية الميزانية وجشع السكريتير، هذا هو مسار الزمن.

لكن أي رابط بسؤال العالم؟ كل عالم، هو بالنسبة لأفلاطون كما بالنسبة لي، لا ينير إلا اختلافات تتشكّل بشكل متفرّد من الاختلاف، أولا بين حقيقة ورأي، وثانيا بين حقيقتين ليستا من نفس الطراز (الحب والسياسة مثلا، أو الفن والعلم). إذ أن تكافؤ الأشياء افتراض، ثمة أسطح وحوامل ومظاهر غير محدودة، لكن ليس ثمة عالم يمكنه الظهور. إنه فكر أفلاطون عندما أعلن أن الديمقراطية شكل حكم “جذّاب وفوضوي وغريب، والذي يوزّع نوعا من المساواة بين كل ما هو متساوي وكل ما هو غير متساوي”. فاللذة التي يجدها الشباب هناك أو تلك التي يمكن أن تكون بحق. فالمساواة المؤسسة بين ما هو متساوي ومتفاوت ليست بالنسبة لنا شيء آخر غير المبدأ النقدي، المكافئ العام الذي يمنع كل المسارات إلى الاختلافات الحقيقية، إلى اللامتجانس كم هو، حيث يكون البراديغم فصلا بين مسار الحقيقة وحرية الآراء. إن هذه المساواة المجرّدة التي تتحكم فيها الكمية العددية، الذي يحظر تناسق العالم وتفرض هيمنة ما يسميه أفلاطون “فوضى”. هذه الفوضى ليست شيئا آخر عدا المخصصة ألى لما ليس له قيمة. عالم من الاستبدالية الكونية ليس عالما هو عالم بلا منطق خاص. ومن ثمة ليس عالما بل فقط نظام “فوضوي” للمظهر.  

إن الذي يحدد الإنسان الديمقراطي الذي تمت تربيته بفضل هذه الفوضى، كونه يجعل المبدأ ذاتيا، مبدأ استبدال كل الأشياء. لدينا إذا حركية مفتوحة للرغبات وللأشياء التي تتعلق بها تلك الرغبات، ومتع قصيرة نقتلعها من تلك الأشياء. داخل هذه الحركة يتكون الرعيّ لقد لاحظنا وبوصولنا إلى سن معيّن أنه يقبل وباسم أولوية الحركة (الحداثة) نوع من اللاتحديد للأشياء. إنه لا يرى إلا رمز الحركة، المال على هذا النحو. غير أن الصبر الأصيل وحده، ذلك الذي يتعلّق بالقدرة اللامتناهية للمتع، يمكنه تنشيط الحركة. من هنا وإذا كانت حكمة التداول قائمة عند الشيوخ- الذين استوعبوا أن جوهر كل شيء هو العدم النقدي-، فإن وجودها الحيوي واستمرارها الدائم يتطلّب أن يكون الشباب لاعبا مميّزا. إن الرجل الديمقراطي تطعيم لشيخ بخيل ومراهق جشع. فالمراهق يدير الآلة ليخزن العجوز الفوائد.

يرى أفلاطون بوضوح أن العالم الديمقراطي الزائف مجبر في النهاية على تأليه الشباب مع توخي الحذر من الإثارة. شيء ما في الديمقراطي طفولي بالأساس، شيء ما ينبع من الطفولة الكونية. وكما دوّنها أفلاطون في عالم زائف كهذا ” ينحرف العجائز إلى طرق الشباب الزائفة خوفا من أن يتم اعتبارهم مملّين أو طغاة.” وحتى يجني ثمار ريبته الهازئة ينبغي على الديمقراطي أن يتنكّر في صورة مقاتل شاب، وينبغي أن يطالب كل يوم بمزيد من “الحداثة” ومن “التغيير” ومن “السرعة ومن “السيولة”. نموذجه لاعب الروك الذي لا ينهزم، ليستمر كملياردير عجوز ومهما كان متقلبا ومتجعّدا فأنه يواصل الصياح في ميكروفونيه ويلوي جسده المترهّل.    

