النزعات التأويلية في سوسيولوجيا ماكس فيبر: قراءة نقدية في المرتكزات الأيديولوجية

image_pdf

” لم يقرأ ماكس ڤيبر أبداً لذاته: جرت قراءته لفترة طويلة بصفته نقيضاً لدوركهايم (Durkheim) تارة أو خصما لماركس ((Marx تارة أخرى أو بوصفه نقيضاً لهيغل (Hegel) حينا، أو نداً لبوبر (Popper) حينا آخر …. وقد شكلت هذه الوضعية معضلة معرفية حقيقة حجبت كثيراً من الزوايا القضايا المهمة في تفكير ڤيبر وفي نظرياته السوسيولوجية المهمة” لوران فلوي

1-مقدمة:

يعدّ المفكر الألماني ماكس ڤيبر (1864-1920) أحد أهم رواد علم الاجتماع المثيرين للجدل وأحد أبرز مؤسسيه الميامين، وقد أثار حضوره السوسيولوجي في بداية القرن العشرين جدلاً عنيفاً في الأوساط الفكرية واهتزازاً كبيراً في مجال التفكير السوسيولوجي والاقتصادي بين معاصريه، إذ تحولت السوسيولوجيا التي أبدعها إلى ظاهرة فكرية يَجِدُّ الدارسون في رصدها واستكناه مضامينها المستجدة.

ولد ماكس ڤيبر (Max Weber) (ماكسيميليان كارل إميل فيبر) في مدينة ايرفيرت (Erfert) بألمانيا في 21 إبريل عام 1864، لأسرة برجوازية ميسورة معروفة اجتماعياً وسياسياً، ولأب امتهن المحاماة وبرع في اعتلاء مناصب سياسية وحزبية فائقة أبرزها عضويته في البرلمان الألماني، وقد شكل الوسط الاجتماعي البرجوازي المميز الذي ترعرع فيه ڤيبر الحاضن الأساسي لنشأته ڤيبر وإبداعه الفكري وانبثاق عبقريته التي اتسمت إلى حد كبير بالطابع الموسوعي [1]. وقد عرف عن ڤيبر وفيتش شغفه الكبير بالمطالعة في مجالات الاقتصاد والتاريخ والإدارة والدين والسياسة وعلم الاجتماع، واستطاع في نهاية تحصيله العلمي أن يبدأ سيرة أكاديمية مفعمة بالعطاء إلى أن أصبح واحداً من كبار علماء الاقتصاد والتاريخ والمجتمع، ويصنف على أنه أحد كبار مؤسسي علم الاجتماع، ولا سيما علم الاجتماع الإداري وعلم الاجتماع الديني. ومن اللافت أيضاً أن ماكس ڤيبر مارس العمل السياسي ببراعة، وتسنم مناصب حزبية عالية المقام في ألمانيا. كما عرف بالنباهة والنبوغ منذ نعومة أظفاره، وترافق ذلك بحصوله على تعليم متميز في الاقتصاد والتاريخ والقانون والفلسفة واللاهوت. وقد تأثر كثيراً بالفلسفة المثالية الألمانية عند هيغل، وكانط، وفيتشة، وشلنج، ونيتشة، كما تأثر بجدليات ماركس واقتصاديات آدم سميث واتخذ منهما موقفاً نقدياً.

دافع ڤيبر عن أطروحة الدكتوراه حول “تاريخ الشركات التجارية القروسطية ” في عام 1889 محاطاً بإعجاب الحضور من طلاب ومفكرين ومتخصصين في هذا الميدان، وحصل على درجة الأستاذية عن أطروحته الموسومة «التاريخ الروماني الزراعي وأهميته للقانون الخاص والعام» في عام 1892. ولم يطل به المقام حتى عُين أستاذاً للاقتصاد السياسي في جامعة فرايبورغ في عام 1894. وقد شارك في نشاطات سياسية وأكاديمية متعددة جداً ومنها أنه شارك في تأسيس “الجمعية الألمانية لعلم الاجتماع في عام 1909. وفي المستوى السياسي شارك في تأسيس الحزب الديمقراطي الألماني، وفي عام 1919 رافق ڤيبر الوفد الألماني إلى باريس لحضور مؤتمر فرساي الذي وضع حداً للحرب العالمية الأولى، وتوفي في 14 يونيو 1920 في مدينة ميونيخ عن عمر يناهز 56 عاماً متأثراً بمرض الالتهاب الرئوي تاركاً وراء إرثاً فكرياً مرجعياً خصيباً في مجال العلوم الإنسانية. وقد تجلى هذا الإنتاج الفكري الملهم في عدد كبير من الأعمال العلمية التي ما زالت تشكل مصد إلهام للمفكرين والباحثين والدارسين في العلوم الإنسانية.

