مئوية فيتغنشتاين؛ مراجعات في مسارات المنطق الفلسفي

image_pdf

سؤال الأبد:

يبدو أنه لا مناص من بدء هذا المقال بسؤال؛ نسبة لأهمية السؤال، عندما يتعلق الأمر بأي حديث عن “الفلسفة”: هل حقاً “غيّر فيتغنشتاين الفلسفة إل الأبد؟ كما زعمت مجلة الـ”إيكونوميست” البريطانية، التي عَنْوَنَت مقالها، في باب “فنون وكتب”، بـ”قبل قرن من الزمان، غيّر لودفيج فيتغنشتاين الفلسفة إلى الأبد”، وذلك في عددها الصادر يوم الجمعة 22 مايو 2021. الأمر الذي يجعلنا نقول ما نعرفه عن فيتغنشتاين (1889 – 1951)، الذي كان أحد أهم فلاسفة القرن العشرين، وقدم مساهمة كبيرة في الجدل حول اللغة والمنطق والميتافيزيقا، وأيضاً الأخلاق والطريقة، التي يجب أن نعيش بها في العالم. لكن، ومن منطق الفلسفة نفسه، يمكننا القول إنه لا نستطيع الاتفاق المطلق مع المجلة حول هذا الإدعاء العريض بأن فيتغنشتاين غير “الفلسفة إلى الأبد”، لكن مؤكد أنه أعاد تشكيل وإثراء الإضافات الفلسفية. من هنا نرجو أن تكون قيمة مشاركتنا في مئوية الكتاب، الذي به يجري الاحتفاء. إذ تعلمنا من فلسفته أن كيفية إدارة الناس لتوصيل الأفكار مع بعضهم البعض، التي كانت ثورية في عصره، هي أن اللغة تعمل من خلال إثارة الصور في أذهانهم لكيفية حدوث الأشياء في العالم. وهذا هو الشكل العام للقضية الفلسفية، التي اهتم بها، إذ يقول إنه عندما لا يمكن للمرء أن يتكلم، لا بد من الصمت، وما لا يمكننا التحدث عنه يجب أن نتجاوزه في صمت. وفي رأيه، يتم تمثيل العالم بالفكر، وهو اقتراح ذو معنى، لأنها جميعاً؛ العالم والفكر والقضية، تشترك في نفس الشكل المنطقي.

لقد أصدرت الـ”إيكونوميست” حكمها بأحقية فيتغنشتاين في تًصَدُّر هذا التغيير، الذي زعمت بأنه “إلى الأبد”، عند إعادة قراءتها لكتابه الموسوم: “مسارات المنطق الفلسفي-“Tractatus Logico-Philosophicus، الذي كُتِبَ في الخنادق عندما كان يقاتل في الحرب العالمية الأولى في الجيش النمساوي على الجبهة الروسية، وظهر مطبوعاً في عام 1921، أي قبل قرن من الزمان، والذي وصفته الـ”إيكونوميست” بأنه” لا يزال محيراً وملهماً”. وقالت إن طباعة الكتاب في حد ذاتها كانت معجزة. وكان الكتاب الوحيد، الذي نشره فيتغنشتاين في حياته، ويكاد يكون غير قابل للقراءة، لأنه فيلسوف معروف بصعوبة قراءته، ناهيك عن الفهم. فهو نص معروف بصعوبة العمل به، وهناك قدر كبير من الجدل بين العلماء حول كيفية قراءته في المقام الأول، ناهيك عن الآثار المترتبة عليه بطريقة، أو بأخرى. ويعتبر بالفعل عملاً صعباً للغاية للقراءة، أولاً وقبل كل شيء، لأنه قصير جداً بالنسبة للأسئلة الفلسفية، التي يتناولها.

ومن بين ما أشارت إليه المجلة، كملمح من حياته، هو أنه، حتى قبل الحرب، كان ذا موهبة فذة، وحتى وهو طالب في كمبريدج، كانت عبقريته واضحة لمعاصريه، الذين توسلوا إليه أن يكتب أفكاره العديدة. وقد رفض ذلك متعللاً بأن عمل الفلسفة المنقوص لا قيمة له. بينما اعتاد معلمه، برتراند راسل، على تدوين الملاحظات عندما يتحدث الاثنان، خشية فقدان عبقرية ربيبه في الذاكرة. أما فيتغنشتاين نفسه فقد كانت تتزاحم عليه شواغل أخرى، خاصة الانتحار، الذي راودته نفسه على الإقدام عليه مرات عديدة، بعد أن رأى ثلاثة من إخوته الأربعة ينتحرون. وآلمه أيضاً انتحار “رودي”، أحد أبناء عمومته، في حانة في برلين، الذي تسمم بالسيانيد في عام 1904، وذلك على الأرجح بسبب الشذوذ الجنسي، الذي أشار إليه فيتغنشتاين باسم “التصرف المنحرف” في “مذكرة انتحار”. وفي هذا المنحى يقول إن الطريقة، التي يتشابه بها أفراد الأسرة مع بعضهم البعض لا تتم من خلال سمة محددة، بل من خلال مجموعة متنوعة من السمات، التي يتشاركها بعض أفراد الأسرة، ولكن ليس جميعهم.

 

الآخرة لله:

