التحرير شرط التنوير

image_pdf

  لا شكّ أنَّ فعل التنوير في مدرستنا يبقى قرارا مرتبطا باختيارات الأطراف الفاعلة في هندسة العمليَّة التعليميَّة التعلميَّة، بالتحوُّل من السلطويَّة الأبيسيَّة التي هيمنت على البيداغوجيات الكلاسيكيَّة، والتربية الوسائطيَّة التقليديَّة المرتبطة بالمحتوى والمضامين، إلى التربية التكوينيَّة التي تعمل على إنتاج العقول العلميَّة والأشخاص المنهجيِّين، و تشجيع المبادرات، وتحفيز المتعلِّمين على الخلق والإبداع، وجعل التواصل في صلب الأنشطة المدرسيَّة، حتى تصبح أكثر انفتاحا على المحيط عبر آليَّات الحياة المدرسيَّة، ومشروع المؤسَّسة، والأنشطة الفصليَّة، وبالتحوُّل من سلطة الأصنام الحيَّة المؤثِّرة المحرِّكة لفعل التقليد والتلقين والشحن، واختصار العمليات التعليميَّة في تحصيل المهارات الدنيا إلى سلطة الفعل التربوي القائم عل حريَّة الاختيار والحقّ في النقد والتأمُّل والسؤال واتِّخاذ القرار، واستهداف المهارات في جملتها دنيا وعليا. هكذا يبدو الأمر ظاهريّا وهذا ما يجب أن يكون عليه، لكن أن تسعى المدرسة لأن تكون كذلك شكليّا فقط، هو ما يحتِّم علينا السؤال حول منابع التدليس في المناهج وطرائق التلاعب بالمفاهيم المعلَّبة المستوردة.

  1. التلمذة في ظل السلط الرمزيَّة

          يتجاوز فعل التربية نطاق المدرسة ليشمل مؤسَّسات فاعلة لا زالت تعتمد مقاربات كلاسيكيَّة ممَّا يجعلها- التربية- حسب تعريف دوركاييم هي الفعل الذي يمارسه جيل الراشدين على أولئك الذين لم ينضجوا بعد في الحياة الاجتماعيَّة والغرض منها أن نثير وننمِّي لدى الطفل عددا معيّنا من الحالات الجسديَّة الفعليَّة والأخلاقيَّة التي يتطلَّبها منه المجتمع بمجموعه والبنية الخاصَّة التي أعدّ لها”، فالمدرسة بهذا المفهوم مؤسَّسة لإعادة الإنتاج تعتمد عمليَّة النقل الميكانيكي للمعارف والمعلومات، وهو ما يسمّيه “باولو فريري” في كتابه “تعليم المقهورين”  بالتعليم البنكي المفضي إلى تعطيل الطاقة الكامنة لدى المتعلِّم، وتطويع التلاميذ بدافع فكري محدَّد سلفا كي يتأقلموا مع عالم القهر، قهر الزمان والمكان، والمناهج والبرامج والمقرَّرات، قهر الازدواجيَّة المتراوحة بين التعليم العمومي والتعليم الخاصّ، وبين المفارقات التي تحكم التمييز بين العلوم الإنسانيَّة والعلوم الحقَّة، وقهر الطبيعة الهرميَّة للمدرسة المتجسِّدة في التواصل الذي يستند إلى سلطة القوي المهيمن والمسيطر، ســــواء كان عائلة أو أسرة أو فردا أو بيداغوجيا ذات هيكلة عموديَّة موازيَّة للهيكلة الطبيعيَّة لوزارة التربية الوطنيَّة- المغرب نموذجا- والتي أفرزت تراتبيَّة غير مبرَّرة، البيعة  كلها للشيخ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه  ولا من خلفه، ومن خلفه زبانيته وزمرته التي لا تتقن سوى التصفيق والمباركة، فالذين من بعدهم، تراتبيَّة تفرضها السلطة المعرفيَّة وتقنعها صفة الخبرة المصطنعة، التي تنطلق من الخبير الدولي- كزافيي روجرز نموذجا – فالخبير الوطني ثم الخبير الجهوي لتصل إلى الأستاذ المورد بالمؤسَّسة، وكذا قهر الطبيعة التنافسيَّة التي تصنع الفشل بدل التفوُّق عبر مسارات عدَّة كمسار التقويم،  وتنتج قيما وأنماط سلوكيَّة “تؤكِّد الفرديَّة على حساب الجماعيَّة، والأنانيَّة بدلا من الغيريَّة، والاهتمام بالشكل على حساب المضمون، وبالنتائج بغض النظر عن الوسائل”([1])، وهو ما يؤكِّد تفوُّق أبناء الميسورين على أبناء المقهورين بولوجهم للمدارس العليا، وقدرتهم على متابعة الدراسة بالخارج، وتيسير امتلاكهم للوسائل الوسائطيَّة المتيحة لإمكانيَّات التمدرس والحصول على الشواهد عن بعد، ويفسِّر نسب الهدر المدرسي حيث أكَّدت الوزارة أنَّ مجموع التلاميذ الذين غادروا المدرسة بالسلكين معا الابتدائي والثانوي الإعدادي  على المستوى الوطني خلال الموسم الدراسي 2018-2017 هو 221 ألف و958 تلميذا وتلميذة([2]))، مثل هذه النسب أدخلت المنظومة غرفة الإنعاش مع الرؤيَّة الاستراتيجيَّة 2015-2030، باعتبارها خطَّة لا تخرج عن السياق وتتستَّر وراء الإملاء الأبيسي [إنشيون2015]، حيث ورد في الفصل 13 من هذا الإعلان: [ وندعو إلى اتِّخاذ تدابير عالميَّة وإقليميَّة قويَّة للتآزر والتعاون والتنسيق والرصد من أجل تنفيذ جدول أعمال  التعليم  عن  طريق  جمع  البيانات  وتحليلها وإبلاغها  على  الصعيد  الوطني  في  إطار  الكيانات والآليّات  والاستراتيجيّات  الإقليميَّة  القائمة([3])]، بعد محاولات للإصلاح رفعت شعار التقشُّف داخل غرفة المستعجلات-المخطط الاستعجالي-، ويفسِّر تدنّي امتلاك التلاميذ للمهارات الأساسيَّة كالقراءة والكتابة والحساب، يقول عبد الرحيم كلموني: “فالتلميذ الوافد على التعليم الثانوي من الابتدائي غالبا ما يجد المدرِّسون أنفسهم مطالبين بالبدء معه من الصفر فهو بالكاد يتهجَّى الحروف، فليس بمقدور المدرسة الابتدائيَّة ، وهي الفضاء الأمثل لهذه المهمَّة الجسيمة، أن تنمِّي الكفايات القرائيَّة للتلميذ المغربي وتجعله مواطنا قارئا محصنا بالقراءة المنهجيَّة –بما هي قراءة نقديَّة وتحليليَّة- ضدّ كل أشكال المذهبة المستلبة([4]).

