ثورة القيم والعولمة

image_pdf

بقلم: لوك فيري/ ترجمة: وحيد الهنودي

إن أقصى ما يطمح إليه هذا العمل بلا ريب لفت انتباه صنّاع القرار السياسي، وبعيد عن كل روح حزبي، إلى بعض النتائج غير المتوقّعة للعولمة من حيث المعنى والقيم. ولقول شيء ما في الاستهلال وقبل التفصيل والمحاججة المعمّقة فإنه يترتّب عن العولمة ثلاث نتائج هامة تجعل مهمة السياسي بشكل خاص محفوفة بالمخاطر، ودون شك ستكون أشد صعوبة لممارستها من أي وقت مضى. علاوة على كونها تقريبا مخيّبة للآمال بالنسبة للمواطنين، في الواقع تتطلّب تضحيات جسيمة أكثر فأكثر من أجل ضمان تنافسية اقتصادياتنا في مواجهة الوافدين الجدد، وذلك بالإضافة إلى أنه يسحب منا باستمرار وسائل الفعل وآفاق المعنى التي يمكن أن تشرّعها. من هنا تجيء الحاجة لإعطاء منظور تعبئة لحياة سياسية يبدو أنها لم تعد موجودة بصرف النظر عن الإدارة البسيطة، ففي الحقيقة يبدو أن الأزمات والإكراهات الدولية متورطة بشكل متزايد.

إن مبحث “”المعنى” و”الأهداف الكبرى”، و”سياسة الحضارة”أو لـ”النَّفَس الجديد”، وأنا على وعي أنها أصبحت جميعا طقوس مبتذلة إن جاز التعبير، إنها نوع من الجسر الضيق وهي ممر إلزامي يعرف جيدا السياسيون المحترفون أنه يقتضي التضحية، لكن دون قدرة على صياغة مقترح أصيل، بصورة عامة يتناولون الإدارات الوزارية واحدة بواحدة ولديهم إحساس بكونهم صمّموا مشروعا هائلا عندما يهلّلون للادعاء أنهم يستطيعون أن يحققوا وأفضل من منافسيهم في كل قطاع: زيادة س  في الثقافة والاجتماعي، ص  تراجع في العجز العمومي الصافي كل سنة، معركة حاسمة من أجل الوظائف والنمو، بعض التجديد في مستوى الديمقراطية وهيئات المحلفين الشعبية، إصلاح البرلمان … في الواقع إن التمرين كلاسيكي جدا لدرجة أنني أتفهّم أن قارئي سيغفو قبل نهاية هذه الفقرة، وأنا مقتنع أن هذه المحاولة الأخيرة لا يتوفّر لها سبب وجيه لتكون أوفر نجاحا من المحاولات الأخرى.

    لنجنّب القارئ على أقل تقدير الشعور بإضاعة الوقت سنتوجّه حالا نحو ما هو هام، وحتى يكون قادرا على الحكم على صلة الفرضيات التي سأصوغها على نحو بسيط بالموضوع أو  الحكم بعدم صلتها. لكني أريد أن يعرف بدء أنه وعلى خلاف المحاولات المعتادة لا أطمح إطلاقا أن أبدع من عقلي المتواضع أفكارا رائعة وغير مسبوقة، بل حسبي أن أرصد الواقع التاريخي وأن أميّز خطوط القوة الموجودة بالفعل والتي تعمل فيه، والتي يمكن إن نحن تكفّلنا عناء اكتشافها أن تغذّي بناء مشروع سياسي حقيق بهذا الاسم. نقطة تخيّل، بل الأحرى أن تكون تحليلا موضوعيّا للوضعية، مع ذلك هو تحليل كما يبدو لي يمكن أن نطوّر من خلاله رؤية للعالم تعطي معنى وقيمة للفعل المشترك.

بداية لنعد إلى وضعية الانطلاق، إلى النتائج الكارثية الثلاث للعولمة والتي ذكرتها في مستهل هذه المحاولة: ما هي فعلا وفيم يكون لها تأثير سلبي على الحياة السياسية الوطنية؟

أولا : تطرح العولمة وبسبب بيانات المنافسة الجديدة وخصوصا مع الهند والصين على دولنا الراعية والمتشايخة وخلف كل الانقسامات يمين-يسار التي نريد استحضارها، حمية تتمثل في التقليل من الديون والعجز المالي التي يعتقد مواطنونا أنها من أنواع “الصرامة” لكي لا نقول التضحية –إصلاح التقاعد، التقليص من الخدمات العمومية، الانسداد، وأيضا دخل الأشخاص في الوظائف العامة، الزيادة في الآداءات، إلغاء الملاجئ الضريبية. كل هذه التدابير التقشفية تحتل اليوم أوروبا وتمنح مثالا للجرعة المرّة التي يريدها المسيرون أيا  كان منظورهم (أنظروا إسبانيا واليونان الاشتراكي) والتي لم تعد قادرة على تحاشى السكان الساخطين.

أيا كانت طبيعة الإصلاحات  التي يتم اختيارها هنا أو هناك، حسب البلدان أو حسب خيارات الأحزاب، فإن دولنا الراعية ملزمة بالتخفيف من الأشرعة التي تُثْقِل على الشركات الأوروبية حيث يكون متوسّط تكلفة الإنتاج مع الأخذ بالاعتبار كل الإحداثيات أعلى بعشرين إلى ستين مرة من الشركات الصينية.

تخيّلوا أشخاصا “ساخطين” ومن كل الجهات، إذ ثمة من اليمين المتطرّف واليسار المتشدّد، ساخطون من التخفيض في الخدمات العمومية التي تكشف عن سياسة ينسّقها سياسيون ماكرون وسخفاء. إن المنافسة المفروضة على اقتصادياتنا من الوافدين الجدد هي واقع موضوعي يُفْرَضُ على الحكومات الأوروبية أيا كان لونها السياسي. من الواضح أن موضوع السخط ليس إلا علامة على الشعور بالتخلّي عن الجماهير الشعبية المدفوعة من قبل ديماغوجيين  الذين هم في حاجة إلى تأثير لمواجهة هذه الظاهرة الجديدة  في شكلها الحالي وهي: العولمة.

بيد أنه علاوة على هذه السياسة “التضحويّة” إلى حد ما، والتي تُظْهِر حتما الموضوع الديماغوجي وسط كل هذا “السخط الشرعي” الذي يبدو، فإن العولمة تنتج تأثيرين مزعجين:من ناحية اختزال معتبر للأمم الدول، ومن ناحية أخرى ضياع معنى التاريخ كما لو كان لم يحدث من قبل. فالقولة الشهيرة لماركس والتي بمقتضاها :”يصنع الناس تاريخهم لكن دون معرفة التاريخ الذي صنعوه.” لم تكن قط أصدق من اليوم.    

إذا ما وضعنا الأسباب الثلاث هذه معا فإن حجم المشكل السياسي الذي تثيره بشكل بيّن: لا يفرض فحسب تضحيات جسيمة على الديمقراطيات الغربية بل وإضافة إلى ذلك فهو يحرمها من منظور المعنى الذي يمكن أن يقوم بتعبئة الشعوب في اللحظة ذاتها التي يقوم فيها بمصادرة المبادئ الأساسية لفعل ناجع حقيقة في مجرى العالم. فالرافعات السياسية الوطنية لم تعد ترفع في الواقع الشيء الكثير. تضحيات ضرورية وتلاشي معنى التاريخ وتنامي العجز العمومي: إنه كوكتيل متفجّر.

 يكفي أن نفكّر لوهلة حتى نفهم أن سياسة ما ولكي تكون ذات مصداقية خاصة عندما تطلب من المواطنين جهودا وفقا لثلاث شروط. ينبغي بداية أن تمتلك معنى واضحا وتعبويا حتى تعرف خاصة لماذا ولمن سنُقَدِّم تضحيات. لكن يجب أيضا أن تكون السياسة التي يقودها المسيرون ناجعة وأن نرى آثارها في المستقبل القريب. في النهاية ينبغي أن تكون منصفة فعلا، إذ بدونها لا يكون الجهد معقولا ولا مرضيّا.