نحسب أن فيتغنشتاين ترك عمل “الآخرة” لقوة عظمى لا متناهية، واستنزف ما برأسه فيما أسماه “الصلابة، والاصطناعية، والرضا الذاتي” لوجوده ضمن أعضاء هيئة التدريس. ولكنه بعد سنوات أعاد اكتشاف تحطيم المعتقدات التقليدية في الـ”مسارات” المتداولة في تبذير أفكاره، واتخذ لنفسه مسافة حرة من كتاب متنازع عليه.و بعد وفاته في عام 1951، تم تصنيف بعض الأفكار المتعلقة به في أعماله “التالية المتعلقة بالفلاسفة”، لكنه لم ينشر كتاباً آخر في حياته. ويعتقد قسطنطين سانديس من جمعية فيتغنشتاين البريطانية أن الـ”مسارات” تحتوي على نظرة فلسفية علقت كل أفكاره فترة وجوده”. ولتتبع الذكرى المئوية للكتاب، تستضيف الجمعية ندوة عالمية للفلاسفة. وتقيم مؤسسة فتغنشتاين في فيينا معرضاً رقمياً لحياته وعمله. وقام لوتشيانو بازوتشي، بإطلالته من فتغنشتاين، بتحرير الطبعات الأصلية، باللغتين الألمانية والإنجليزية. لكن تأثير الـ”مسارات” يمتد إلى الجانب الأكاديمي، الذي ستُظهِره المناسبة، بعرض عدد من إبداعات المعجبين به؛ مثل، الرسام الأمريكي جاسبر جونز، وإيريس مردوخ، وديريك جارمان، الذي أخرج فيلم سيرة ذاتية لفيتغنشتاين. ففي منتصف القرن العشرين، كانت انطلاقة الجمعية بواسطة عدد من أساتذة الفلسفة في الجامعات الناطقة باللغة الإنجليزية حيث رفع فرقة من أتباع فيتغنشتاين المخلصين الشعلة. فبدت تتالى التصريحات المؤيدة لفتغنشتاين، واعترف مونك: بأنه قد “ازدهرت فروع الفلسفة، التي ستغلقها فكرة فيتغنشتاين”. وأدى الحديث عن فلسفة التقدم في فلسفة العقل والرأي السياسي، وفي موضوع “الفلسفة العامة” إلى تقويض ادعاءاته. ربما يكون الرجل الغامض نفسه الآن لا يولد الكثير من رسومات التجزئة هذه. يقول مونك: “كان فيتغنشتاين يحتقر الفلاسفة الأكاديميين”، وكأنه يعترض بذلك على تكريمهم العلمي له؛ بعد كل هذه السنوات.

وإذا كان ثمة اتفاق يمكن أن نعقده مع الـ”إيكونوميست” فهو أنه قبل قرن من الزمن تغيرت حياة لودفيج فيتغنشتاين من حالة الضجر، التي سببتها الحرب، إلى مسار التفلسف والمنطق، الذي نبغ فيه. رغم أنه لا يبدو أن المقالة تقول حقاً كيف غيّر فيتغنشتاين الفلسفة إلى الأبد. ويمكننا أيضاً ملاحظة أن إيمان فيتغنشتاين الديني وعلاقته بالمسيحية، والدين بشكل عام؛ الذي كان دائماً ما يعلن تعاطفه الصادق والمخلص تجاهه، سيتغير بمرور الوقت، تماماً مثل أفكاره الفلسفية. فلم يعد الفيلسوف القَلِق يحمل معتقدات دينية، لكنه قال إنه عندما يتعلق الأمر بعلاقته مع الأشخاص، الذين يعتنقون معتقدات دينية، فإنه لم يكن في سوق للادعاءات المتناقضة. ويؤكد فيتغنشتاين، عبر ذلك، على الاختلاف بين فلسفته والفلسفة التقليدية بالقول إن فلسفته نشاط وليست مجموعة عقيدة؛ إنه يتصور دور الفلسفة كنشاط يكشف من خلاله أنواع الالتباس، التي تظهر في الأفكار التقليدية. وبالنسبة له، فإن العالم هو كل شيء على هذا النحو، وما هو الحال “الحقيقي” إلا وجود حالات الأشياء، وأن الصورة المنطقية للحقائق هي فكرة، والفكرة هي اقتراح ذو معنى، كما أن الافتراض هو وظيفة الحقيقة للقضايا الأولية.

ففي عام 1912، كتب فتغنشتاين إلى أستاذه برتراند راسل قائلاً إن موتسارت وبيتهوفن هما أبناء الله الفعليين. وهنا، لا يسعني إلا أن أعتقد أنه كان هناك شيء خاص مَيَّزَ ذلك الجيل من المثقفين، الذين سبقوا الحرب العالمية الأولى، وانطلقوا منها مباشرة إلى صناعة واقع معرفي جديد. وربما أكسبتهم الحرب هناك شدة ومستوى من الجدية والانضباط، الذي شاركوا به فيها، وانسحب على طبيعة عملهم الفكري، والذي يبدو فريداً من نوعه في تاريخ البشرية. وللتمثيل، موسيقى شوينبيرج ذات الاثني عشر نغمة، وتكعيبية بيكاسو، ونظريات أينشتاين الميدانية، ومسارات فيتغنشتاين الفلسفية. فقد سعى الجميع لكسر أرضية جديدة في المعرفة، ودفع أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا إلى ما هو أبعد مما كان مفهوماً في ذلك الوقت بجو من الجدية المطلقة، التي تبدو مفقودة للغاية اليوم. لقد تعاملوا مع جميع مساعيهم، حتى الإبداعية، بصرامة العلم الجاد، وسعوا إلى بناء أطر نظرية حول المفاهيم، التي كانت دائماً سريعة الزوال، وغير ملموسة.

 

ثمرات الحداثة:

إن إحدى النظريات، التي يمكن استخلاصها من هذه الملاحظة، تُحَدِّثُ عن شيء من هذا القبيل، إذ كانت الحداثة المبكرة مثمرة جداً لأن المشاركين فيها كانوا لا يزالون مدربين على الأساليب الكلاسيكية، وقد أتقنوا القواعد قبل كسرها. ويُعَدُّ بيكاسو مثالاً جيداً عندما كسر قواعد الفن بطرق إبداعية، لأنه كان لديه مثل هذا الفهم الراسخ للأساليب الفنية القديمة. ونيتشه، مع جذوره العميقة في فقه اللغة اليونانية القديمة واللاتينية، هو مبتكر حديث آخر. أما اليوم، ومع ذلك، فقد اعتمدنا إلى حد كبير على استنتاجات المبتكرين من دون مساءلتها، أو تبيان قدرتنا على تعديلها، أو تبديلها. فبدلاً من محاولة إعادة إنشاء ما أدى إلى هذه الاختراعات والاختراقات في المقام الأول، غالباً ما يكون عدم هيمنة الانضباط والتدريب، في عالم يهتم أكثر بالحداثة وقيمة الصدمة هو السبب، أو ربما اقتنعنا بالفعل أهمية قطف الثمار، التي يمكن للأفراد العاديين قطفها من الحداثة.

