النقد والأدب والفضاء المدرسي

image_pdf

إنَّ النقد بوصفه خطابا على خطاب يؤسِّس هويّته على أسسٍ منهجيَّة حجاجية استدلاليَّة، وتحليليَّة تأويليَّة، ويعدّ وساطة بين القارئ والنصّ، وهو الذي يمنحنا القدرة على الوعي بقيمة العمل الأدبي وأهمّيته على اختلاف الأمكنة والأزمنة. كما يمنحنا النقد إمكانات متعِّددة لقراءة الأدب والتعرُّف على عوالمه الداخليَّة واكتشاف خصائصه ووظائفه ومقاصده. وهكذا فتطوّر المعرفة النقديَّة في علاقتها بالعمل الأدبي يعدّ مسألة إيجابيَّة.

وفي المعرفة النقديَّة لا نجد إلغاءً كليّا ومجانيّا للتصوّرات النقديَّة السابقة وإنما نجد تعايشا، بل وتكاملا لهذه التصوّرات، الشيء الذي يعكس ديناميَّة الأدب وحركيّته اللامتناهية، فالأدب” هو هذا الشيء الذي يسمح بأن نقاربه من منظورات متعدِّدة”[1]، والذي يتميَّز بطابعه المنفتح وقدرته الخارقة على تحريض القارئ على التفكير والتأمُّل والنظر. وهكذا فالخطاب الأدبي يملك قدرة بنيويَّة على تجديد السؤال حول نفسه باستمرار.

وعندما ننتقل إلى نظام التلقِّي داخل الفضاء المدرسي فمن الأكيد أنَّ الأمور تتعقَّد نوعا ما، نظرا لطبيعة المتلقي/المتعلِّم وكفاياته وقدراته الاستيعابيَّة، إضافة إلى الطرائق البيداغوجيَّة والديداكتيكيَّة التي ترسم معالم تدريس الأدب والنقد بالحقل التربوي، دون أن ننسى المعايير والمقاصد التي تتحكَّم في هذه الطرائق. كما أنَّ المدرِّس بكل مرجعياته السوسيوثقافيَّة والمعرفيَّة والفكريَّة، وكفاياته التدريسيَّة والتربويَّة يلعب دورا مركزيا في عمليَّة نقل المعرفة الأدبيَّة والنقديَّة إلى المتعلم والرهانات المتوخاة منها، والمتمثلة أساسا في تعميق القدرات العقليَّة والمعرفيَّة للمتعلِّم، وتحفيز ملكته النقديَّة، ودفعه إلى استثمارها في فهم المشاكل التي تعترضه، ومن ثمّ تقديم حلول لها، ممّا يسهِّل عمليَّة اندماجه في محيطه[2].

إنَّ تدريس الأدب(النصوص الشعريَّة والسرديَّة التخييليَّة والنقديَّة) يطرح العديد من الصعوبات على المدرِّس ممَّا يجعله أمام مجموعة من الخيارات الصعبة، فإمَّا أن يلتزم بما تقدِّمه التوجيهات الرسميَّة بشكل صارم فيجعل درسه جامدا تتحكَّم فيه إجراءات وخطوات تقنيَّة، الشيء الذي يمنع إحداث التأثير المطلوب في المتعلِّم من الناحية السلوكيَّة والثقافيَّة والقيميَّة، ومنحه القدرات الضروريَّة للتفاعل مع النصوص فهما وتحليلا وتأويلا. وإمَّا أن يعطي الأولويَّة للخطاب الثقافي الذي يصدر عنه النصّ ويتحكَّم في مقصديته ويطلب من المتعلِّم الارتقاء إلى هذا المستوى من الإدراك الذي يخالف شرطه الثقافي وإمكاناته المعرفيَّة. وهكذا تتعقَّد عمليَّة تلقِّي النصوص الأدبيَّة داخل الفضاء المدرسي. وهذا ما يلزمنا بالبحث عن الطرق الفعَّالة التي تمكِّن التلميذ من الإقبال على درس الأدب.

 

المدرسة العربيَّة مدعوَّة اليوم إلى جعل المعرفة الأدبيَّة من أولوياتها الكبرى، إذا كنا نرغب فعلا في صناعة مبدعين وكتّاب ونقّاد للمستقبل يساهمون في الحراك الثقافي والمعرفي الذي يعدّ أساس كل تحوّل حقيقي على مستوى البنية الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة.