بيد أنه وفي هذه المستويات الثلاث تعطي حكومات الخدمات في أوربا وأحزابنا المختلطة الإحساس  بالخوض في الضبابية ولحد بعيد (أنا لا أتحدث هنا عن المعارضات حيث تكون الإمكانات  غير محدودة ، إذ من المعتاد أن يتم اقتراح زيادة القمر بـ10 ، فاختبار السلطة يعيد الأمور تقريبا لنصابها  وتتسبب في خيبات أمل لا مفر منها تُتَرْجَم في صعود محيّر للمتطرّفين) في فرنسا يعبّر الناخبون بأكثر وضوح عن إحساس بأن الأمر “لا يتقدّم”، وأنه لا شيء يتحرّك وإن تحرّك ففي الاتجاه السيّئ –ارتفاع الخسائر  والحاجة للوظائف تتزايد والتعليم ليس على خير ما يرام، والأماكن الفاخرة تتقلص والضواحي الفقيرة تتضاعف والتفاوت يتزايد وتتراجع مواطن العمل والقدرة الشرائية… أمام هذه الفوضى فإن المسيِّرِين أصبحوا مهووسين بالاكراهات التي تبدو لهم بديهية مع أنها ليست كذلك بالنسبة للشعوب (والدليل: نجاح السخط) ويظهر عجزهم عن التفسير وبطريقة مقنعة وفق أي هدف شامل وموَحِّد، ووفق أي غاية حاملة للمعنى يكون شد الأحزمة: ودون الذهاب إلى حد إزعاج المبحث القديم للديماغوجيين فهي “هدايا للأثرياء وأصحاب البنوك”، إذ لدينا شعور دوما بأن التقشّف ينزل على المواطنين كقضاء لا يقبل التفسير، كما لو أن الأمر يتعلّق بإرضاء وزير المالية (في “بيرسي”  Bercy) لصندوق النقد الدولي FMI أو للبنك المركزي الأوربي  BCE من أجل محفزات مجرّدة للتخفيض في العجز  حيث أن المبالغ الهائلة لا تعني شيئا ملموسا للغالبية الساحقة من الأفراد.

 لقد آن الأوان  لتحليل المحفّزات التاريخية والفلسفية لتفسير حالة الركود هاته، والتي تجعلها معقولة،فقد أظهر المسح الذي استهدف الشباب سنة 2010 والذي قامت به مؤسسة التجديد السياسي التشاؤم المفرط للشباب الفرنسي  بمستقبل بلدهم. لكن آن الأوان كذلك لاقتراح حلول “في متناول اليد”، أو على الأقل آفاق حقيقية في ما يخص القيمة والمعنى تكون قادرة على فتح المستقبل من جديد ودون العودة لشعاب الطوباويات الكارثية والتي قادت القرن العشرين نحو الرعب، أو على الأقل ومثلما هو الحال في فرنسا سنة 1968 وأيضا سنة 1981، نحو خيبة الأمل ، هذا الإحساس الذي يتجه ليكون شر العصر أو على الأقل شر فرنسا بامتياز

في التشاؤم: وفي أنه مع السخط لا يوجدإلا مرفق واحد فقط

ثمة ميل عميق وطبيعي لديمقراطياتنا لئلا تُدْرِك في التاريخ إلا ما ينهار ويموت، وتقريبا لا تدرك ما يولد ويحيا، من هنا يبدو هذا الانتشار للتشاؤم والذي يضمن من إيميل سيوران Emile Cioron  إلى فيليب موراي  Phillipe Murayنجاح المزدرين للحداثة وحقيقة يبشّر القرن العشرين بتيسير المهمة ودون ذكر كوارث الكليانيات والحروب فإنه يتميّز في أوربا على الأقل بثلاث خطوط كبرى، حيث يفسّر الأولين بوضوح الصعود بقوة للمشاعر السلبية.

الخط الأول لقد عشنا في أوربا على الأقل وفي العالم الغربي “نسفا” للقيم التقليدية  كما لم  نشهده في تاريخ الإنسانية، أتعلّق الأمر بالفن الحديث أو العلوم أو التقنيات وتطور الأخلاق ، ووضعية النساء والمثليين و”نهاية المزارعين” وفي المبادئ التقليدية للمدرسة الجمهورية  بنقاطها الجيدة وقبعاتها واحتفالات توزيع الجوائز، فإن عالمنا الفكري قد تغيّر في الخمسين سنة الأخيرة نحو الجيّد ونحو السيئ أكثر من المائة والخمسين سنة. وكيف لا ينقلب؟ في الظاهر تبدو هذه التغيرات بتأثير الاستجابات العديدة للرؤى التقليدية للعالم، استجابات كانت في الإطار الفرنسي بخاصة الورثة الشرعيين للفكرة الثورية باسم “الحياة البوهيمية” كما في الأغنية وباسم الشعور بأن “الحياة الحقة توجد في الخارج” وأننا أردنا أن نقوم بنسف الماضي من أجل خلق عالم جديد. عالم مستجد حيث الحياة الرغدة. إنها لمغامرة مثيرة بتأثيرات متناقضة، و بعيدا عن هذا لم يكن كل شيء سلبيا في تآكل القيم التقليدية والسّلط التقليدية وقد رَسَمْتُ سلفا اللحظات الكبرى منذ سنوات 1830.

في واقع الأمر الحقيقة مختلفة جدا عن المظاهر: فالمحرك الفعلي للتاريخ الحالي ليس الاحتجاج البوهيمي للقيم التقليدية بل الرأسمالية. إن العولمة الليبرالية تشكل العامل الأساسي للانهيار الكبير، فتحت الحصى لا يوجد الشاطئ بل “العولمة”، ولسبب أساسي من بينها جميعا فقد حان الوقت لندركها بوضوح، لأنها أحد المفاتيح الأساسية لفهم القرن العشرين الأوربي. لقد كان من الضروري نسف القيم التقليدية، وذلك من قبل شباب ثوري من المحتجين والمتحررين والفوضويين ولكن وفي كل الحالات طوباويين، من أجل أن نتمكن نحن وبخاصة أبناءنا من ولوج عصر الاستهلاك الجماهيري الضخم والذي بدونه لن تدور عجلة الاقتصاد، ولكي نقول ذلك بشكل آخر: لا شيء يوقف الإدمان الاستهلاكي إذ من الآن فصاعدا سيكون الاستهلاك الضخم ضروري لنمو اقتصادياتنا، وأن امتلاك قيم أخلاقية وثقافية وحتى روحية قوية وثابتة أي قيم تقليدية بقدر ما تملك في قلبك ورأسك حياة داخلية ثرية ومَرْضية بقدر ما تكون حاجتك أقل بأن تضع مساء السبت عيالك في الكراسي الخلفية للسيارة وتتجه لابتياع أشياء لا تحتاجها من المركب التجاري في الحي.

حتى تتمكن شركاتنا من استعادة انطلاقتها ينبغي إذا أن يتم نسف القيم التقليدية، تلك القيم التي هيمنت على فرنسا سنة 1950 وهيمنت على أوروبا بصفة عامة قبل الاستهلاك الجماهيري المسعور، لئلا نقول إزالتها – الذي ومن أجله، وهي المفارقة الكبرى للقرن العشرين حيث كان الشباب المحتج الذي تحركه روح بوهيمي يقدمون خدمة مجانية للبورجوازية . فبعيدا عن قلب مجتمع الاستهلاك و بعد الهيجان والضجيج فإن 68 لم يقم إلا بتقويته كأشد ما يكون. وقبل أن يعيد أخذ موقعه تحت الشمس فسرّع بذلك المسار الذي أراد نسفه. هذا هو الخط الثاني للقرن العشرين.         