  • الحريَّة شرط التنوير:

كيف يتحرَّر المتعلِّم ليصبح الفاعل بدل المفعول به، وليصبح المتأمِّل والسائل بدل المسؤول، وليجسِّد العلاقة الأفقيَّة مع أستاذه وزملائه في الفصل(متعلّم- أستاذ، أستاذ- متعلّم، متعلّم متعلّم)، بدل العلاقة العموديَّة الحاكمة للرؤيَّة الدينيَّة(الله-الإنسان أو السماء -الأرض)، في الوقت الذي لا يمكن للمتعلِّم أن يتخلَّص من هذا الإرث الصانع لخضوعه والراغب في ترويضه وتدجينه الماسك بخيوط اختياراته وأهدافه إلا إذا كان حرّا نافضا تناقضات البناء الاجتماعي المهيمنة والمتعسِّفة، ونافضا لسيطرة التصاعد الاستراتيجي لهيمنة الاقتصادي على الثقافي من خلال لوبي لا يمثِّل الشعب بتاتا وإنما هو امتداد وممثِّل لإملاءات المركز في هندسة وتوجيه المناهج التعليميَّة المنتجة لمناهج خفيَّة ( HIDDEN CURRUCULUMS) كما يسميها “فليب جاكسون” في كتابه المعنون بـ”الحياة في الفصل الدراسي، 1968″، إملاءات لا تناقش في البرلمان ولا تستقى من القاعدة ممَّا جعل المدرسة الثانويَّة ترمي إلى توجيه المتعلّمين لـ “التخصُّص المهني قدر الإمكان خصوصا في مجالات الفلاحة والصناعة التقليديَّة والبناء ومختلف قطاعات الخدمات بواسطة التمرُّس الميداني أو التكوين بالتناوب بين الإعداديَّة والوسط المهني في أواخر هذا السلك([5])، وهذا ما جعل الاقتصادي مهيمنا على كفايات التعليم الثانوي الإعدادي، كما أنَّ فعل التنوير لا يمكن أن يتحقَّق إلا  بتبادل الأدوار بين الأستاذ والمتعلِّم –التعلّم التحاوري عند “فريري”، و “رانسيير” من خلال كتابه “المعلم الجاهل”- وهو الأمر الذي يُعزِّز الثقة بين طرفي العمليَّة: المعلِّم والمتعلِّم، وكذا يعزِّز ثقة كل منهما في نفسه بسبب قدرته على أداء دوره بشكل إبداعي خلاق، ممَّا ينمِّي المقدرة النقديَّة عند المتعلِّم، ويشجع المُعلِّم على استثارة أفكاره واستفزاز وعيه ووضعه أمام مشكلات حقيقيَّة تجد صداها في الواقع ليستنفر تعلّماته وموارده قصد حلّ هذه المشكلات، وهو ما سيقود لعمليَّة حرَّة يجد فيها الإنسان نفسه قبل أن يجد المعرفة، ويخرج بها إلى الواقع القهريّ ليحرّره. هذا ولا بد من صياغة المناهج وفق ما تتطلّبه حاجة الأمَّة دون إملاءات مشروطة، مع إمكانيَّة الاستفادة من الإرث الثقافي العالمي كالتدريس بحلّ المشكلات، وبيداغوجيا المشروع والبيداغوجيا الفارقيَّة وبيداغوجيا الخطأ…مع اعتماد الوسائل التكنولوجيَّة في الفصل الدراسي لما للصورة من أهمّيَّة في تعزيز انتباه المتعلِّم، وبرمجة حصص خاصَّة بالدعم النفسي والتوجيه التربوي تجنب الربط بين السياسة التعليميَّة وخطط التقشُّف، واعتماد السؤال كمدخل من مداخل التدريس، والعمل ببيداغوجيا المفهوم  لكشف التمثّلات وتحصين المتعلّمين وتشجيع مجانيَّة التعليم وإرساء نظم العدالة بين أفراد المجتمع دون تمييز، وتفعيل الحياة المدرسيَّة والأندية التربويَّة، والعمل بالدراسات الميدانيَّة والمشاريع التربويَّة، وتكوين الأساتذة في علم النفس وعلم الاجتماع .