ويجدر بنا في هذا السياق أن نستعرض بعضاً من مؤلفات ڤيبر التي تدل على تشعب عطائه الفكري وخصوبته في مختلف ميادين العلوم الإنسانية، ومن البداهة القول: إن عناوين هذه المؤلفات تمكن القارئ من الاطلاع على مسارات الخريطة الفكرية للمؤلف والتعرف إلى خصوبة عطائه المعرفي، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى كتابه المعروف “الاقتصاد والمجتمع ” (Economy and Society)[2] الذي نُشر لأول مرة عام 1922. وكتابه الأشهر (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) (The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism ,1904))[3]، ثم (تاريخ الاقتصاد العام (General Economic History ,1923)، ومقالات في علم الاجتماع (Essays in Sociology )[4]، ومنهجية العلوم الاجتماعية (The Methodology of the Social Sciences)[5]، وعلم الاجتماع الديني (The Sociology of Religion , 1922))، والعلم والسياسة بوصفهما حرفة (Science and politics as a craft)، ورجل العلم ورجل السياسية (Man of science and Man of politic) والسياسة في الحرب العالمية (Politics in world war)، وعلم اجتماع الموسيقى(sociology of music)، والمفاهيم الأساسية في علم الاجتماع (Basic Concepts in Sociology) [6] وكتاب المدينة (The City , 1912)، ونظرية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي (The Theory of Social and Economic Organization , 1925) وكتاب الدين في الهند (The Religion of India) [7] وكتاب اليهودية القديمة (Ancient Judaism) [8]، والديانة في الصين (The Religion of China) [9] وأخيراً كتاب نداء العلم أو العلم بوصفة رسالة (The Vocation Lectures: Science As a Vocation) [10]. وتدل هذه الأعمال آنفة الذكر على إسهامات ڤيبر في مجال العلوم الإنسانية، ولا سيما في مجالات المجتمع والاقتصاد والدين والإدارة والسياسة.

وقد شاع عن فيبر – في كثير من الأدبيات – أن اهتمامه بعلم الاجتماع لم يبدأ إلا في السنتين الأخيرتين قبل وفاته، وأنه خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة (أي في عامين) استطاع أن يفرض حضوره، بين كبار المؤسسين لعلم الاجتماع، وقد يكون هذا لادعاء أحد أكبر المغالطات في تاريخ الفكر، إذ لا يمكن لأي مفكر عبقري في التاريخ أن يؤسس علماً، وأن يسجل اسمه بين عمالقة المفكرين في عامين من الزمن فقط. ومن المؤكد الواضح أيضا أن نبوغ ڤيبر السوسيولوجي احتاج إلى جهود كبيرة مترامية بذلت في تقاطعات عمره الزمني القصير، وعندما نمعن النظر في إنتاجه العلمي والفكري سنجد بأن معظم أعماله كانت -منذ البداية – تدور في فلك علم الاجتماع وتحلق في مداراته وتغور في أعماقه.

وفي سياق آخر يمكن القول أيضاً: إن معظم الأعمال التي قدمها ڤيبر في مجال الفكر الديني ودراسات الأديان لا تخرج عن كونها فكراً سوسيولوجياً أصيلاً في منبته ومحتواه، وقد سجل نفسه في هذا المسار على أنه أحد أهم مؤسسي علم الاجتماع الديني، وقد تجلى هذا الأمر في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” الذي يعد بحق من أهم الأعمال السوسيولوجية التي قدمها فيبر للفكر الإنساني، وهذا الأمر ينسحب بشكل عام على كتابيه الدين في الهند البوذية والدين في الصين الكونفوشيوسية، وهي جميعها قد كرست لدراسة العلاقة السوسيولوجية بين الفكر الدين وقيام الحضارة الإنسانية أو تمنعها، وهذه الأعمال كانت – بدون أدنى شك – أعمالاً سوسيولوجية في مختلف تجلياتها وأبعادها ومراميها.