الخط الثالث والذي بقي أن نتفكّره، وهو ما سيسمح كما سأبيّن ذلك بإعادة إعطاء أبعاد جديدة وحامل لـ”سياسة حضارية” حقيقية –وهي تعبيرة سعيدة وإن كانت، وهو ما ينبغي الإقرار به، قد بقيت لحد الآن وبشكل استثنائي مُفْرَغَة من القيمة، فتحت تأثير الحياة الخاصة، وفي حالتنا هذه العائلة الحديثة القائمة على الاقتراح الحالي لما نسميه “زواج الحب” في تضاد مع زواج المصلحة والمُهَيَّئ من قبل العائلات بعيدا عن اختيار الشباب. إننا نؤكد على انبثاق وجه جديد للقيمة سيثوّر وجودنا، ولكن غيّر جذريّا أيضا الوضع على مستوى سياسي جماعي. تحت تأثير هذا التاريخ، ومن الآن فصاعدا فإن الشخص الإنساني والذي يبدو لنا وقبل كل شيء مقدّس، وهذا بلا شك أكثر من الأسباب التقليدية الأخرى للحياة السياسية، وقد بدأت بهذين “السببين” الهائلين، واللذين كانا مقدّسين في زمنهما وهو ما فَعَلَتْه لقرون الأمة والثورة.  وسأوضّح ذلك فورا إذ لا ينبغي خلطه مع “الديني”، فالمقدّس، وهذا ما نستشفّه من اللفظ ذاته هو ببساطة ما ينبغي “التضحية” من أجله، فالقيم تكون مقدّسة عندما أكون قادرا في أقصى الحالات، على الموت من أجلها. هذا ما يجعل من المقدس المكان المميّز للمعنى وما يهب الدلالة، إن لم يكن لحياتنا فعلى الأقل في حياتنا.

للتعبير عن ذلك بطريقة أكثر بساطة ومنذ الثورة الفرنسية فإن سببين “مقدسين” قد حرّكا السياسة الحديثة وهما ملجأين عظيمين للمعنى وقد أعطيا المجد ووحّدا الإصلاحات وكل المشاريع الخاصة: فعلى اليمين الوطن وعلى اليسار الثورة. عندما كنت مراهقا كانت صحيفة الغوليين Les Gaullistes  تُدْعَى “الأمة” La Nation  وقد شكّلت فرنسا بالنسبة لهم غاية السياسة ، ألفباء كل المشاريع الخاصة التي كان الأفق الإجمالي للمعنى يوحّدها. وفي الجانب الآخر كان كل الرفاق في الجامعة من اليسار وكانوا دون أدنى استثناء “ثوريين”  (أو على الأقل يقولون ذلك) أكانوا ماويين أو تروتسكيين أو فوضويين أو شيوعيين. فالثورة هي التي وهبت معنى، حتى إن لم يكن دينيا فعلى الأقل “مقدّسا” لالتزاماتهم الخاصة.    

وأنا أدّعي أنه تحت تأثير هذا التفكيك الكبير للقيم التقليدية خضع القرن العشرين، لكن أيضا تحت تأثير تاريخ الحياة الخاصة وبالخصوص “ثورة الحب” والتي ميّزت نهاية القرن العشرين في أوروبا. إننا نعيش اليوم على واقع انبثاق مبدأ جديد للمعنى، ولادة وجه جديد للمقدس والذي هو بصدد قلب علاقتنا بالمجموعة و بما هو عمومي من الأعلى إلى الأسفل. لم تعد الأمة ولا أيضا الثورة هي ما يحرّك حياة الأفراد في ديمقراطياتنا الأوروبية. في هذه النهاية المؤقتة الوشيكة للقرن ينبغي الإدلاء بملاحظة: إن الدوافع العظيمة للمحفّزات التقليدية للتضحية في الماضي قد تلاشت بل اضمحلّت. فمن ذا الذي يريد اليوم في أوروبا الغربية الموت من أجل الوطن أو الأمة؟ لا أحد وفي مقابل هذه الكآبة الخانقة أدّعي أن هذا قد يكون أفضل خبر ليس للقرن بل ربما للألفية.

إن هذا لا يعني، وعلى خلاف اللفظ الإعلامي، انهيار دولنا الراعية في تفاهة “عصر الفراغ” أو “نزع غلالة السحر عن العالم” أو لــ”سوداوية الديمقراطية”حتى أذكّر قارئي بالكتب الثلاثة وعلاوة على ذلك بكآبة مجتمعاتنا الأوروبية. إن تلاشي القوميات العنيفة (والتي لا أخلطها مطلقا مع الدفاع الجد شرعي عن الأمة الجمهورية) والهذيان الثوري السراب اللذين تسببا في المآسي والمعاناة التي لا توصف، هذا لا يعني وكما هو شائع  أننا سنقضي على كل علاقة بالقضايا الجماعية، بل على خلاف ذلك تماما فالعكس هو الذي يحدث في الآثار الجانبية لتحوّل الحياة الخاصة في الفضاء العمومي. عليك أن تفكّر ولوهلة في الأمر دون ان تتأثر بالخطاب المحيط لتقتنع أننا لا نعيش مطلقا تلاشي المقدّس بل وعلى خلاف ذلك نشهد انبثاق وجه جديد له: ما أسميه “المقدس الإنساني” أو المقدس بوجه إنساني. باختصار فإن الكائنات الوحيدة التي تكون على استعداد، إن لزم الأمر للمجازفة بحياتنا من أجلها دون شك أو وجل هي الكائنات البشرية، أشخاص من شحم ولحم وليس كليات مجرّدة مثل الأمة أو الثورة.   

البعض سيعترض دون أخذ مهلة للتفكير حتى، -لكني سأقول منذ البداية أن ردّة الفعل البافلوفية التي شكّلتها مسبقا الرؤى التقليدية للسياسة المفقّرة- فما أصفه هنا ليس شيئا آخر غير الحركة الواسعة “للانثناء الفرداني” والذي سيميّز المجتمعات الليبرالية الأنانية وما يميزها من انحطاط الجماعي. أعلن بوضوح: أنه وكما يبدو فإنه لم يحدث حقيقة أن فكرة الجمهورية، هذه الـ Res Publica   والتي ما زالت تعمل كرقائق معدنية منذ ماي 1968، لم تكن مقدّسة مثلما هي اليوم: من الجبهة الوطنية إلى جبهة اليسار مرورا بالاتحاد من أجل حركة شعبية UMP والحزب الاشتراكي تواصل سياساتنا الاحتفال بقيم جديدة مؤلّهة تسمّى “اللائكية الجمهورية”. لا وجود لسوء تفاهم لكن يبدو في الحقيقة أنه الحادث الذي لا يعطي فيه الجميع قيمة للـ “فردانية الليبرالية” وهي التعبيرة التي غدت دافعا للعصر الحالي.