تقول الـ”إيكوميست” إنه من كل التحسينات، التي انطلقت من خنادق العالم الرئيس للحرب، التي تمثلت في استخدام “الرمز البريدي”، و”كيس الشاي”، و”الدبابات”، يولد كتاب “مسارات المنطق الفلسفي” ليكون من بين الأجمل، كهدية للمعرفة، في تصوري. فقد كان الكتاب عبارة عن مجموعة من الأفكار في رأس جندي نمساوي شاب، وطالب فلسفة سابق في جامعة كيبردج، معروف باسم لودفيج فيتغنشتاين. وتذكر المجلة أنه أرسل ذات مرة إلى المدخل الشرقي للقتال ضد الإمبراطورية المجرية مما أبعده عن أصدقائه، وخلا إلى أفكاره المعلقة، ونسخة أصلية من كتاب ليو تولستوي “الإنجيل العابر”، الذي كان سيقلد بنائه المختزل والمتصل في كتابه “مسارات”، أثناء فترة توقف هذه الحرب، وقال لصديق، سأكون “جاهزاً لنقل كل عملي إلى شيء”، إذ قرر أخيراً أن يكتب.

لقد اعتمد فيتغنشتاين على عمل جوتلوب فريج، عالم المنطق الألماني، وكانت الـ”مسارات” ذات توجه مستوي، وصفته الـ”إيكونوميست” بأنه “مبتكر في سذاجته”. وتقول”: ما هي اللغة ببساطة؟ أو كما طلب فيتغنشتاين، في سؤاله: لماذا يتجمع النعيق، الذي يصنعه الفرد، والخيوط، التي يرسمونها، لتستحضر كل هذا الكوكب؟ ولنا أن نستغرب مثله: كيف قارن أنتوني كوينتون، الفيلسوف البريطاني، غرائزه بغرائز السير إسحاق نيوتن؟ ولا شك أن اعتراف فيتغنشتاين كان في يوم من الأيام هو الرأي التصويري للغة، وهو إثبات منظم للعلاقة بين العبارات والعالم الحقيقي، وبهذا استوعب الأساس التصويري للغة.

 

اللغة الراجحة:

إن الاختلاف الأكثر لفتاً للانتباه بين فيتغنشتاين المبكر والمتأخر هو الطريقة، التي يرى بها اللغة. فهو يجادل في أن معنى اللغة يتم تعريفه على كيفية استخدامها في أية لعبة لغة معينة. ومع ذلك، فإن استخدام كلمة، لا يُعطى لأي نوع عن تركيب النظرية البناءة، كما هو الحال في  الـ”مسارات”. وبحكم هذا التعريف، تُعتبر اللغات مقيدة، إذ لا يمكننا التحدث عن الأشياء إذا لم تكن الكلمات موجودة للسماح لنا بالقيام بذلك. وفي بعض الأحيان، يجعلنا هذا غير مدركين للمفاهيم، التي يمكن للآخرين مناقشتها، وفي أحيان أخرى، يجعلنا هذا القيد غير قادرين على التحدث عن الأشياء، التي ندركها. فالتحقيقات الفلسفية مكان رائع للبدء بما يتضمن تشابهاً عائلياً وتوضيحات للغة. وتتطلب اللغات المختلفة أيضاً طرقاً مختلفة للعد، لكن الخلاصة هي نفسها؛ أي أن اللغات لا تحد من قدرتنا على إدراك العالم، أو التفكير في العالم، بل إنها تركز انتباهنا وتفكيرنا على جوانب معينة من العالم. ففي “تحقيقات فلسفية”، تخلى فيتغنشتاين عن نظرية الصورة في اللغة، التي تستند على الاعتقاد بوجود افتراضات. لقد أدرك أنه لا يوجد شيء مثل الافتراض؛ أي جوهر الجمل هو معنى واحد صحيح حقيقي، على الرغم من التعبيرات المختلفة.

بيد أن بعض الفلاسفة اعتبروا هذه الرؤية الجديدة للغة هراء، وكلام فارغ ليس له معنى، وأن فيتغنشتاين لم يستخدم “السؤال” في الإشكاليات المركزية، التي كانت قد حيرت الفلاسفة لآلاف السنين؛ الوجود، الله، الأخلاق، وغيرها. فهو أحب حلقة الفضول في المجالات القليلة، التي جرت مناقشتها بشكل جيد للغاية مع اللغة، وقاده ذلك إلى موقف مبدئي ونهائي: “لا يمكن أن يصمت المرء”، أو كما قال في مواقع أخرى في الـ”مسارات”، “حدود لغتي تعني حدود العالم”، مدعياً في مقدمته بأنه وجد “الحل النهائي لاعتبارات” الفلسفة. وقد أبهرت هذه الجرأة القراء وحيرتهم لمدة قرن من الزمان، ليس باعتبارها كمبادئ توجيهية، ولكن بسبب التعبير الصريح عنها.  فكتاب فيتغنشتاين يمتد إلى أقل من مائة صفحة، ويتكون من سبع عبارات رئيسة غامضة، تليها نقاط تكميلية مرتبة في تسلسل عشري، يقدم تبريراً محدوداً، بأفتراض أن تصريحاته لا جدال فيها.

لهذا، ربما لم يكن من قبيل الصدفة الآن أن كتاب “مسارت المنطق الفلسفي”، نُشر لأول مرة قبل قرن من الزمن، وعُدَّ واحداً إلى جانب ثلاثة أعمال أساسية للأدب الحداثي، وهي “أرض الحُطام” لتي سي إليوت، “جاكوب جاكوب” لفيرجينيا وولف، و”سيس يولي” لجيمس جويس. وبينما نجد أن المراجعين الأوائل في الصالونات الأدبية قد قدروا لفيتغنشتاين عبقريته بشكل عام، إلا أن فلسفته صادفها الكثير من سوء الفهم، وحتى فريج، الذي يُعتبر أحد أبطاله، نظر إلى الكتاب النحيف كـ”مبتكر استئصال علمي”. رغم أن فيتغنشتاين، كان راضياً عن تألقه، إلا أنه شعر أن فريج، جنباً إلى جنب مع معلمه راسل، قد فاتهما تداعيات الـ”مسارات”. ففي يوم من أيام عام 1929، التقى به جون ماينارد كينز، الفيلسوف الأكثر تبجحاً في ذلك الوقت، وذلك عندما كان في طريقه من لندن. وكتب كينز إلى صديق: “لقد وصل الله”. ومن جانبه، حضر الشاب آلان تورينج محاضرات فيتغنشتاين، واحترم كتاباته، إلا أنه قال إن تعاليمه انتهكت التقاليد. ويذكر تورينج أن فيتغنشتاين جلس بين طلابه، وهو يطرح أسئلة حول آثار “لماذا قد أفترض أن اللون الأزرق هو أقرب إلى عديم الخبرة من اللون الوردي؟” ويعتقد راي مونك، كاتب سيرة فتغنشتاين، أنه لبعض الوقت لم يسمح له في أية كلية أخرى بإلقاء محاضرات على الطلاب الجامعيين.