3-كبح السلط بوابة التنوير

اغتيال السلط  كأداة مدمِّرة للبنى النفسيَّة والذهنيَّة وبانية للمرغوب، يرتبط ارتباطا وثيقا بحرّيَّة التعبير وإبداء الرأي واِمتلاك الجرأة في طرح الإشكالات المتعلِّقة بالمستور من حياتنا اليوميَّة ممّا يؤثِّر منها على الحضور الفعلي المعنوي في الفصل الدراسي، وممَّا ييسِّر عمليَّات الدعم النفسي أو العلاجي، كما يرتبط بكسر دروع الوصاية وقيود الواجبات التي لا تتلاءم مع حجم الحقوق الممنوحة، مما يولد كرها للمرفق التعليمي التعلُّمي، ويولد أشكالا من العنف من طرف المتعلِّمين إمَّا ماديّا يتجسَّد في تعنيف الأطر التربويَّة والإداريَّة أو الأقران، وتكسير الممتلكات وتخريبها، أو معنويّا يتمظهر من خلال الكتابات على الطاولات والجدران والمحافظ والأدوات، وهي كتابات تعبِّر عن الزخم المدفون الذي لم يجد سبيلا للتعبير عنه والمتراوح بين [الكتابات العاطفيَّة-(S+w=love)، والسياسيَّة) لا ثقة في السياسة والسياسيِّين)، والمعبِّرة عن الانتماء الوطني(I LOVE MORROCO)، أو الانتماء الرياضي(DIMA RAJA)، أو الانتماء العرقي(ⵣ)]([6])، هذه الدروع لا تمسّ المتعلّم وحده بقدر ما تعبِّر عن الطبيعة الهرميَّة للنظام التعليمي برمته تجسيدا لبنود الوصاية، وتحكّما في أهداف المناهج خصوصا الخفيَّة منها، ويرتبط اغتيال السلط  باغتيال القهر الأسري الدافن لكل الملامح المبشِّرة بميلاد إنسان مبدع أو فنان متقن أو ثائر حرّ ينشد العلى في زمن الذلَّة والخضوع، ولن يتأتَّى هذا إلا بالتربية الأسريَّة المشجِّعة للناشئة على حرّيَّة إبداء الرأي، والنقد، والتعبير عن الاختيارات، والعمل على تثبيت الوعي بالحقوق والواجبات، كما يرتبط اغتيال السلط بالتربية الدينيَّة التي تجعل شعارها التوحيد نابذة سلطة الأصنام بحبالها الرثَّة وألوانها القاتمة وخرافاتها التي تشدّ بسرابيل صكوك الغفران، وسلطة الأوثان الحيَّة التي تطلّ كل ساعة من خلال الإعلام والمقرّرات والمواسم فتكبِّل الأفواه، وتجعل بدل الإله الواحد آلهة تتجاذب الرغبات في الإنسان، يقول الدكتور محمد عمارة: “التوحيدُ الدينيُّ هو المفجِّر لطاقات ومَلَكات الحريَّة في الإنسان، فعندما يُفرد المؤمن الموحّد الذات الإلهيَّة بالعبوديَّة يتحرَّر- في ذات الوقت- من العبوديَّة لكل الطواغيت، فقمّةُ العبوديَّة لله الواحد هي قمَّة الحرِّيَّة والتحرير للإنسان ولذلك كانت شهادة أنْ لا إلهَ إلا الله إعلاناً لحريَّة والتحرير للمؤمنين بوحدانيَّة الله”[7]