 في الواقع إن ثورات الحياة الخاصة في ديمقراطيات الرأي عندنا لا يمكن أن تبقى دون تأثير  في الحياة العامة والسياسة. لنتجه نحو الأساسي فالمرور من العائلة التقليدية القائمة على زواج المصلحة والذي يقيمه الآباء نحو العائلة الحديثة القائمة على المشاعر وعلى الاختيار الحر للشباب قد قلب وبالرغم من تجذّره في الحياة الخاصة رأسا على عقب علاقتنا بالحياة المشتركة. إن هذا المرور يُفَسِّر على وجه الخصوص انبثاق إشكالية سياسية جديدة هي إشكالية للسياسة الأصيلة الوحيدة وغير المسبوقة منذ الثورة الفرنسية، وهي الإشكالية التي ستعوّض رويدا رويدا من حيث المعنى المحفّزات التقليدية القومية والثورية للتضحية: وهي مسألة أجيال المستقبل. ستصبح بداهة المبدأ الرئيسي لتنظيم السياسة الحديثة وهي التي ستعطي لاحقا المعنى لكل الإصلاحات الخاصة  ولكل المجهودات التي تطلبها الدولة من المواطنين، وأن يقبلوها ماداموا عاقلين وعادلين، بشرط أن تكون شروط الإنصاف واضحة، ولكن أيضا لماذا ولمن ينبغي الموافقة. كيف يمكن لقدسية الإنسان كنتيجة مباشرة لتاريخ العائلة الحديثة أن تكون بمثابة الرافعة التي يمكن استخدامها لتغطية المستقبل الذي يرتكز على الاهتمام بالأجيال القادمة، أي باهتمام هؤلاء الذين نحب والذين نهتم بهم كثيرا ومن أجلهم فقط نكون على استعداد لتقديم تضحيات جسيمة. إن أبناءنا والذين سيكونون في مستوى سياسي “مستقبلنا”  هم مجهولون لا ينتمون للفضاء الخاص بل للفضاء العمومي، فعندما يكون أحدنا وزيرا للتربية ويفكّر في إجراء إصلاح هام فإنه يقوم بذلك . وهو يدرك  بلا ريب أنه سوف يُطَبَّقُ على أبنائنا، ولكن من البيّن أننا لاننجزه من أجلهم فقط (من أجل الأقارب ومن أجل الفضاء الخاص فقط) بل من أجل الجميع، من أجل فرنسا وجميع الأطفال الفرنسيين وإذا من أجل المستقبل ومن أجل الفضاء العمومي. وضّحنا ذلك لنتجنّب سوء الفهم المعتاد والذي يجعلك تعتقد أن اهتمام المرء بأطفاله وأقاربه سيكون متعارضا مع مراعاة المشترك وهو فهم خاطئ.

انحدار  الأمة والثورة وانبثاق المقدّس بوجه إنساني واستعادة السياسة لسحرها

ما دام سوء الفهم شائعا  فإني سأؤكد أن المقدّس، وأنا لا ادّعي هنا شكلا جديدا من اللاهوت السياسي ليس نقيضا فقط للدنيوي لكنه وفي نفس الآن موطنا للتضحية بذلك المعنى وكما يقول مثل عربي قديم: المرء الذي لا يملك ما يخسره هو رجل فقير فعلا لأنه لم يجد معنى لحياته، وحتى يكون للسياسة معنى وتبدو كسبب وجيه يستحق أن نهتم به وأن نبذل جهودا مضنية إن لزم الأمر لمقيم فعلا علاقة ما مع المقدّس، هذه العلاقة هي اليوم على وشك التغيّر من دعة دوافعها وطبيعتها العميقة المقدّس بوجه إنساني والذي وُلِد من تاريخ العائلة الحديثة وعلى خلاف الأوجه القديمة مثل القومية والثورية ليس متعاليا على الإنسانية بل محايث لها –حيث لم تعد التضحيات التي يمكن أن تأمر بها والتي يمكن أن تعطيها معنى قاتلة بالضرورة، وعوامل حروب جديدة، كما كان الحال تقريبا بالنسبة لأولئك الذين هيمنوا على أوربا القومية والثورية في الماضي

   إن خطاطة هذه الملاحظة ستكون جد بسيطة:

1.أولا يتعلّق الأمر بفهم الآثار الضارة الثلاثة للعولمة على ديمقراطياتنا الأوروبية (هذا لا يعني بالطبع أنه ليس لها آثارا إيجابية ممتازة) التضحيات المرتبطة بضرورات العجز ونقص الديون والتراجع النسبي للسياسات الوطنية والأهم (النمو ومواطن الشغل والتسويات المالية والإيكولوجية إلخ…) والتي تدور وفي قسم كبير منها في مستوى الدول الأمم، إن فقدان معنى التاريخ الناجم عن كثرة مراكز القرار اللامتناهية تقريبا كعوامل للتغير.

2.ثانيا يتعلّق الأمر باقتراح آفاق للمستقبل من حيث المعنى والقيم، آفاق ترتبط بثورة العائلة هذا الأمر الذي يستحث على مستوى جماعي على إحداث تغيير هام وقد بدأ مع هذه الإشكالية الجديدة “للأجيال القادمة” وهو ما يعني إن ترجمناه بعبارات سهلة معرفة أي عالم سيعمل الكبار الذين هم في سدة التسيير والمسؤولية على تركه للذين سيأتون من بعدهم. ليس فقط على الصعيد الأيكولوجي بل كذلك ما يتعلّق بالضمان الاجتماعي وصدمة الحضارات وتنظيم المالية العمومية إلخ… ستكون هذه فرصة لإظهار الأهمية التي ستكون عليها مسألة الشباب في السنوات المقبلة وبالتالي إلى أي مدى سيكون من المحبّذ أن يحمل عنها السياسيون دراية منذ الآن. 

حول ثلاث أثار للعولمة: تضحيات ضرورية وخسوف المعنى والعجز العمومي

 لنتحاشى بداية سوء الفهم الذي بدأ يرسو في رؤوس قرّائي الأشد ليبرالية، إن العولمة كارثة، وبعيدا عن هذا ولصالح العولمة ينبغي أن نأخذ في الاعتبار حقيقة أنها تفتح عوالم ظلت منطوية على ذاتها ومغلقة كليا على غيرها، وهو تقريبا ما يكفي وحده لتبريرها، فإذا كنا نستطيع أن نضع جانبا وجهة نظرنا كأوروبيين أثرياء وكنا هنودا أو صينيين أو برازليين أو حتى أفارقة فإننا سنصفق بكلتا اليدين لحقيقة أن مئات الملايين سيخرجون من الخصاصة اليوم بموجب التبادل مع العالم. بمعنى أنه يكفي وعلى النقيض من التهدئة وضد كل حس سليم فإن يعتبر المتعصّبون للعولمة وعدد من الساخطين أن النمو السياسي للكوكب ومنذ خمسين سنة لقياس مدى تطوّر الأمور يبدو  أن كل شيء يعمل لصالح الديمقراطية، فالطغاة الذين أدموا أمريكا اللاتينية قد تلاشوا، والكليانيات الغربية أيضا، وبلدان مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال كانت تدور في فلك الفاشية زمن طفولتي أصبحت اليوم أنظمة ديمقراطية اجتماعية مسالمة، وليس ثمة في العالم الغربي من لا يريد الدخول في دائرة الحرية وحقوق الإنسان. إننا في حاجة إلى جرعة واحدة من العمى أو النيّة السيئة للتظاهر بأن كل شيء يزداد سوء بينما يحدث العكس تماما.

  بيد أنه وحتى بالنسبة إلينا كأوروبيين ورغم التحديات التي تواجهنا يمكن أن تكون العولمة الليبرالية نعمة وفرصة. إننا لن نجد هنا، وعلى الرغم من الآثار الضارة التي كنت قد أشرت إليها وأستعدّ لكشفها لاحقا لن نجد نداء لفائدة “نزع العولمة” والتقليص من النمو ولا فائدة من هذا السراب للحمائية الأوروبية. إن العولمة الليبرالية ومهما قال المتطرفون من اليمين واليسار لها عدد من الفضائل ومن غير المجدي تماما إنكارها، كما يوضح ذلك كل الاقتصاديين ـ من اليمين ومن اليسارـ فإن مستوى الحياة بالنسبة للفرنسيين ارتفع بشكل مميز منذ الخمسينات بل وتضاعف بمقدار ثلاث أو أربعة مرات .