إننا ندرك إدراكا عميقا الوظيفة النوعيَّة التي يلعبها الأدب في علاقته بالمتعلِّم، إذ أنه يتيح له إمكانيَّة الانتقال من درجة إدراكيَّة بسيطة إلى درجة أكثر عمقا، إذ أنَّ الأدب ـــ حسب رولان بارت ـــ عالم شامل؛ اجتماعي وسيكولوجي وثقافي وتاريخي، وقراءة نصّ أدبي تعني التواصل والتفاعل مع هذا العالم، فهو بمثابة الذاكرة الثقافيَّة والجماليَّة والقيميَّة للمجتمعات، كما أنه يحثُّ القارئ ويحرِّضه على إغنائها وتطويرها عبر عمليَّات القراءة والتأويل. وهكذا فالأدب يمنح القارئ/المتعلِّم شحنة أخرى في تمثُّل حياته وحياة الآخرين الذين يشاركونه فضاء العيش الإنساني.

إنَّ عمليَّة تطوير طرائق اشتغالنا بالنصوص الأدبيَّة سواء أكانت إبداعيَّة أم نقديَّة تستدعي تعديلات متكرِّرة بغية الوصول إلى استراتيجيَّة مناسبة نؤسِّس بواسطتها استقراريَّة درس الأدب في المدرسة، ونحقِّق تفاعل التلميذ معه، ثم يبقى الباب مفتوحا للاجتهادات الفرديَّة لتكييفه مع كل السياقات الخاصَّة.

وهكذا فالمدرسة العربيَّة مدعوَّة اليوم إلى جعل المعرفة الأدبيَّة من أولوياتها الكبرى، إذا كنا نرغب فعلا في صناعة مبدعين وكتّاب ونقّاد للمستقبل يساهمون في الحراك الثقافي والمعرفي الذي يعدّ أساس كل تحوّل حقيقي على مستوى البنية الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة.

نعرف جميعا التحدّيات التي تطرح أمام رغبة مثل هذه، خصوصا تلك التمثّلات الخاطئة عن الأدب والتصوّرات المضادَّة له، والتي على جميع الفاعلين التربويِّين محاربتها وبناء تمثّلات جديدة من خلال إكساب المتعلِّم وعيا خلاقا بالأدب وجماليته، وأدواره الوجوديَّة العميقة، إذ أنه يعدّ معرفة موازية لباقي المعارف التي ينتجها الإنسان. دون أن ننسى إكسابه معرفة متماسكة وواسعة تؤهّله لدخول عوالم الأدب والتفاعل معها، لأنّ الأدب فضاء غني وخصب يسمح للمتعلِّم بتعميق أسئلته الوجوديَّة والمعرفيَّة، ويعطيه طاقة للتعلُّم والإبداع[3].

لقد طرح السؤال كثيرا عن جدوى الأدب والإمكانات التي يساهم بها في التعلُّم منذ أن أفتى أفلاطون بطرد الشعراء من جمهوريته لأنه لم يجد منفعة فيما ينتجونه[4]، كما أنَّ السؤال يتكرَّر اليوم في عالم سريع يحتفي بالثقافة الاستهلاكيَّة، ويعج بالصورة المختزلة التي تشيء الإنسان وتفقده جوهره الإنساني وقيمه الجماليَّة والفنيَّة. دون أن نغفل الوضع الاعتباري للأدب داخل مجتمعاتنا، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن الكيفيَّة التي على أساسها نتمثَّل الأدب داخل الفضاء المدرسي.

 

 

[1]  حسن المودن، الروايَّة والتحليل النصي، قراءات من منظور التحليل النفسي، الدار العربيَّة للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، دار الأمان، ط1/ 2009. ص 7.

[2]  ينظر: عبد الله حسن الموسوي، الدليل إلى التربيَّة العمليَّة، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2005، ص 5.

[3] ينظر الكتيب المهم لتزفيطان طودوروف، الأدب في خطر، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2007.

[4]  ينظر: محمد برادة، تلك الجدوى المفجرة لما هو مستقر، مجلة الثقافة المغربيَّة، عدد 18 يونيو، 2001.

جديدنا