4. إمكانيّات التنوير في المناهج الدراسيَّة المغربيَّة

رغم كل ما يقال حول هويَّة المناهج ومدى ملاءمتها للخصوصيَّة المغربيَّة، والطبيعة الهرميَّة التي تنزل بها، لا يمكن إنكار بعض محاسن النظم الجديدة المحرّرة للمتعلِّم سواء منها البيداغوجيَّة أو الديدكتيكيَّة، فمستندات المنهاج المغربي تتراوح بين التربية على القيم، ومدخل الكفايات، ومدخل التربية على الاختيار واتِّخاذ القرار، وتأهيل المتعلّم لاكتساب القدرة على الاختيار يتطلَّب تربية على الاستقلاليَّة والقدرة على تدبير مشاريع شخصيَّة أو جماعيَّة ذات صلة بالحياة الاجتماعيَّة والمدرسيَّة، أمَّا العمل بمنظور الكفايات فيستوجب استحضار مجموعة من البيداغوجيّات الفعّالة المتمركزة حول المتعلِّم، والعمل بمقاربات تنطلق من الذات المتعلّمة، كالمقاربة البنيويَّة والتواصليَّة والمقاربة المتمركزة حول الفعل. كما أنَّ فعل التنوير لا يتمّ في العمليَّة التربية إلا بجعل المتعلِّم قادرا على التعبير عن رأيه في وضعيّات تواصليَّة، وتحليل الظواهر الاجتماعيَّة، وطرح الإشكاليّات وصوغ الفرضيّات وتحليلها واقتراح حلول وبدائل لها؛ واتِّخاذ مواقف نظريَّة أو سلوكيَّة مسؤولة في وضعيات تواصليَّة أو حياتيَّة([8]).

إنَّ فعل التنوير في مدارسنا يبقى مرتبطا بمدى قدرتنا نحن الكبار على تفعيل سياسات مستثمرة في الإنسان من أجل الإنسان، فلا تنوير دون حريَّة، ولا حريَّة مع إيمان الفاعلين الأساسيّين في العمليَّة بخطورة التعليم والتعلُّم على استمراريَّة الأنظمة الحافظة لسلط النخب سواء بمعناها السوسيولوجي المعاصر أو بالمعنى اللاهوتي، القامعة لبذور التنوير في مهدها بين جدران المؤسَّسات الفاعلة في ميدان التربية والتكوين، “المغذّية لتركة اسمها: الأبويَّة والنزوع السلطوي والاستغلال والقمع، ليبقى القهر مبدأ السلطة”[9]، فتغلِّب المصلحة الخاصَّة على المصلحة العامَّة ويضيع مبدأ ربط المسؤوليَّة بالمحاسبة فتتنازعها –المسؤولة- النخب ولتتقاسم أوسمة مكدّسة للثروة، ضاربة مصلحة البلاد والعباد عرض الحائط، مقلله من شأن قطاع التعليم ومن قيمة أبناء الشعب في صنع التغيير الحقيقي المفضي إلى التنوير.


[1] موسوعة التنشئة السياسيَّة الإسلاميَّة، التأصيل والممارسات، ص429

[2] قناة دوزيم، الأربعاء 26 شتنبر 11:00 – 2018

[3] الفصل 13 من إعلان إنشيون بكوريا الجنوبيَّة.

[4] مدخل الى القراءة المنهجيَّة للنصوص عبد الرحيم كلموني منشورات صدى التضامن2006، ص: 101

[5]  وثيقة الميثاق الوطني للتربيَّة والتكوين، ص: 26

[6] -دراسة ميدانيَّة لنادي القراءة والإبداع بثانويَّة الوحدة الإعداديَّة، إقليم الفقيه بن صالح-المغرب-

[7] محمد عمارة، التوحيد الديني تحرير للإنسان، 21 مايو 2012.

[8]-منهاج التربيَّة الإسلاميَّة، المهارات الأساسيَّة-ص 10

[9] مقالة للمعطي قبال حول كتاب «نخب المملكة» يسلط الضوء على العائلات التي تحتكر السلطة والثروة.

جديدنا