تقريظ النموذج الاجتماعي الأوروبي ضمن عولمة ليس فيها إلا العيوب

يكفي أن تسافر في أرجاء العالم حتى تدرك أن ديمقراطياتنا الأوروبية التي تتعرض لشجب ساخط اليوم قد أبدعت نموذجا “عبقريا” للمجتمع، وهو إبداع اجتماعي تاريخي يشكّل مزيجا من الحرية والرفاه غير مسبوق تاريخيا وجغرافيا ولم يكن له ما يضاهيه إلى حد اليوم. وللاقتناع قم بهذه التجربة الذهنية، اقرأ أو أعد قراءة يوطوبيات القرن التاسع عشر ، أو أنظر ببساطة ديكان Dickens أو هيغو Hugo و”بؤساءه، فحتى في الحلم لا يحرز أحدنا على تخيّل عُشُرِ ما يمكن أن يتوفّر لأحد أطفالنا في دولنا الراعية، في ألمانيا أو أنجلترا أو فرنسا أو حتى في إيطاليا أو البرتغال أو إسبانيا، من جهة حرية أمل الحياة والحق في التشغيل والتعبير والتعليم والثقافة والحب والصحة إلخ… فليس فقط من قبيل الانتحار فحسب بل من العبث في ظل هذه الظروف الاستسلام لكره الذات أو الاكتئاب وإلى السخط والغضب فهذه المشاعر القاتلة حملت بالأساس غيرة متعصّبة والتي أصبحت في الحقيقة وتحت غطاء الثورات الهائلة البلاء المكين للمجتمعات الديمقراطية.

 لتسيطر على مسار عالم يتفصّى من كل جانب، لنزع الملكية الديمقراطي والعجز العمومي.

برغم هذا الآثار الإيجابية الهائلة فإن العولمة تطرح على الصعيد السياسي مشكلا هاما وتحدي خاص وهو يبدو من الآن فصاعدا كتحدّي رقم واحد لسياسة الغد، ذلك الذي يتعلق بانتزاع المواطنين في مواجهة مسار عالم يتفصّى منهم يوما بعد يوم، لأنه يتفصّى من ممثّليهم الأشد بروزا. ثمة هنا تهديد حقيقي لديمقراطية هي في الأصل كانت على الأقل قد وعدتنا بأنه سيكون بإمكاننا أخيرا مغادرة الأزمنة المظلمة والأنظمة القديمة، وأن نبدع معا تاريخنا وأن نسيطر على مصيرنا ولن نقوم بذلك إلا عبر الاقتراع الكوني.  ولأن العولمة خانت هذا الوعد كما لم يحدث من قبل لا ينبغي ونحن لا نتوهّم: انحدار الدولة الأمة فقد جعل ردّات الفعل “السياديّة” مريبة وغير محتملة تلك التي تريد “السيطرة” بالوقوف فقط على السياسات الوطنية.

لنعبر هنا أيضا عن الأشياء ببساطة، لا يمكن إنكار التنافس الشامل بين البلدان وبين المؤسسات ومخابر البحث إلخ… فإن العالم الذي نلجه لا يتفصّى منا أكثر فأكثر فحسب بل بالإضافة إلى ذلك محمول من هنا فصاعدا بمسار تاريخ مجرّد من المعن، مع قبول المعنى المزدوج للعبارة، محروم في آن من دلالة الاتجاه فليس لدينا أدنى فكرة لا عن العالم الذي تنشئه كشاهد على عدم القدرة على التنبؤ  الجذري بالأحداث التي ميّزته، بداية من هذا الربيع العربي المسعور الذي لا أحد استبقه ولا أحد يعلم لصالح من سيؤول.

لكن لنعد إلى تاريخنا الأوروبي وإلى كون اقتصادياتنا اليوم كجزء من النسيج العالمي تدخل في معنى عدم القدرة على التنبؤ لنأخذ مثلا بسيطا فكل واحد يمكنه أن يلاحظ بنفسه: كل سنة بل كل شهر وكل يوم تتغيّر هواتفنا المحمولة وحواسيبنا وسياراتنا، إنها تتجدد فالتطوّرات تتضاعف إلى ما لا نهاية له، والشاشات تزداد ضخامة وتتلوّن والربط بالأنترنات يتزايد والسرعات تزداد وأجهزة الحماية تنمو وأنظمة جديدة تظهر فتجعل ما كنا نراه بالأمس مدهشا باليا ودون جِدَّةٍ. هذه الحركة المتولّدة مباشرة عن منطق التنافس العالمي لا يمكن صدّها إلى درجة أن المؤسسة التي لا تتجدّد مهدّدة بالانتحار. ثمة هنا إكراه للتكيّف لا يمكنها أن تتغاضى عنه، سواء أعجبنا ذلك أم لا وسواء كان له معنى أو لا. لا يتعلّق الأمر بالذوق وبخيار من بين خيارات أخرى ممكنة بل بأمر مطلق، ضرورة لا جدال فيها إن أردنا البقاء على قيد الحياة. مهما اعتقدنا فإن رئيس المؤسسة ينبغي اليوم أن يجدد ليجدد وفي كل المجالات: فالبضائع التي يُدْفَع بها إلى السوق، لكن أيضا الموارد البشرية والموهبة والقضاء على الورق في الفوترة وفي اتصالات المؤسسة والإشهار  وتسليط الضوء على الأسعار الجديدة إلخ…

فجأة وفي ظل هذه العولمة التي تضع كل الأنشطة الإنسانية اليوم في حالة تنافس متواصلة فإن التاريخ يتحرّك من الآن فصاعدا خارج إرادة البشر، ولأخذ مجاز ساذج لكنه معبّر فمثلما أن درّاجة هوائية ينبغي أن تتقدّم لكي لا تسقط أو أن جيروسكوب يدور بشكل مستمر ليبقى على محوره ولا يسقط عن المحور ولا يسقط عن الخيط الذي وضعتموه عليه، ينبغي علينا دوما “التقدم” بيد أن هذا التقدم الميكانيكي الناجم عن الصراع من أجل البقاء لم يعد يحتاج مطلقا إلى مشروع أوسع مدمج في مصير هائل يمنحه معنى.

 قد يُعْتَرَضُ عليّ بالقول أن العولمة ظاهرة جديدة لا يمكن تصوّرها، وأن الناس لم يقوموا مطلقا بصنع تاريخهم وأنني أهوّل الأمور وأن الأمر ليس كذلك. سنفهم الأمر بيسر إن كنا سنأخذ في الاعتبار الاختلاف الهائل الذي يفصل عولمتنا عن مقدّماتها الأولى، عند انبثاق العلم الحديث والذي يمثّل دون شك الشكل الأول للخطاب ذا المنحى “العالمي” في عقلانية القرن السابع عشر والثامن عشر ومنذ بايكون وديكارت والموسوعيين الفرنسيين أو عند كانط مثلا، فإن مشروع السيطرة العلمية على العالم تملك أيضا رؤية تحررية. ففي مبدئها بقيت خاضعة لتحقيق غايات تُعْتَبَر كمغانم للإنسانية ، لم نكترث فقط بالوسائل التي تمنحنا السيطرة على العالم بل بالأهداف التي تسمح بها تلك السيطرة، إذ لزم الأمر  كيف أن هذا الاهتمام لم يكن فقط تقني ونفعي فحسب بل مُدَوَّنٌ أصلا ضمن “سياسة للحضارة”. إن تعلّق الأمر بالسيطرة على العالم عمليا ونظريا عبر المعرفة العلمية وبإرادة البشر فلم يكن ذلك من أجل مجرّد السيطرة بفضل السحر الخالص لنرجسية قوّتنا فلم نهدف للتجديد من أجل التجديد وللتحكم بغاية التحكم بل من أجل فهم العالم وإن لزم الأمر استخدامه بغاية الوصول إلى بعض الأهداف السياسية والتي تجتمع في النهاية تحت محورين رئيسيين: الحرية والسعادة. عند ممثّلي الأنوار يتم بفضل تقدم العلوم والفنون (فنون الصناعة) تحرير البشرية من سلاسل “الظلامية” القروسطية ولكن أيضا من الجبروت الذي تسلّطه الطبيعة علينا. بعبارة أخرى فإن التحكّم العلمي لم يكن غاية في ذاته بل وسيلة من أجل حرية وسعادة متاحة للجميع.          