ما الذي ستكونه الحياة المشتركة إن كان شعارها الشباب الأبدي؟ وعندما يتلاشى معنى السن؟ ثمة بلا ريب إمكانيتين. في حال عدم وجود مستوى حقيقي (رأسمالي …) للدورة النقدية ، وهذا الوجه مرعب، إذ هو يعيّر دون حدود هيجان الشباب وعدم وعيهم. إن النسخة الثورية لهذا “الشباب” فقيرة، لقد رأينا النتائج المروعة للجيش الأحمر للثورة الثقافية كما رأينا ذلك مع الخمير الحمر. نسختها غير المؤدلجة، فهم عصابات مسلّحة من المراهقين الذين تتحكم فيهم قوى خارجية وأرباب الحروب، وهم من يزرعون الرعب في عدّة مناطق  إفريقية. هذه هي الحدود الجهنمية لديمقراطية المراهقة المنفصلة عن الدورة النقدية للأشياء، باستثناء الأسلحة الفتاكة التي يتم توفيرها بكثرة. لكن عندنا؟ عندنا نحن أولوية الشباب تفرض التسلية كقانون اجتماعي. “لتمرحوا” هذه هي القاعدة بالنسبة للجميع. وحتى بالنسبة للذين يستطيعون وبالكاد القيام بذلك فإنهم ملتزمون بها. من هنا يأتي الغباء المعم للمجتمعات الديمقراطية المعاصرة.

على كل حال فإن أفلاطون يسمح لنا بتفكّر مجتمعاتنا كتشابك لثلاث أنماط: غياب العالم، الشعار الديمقراطي باعتباره ذاتية مستعبدة للدورة ولأوامر التمتّع كمراهقة عالمية. أطروحته تتمثل في كون هذا المزيج يعرض المجتمع الذي ينكشف لكارثة عامة، إذ هو غير قادر على تنظيم نظام زمني.

إن الوصف الشهير الذي أعطاه أفلاطون للفوضى الوجودية للديمقراطيين الراضين تبدو كنوع من المدح الهزلي لما سيسميه سقراط بعد ذلك “هذا النوع من الحكم الجميل والفتيّ”:

الإنسان الديمقراطي لا يحيا إلا في الحظر المحض، فلا يجعل القانون إلا للرغبة العابرة. اليوم قام بوجبة جيدة مشبّعة بالدهون، وغدا لن يأكلها إلا من أجل الصيام الريبي لبوذا، الماء الصافي والنمو الدائم. الإثنان سيستعيد اللياقة بسياقة دراجة هوائية لساعات، ويوم الثلاثاء سينام طويلا، بعد ذلك تدخين ووليمة. الأربعاء يعلن أنه سيقرأ الفلسفة، ولكن في الأخير يقرر عدم القيام بأي شيء. يوم الخميس سيستشيط أثناء الغداء من أجل السياسة، ويقفز بحماسة ضد رأي صديقه ويعلن بنفس الحماسة مجتمع الاستهلاك ومجتمع المشهد، وسيشاهد في السينما لِفْت القرون الوسطى الكبير والمحارب ويعود للنوم حالما بالالتزام بالتحرر المسلّح للشعوب المضطهدة ومن الغد يذهب للعمل بثغر فاغر، ويحاول عبثا إغراء السكريتيرة في المكتب المجاور لقد أقسم يمينا ان يبدأ في المشاريع ! له عوائد العقارات ! لكن عند نهاية الأسبوع، إنها الأزمة، سنرى ذلك في الأسبوع المقبل. على كل حال هذه حياة ! دون نظام ودون فكرة. لكن يمكن أن نقول أنها مقبولة وسعيدة غير أنها حرة أكثر من كونها بلا دلالة. ادفع ثمن الحرية على حساب التفاهة فهذا ليس ثمنا باهظا.

تتمثل أطروحة أفلاطون في كونه في يوم ما هذا النمط من الوجود _ والذي جوهره عدم انضباط الوقت- وشكل الدولة الخاص بها – الديمقراطية التمثيلية- يبرز بوضوح جوهرهم الاستبدادي. وهي الحكم، كمضمون حقيقي للذي يعطى كـ”جميل وفتي”، من استبداد حملة الموت. لذلك فإن الحجة الديمقراطية تكتمل، بالنسبة له، في الكابوس الحقيقي للاستبداد. يقترح أفلاطون القول بأنه يوجد اتصال ديمقراطية/عدميّة. بمجرد النظر في مسألة العالم ومسألة الزمن. لأن اللاعالم الديمقراطي نزيف زمني. إن الزمن كاستهلاك هو الزمن كإفناء. وهكذا فإن شعار العالم المعاصر هو الديمقراطية والشباب هو شعار الشعار، لأنه يرمز إلى زمن غير مقيّد. ليس لهذا الشباب فعلا أي وجود جوهري، إنه بناء إبداعي، ونتاج للديمقراطية. بيد أن بناء كهذا يتطلّب أجسادا. وهذه الأجساد مبنيّة حول ثلاث خصائص: المباشرتية (لا يوجد غير التسلية) الموضة (تعاقب الهدايا القابلة للتبادل) والمراوحة في عين المكان (“نتحرّك).