ولهذا، فإن ذلك الموقف من أفكار فيتغنشتاين قد عُدَّ أحد الأسباب، التي جعلت وتجعل العلم في أزمة اليوم، لأنه من نواح كثيرة لا يزال التدريس الجامعي يجري وفقاً لنماذج أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. لا يُكافأ العلماء عموماً على عملهم بشكل جيد، ويُفضل من يجيدون حرفة تقليد الأسلوب القديم؛ مثل، تكرار النتائج السابقة، أو الانخراط في علم أصول التدريس، بدل القيام باكتشافات كبيرة، لأن هذا ما فعله كل العلماء العظماء من قبل. تكمن المشكلة في أنه مع مرور الوقت، هناك عدد أقل من الاكتشافات الكبيرة، التي يجب القيام بها، وجعلها تصبح أكثر تكلفة، بينما في نفس الوقت هناك المزيد من الأشخاص الذين يتخرجون بدرجة دكتوراه في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. لذلك لدينا المزيد من الأشخاص الذين يطاردون فرصاً أقل للحصول على مكافآت مهنية. والنتيجة الضارة الأخرى لهذه الديناميكية هي الضغط لنشر أي هراء قديم لأن الاكتشافات الكبيرة معروضة في أوراق، ومن ثم يُفترض أن الأوراق ستؤدي إلى اكتشافات كبيرة على الرغم من المغالطة المنطقية الواضحة.

 

الأخلاق الأساسية:

أعتقد أن العلم في أزمة اليوم لنفس السبب، الذي يجعل المجتمع: الأخلاق الأساسية هي الواقعية العلمية، التي لم تنشأ بعد. وهذا يعني أن العلم، أو تقدم المعرفة المنظمة والحقائق الثقافية المقابلة لها لا تزال موجهة حول التحيزات المجسمة، التي تشكلت خلال ظهور الثقافة العالمية، التي تجسدها الأديان الغامضة. كان هذا يمكن أن يُعَدُّ منطقياً عندما كان الكوكب عبارة عن غزو، ولكن ليس بقدر ما كان استراتيجية إدارة. ولمعالجة ذلك، يقول بعض العلماء إنه يجب تنظيم أخلاقيات العلم والثقافة حول الأخلاق البيئية، أو تقنين حقيقة الإشراف الكوكبي، التي تتحدي “الأنثروبوسين”، وبما يحفظ التوازن لحياة تتقاذفها أنواء الإختلالات. إن هذه تؤشر على نشوء مشكلة معقدة للثقافة العلمية، لأنه من السهل بناء التعقيد على النماذج الحالية، لكنه من الصعب إعادة تنظيم نظام المعتقدات الأساس. مثال على ذلك القدرة على وصف سطح الثقب الأسود للأوزون، بينما يتضور الناس جوعاً في الشارع، ويقتتل البشر على أبسط مطلوبات الحياة. وهذا يؤكد أن معضلة التقدم العلمي الحديث هي مسألة إعادة التنظيم الأخلاقي، وبمجرد أن يتم ذلك؛ إذا كُتِبَ له أن ينجح، سنكون قادرين مرة أخرى على بناء أنظمة فكرية تبدو جديدة وأساسية مثل الأنظمة الكلاسيكية.

ولإعطاء مجال لتوضيح مصطلح “الاكتشافات الكبرى”، أعتقد أنه من تأثير التنوير بشكل أساس، إذ كَثُرَ التركيز على اكتشاف قوانين الطبيعة المطلقة والبسيطة، واستخدام هذه القوانين بشكل تحليلي للحصول على فهم أكبر للعالم. لكن في الآونة الأخيرة، صرنا نكتشف أن معظم الظواهر، التي نلاحظها تجريبياً؛ سواء كانت الكيمياء، أو الأحياء، أو المجتمع، لا يمكن استنتاجها مباشرة من تلك القوانين، وعلى العكس من ذلك، هناك حد لكيفية استنتاج القوانين المطلقة من البيانات التجريبية، بسبب الطبيعة المعقدة للأنظمة الديناميكية الكبيرة؛ مثل، التفاعل بين الجزيئات، والتفاعل بين الخلايا، والتفاعل بين البشر، ولا تزال مشكلة التعقيد الكبرى تطاردنا حتى يومنا هذا.

ويأخذني الظن إلى أنه سيكون هناك في المستقبل القريب تحول في طريقة تفكيرنا في العلوم والتكنولوجيا بشكل عام. ستبدأ المحاكاة في استبدال الاستدلال التحليلي؛ بما أن الاستنتاج المنطقي داخل رؤوسنا قد وصل إلى حدوده في تحليل الأنظمة المعقدة، وسيصبح العلم أكثر فأكثر يتعذر تمييزه عن الهندسة. وعندها سيبدأ سؤال “ما هو ممكن؟” في استبدال “لماذا؟” هل هذا ممكن؟ ولا عُذر لمن يدعي بأنه مرعوب ومتحمس في نفس الوقت بشأن هذه الحقبة الجديدة، التي تكون فيها المشكلة الكبرى للتعقيد هي اسم جيد لذلك. إن تغيير الفكر ومنطق الفلسفة لا يتم في كتاب واحد، حتى لو قالت الـ”إيكونوميست” بذلك، إنما الاستنتاج، الذي يمكن أن نخلص إليه بعد القراءة حول مواضيع مختلفة في كل من العلوم والفلسفة، بالإضافة إلى التفكير في بعض الاتجاهات الحالية في العلوم والهندسة؛ عندها نستطيع حقاً أن نُعطي إجابة متواضعة، بأننا ما زلنا ندرس ونحاول معرفة ما إذا كانت الفلسفة قد تغيرت أم لا.