الوجه الأول للعولمة متماهي إذا مع هذه الثورة العلمية الهائلة للأنوار وفي الحقيقة مع العلم الحديث الذي يبدو للوهلة الأولى في تاريخ الإنسانية خطاب للعقل التجريبي والذي يسعى في الأخير وبطريقة شرعية ومعقولة ليكون مفيدا للبشرية جمعاء، فالعلم يتسامى عن كل المعيقات الاجتماعية والسياسية ويشق الطبقات الاجتماعية والحدود لذلك فإنه عند الفقراء كما عند الأغنياء ذا قيمة، عند الأرستقراطيين كما عند العامة، وأيضا عند الصينيين مثل الألمان والإيطاليين والفرنسيين. إن العلم بذلك مثّل أول خطاب معولم بحق في التاريخ البشري فقديما كنا، إن صحت العبارة، في مجموعة ” السرديات والأساطير”: ثمة أديان وفلسفات وآداب وأساطير وكوسمولوجيات إلخ… ولكنها كانت جميعا محلية وجهوية محدودة بثقافات وجهات خاصة. فقط وبفضل الثورة العلمية بدأ العالم فعليا في التوحّد على صعيد عقلي.

 لكن ثمة ما هو أكثر من ذلك، ففي اللحظة التي انطلقت بدت هذه المرحلة الأولى من العولمة محمّلة بمشروع رائع للحضارة، فلم يتعلّق الأمر فقط بمسألة فهم الكون وكشف أغواره بل تعلق الأمر أيضا بإنشاء حضارة جديدة وتكريس عالم أخلاقي وسياسي حيث يكون البشر أخيرا أكثر حرية وسعادة، فالسعادة فكرة جديدة في أوروبا كما ادّعى القديس جوست Saint Just ، بعبارة أخرى يملك التاريخ في نظر الأنفس “المتنوّرة” غاية سامية، ومعنى مشترك، إنه يتوجه صوب التقدّم.

الوجه الثاني: أن العولمة التي نسبح فيها اليوم والتي انبثقت في النصف الثاني للقرن العشرين مع الأنترنات والأسواق المالية والتي تعمل بفضلها وبطريقة لحظيّة تشكّل في آن نتاجا للأولى وقطعا معها. إن أقصى ما يميّزها هو “سقوط” بالمعنى الإنجيلي أو الأفلاطوني للكلمة. إن مشروع التنوير “يسقط” في الواقع في بنية تحتية، تلك التي للرأسمالية المعولمة، والتي تتضمن في النهاية تنافسا شاملا لأنها من هنا فصاعدا ستكون مفتوحة على عرض المحيط. إن حتمية الابتكار وإذا إزالة الماضي أو إن أردنا الثورة المستمرة ليست مسألة ذوق أو خيارات ممكنة ولكنها ضرورة حتمية إذا كانت المؤسسة تريد ألا تفلس، وهنا أيضا كان ماركس على حق في “إن الرأسمالية الحديثة لا تستطيع أن توجد دون أن تقلب باستمرار القوى الإنتاجية وعلاقات الإنتاج. إن الابتكار ليس مشروعا بل كراس شروط، وهو ليس مصيرا هائلا بل إكراه مطلق منزوع كليا من المعنى.

في هذه الصفقة الجديدة يتحرّك التاريخ خارج إرادة البشر ، إنه ليس مستوحى من قبل الغايات القصوى والأهداف الكبرى بل متولّد ميكانيكيا من المنطق الأوتوماتيكي المجهول والأعمى للعلل الفاعلة. سيقال أن الأمر كان كذلك دوما في جزء من ذلك وبلا ريب لكن الوعد الإنسانوي والجمهوري بامتياز أقام فعلا في فكرة أننا سنتمكّن في النهاية وعندما نغادر النظام القديم من إشادة تاريخنا وسنشارك جماعيا في صياغته. إن هذا الوعد ومنذ فولتيير إلى ديغول مرورا بهيغو أو جوراس Jaurés، قد حرّك العقول المتنوّرة، وقد بدأ بالتشكّل بعد الحرب، مع الارادوية الغولية volontarisme gaullien مثلا  وإنشاء لجنة التخطيط لـ CEA  إلخ… باختصار لسياسة صناعية والتي كانت وإلى حد بعيد تلك التي للدولة الأمة، واليوم تمت خيانتها على نحو غير مسبوق.

مع عولمة التنافس يتغير معنى التاريخ: فبدل أن يتم الاستلهام من المثالات المتعالية فإن التقدّم أو بأكثر دقة حركة المجتمعات قد تم اختزالها شيئا فشيئا لتصبح نتاج ميكانيكي للتنافس الحر بين مكوناتها المختلفة. من أجل فهم هذا القطع الجذري الذي بدأ مع عصر الأنوار  يكفي أن نفكّر في هذا: في الشركات ولكن أيضا في المخابر العلمية ومراكز البحث ومقارنتها بغيرها، ما نشير إليه اليوم تحت اسم المرجع benckmarking بتأويج الإنتاج وتطوير المعارف وخاصة تطبيقاتها على الصناعة والاقتصاد، وباختصار على الاستهلاك وتصبح ببساطة ضرورة حيوية. إن الاقتصاد الحديث يعمل مثل الانتقاء الطبيعي عند داروين ففي منطق التنافس المعولم الشركة التي لا تتطور كل يوم هي مؤسسة مهدّدة بالموت. من هنا يكون التطور الرائع والمتواصل للتقنية منصب على النمو الاقتصادي وممول من قبله. فتزايد قوة البشر على العالم والذي أصبح مسارا أوتوماتيكيا غير مراقب بل أعمى، بما أنه يتجاوز في كل مكان الإرادات الفردية الواعية. لا شيء إلا النتائج الحتمية للتنافس بذلك، وخلافا لمثال الحضارة المتوارث عن الأنوار فإن العولمة في الواقع مسار لاغائي مسلوب من كل نوع من الأهداف المحددة، فلا أحد يعرف أين سيقودنا هذا السير الميكانيكي للعالم الذي أنتجه التنافس والذي لا توجهه إرادة واعية للبشر المجتمعين حول مشروع يمكن أن يسمّى في القرن الأخير بـRes publica  الجمهورية – دلاليا تعني “شأن” أو “نتيجة مشتركة”. في العالم التقني بمعنى في عالم تكون فيه التقنية تقريبا، وكما قال هايدغير ظاهرة بلا حدود، ظاهرة كوكبية، لا يتعلق الأمر بالهيمنة على العالم أو المجتمع لنكون أكثر حرية وأكثر سعادة ولكن بالتحكم من أجل التحكم وبالهيمنة من أجل الهيمنة، لماذا؟ من أجل لاشيء فعلا أو لأنه ببساطة من المستحيل القيام بخلاف ذلك.

من هنا يكون التحدي رقم واحد للسياسة الحديثة، تحدي ينبثق تحت مسمّى “التنظيم” في مجال الاقتصاد كما في مجال الإيكولوجيا، والتي لم تعد مرتبطة بالمواجهة يمين-يسار: كيف نعاود السير على مسار عالم يتفصى من كل جهة؟ كيف نعيد إعطاء معنى لفكرة الجمهورية؟ وإلى أي حد يمكن حدوث هذا “الاستيلاء” إذا تم تجاوز مستوى الدولة الأمة؟

إعادة إعطاء معنى للسياسة أو كيف قلبت الحياة الخاصة الحياة المشتركة.

أريد الآن أن أدقق كيف ستقلب ثورات الحياة الخاصة الصفقة على المستوى السياسي والمشترك في السنوات المقبلة وفي اي اتجاه ستقلبها، كيف سنتمكن على هذا الصعيد من إعادة فتح المستقبل وأن نعيد إعطاء أفاق تحتمل تأسيس فعل استعادة في مواجهة مسار هذا العالم والذي هو في الوضع الحالي يتفصّى منا من كل الاتجاهات. لنفهم ذلك جيدا من الضروري أن نخلّص الفكر مسبقا من الخلط المعتاد والذي ينتهي بخلط القيم الأخلاقية، التي هي فعليا حقائق ثابتة في مسار القرون،  بالقيم الروحية المرتبطة بإشكالية المعنى، والتي هي مقابل ذلك شديدة التغيّر بحسب الأزمان.