ومن يتأمل ملياً أيضاً سيجد أن عدداً كبيراً من أعمال ڤيبر تغوص عميقاً في علم الاجتماع، ومنها كتابه “مقالات في علم الاجتماع”، و “منهجية العلوم الاجتماعية” و”علم الاجتماع الديني”، و “علم اجتماع الموسيقى” و “المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع”، و”نظرية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي”. وكما يبدو لنا أن معظم مؤلفات ماكس ڤيبر كانت تدور في عمق القضايا الاجتماعية وفي عمق علم الاجتماع،

ويرى كثير من النقاد أن معظم أفكار ڤيبر السوسيولوجية تتجلى في كتابه المعروف “الاقتصاد والمجتمع” الذي نشر بعد وفاته بعامين، أي: في عام 1922، وهو الكتاب الذي قامت زوجته ماريان ڤيبر (Marian Weber) بجمعه ونشره بعد وفاته. ويمكننا القول في هذا المقام بأن النضج السوسيولوجي في هذا الكتاب جاء نتاجاً لاختمار سوسيولوجي سابق تأصل في التكوين الفكري المبكر عند فيبر. ويمكننا بناءً على تصورنا هذا أن نعيد القول تأكيداً: بأن أعمال ڤيبر بعناوينها وموضوعاتها تدل على أن الرجل كان سوسيولوجياً منذ البدايات الأولى لنشاطه المعرفي، وهذا لا يتناقض أبداً مع الطابع الموسوعي لتكوينه العلمي الذي جعله عالماً في الاقتصاد، والتاريخ والإدارة والسياسة.

ويمكن القول في هذا السياق أيضا: بأن أعماله الاقتصادية والتاريخية والإدارية كانت وثيقة الصلة بعلم الاجتماع ولم تنفصل أبداً عن تطلعاته السوسيولوجية، ومن البيّن الواضح أن ڤيبر لطالما تناول هذه القضايا ضمن سياقاتها السوسيولوجية وتفاعلاتها الحيوية مع الظواهر الاجتماعية.

ومن المؤسف حقا أن يد المنون خطفت ماكس ڤيبر مبكراً جداً قبل أن ينجز رسالته الفكرية وأن يفرغ حمولته الإبداعية، إذ توفي بصورة مفاجئة في ميونيخ (Munich) في الرابع عشر من حزيران 1920 وهو في السادسة والخمسين من عمره، وقد تصادفت وفاته مع نهاية أول جيل من علماء الاجتماع، أي: بعد موت إميل دورکهایم عام 1917 وجورج سيميل (Simmel) عام 1918([11]). توفي فيبر في أكثر مراحل العمر نشاطا وحيوية وخصوبة، وهو الأمر الذي جعل كثيرا من المفكرين يعتقدون بأن الموت المبكر لفيبر شكل خسارة كبيرة للفكر السوسيولوجي وللمعرفة الإنسانية

2- مؤثرات فيبر الفكرية:

شكل الحاضن العائلي الاجتماعي الخصب الذي أحاط بماكس ڤيبر التربة الخصبة لنمو عبقريته السوسيولوجية، فعائلة ڤيبر كانت -بطرفيها (الأب والأم) – من أكثر العائلات الألمانية حظوة في مجال الفكر والثقافة والعلم والأدب. هذه العائلة عُرفت بعدد كبير من أبنائها المثقفين والعلماء، من أطباء، وصناعيين، ومحامين، ومهندسين، ومفكرين، ومؤرخين. وكان منزل والده “كارل أوغست فيبر” موئلاً للمفكرين والمثقفين والسياسيين في عصره، وقد تركت هذه الأجواء الثقافية الفريدة والمفعمة بالعطاء الثقافي أثراً كبيراً في توليد الطاقة الفكرية الإبداعية عند فيبر، وقد توج تأثير العائلة هذا، كما أشرنا، بشغفه اللامحدود بالمطالعة والقراءة والتحصيل منذ نعومة أظفاره.