إذن عندما لا تكون ديمقراطي فهل ذلك يعني أن تصبح شيخا؟ أقولها لا ، فالشيوخ يسهرون ويكنزون. فما ينبغي قوله هو التالي: إذ كانت الديمقراطية هي التجريد النقدي كتنظيم لدافع الموت فإن ضديده ليس الاستبداد أو “الكليانية”. إن نقيضه هو ما يريد إزالة هذا النقيض الاجتماعي من قبضة هذا التنظيم. سلبا هذا يعني أن نظام التداول لا يجب أن يكون نقديّا، وليس نظاما لتراكم رأس المال لذلك سنرفض رفضا قاطعا أن نعهد بصيرورة الأشياء للملكية الخاصة. إيجابا هذا يعني أن السياسة، بمعنى التحكّم الذاتي –للفكر العملي- لصيرورة الشعوب لها ومثل العلم أو الفن قيمة بذاتها، وفقا للمعايير اللازمنية التي يمكن أن تكون لها، إذ سنرفض ترتيبها بالسلطة والدول، أنها ستكون منظمة في أوساط الشعب المُجْتَمِعِ والناشط بتلاشي الدولة وقوانينها.

 هذين القطبين رآهما أفلاطون، حتى وإن كان ذلك في حدود زمانه، وحصرهم في ما يسميه حياة “جند” المدينة، وخصّ الآخرين جميعهم بمواقع منتجة ثابتة. إن الجند لا يملكون شيئا، إذ عندهم يشيع “المشترك” والقسمة، وسلطتهم ليست سوى المثال لأن المدينة لا قوانين لها.

 نحن نريد تعميم المبادئ التي خص بها أفلاطون أرستقراطيته العالمة على جميع البشر. أو بالأحرى وكما تحدث عن ذلك أنطوان فيتييز Antoine Vitez، في المسرح كما في الفن عن دعوتهم لأن يكونوا “نخبة للجميع”، نتحدث إن شئنا عن “أرستقراطية للجميع”. بيد أن الأرستقراطية للجميع هي الحد الأعلى للشيوعية ونحن نعرف أنه بالنسبة للعمال الثوار للقرن التاسع عشر قد كان أفلاطون أول وجه فلسفي للشيوعية.

إذا كنا نعني بنقيض مذهب ليس ضدّه الكاريكاتوري بل التأكيد الإبداعي الذي كل يجعل تأليفاتها باطل، فإننا نفهم التالي: إن نقيض الديمقراطية، في المعنى الذي أُعْطِيَ لها، وفي لحظة غسقها اللانهائي، الرأسمالي-البرلماني، وليست الكليانية وليس الاستبداد، إنه الشيوعية. وحتى نتكلم مثل هيغل الشيوعية التي تمتص وتتجاوز شكلانية الديمقراطيات المحدودة.

في نهاية التمرين الذي يقوم بتعليق كل سلطة لكلمة “ديمقراطية”، لِيُسْمَحْ لنا بفهم النقد الأفلاطوني، وبعد ذلك يمكننا استعادته في معناه الأصلي: وجود الشعوب وتصوّرها كسلطة على نفسها. إن السياسة المحايثة للشعب كمسار مفتوح لتلاشي الدولة. يمكننا أن نرى بوضوح أنه ليس لدينا أي فرصة للبقاء ديمقراطيين حقيقيين وإذا أشخاص متّسقين مع الحياة التاريخية للشعوب بالقدر الذي نعود فيه مجددا في أشكال يتم اختراعها اليوم وببطء في الشيوعيات.        

المصدر:

Démocratie, dans quel état

Les Editions Ecosociété, 2009 

الهامش:

[1] يظهر هذا المقطع في الجمهورية، الكتاب الثامن 361d. النسخة الواردة هنا هي الترجمة المثلى الكاملة لهذا الكتاب والتي أنا بصدد إنجازها والتي سيتم نشرها في نهاية 2010. هذا العمل موجّه ليبيّن أن أفلاطون معاصر أساسي. في نسختي، هذا المقطع مقتطف من الكتاب السابع المعنون “نقد لأربع سياسات ماقبل شيوعيّة”. من الواضح أنني اضطررت إلى التراجع عن تقسيم الجمهورية إلى عشرة كتب، وهو تقسيم غير دقيق تم في العصر القديم من قبل نحويّ أو عدد من النحويين الإسكندرانيين.


 *آلان باديو/ ترجمة: وحيد الهنودي

جديدنا