قيم أخلاقية وقيم روحية: في أن الأولى وخلافا للفكرة السائدة لا تتغيّر إطلاقا وفي أن الثانية تتطوّر باستمرار

الأخلاق، وبمعنى ما نستشفّه هي احترام الآخر، ولنقل أنها بالنسبة إلينا اليوم هي حقوق الإنسان المدعومة بقناعة أن حرّيتي تتوقف عندما تبدأ حرية الغير. لكن هذا الشرط الأول وإن كان ضروريا ليس كافيا لتحديد ما ندعوه بتوجه أخلاقي، إن احترام الغير وبدقة هو جزء ينبغي أن نضيف إليه العطف والشهامة، أو ولنتكلم مثلما نتكلم في العائلات “اللياقة” و”الطيبة”. فأن نتوجّه أخلاقيا هو أن نحترم الغير ولكن أن نريد به قدر الإمكان خيرا.

إذا ما طبّقنا هذين الحاملين لكل أخلاق بشكل ممتاز –وهما ثابتين فعلا في مسار التاريخ- أكنّا بصدد الإيتيقا العظيمة للإغريق أو المسيحية أو اليهودية أو الإسلام أو البوذية فلا نجد أخلاقا تنكرها، لا توجد أخلاق تمجّد الكذب أو النفاق أو الأنانية أو الشرّية أو العنف. فلن يوجد على هذا الكوكب مذابح أو عنف أو شهداء ولا جور. لن توجد حروب ولن نكون في حاجة للأسلحة أو للشرطة أو السجون، ستكون ثورة.

رغم ذلك، ويكفي أن نفكر لوهلة في ما سيعقب -لرؤية الاختلافات بوضوح بين القيم الأخلاقية والقيم الروحية- هذا لا يمنعنا لا من التشايخ ولا من الموت ولا من خسارة شخص عزيز أو الحداد على أحد الأحبة، ولا يمكن لهذا أن يمنعنا من إحتمالية أن نكون تعساء في الحب أو ببساطة إغراقنا في أتون حياة يومية مستغرقة في التفاهة، فأن تكون ومع كل صباح مع نفس المرأة أو نفس الرجل وفوق نفس السرير، أن نرى نفس الملامح على نفس الوجوه في المكتب لا يكون ذلك مرحا دائما: من منا لم يقم يوما بتجريب المشاعر  الهائجة وبأن الحياة الحقيقية يمكن أن تكون في مكان ما؟ غير أن كل هذه الأسئلة، المتعلّقة بتفاهة الوجود، وبالحياة العاطفية، والحداد على كائن عزيز علينا، وسنوات العمر والألم والمرض والملل إلخ… ليس لها في الواقع أي علاقة بالقيم الأخلاقية. فأن تحيى كقدّيس وأن تحترم الغير وتساعده وأن تطبّق حقوق الإنسان كشخص وأن تتشايخ وتموت وتتألم، فلأن هذه الحقائق وكما يقول باسكال هي من نوع ثان هي جزء من “الروحانية”، والتي لا تُحَدُّ في الواقع بالدين وتذهب إلى ماوراء الأخلاق.

حول هذه الأسئلة تتقرّر وبشكل أساسي إشكالية معنى حياتنا أو إن أردنا صياغة الأشياء بشكل أبسط، إشكالية الحياة الرغدة. إن السياسة وإن كانت غير معنية بالموضوع بشكل مباشر-أن نكون سعداء- لا يمكنها أن تتغاضى كليا عن ذلك، وعلى الأقل في ديمقراطية، لأن الآراء العمومية، والتي تتشكل من عدد من الأفراد، جميعها مختلطة. أضيف أنه توجد أيضا روحانية مع الله، أي محاولات لتحديد الحياة الرغدة، أو الحياة السعيدة، بالاعتقاد في كائن أسمى وفي علاقة به، وهو ما نسميه الديانات. بيد أنه توجد أيضا روحانية دون الله، تعريفا للحياة الرغدة للزائلين تحديدات لا تمر عبر الألوهية ولا عبر الإيمان ولكن إن صح القول بالوسائل المتاحة، بوضوح العقل وبقبول وضعنا البشري غير القابل للعلاج كزائلين وهو ما نسميه الفلسفة.

بيد أن ما نبحث عنه نحن اليوم كأوروبيين جمهوريين ولائكيين هو روحانية غير دينية، وتصور لائكي “للحياة الرغدة”، رؤية لعالم مشترك يمكننا إنشاءه معا ونطمح لذلك. وكما اقترحت سابقا لا يكون انطلاقا من الأساطير الكبرى القومية والثورية، وأن هذا البناء يظل ممكنا الآن –برؤية أعداد الموتى والمآسي التي لا توصف والمتولّدة عن هذين الوباءين، بل بالأحرى أن نسعد بها، على شرط ألا نظل في السوداوية الديمقراطية ونزع السحر عن العالم وعصر الخواء. وأنا أؤكد لتحاشي سوء الفهم: عندما أتكلم هنا عن “القومية” لا أقصد تحديدا الجمهورية اللائكية المتمركزة حول حقوق الإنسان حيث أورثنا المنظّرون أخلاق ورؤية للمدرسة التي أحترمها وأعتبرها تمثلني إلى حد بعيد، لكنها لا تمس فعلا إشكالية المعنى. ينبغي علينا إذا أن نفكّر  وقبل الذهاب بعيدا في الأوضاع التي كانت فيها السياسة “مسحورة” لمحاولة معرفة إلى أي مدى يمكن أن تتوفر تغيّر تلك الأوضاع أو إلى أي مدى لا تبلي حوافز أخرى اليوم.

في تبدّل طبيعة علاقتنا بالأحداث الجماعية وتبدّل هيئتها

في تاريخنا لم  تنزع السّياسة غلالة السّحر إلا في وضعيتين ولم يتم إلى اليوم التأكّد من كونهما مازالتا قابلتين للبقاء ومرغوب فيهما، لكن ينبغي أن تظهرا بوضوح للفكر إذا أردنا فهم الطفرة التي حدثت في المعنى والقيم، والتي سأتجه للبحث في إطارها الآن .

من أجل أن تكون حاملا لنَفَسٍ تاريخي، فإن “المُرْشِد الأسمى” ينبغي أن يقوم بداية بتجسيد القيمة المتعالية والقيم المُثْلى والمتخارجة عن الإنسانية، على اليمين الأمة  المُتَجَاوزة ومن بعيد: مجموع الأشخاص الذين يؤلّفونها، وعلى اليسار حملت الثورة  أيضا البشر نحو قضيّة أعلى منهم جميعا. الشرط الثاني، يبدو أنه وباسم هذه القيم العظيمة حقا، يكون المواطنون على استعداد للتضحية بحياتهم، وكما يقول النشيد الوطني الكوبي اليوم وبأسلوبه التراجيدي الكوميدي، لكن بربط المباحث الكبرى التي حملتها السياسة الحديثة بشكل جد بارز ذلك الذي للأمة والثورة وفي البعد الديني للماوراء :”أن تموت من أجل الوطن هو أن تدرك الخلود.” فبالنسبة لأمة ماركسية ثورية وملحدة فإن الأسلوب لا يفتقد للنكهة.