2-1- عمالقة الفكر الإنساني:

ولم تكن تصورات ماكس ڤيبر تنطلق من فراغ فكري، فالفضاء الثقافي الذي عاش فيه ونهل منه كان مترعاً بالنظريات والأفكار التي أضرم نارها كبار المفكرين وعمالقتهم في عصره، وهو الأمر الذي جعل من النبوغ السوسيولوجي لفيبر صعباً جداً، وذلك في عالم سادت فيه فلسفة كارل ماركس (Karl Marx) وسطت عليه مطارق نيتشه النقدية (Friedrich Nietzsche) وهيمنت عليه مثالية هيغل (Hugle)، ووضعية كونت (Comte)، وبنيوية دوركهايم (Durkheim) وداروينية سبنر (ٍSpencer). وفوق ذلك كله كان ماكس ڤيبر يُقرّ ويعترف بصعوبة الصعود والإبداع في عالم فكري “هو في جزء كبير منه من صنع كارل ماركس وفريدريش نيتشه”[12]. ومع ذلك فإن هذا التحدي الكبير الذي فرضه كبار المفكرين العمالقة شكل قوة حافزة لماكس ڤيبر في العمل على استلهامهم وتجاوزهم في الآن الواحد. ويرى كثير من النقاد أن كارل ماركس كان له أكبر الأثر في التشكيل الفكري لماكس فيبر، وقد ألهمه في جوانب كثيرة من إنتاجاته الإبداعية في التاريخ والدين والمجتمع، ومع ذلك كان ڤيبر يطرح نفسه نقيضاً لماركس أو صورة معكوسة له في مختلف تجلياته الفكرية والفلسفية.

وفي المستوى السوسيولوجي كان العصر يفيض أيضاً بحضور سوسيولوجي جبار لرواد علم الاجتماع العمالقة أمثال دوركهايم (Durkheim) ورواد النزعة الكانطية الجديدة أمثال سيميل (Georg Simmel) [13] وديلتاي (Wilhelm Dilthey) [14]وريكيرت (Heinrich Rickert)[15]. وكان عليه أن يتأثر بهم جميعاً وأن يتجاوزهم في الآن الواحد. واستطاع في النهاية أن يتخطى عقلانية ريكيرت ونزعة التحليل النفسي عند سيميل ونسبية ديلتاي التشكيكية، وكذلك مثالية هيغل، ومادية ماركس، وتاريخانية غوستاف شمولر (Gustav Schmoller) وشكلانية منجر (Carl Menger).[16].

ومن الواضح أن ڤيبر قد استلهم النزعة الوضعية عند كانط وبنيوية دوركهايم واقتصاديات آدم سميث وريكاردو، وسوسيولوجيا سان سيمون وفيكو وغيرهم المفكرين المعاصرين والسابقين له. وقد شكلت هذه المعطيات الفكرية الكبرى، الكانطية، والوضعية، والماركسية نوابض التفكير الفلسفي والسوسيولوجي عند ماكس فيبر.

2-2- مثالية فيبر:

ومن المعروف أيضا أن ڤيبر قد استلهم الفلسفة المثالية عند هيغل ولاسيما تجلياته في “فلسفة الروح،” وعند كانط في فلسفته المثالية المتعالية، وكان متأثراً بهما إلى حدّ كبير. ومن يتأمل بعمق في منهجية ڤيبر سيرى بوضوح أن ڤيبر قد استلهم كانط في مقولته عن معرفة الشيء (The thing in itself) في ذاته ومعرفة الشيء في ظاهره، وكان من السباقين إلى القول بإن المعرفة المادية معرفة ظاهرية لا تتعدى الصورة الخارجية للقوانين التي تحكمها، وإن هذه الظواهر لا يمكنها أن تدرك جوهريا، ولا يمكن أن تعرف في جوهرها الغائي؛ لأن قوانين الطبيعية تدرك في حدودها الظاهرية أي على النحو الذي تبدو فيه مظاهرها الخارجية، وقد يكون من الاستحالة بمكان إدراك جوهرها الثاوي في أعماقها الداخلية المضمرة البطينة.

ومن الواضح أيضاً أن فلسفة كانط حول “الشيء في ذاته” (النومينون) أثّرت في سوسيولوجيا ڤيبر وفلسفته. ويُلاحظ النقاد أن لهذه الفلسفة أثراً قويّاً أيضاً في فلسفة كل من كيرد وجرين، وولاس وواتسون، وبرادلي وكثيرين غيرهم في إنكلترا، وهم مدينون في إلهامهم لكتاب كانط “نقد العقل المحض”[17].