بالنسبة للكثيرين، فإن الاتجاه واضح، ويفترض وضوح هذا الاتجاه تراكماً مسبقاً ومتزايداً للمعرفة، ونظرة إلى كل المعادلات الفلسفية والعلمية، بما فيها الرياضيات، كمجموعة من اكتشافات “الحقائق”. ويذهب الإعتقاد أن معظم الناس في الوقت الحاضر لديهم مثل هذه النظرة، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفكرة التقدم. وكان فيتغنشتاين نفسه متشككاً جداً في مثل هذه الفكرة، مما جعل هذا الكتاب “مسارات” مكتوباً لمثل هؤلاء الرجال الذين يتعاطفون مع روحه. وهذه الروح تختلف عن تلك، التي تُعلم التيار الواسع للحضارة الأوروبية والأمريكية، أو سمها الغربية، التي يقف جميع العالم في لحظتها التاريخية. وهذه الروح تعبر عن نفسها في حركة صاعدة، في بناء هياكل أكبر وأكثر تعقيداً. وبينما يَجِدُّ الآخر في السعي وراء الوضوح والوضوح في أي بنية علمية واجتماعية، يحاول الأول فهم العالم من خلال محيطه – في تنوعه؛ والثاني في مركزه – في جوهره وهكذا يضيف الأول بناءاً إلى آخر، ويمضي قدماً ويصعد، كما كان، من مرحلة إلى أخرى، بينما يبقى الآخر في مكانه وما يحاول فهمه هو نفسه دائماً.

لقد ناقش فيتغنشتاين مسائل قريبة من هذه الفرضيات في “ملاحظات فلسفية”، ولكن هل سيستمر الاتجاه الحالي بحيث تصبح الاكتشافات المستقبلية أكثر تعقيداً، وأكثر تخصصاً، وبالتالي، ربما أقل إثارة للاهتمام؟ أم ستكون هناك نقلة نوعية بحيث يفقد الناس الاهتمام بالعديد من نتائجها “الأساسية” وستكون هناك ثمار جديدة معلقة في انتظار “اكتشافها”؟ كان فيتغنشتاين أكثر تعاطفاً مع وجهة النظر الأخيرة، وغالباً ما عارض الرأي القائل بأن النتائج الرياضية يتم اكتشافها بفكرة اختراع النتائج الرياضية، ومع ذلك، لا يجعله ذلك البنائي الساذج. إن الأمر لا يتعلق ببنائية فيتغنشتاين، نظراً لأن البشر لا يمكنهم أبداً في الواقع بناء مجموعة لا نهائية، لا يمكن للمرء أن يقول أن مثل هذا الشيء موجود كبناء. على هذا النحو، ستكون اللانهاية مفهوماً غامضاً بدون حجم كان ويتي يشك فيه. ولكن إذا اعتقد المرء أن الأشياء الرياضية حقيقية، أعتقد أن البنائيين قد وجدوا طرقاً أفضل للتعامل مع اللانهاية، من دون الاعتراف بأن اللانهاية أمر حقيقي.

 

اللامذهبية:

نعم، لم يكن فيتغنشتاين بنائياً، على الرغم من ذلك؛ على الأقل في سنواته الأخيرة، جادل صراحة ضد أي مذهب كموقف وحاول تجنب الأطروحات الفلسفية ككل. أما إذا كان قد نجح في هذا النهج غير العقائدي هو سؤال آخر بالطبع، لكن القول بأنه كان بنائياً من شأنه أن يلزمه بموقف لم يدافع عنه، حتى لو كان من الممكن بالتأكيد قراءة العديد من ملاحظاته بهذه الطريقة إذا تمت قراءتها بمعزل عن غيرها. ولا يشعر كل من قرأوا أعماله أن فيتغنشتاين كان يشك في اللانهاية كفكرة، أو كمفهوم في حد ذاته، فقط لمعالجتها في المنطق الرياضي، وإلا لكان الكثير من كتاباته حول هذا الموضوع أكثر إيجازاً. وحتى الملاحظات على أسس الرياضيات ليست سوى مجموعة مختارة من بعض دفاتر فيتغنشتاين، التي أعدها محررو منشوراته بعد وفاته. إذ هي ليست عملاً لفيتغنشتاين بنفس معنى الرسالة، أو التحقيقات الفلسفية.

يقول فيتغنشتاين “كنت أتجول في كامبريدج ومررت بمكتبة، وفي النافذة كانت صور راسل وفرويد وآينشتاين. بعد ذلك بقليل، في متجر للموسيقى، رأيت صوراً لبيتهوفن وشوبرت وشوبان. بمقارنة هذه الصور، شعرت بشدة بالانحلال الرهيب، الذي حل بالروح البشرية خلال مائة عام فقط”. وقطعاً لا يسع من يقرأ هذا الوصف إلا أن يشعر بـ”التدفق الواسع”، الذي يجسد جيداً الاتجاه الحالي في معظم تطوير البرامج والأوساط الأكاديمية. فهناك عرض جميل بين العطاء والأخذ من تجربة التنوع؛ سواء أكانت مستهلكة أم منتجة، وإدراك للجوهر، الذي يقول إنها لا توجد بشكل مستقل عن بعضها البعض، ولا أحدهما أفضل بطبيعته من الآخر،و يجب الحفاظ عليهما في حالة توازن. ومع ذلك، يبدو أن العالم يفضل التنوع على التفاهم في كل منعطف، ويتغابى عن القيمة الحقيقية للأشياء.