بنفس الروح انتهت الحربين العالميتين إلى عشرات الملايين من الضحايا باسم القومية، بينما أهلكت فكرة الثورة روسيا والصين، وإلى حدود 68 فإن هذين الملجأين الوهميين قد استمرّا في حمل السياسة الحديثة. فإذا أردنا قيس قوة الرموز المتعالية والتضحويّة التي حرّكت الروح العام ينبغي أن تذكّر بفَقْدَيْن: فَقْدُ تشي الذي أبكى الطلبة في غرفهم، وفَقْدُ الجنرال الذي أُثير في عدد من الصحف اليومية الوطنية والذي ترك المنافحين كثيرا بحيث يبدو أنه تحوّل اليوم إلى حدث جانبي “فرنسا ثكلى”. عن أي رجل سياسة نستطيع قول ذلك اليوم ودون أن نثير السخرية العامة. فأن تكون هاذيا وقاتلا فإن حلم بن لادن سيملأ هو أيضا بطريقته الرهيبة الشرطين. إنه عدائي تجاه الدكتاتوريات العربية المتشايخة وتجاه مفترضات المجتمعات اللائكية، فقد استطاع أن يروّج “الامتلاء”  لقطعانه مثل ستالين وماوتسي تونغ وهتلر: معنى قصيٍّ وتضحية ومثال ومطلق.

اليوم يرغب السياسيون الغربيون في حلم صغير، في “حلم فرنسي” صغير هادئ ولطيف لكن دون تعالٍ ولا تضحية ! حيث تنعكس إحدى السمات الأكثر انتشارا (لكن ولحسن الحظ ليست الوحيدة) الجماهير التي يدّعون قيادتها ويريدونها مفيدة. فديمقراطية الرأي العام تُلْزِم بما يطلبه الشعب، وأيضا بالقدرة الشرائية والوظائف والأمن؟ إن الأمر شرعي للغاية ولكن بعيد جدا عن إعادة السحر لأي شيء.

نستخلص إذا أن الحلم قد مات، وأن إزالة غلالة السّحر عن العالم قد حملته بعيدا وأن السياسة التضحوية العظمى والقاتلة فعلا لكن وعلى الأقل المتحفّزة ستنتمي من الآن فصاعدا إلى الماضي وتسكب بعض دموع التماسيح.    

 أعتقد أن الحقيقة مختلفة جدا.

 ولادة العائلة الحديثة أو كيف يقيم تاريخ الحياة الخاصة وبعيدا عن توجيهنا نحو “انثناء فرداني” اتفاقا جديدا في علاقتنا بالجماهير.

إننا نعيش ثورة وحتى تكون صامتة وأقل فتكا وتكون مع ذلك ذات عمق غائر، فهي تُنَفَّذ في صمت في الفضاء الخاص. لكن نتائجها على الحياة المشتركة والسياسية هامة فعلا، وكما أشرت سابقا فإن الأمر يتعلّق بولادة العائلة الحديثة، بالمرور من الزواج الذي يتم إعداده من الآباء بمبررات اقتصادية ودموية (تتعلق بالنَّسَبِ) نحو الزواج الذي يختاره الشباب من أجل انبثاق حياتهم العاطفية. إن هذه الثورة وإلى جانب كونها تمسّ أوّلا الحياة الخاصة تشكّل مع ذلك دليلا على ما دعاه دوركهايم “حقيقة اجتماعية شاملة”، حقيقة جماعية بارزة لها ثلاثة نتائج رئيسية على الصعيد السياسي العمومي: ابتداع الطلاق وتشريعه، ورؤية غير مسبوقة للطفولة وبالتزامن مع ذلك انهمام جديد بـ”أجيال المستقبل”، وهو انهمام سيعوّض اللونان الرماديان للسياسة التقليدية :الأمة والثورة.

إن إقامة العائلة على الحب وليس على النّسب أو الاقتصاد أو على البيولوجي، كما تم دوما طيلة القرون الوسطى، نتيجته الحاسمة علافت ابداع الطلاق وذلك لسبب بسيط قد لاحظه مونتنييه  Montaigneفي الكتاب الثالث لـ”المحاولات” : إن العاطفة لا تدوم إلا لزمن وعندما تضمحل أو عندما تتحوّل إلى لامبالاة أو كراهية فإن الانفصال يُفْرَضُ. عندما كان الزواج يُقَام على اختيارات أخرى – على نقل الإراث وأسماء الأجداد أو إدارة الملكيّة أو التوالد البيولوجي فإن معطى غياب الحب لم يكن حافزا للانفصال. على نحو يكون فيه الطلاق دون ضرر محظورا. يبدو أنه من الواضح أن تشريع الطلاق شبه النهائي بموجب قانون 1882 قد صاحب ولادة زواج الحب في طبقة العمل (الطبقات البورجوازية التي لها ميراث اقتصادي ستتبع فيما بعد)، اليوم وفي أوربا حوالي 60%  من الزيجات تنتهي إلى طلاق، ومن المحتمل أن تكون نسب طلاق الزيجات دون أطفال أكثر بكثير. 

مع ابتداع زواج الحب بمعنى الزواج الذي تم اختياره على قاعدة الحب ومن أجل الحب، ليس الطلاق فقط ما أضحى شرعيّا وضروريا بل أيضا رابط بالأبناء والذي لم يكن إلى حد الآن معروفا وقد استقرّ في العائلات. إن نتائج الحب ستكون على العموم محبّبة أيضا، لقد أحببنا دوما الأبناء على الرغم من كون العصور الوسطى لا يبدو أنه كان لديها الكثير من هذا الحب إذا أردنا أن نؤمن بشكل خاص بالأعمال الجليلة للقروسطيين مثل تلك التي لـ”جون لويس فلوندران Jean-Louis Flandrin  -حول الذات- ولكن ما هو واضح أن تأسيس الزواج على العواطف سيغيّر جذريّا قواعد اللعبة ويُقِيمُ حبّا شغوفا للأطفال والذي لم نعهده إلى حدود ذلك الزمن. من الواضح أن هذه الطفرة الأساسية هي التي ستؤدّي ودون أن نلاحظ ذلك إلى انبثاق سؤال جديد وحاسم. وهو الذي سيعوّض المحاور القديمة للسياسة التقليدية: أي عالم علينا أن نتركه لهؤلاء الذين نحب؟ هذا السؤال سيعيد فتح المستقبل، إنه يعطي المعنى وسيسمح على نحو ما بتشريع أنواع معيّنة للتضحية.

بيد أنه وفي هذا الصدد فإن الجِدَّة الأكثر روعة وعلى خلاف القيم التقليدية الميّتة للأمة والثورة هي ليست متعالية عن الإنسانية ولكن متجسّدة فيها. بحيث لم تعد الجهود التي تقتضيها قاتلة فعلا. هذه هي كل الأسئلة الخاصة بالسياسة العظمى التي سيتم إعادة صياغتها تحت رعايتها، بمعنى تحت راية الاهتمام بالأجيال القادمة على المدى المتوسّط وعلى المدى البعيد: ذلك المتعلّق بالدَّيْن العمومي لكن أيضا صدمة الحضارات والتسويات المالية والإيكولوجية والضمان الاجتماعي في لعبة  الاهتزاز الاقتصادي والتجاري التي نسميها “عولمة”.

 يبدأ الأمل في كونه سنتمكّن في يوم من الأيام من التغلب أخيرا على كارثة المجتمعات الغربية “المُحَكَّمَة” بأن نعطي وبفضل اهتمامنا بهؤلاء الذين سيأتون بعدنا ليس فقط طعم الجهد ومعنى التضحية لكن أيضا اهتمام طويل المدى كما نراه في الإيكولوجيا المعاصرة ولذلك فليس من الغريب أن تكون ومنذ قرنين الحركة السياسية الجديدة: لذلك فرغم كل الأخطاء والتي يمكن أن نجد فيها القوة والاعتراف بأنها أول من فهم معنى مسألة أجيال المستقبل ونطاقها. في هذا الملجئ للمعنى ينبغي أن ننشد من الآن فصاعدا برنامجا سياسيا حقيقا بهذا الاسم، وذلك بتجميع الأولويّات تحت مظلّتها وكل المشاريع الخاصة والمتكثّرة وترتيبها.
__________
*بقلم: لوك فيري/ ترجمة: وحيد الهنودي.

 **وحيد الهنودي: باحث وأستاذ فلسفة تونسي.

جديدنا