ويعرّف النومينون (Noumène- Noumenon)[18] – وفقاً لكانط – بأنّه الشيء في ذاته، أو هو كلّ “ما يجاوز نطاق التجربة والإدراك الحسّي؛ إذن فهو حقيقة مجرّدة من مسلّمات العقل العملي، وهو “الحقيقة المطلقة التي تدرك بالحدس العقلي، وهي حقائق مجرّدة تأخذ صورة مسلّمات العقل العملي القبلية التي تدرك بالحدس العقلي كالحرّيّة وخلود النفس، ووجود الله”[19]. والحقيقة المطلقة لا يمكنها – بحسب كانط – أن تدرك بالعقل النظري لعجز قوانينه عن الإحاطة بالمطلق [20]

وإذا كان العقل في مذهبه عاجزاً عن بلوغ حقائق الأشياء في ذاتها (الشيء في ذاته Noumena) فكيف لهذا العقل أن يتمكن من الوصول إلى حقيقة الذات الإلهية وهي أسمى معاني الوجود المتسامي على كل أشكال الحس؟[21]. وهو ما يعني أن كانط ” يُرجع الإيمان إلى وجدان الإنسان وشعوره الداخلي النفسي.. أي إلى الضمير أو (القانون الأخلاقي)”[22]. وعلى هذا النحو يقرر كانط أيضاً بأن العقل بأدواته المنهجية المعهودة لا يمكنه أبداً الوصول إلى معرفة الحقائق في جوهرها، وأقصى ما يمكنه أن يدركه لا يتجاوز مظاهرها، وأن جُلّ ما يستطيعه هو أن يرسم الحقيقة كما تتبدى لنا في المظهر لا في الجوهر، وهذا يعني أننا لا ندرك الكون كما هو في جوهره أو ذاته أو في صميمه، بل جلّ ما يمكن لمفاهيم العقل أن تفعله هو أن تقدم لنا تصوراً يتناسب مع خصائص العقل الإنساني وقدراته [23].

ويميز كانط، كما أوردنا آنفاً، بين عالمين: عالم محسوس وعالم معقول. والإنسان ينتمي إلى العالم المحسوس بوصفه جسداً وإلى العالم المعقول بوصفه عقلاً وروحا؛ وهو من حيث إنه جسد يخضع إلى قوانين الفيزياء والقوانين الطبيعية؛ ولكنه من حيث هو عقل يخضع إلى سنن العقل المستقلة عن السّنن الطبيعية، وقوانين العقل مستقلة عن التجربة ومتعالية عليها. ويستنتج من ذلك المنطلق أن كل ما يوجد في الطبيعة من أشياء ومظاهر محكوم بالقوانين الطبيعية والفيزيائية، باستثناء الإنسان الذي يمتثل لقوانين العقل بوصفه عقلاً ولقوانين الطّبيعة بوصفه كياناً حسياً وجسدياً ([24]).

وتجدر الإشارة إلى أن كانط استخدم في تناوله المصطلحات الفلسفية المدرسية (السكولاستية) السائدة في الجامعة الألمانية في زمنه للبحث في قضايا العقل. “وقد قصد بالعالم المحسوس: العالم الذي تدركه الحواس، وأطلق عليه فيما بعد اسم: عالم الظواهر أو الظاهرات (الفينومينولوجيا) Phenomenology)” [25]. أما “العالم المعقول فهو العالم الذي يدركه العقل والفكر ولا تدركه الحواس، وهو فوق نطاق الحواس، وإن كان هو أصل الأشياء وأصل المدركات، وقد سمّاه عالم النوميني. وهي كلمة لاتينية مفردها Neumenon وجمعها Neumena والمقصود بها حقيقة الأشياء في ذاتها لا في ظواهرها. والحواس تدرك الظواهر بينما العقل يدرك حقيقة الأشياء النوميني”[26].

ومن يتأمل سوسيولوجيا ماكس ڤيبر سيجد بوضوح أنه تلقف منهجية كانط واستفاد منها في التأسيس لمنهج سوسيولوجي يعتمد الفهم والتأويل؛ لأن الظاهرة الاجتماعية لا تدرك جوهرياً وفق منهجية الفينومينولوجيا آنفة الذكر أي: لا يمكن إدراكها في ذاتها، ولكن يمكن أن تفهم وتؤول وفق منهجيات مثالية قائمة على التجانس التي يمثلها المبدأ الشعبي الذي يقول: “كل شيء ضده من جنسه حتى الحديد سطا عليه المبرد”.