وهذا يفسره إيراد أحد المعلقين لقصة المرأة، التي اقتربت من بيكاسو في أحد المطاعم، وطلبت منه أن يخربش شيئاً ما على منديل، وقالت إنها ستكون سعيدة بدفع كل ما شعر أنه يستحق. امتثل بيكاسو ثم قال، “سيكون ذلك عشرة آلاف دولار.” أجابت المرأة مندهشة: “لكنك فعلت ذلك في ثلاثين ثانية”. قال بيكاسو “لا”، “لقد استغرق الأمر أربعين عاماً للقيام بذلك،” إلا أنه، في النهاية، تقول الروايات أن بيكاسو أدلى بالكثير من التعليقات الساخرة والبارعة، التي لم نقرأ الكثير عنها. لكن هذه واحدة من العبارات المفضلة، التي قيل إنه قالها، على الرغم من أنه لا يمكن العثور على مصدر تصديق لها: “الفن هو العملة اللانهائية. أنا غني، يجب أن أُعْرَف”، ويعتبر نفسه محظوظاً لكونه ضمن أقلية ممن يقدرون ما هو نادر وثمين حقاً عن البشر، والذين هم بدورهم جزء نادر وثمين من الحياة، والتي بدورها جزء نادر وثمين من الكون؛ في مركزه، في جوهره. وهذه الرغبة هي بالضبط ما يدفع فاوست إلى الإحباط الشديد من حدود المعرفة البشرية لدرجة أنه يقوم بمراهنة غير حكيمة مع الشيطان؛ إلى حد ما، ويتاجر بخيار روحه الخالدة لمفاتيح هذا الجوهر، وبجدية تامة تبدو مفقودة للغاية اليوم.

يمكن أن تكون مصادفة، لكن هذا كان فيتغنشتاين قبل مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ (1927) ونظرية عدم الاكتمال (1931) عند جوديل، الذي حطم حلم المعرفة الكاملة. فمن المعروف أنه لم يؤمن بنظرية عدم الاكتمال عند غودل، كما كان يعتقد أن حجة كانتور حول القطرية كانت هزيلة. وهذا للأسف تفسير واسع الانتشار لفلسفة فيتغنشتاين في الرياضيات، لكنها ليست قراءة مستحسنة كثيراً. إذ أكد فيتغنشتاين في مناسبات عديدة؛ على سبيل المثال مباشرة في بداية محاضراته حول أسس الرياضيات في عام 1939، أن اهتمامه بهذه البراهين كان “فلسفياً”، وأنه لم يقصد أبداً انتقاد أي منها على أسس رياضية.و قال صراحةً إن هدفه لم يكن التدخل في علم الرياضيات، ولكن التحقيق في الاستنتاجات الفلسفية، التي استخلصها علماء الرياضيات من براهينهم. ومن الصعب وصف ما وجده فيتغنشتاين إشكالياً بالضبط في تعليق قصير، لأن الكثير منه يعتمد على نظرة فيتغنشتاين للفلسفة ككل، لكن أحد الأمثلة هو الميل الأفلاطوني لنظرية جوديل وقناعته بأن هناك بعض “الحقائق” الرياضية، التي لا يمكن اكتشافها أبداً بالعقل الرياضي.

 

فرضية الحدس:

يريد فيتغنشتاين أن يسأل عما يعنيه أن نقول إن شيئاً ما “صحيح بشكل حدسي”، ولكن لا يمكن إثباته في أي نظام ثابت، لكنه لا يريد الاعتراض على نتائج جودل، احتراماً لمجرد “مكانته”. وأحد الأمثلة الجيدة للإساءة الفلسفية لنظرية جوديل هو الحجة القائلة بأن أجهزة الكمبيوتر لن تكون قادرة أبداً على التفكير مثل البشر، لأن نظرية جوديل تضع حداً لما يمكن أن يفعله أي كمبيوتر كنظام رسمي، لكننا نحن البشر يمكننا، مع ذلك، فهم ما لا يمكن إثباته، أي التصريح على أنها صحيحة بشكل حدسي. هذه في الأساس حجة جيه آر لوكاس. هذا هو نوع الهراء الفلسفي، الذي أراد فيتغنشتاين مهاجمته وموقفه من هذه الأمور يشبه إلى حد بعيد موقف تورينج، الذي كان طالباً لمحاضرات فيتغنشتاين حول الأسس الفلسفية. ما لم ينشر عرضاً رسمياً لـ “خطأ” جودل، فإن إيمان فيتنغنشتاين هو مجرد مصلحة في السيرة الذاتية. ويمتلئ التاريخ بأشخاص بارزين لديهم كل أنواع المعتقدات الخاطئة حول النظريات والأفكار، التي نراها الآن على أنها صمدت أمام اختبار الزمن. ربما لم يكن فيتغنشتاين يؤمن أبداً بوجهة نظر مفادها أن نظرية جوديل كانت خاطئة، أو خاطئة. غير أنه كان يعتقد “فقط” أن التفسيرات الفلسفية ونظرة النظرية على أنها مذهلة وعميقة بشكل لا يصدق كانت مضللة.

في حالة كانتور، كان فيتغنشتاين مهتماً بمفهوم العابر للحدود واللانهائية “الأكبر” من اللانهايات الأخرى. إنه لا يعترض على دليل كانتور على الإطلاق، لكنه ينظر بعين الريبة إلى الاستنتاجات الفلسفية المستخلصة منه. ومن المؤكد أنه لم يساعد في أن ما يسمى بالملاحظات على أسس الرياضيات هي في بعض الأجزاء بنايات انتقائية للغاية من قبل محرري كتاباته بعد وفاته. وقد يبدو هذا الأمر معقداً، خاصة إذا أخذنا بالرأي القائل إن فيتغنشتاين لم يعترض أبداً على النتائج الرياضية لجودل وكانتور، لكنه اعتقد أن نتائجها غالباً ما تكون غير متناسبة مع الاستنتاجات الفلسفية الرديئة، التي تم إجراؤها على أساس هذه الحجج الرياضية الدقيقة تماماً. ويمكن أن يُقال أكثر من أي من هذه الاعتراضات، خاصة حجة الأقطار، التي يبدو من الصعب مناقشتها. إن نقد حجة كانتور القطرية يتعلق أكثر بتضمينها أن مجموعة لانهائية يمكن أن تكون “أكبر” من مجموعة أخرى. لقول ذلك هو حجة دلالات أكثر منه حجة رياضية، لأنه يعتبر أمراً مفروغاً منه بمعنى “لانهائي”. فإذا قمت بتعريف مجموعة لا نهائية على أنها بطبيعتها بدون حجم، فلا معنى لتعيين أحجام مقارنة لها عبر العلاقة الأساسية. فالأحداث العالمية؛ الحرب العالمية الأولى، والكساد العظيم، والحرب العالمية الثانية، والمحرقة، والقنبلة الذرية، ثم الحرب الباردة، التي أعقبت ذلك، حيث عاش الجميع في خوف من الإبادة النووية، حطمت الحلم، الذي كان سيؤدي بالعقل البشري لا محالة إلى المدينة الفاضلة.