فالظاهرة الاجتماعية ظاهرة إنسانية فريدة متفردة لا تتكرر ولا يمكن إخضاعها وفهمها عن طريق التفسير المنهجي السببي، ولا يمكن قولبتها في قوانين جامدة، كما يفعل الوضعيون؛ لأن قولبتها تؤدي إلى تشويهها وتدمير معانيها. على هذا الأساس يرى ڤيبر أن علم الاجتماع القائم على منهجية التفسير (السببي) لا يستقيم مع الظواهر المجتمعية التي تحتاج إلى أنماط مثالية خاصة لدراستها وفهمها. ولذا يجب الانتقال من منهجية التفسير (Explication) القائم على المحاكمات المنطقية والسببية إلى الفهم (Comprehension) ومن ثم إلى التأويل (interprétation). فالتفسير يقوم على استكشاف العلاقات السببية والمنطقية للظواهر ويعمل على استكناه القانونيات الاجتماعية التي تحميها، وهذا هو الأمر الذي تقوم به المنهجيات السوسيولوجية الوضعية (كونت ،أو ابن خلدون، ودوركهايم، وماركس) ومثل هذا التفسير يبقى شكلياً لا يستطيع إدراك البعد الوجداني في الظاهرة الاجتماعية؛ ولأنه كذلك يرى ڤيبر أنه يمكننا فهم الظاهرة وإدراكها جوهرياً بذاتها من خلال التبصر الوجداني في أعماقها، وقد يكون ممكناً لنا أن نغوص في أعماقها من خلال التأويل الذي يمكنه أن يستكشف الجوانب الخفية في الظاهرة المدرسة.

فالظواهر الاجتماعية ظواهر ذاتية ثقافية وجدانية غائية معنوية لا تقبل القولبة، وتنفلت دائماً من قبضة السببية، وعلى هذا الأساس يقرر ڤيبر أن الظاهرة الاجتماعية لا تتكرر أبداً، فهي ظواهر فريدة في التاريخ الإنساني وهي تحتاج للمنهج الوجداني التفاعلي؛ كي نستطيع فهمها وتأويلها لا مجرد تفسيرها تفسيراً يحيلها إلى قوانين منطقية مجانسة لتلك التي نجدها في العلوم الطبيعية. وكأننا بماكس ڤيبر يريد أن يقول: بإننا لا ندرك طبيعة الظواهر الاجتماعية إلّا من خلال المعايشة والتفاعل الوجداني الصميمي. فالقول: بإن النار محرقة قانون سببي ولكن لا يمكنه أن يجعلنا ندرك مفهوم الاحتراق إلّا إذا عايشناه وجربناه على مبدأ قول الشاعر لا يَعرِف الشَوق إِلّا مَن يُكابِدُه ولا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها.

ويتضح لدينا – في هذا المقام – أن ماكس ڤيبر قد ألبس تصور كانط عن الشيء في ذاته “النومينون” والشيء في مظهره “الفينومينون” حلّة سوسيولوجية، وذلك بعد أن قام بتعديله وأسس عليها منهجه في الفهم القائم على الاستبصار الذاتي للوصول إلى جوهر الفعل الاجتماعي. فالفعل الاجتماعي يمكنه أن يفهم ويدرك ويفسر ويؤول ولا يمكن له أن ينتظم معرفياً في قوانين صارمة جامدة كالتي نراها في الطبيعة. ومع ذلك لا يتنكر ڤيبر كلياً للمنهجية الظواهرية، بل يراها قادرة على تقديم تصور خارجي للفعل الاجتماعي، ويرى أنها غير مناسبة لفهم السلوك البشري، وهي في أفضل أحوالها معرفة شكلية سطحية، تأخذ بما يظهر من السلوك، وليس بما يستبطن منه ويفهم، وكما يقول المثل ذلك عليك بما ظهر من الأمر وليس بما خفي واستتر. ومن أجل مزيد من التوضيح نقول هنا: إن منهجية ماكس ڤيبر تقوم على الفهم والتأويل، أو بما يطلق عليه الهيرمينوطيقا وهو المنهج الاستبصاري الذي يقوم على التأويل.

3- علم الاجتماع الفيبري:

جاءت السوسيولوجيا الفيبرية على هيئة انفجار ثوري كبير في مجال العلوم الاجتماعية. وقد تجلت هذه الانتفاضة الثورية في تقديم رؤى سوسيولوجية ومعرفية مغايرة للنظريات السوسيولوجية الكبرى التي روج لها كبار المفكرين من أسلافه ومعاصريه من أمثال: ابن خلدون وكارل ماركس ودوركهايم وأوغست كونت، وجاءت عطاءات ڤيبر المعرفية لتشكل قطباً جديداً في مجال الفكر الاجتماعي، وتياراً جديداً في مجال الفكر السوسيولوجي، غالباً ما يطلق عليه التيار التأويلي في علم الاجتماع كما في العلوم الإنسانية.

ففي الوقت الذي كانت السوسيولوجيا العامة، في مختلف تياراتها الوظيفية والبنيوية والماركسية، تحثّ الخطى سعياً إلى تأسيس علم الاجتماع وتأصيل مناهجه على منوال المنهجيات المعروفة في العلوم الطبيعية، يفاجئنا ماكس ڤيبر برؤية جديدة مختلفة تدعو إلى منهجية جديدة في علم الاجتماع تقوم على الفهم والتأويل والتفسير، رافضاً كل المنهجيات التي تتناول الظواهر الاجتماعية بوصفها كيانات مادية جامدة تخضع لقوانين مجانسة لتلك التي تقوم في العلوم الطبيعية. وهي نمط المنهجيات الوضعية التي استنزفت طاقة المفكرين الاجتماعيين والمنظرين في مجال السوسيولوجيا، من ابن خلدون إلى فيكو وسان سيمون وماركس ودوركهايم. وإذا كان هؤلاء جميعاً ينظرون إلى المجتمع بوصفه امتداداً للطبيعة في أكثر أشكالها تعقيداً، فإن ماكس فيبر، وعلى خلافهم جميعاً، ينظر إلى المجتمع بوصفه ذاتاً، وروحاً، وفكراً وثقافةً نوعيةً معنويةً لا تخضع للقوانين الجامدة التي ينادي بها علماء الاجتماع من سابقيه ومعاصريه ولاحقيه. فالمجتمع طاقة روحية سيكولوجية نفسيه معقدة لا يمكن للعلوم القانونية الوضعية أن تخترق جدرانها وأن تكتنه معانيها، كما يحدث في المادة الجامدة، بل يمكن فهمها وتفسيرها ومعرفتها. فالمجتمع يتمثل بوصفه نمطا لتفاعل كينونات ذاتية أو صيغة تفاعل جدلي بين ذوات متفاعلة بالإرادات والنوايا والمعاني والقيم، وهي في جماعها تشكل نسيجاً نوعياً ثقافياً روحياً يستعصي على الانتظام في قوانين جامدة كالتي نعتمدها في استكشاف العالم المادي، ومثل هذا النسيج الثقافي يحتاج من أجل فهمه إلى طاقة منهجية جديدة تعتمد منهجيات الاستبصار والتأمل والحدس والاكتناه الوجداني، وباختصار يحتاج السلوك الاجتماعي إلى الفهم والتفسير الذي يقوم على منجيات التأمل المنهجي الاستبصاري الخالص.

فالظواهر الاجتماعية ليست كالذرات المادية التي تتحرك دون غاية أو معنى أو دلالة، وعلى عكس ذلك فالإنسان في علاقاته وتفاعلاته يتحرك وفقاً لمبدأ الغايات والمعاني والدلالات، وهذه لا تحكمها قوانين لأنها من نمط الوجدانيات التي تنتظم في قوانين محددة. ولذا فإن الظواهر الاجتماعية ظواهر فريدة في عمقها ومحتواها وظاهرها، إنها تتميز بعمق وجداني لا يكتشف إلا بمنهجيات وجدانية تعتمد التبصر والاستبصار والاستكشاف القائم على اكتناه العمق الدلالي والمعنوي في سلوك الإنسان. وباختصار يشكل الفهم والتأويل والتفسير ثلاث مراحل أساسية في مستويات المنهج السوسيولوجي عند ڤيبر [27].

3-1- الثورة المنهجية -من التفسير إلى التأويل:

استطاع ڤيبر أن يحقق حضوره المميز في الحقل الاجتماعي وأن يحقق نجاحاً كبيراً في تأسيسه لعلم الاجتماع التأويلي (Interpretive Sociology) الذي يشكل نمطاً سوسيولوجياً مبتكراً ومختلفاً عن التيارات السائدة في علم الاجتماع، ولا سيما الاتجاهات البنيوية والماركسية السائدة في الحقل السوسيولوجي. وتنطلق الفكرة الأساسية لماكس ڤيبر من رفضه الواضح للمنهجيات الوضعية في علم الاجتماع، التي تحاول استكشاف القوانين الحاكمة للظواهر الاجتماعية، وهذا يعني رفضه لسوسيولوجيا دوركهايم وسبنسر وأوغست كونت وغيرهم من المؤسسين لعلم الاجتماع. ويستند رفضه هذا إلى أن الدراسات الوضعية تأخذ طابعاً ظواهرياً، بمعنى أنها تستكشف العلاقات الظاهرية القائمة في المجتمع على غرار ما يجري في الطبيعة، وهذه المنهجيات لا تستطيع جوهرياً اكتشاف المعاني والدلالات في السلوك الإنساني الذي يتميز بأنه سلوك غائي معنوي ذاتي لا يمكن إدراكه بالقانونيات المعروفة في السوسيولوجيا الوضعية (Positive sociology)، وجلّ ما يمكن للمناهج الاجتماعية القائمة هو أن تستكشف ظواهر الحقيقة الاجتماعية، دون القدرة على فهمها وإدراكها وتأويلها وفقاً للمعاني والدلالات الإنسانية.