لقد شهدت تلك الفترة تقدماً تقنياً ومجتمعياً مذهلاً. أطلق عليها تيل فترة “التفاؤل التكنولوجي” المؤكد. وكانت تلك الفترة حتى السبعينيات على الأقل مثمرة للغاية في مجالات مثل علم التحكم الآلي وعلم النفس التنظيمي.  واعتبر بعض من هذا التقدم سابقاً لعصره ثقافياً، وبعض التفكير العميق على مستوى العبقرية وراءه. ويبدو أن أفضل ما في هذا العمل؛ أو نموذج نظام ستافورد بيير القابل للتطبيق بالنسبة للبعض، يمثل نوعاً من العصر الذهبي، وهو عمل سيكون من الصعب القيام به اليوم، كما يظن الكثيرون. وربما هذا مجرد انطباع قد يتفق معه البعض ويرفضه آخرون. لكن غالباً ما يقود إلى التفكير في العصر الحاضر والتساؤل عن: لماذا يبدو أن هناك مثل هذا الاختلاف الصارخ؟ ولماذا نفتقر إلى مثل هذه الأرقام، ونتخطى الحدود بنفس الطريقة المثيرة للإعجاب؟ هل لم يمض وقت كافٍ للإدراك الكامل لتأثير الاكتشافات والأعمال في عصرنا، كما حدث في أوائل القرن العشرين؟ هل ازدادت المشاكل صعوبة لأننا نصطدم بنوع من الحدود اللينة، التي تمنع الاختراقات الثورية المتكررة على ما يبدو؟ أم أنها مسألة منفصلة عن ممارسة العلم، أو الفن؟ أم هي ظاهرة ثقافية تؤثر على قدرتنا على الاكتشاف؟ أعتقد أنها أسئلة مثيرة للاهتمام ويجب التفكير فيها.

ولنا أن نساءل: هل تم اعتبار اختراقات التاريخ على هذا النحو أثناء تشكيلها، بشكل عام؟ ربما سننظر إلى هذه الفترة على أنها مليئة بالاختراقات، لكن لا يمكننا إصدار حكم تاريخي في الوقت الفعلي. ففي حالة فيتغنشتاين ودائرة فيينا، كان هناك بالتأكيد تصور بأن شيئاً جذرياً يتم القيام به. وكان فتغنشتاين واحداً من أغنى الورثة في أوروبا، لذلك على الأقل كان لديه كل الوقت في العالم، وعاش في وقت كانت فيه المنافسة قليلة لدرجة أنهم منحوه درجة الدكتوراه لكتابة رسالة غير ذات طابع أكاديمي؛ لم يفهمها أي منهم. وبالنظر إلى سيرته الذاتية، فقد قيل إن الناس كانوا يتسكعون معه لأنه كان ثرياً، وأن شخصيته كانت فظة للغاية، دفعته لكره كل شخص قابله، إلا أن ذلك لم يكن صحيحاً على إطلاقه. إذ إن القول بأن “الناس كانوا يتسكعون معه لأنه كان ثرياً” هو قراءة متحيزة للغاية وغير متسامحة لسيرته الذاتية. لقد تخلى عن كل ميراثه في وقت مبكر جداً من حياته، واضطر لاحقاً في كثير من الأحيان إلى الاعتماد على أصدقاء مثل كينز وراسل ومور لدعم طلبات الحصول على منح حتى يتمكن من متابعة بحثه في كامبريدج. بالطبع صحيح أنه جاء من خلفية مميزة للغاية ولم يكن في خطر الموت جوعاً، لكنه كان يقضي الكثير من الوقت على فلسفته كما فعل لأنه عاش حياة متواضعة وكان محظوظاً بما يكفي ليدعمه راسل، عندما جاء إلى كامبريدج لأول مرة.

 

بين الغرب والشرق:

إن الأكيد عندي أن كتاب “مسارات المنطق الفلسفي” كان له تأثير على تحولات الفكر الفلسفي الأوربي، رغم أنه ظل محل خلاف بين مدارسها. ويرى الكثيرون أن أعماله اللاحقة، التي نُشرت بعد وفاته تحت عنوان: “تحقيقات فلسفية”، أكثر تأثيراً بكثير. ومن واقع القراءات الأوسع، فإن الفلسفات الشرقية لم تحفل به كثيراً، لأنه كانت لها باستمرار مساراتها المنطقية الخاصة. ولكن يظل فيتغنشتاين فيلسوفاً رائعاً للغاية بسبب هذا التحول المذهل في عمله بعيداً عن الفكرة الرياضية المكثفة للفلسفة نحو فكرة أكثر لغوية وأنثروبولوجية. في حجج مثل حجة اللغة الخاصة، المعنى مثل الاستخدام، واتباع القواعد وأشكال الحياة، قدم موقفاً فلسفياً أدى إلى تعطيل الشكوك الفلسفية، التي شكلت حجر الأساس للفلاسفة مثل ديكارت، والعديد من الذين تبعوه، وما يزالون مفتونين بالصورة الديكارتية. لقد تقدم بعددٍ من الأسئلة الفلسفية العميقة، لكنها غالباً ما تكون غير منطقية، بمعنى أنها تورطت في إساءة استخدام اللغة والقواعد، بالمعنى، الذي أراده فيتغنشتاين، بمعنى أنه يمكن للمرء أن يشرح استخدام وقواعد استخدام كلمة ما، في مسارات لا يمكن إلا أن تؤدي إلى طريق مسدود، وإن ظلت حججه حول الألم والرؤية وعلم النفس رائعة جداً. على الرغم من أن البعض يقول إنه وصف خاطئ، إلا أن البعض غالباً ما وجد كتاباته في هذه الحقبة علاجية للغاية، إذ لديه طريقة لعرض الحجج بحيث يمكن أن يرى الإنسان من خلالها.

وهذا، بالطبع، ما يجعل الكثيرين يتفقون مع فيتغنشتاين بصدق، لأن حججه ترفع من قيمتها، بمعنى أنها توضح تماماً القواسم المشتركة بين الإنسان والآخر، وأنه مع كل الاختلافات الثقافية المذهلة، يمكن اتخاذ خطوات “لسد الفجوة” إذا جاز التعبير، وغالباً ما يعني ذلك التواصل والتفاعل مع الآخرين، وتعلم شكل من أشكال الحياة لمعرفة ما ينعش الناس الذين يعيشونه. وكان لحجة اللغة الخاصة تأثير مماثل، ولكن أكثر من ذلك في حال الإصرار، الذي يبديه بعض الناس على الذاتية مقابل الموضوعية. فمن خلال حجة اللغة الخاصة، يمكن رؤية أن هذه المعارضة تتعلق أكثر بالشخصية مقابل العامة. إن فيتغنشتاين لا يحل العقد الشخصية. لكن حجة اللغة الخاصة تحل هذا النوع من الذاتية الخاصة بشكل أساس، التي يشير إليها الناس في كثير من الأحيان، أو يحتفظون بها في هذا النقاش حول الشخصية مقابل الموضوعية. وقد وضعت أعمال فيتغنشتاين الفلسفية اللاحقة، مثل “تحقيقات فلسفية”، الأساس المتين لكثير من الفلسفة، ولا سيما النوع، الذي نشأ منذ ديكارت، ويمكن القول، إذا كنا نريد تتبعها على طول الطريق، إلى أجزاء معينة من أفلاطون. فقد كانت حججه مؤثرة للغاية، وكثيراً ما كانت مدمرة ضد الكثير من الفلسفة. إن فكرة أن الفلسفة كانت متسقة للغاية منذ فترة طويلة إلى حد ما، إلا أن من يقرأ فيتغنشتاين يجد أنه غالباً ما كان موجهاً بالكامل حول الإشارة إلى الأخطاء في الحجج الفلسفية، ليس فقط بطريقة ثانوية، ولكن بالقول وإظهار كيف غالباً ما نزل الجدل الفلسفي إلى ارتباك مفاهيمي وسوء استخدام.

برز، في وقت من الأوقات، إدعاء بأن عنوان:  “Tractatus Logico-Philosophicus”مسارات المنطق الفلسفي- لم يكن فكرة فيتغنشتاين، ولكنها فكرة مور. وهناك دعوة موجهة لمحاولة قراءة كتاب سبينوزا “الأخلاق”. إن “مسارات-Tractatus” لفيتغنشتاين هي في الأساس مجرد إعادة صياغة للنصف الأول من ذلك، ولكن مع تحديث اللغة لاستخدام شكليات منطقية حديثة. أي أن الكلمات مختلفة ولكن التعريفات الفعلية المقدمة، وهيكل الحجة، متشابهة جداً. حتى أن فيتغنشتاين يلمح إلى هذا باسم “مسارات المنطق الفلسفي-  Tractatus Logico-Philosophicus”، حيث كان لسبينوزا عمل آخر بعنوان: “مسارات الثيولوجيا السياسية-Tractatus Theologico-Politicus”. وإذا صدقنا بهذا فهناك مقارنة مثيرة للغاية يجب إجراؤها بين فيتغنشتاين وسبينوزا، إن القول بأن سبينوزا “مجرد إعادة صياغة” للأفكار الرواقية هو أكثر صحة قليلاً، ولا يزال غير مثير للاهتمام خارج مناقشة محددة للغاية. لكن قول شيء مثل “مجرد إعادة صياغة” قد أخطأ الهدف تماماً، يصح على انتحال فيتغنشتاين لعنوان مور.

ونقول، في الختام، إن مما يدعو للسخرية، أن “التغيير إلى الأبد” طال حياة الفيلسوف، وليس الفلسفة، إذ ألقى فيتغنشتاين “المتأخر” الكثير من فيتغنشتاين “المبكر”، وهو يعترف في الواقع أن سعيه للحصول على منطق مطلق غير قابل للتجزئة كان في الواقع محرجاً بعض الشيء. ويبدو أن أهمية أعماله اللاحقة، التي جاءت في “تحقيقات فلسفية” قد تم التغاضي عنها في مقالة الـ”إيكونوميست” لصالح كتابه السابق الـ”مسارات-Tractatus”، وهو أمر محزن بعض الشيء. ويبدو أن عمل فيتغنشتاين اللاحق، على الرغم من انتقاده بشدة من قبل المؤيدين الصارمين للذروة المنطقية؛ مثل، برتراند راسل، قد ساهم كثيراً في تقدم الفلسفة بشكل عام. والفلسفة، بهذا الفهم، هي عبارة عن مجموعة من الآراء المتسقة إلى حد ما، وقد لا تكون هناك جدوى حقيقية من مناقشة من هو على حق، لأنه لن تكون هناك إجابة مؤكدة. وحتى هنا، في هذا العرض، لست متأكداً من سبب وجوب أن يكون ما قدمته استنتاجاً صحيحاً حول كل ما جرى عليه القلم من آراء، وقد لا يضيف الكثير للمشهد الفلسفي الراهن، أو جديداً في أبوب النقد المعرفي ومراجعاته الواثقة في القدرة على التأسيس الموازي، لا سيما وأن الموضوعية الفلسفية قد ضمر حضورها الفعال في صناعة أفكار التحولات الإنسانية؛ لكن مما لا شك فيه أن هذا رأي تخميني آخر، حتى لو كان خاطئاً.

_____________

الدكتور الصادق الفقيه*

* دبلوماسي سوداني، الأمين العام لمنتدى الفكر العربي، الأردن.

الثلاثاء 25 مايو 2021

القاهرة، جمهورية مصر العربية

جديدنا