ويستند ماكس ڤيبر في استنتاجاته هذه إلى أن الظاهرة الاجتماعية تختلف نوعياً وجوهرياً عن الظواهر الطبيعية، فالظواهر الطبيعية جامدة، أما الظواهر الاجتماعية فهي ظواهر حيّة معنوية دلالية غائية، والمناهج الوضعية (Positivism) لا تستطيع أن تتوغل في العمق الذاتي للظاهرة الاجتماعية؛ لأنها تكشف ما هو خارجي وظاهر وشكلي، ولا يمكنها أن تغوص في الأعماق، وتغور في الطبقات الداخلية للظاهرة لتبحث فيما هو معنوي وذاتي وأخلاقي وإرادي، فالهوية الاجتماعية للفعل الإنساني متخفية غائرة خلف الظواهر وفي أعماق المظاهر، ولا يمكن الاستدلال على جوهريتها إلا بالاستبصار المعنوي والاستكشاف الذاتي الداخلي للفعل الاجتماعي. ومن منطلق الحاجة إلى فهم الفعل الاجتماعي يؤسس ماكس ڤيبر منهجاً بديلاً يعتمد الأنماط المثالية التي يمكنها أن تستكشف الأبعاد المعنوية للفعل الاجتماعي.

لا يمكن فهم السوسيولوجيا الفيبرية إلّا من خلال الفهم الأعمق للثورة التي أعدها في مجال المنهجية التي أصلّها في تناول قضايا المجتمع وظواهره، ففي الوقت الذي رسخت فيه معالم علم الاجتماع الجديد المنهمك بالبحث عن القوانين التي تحكم المجتمع بدءاً من ابن خلدون، مروراً بـ جامباتيستا ڤيكو، [28]وسان سيمون، وأوغست كونت، وهربرت سبنسر، ودوركهايم، وكارل ماركس، وغيرهم من المفكرين، وعلى خلاف المنهجيات الوضعية هذه جاء إعلان ماكس ڤيبر ميلاد منهجية انعكاسية جديدة ترفض قانونية المجتمع، وتؤسس لرؤية جديدة ومنهجية جديدة تعتمد على الفهم والتأويل، أي على اكتناه الظواهر الاجتماعية بوصفها روحاً وثقافةً لا يستقيم معها الضبط المنهجي الوضعي الذي يسعى لرصدها في صورة قوانين مستلهمة من قوانين الطبيعة الجامدة.

3-2- غائية الفعل الاجتماعي

يؤسس ڤيبر رؤيته لهذه المنهجية على الطبيعة الغائية والمعنوية للفعل الاجتماعي، وهذه الطبيعة غالباً ما تكون خفية في السلوك الإنساني، فالسلوك الإنساني شديد الرمزية، مثقل بالمعاني والغايات، وهي غالباً تكون كامنة في أعماق النفس الإنسانية وليس خارجها، فالمضمر في السلوك الإنساني يأخذ صورة معقدة، ولذا ما يمكننا فعله لا يقوم على تقنين السلوك الإنساني، بل في بذل الجهد في فهمه وتأويله. فعلى سبيل المثال: الإنسان الذي يتطوع للحرب، فمن حيث المظهر الخارجي أو القانوني فإنه المتطوع الذي يريد الدفاع عن الوطن. ولكن تختلف الغايات وتتنوع الدلالات في مسار هذه الاندفاع للحرب: فبعظهم يذهب إلى الحرب بغية الحصول على المال، والآخر بغية الشهرة، وآخرون للدفاع عن الوطن، وبعضهم الآخر تدفعه النزعة العدوانية، وقد تكون هناك منظومة أخرى من العوامل والغايات.

وهذا الأمر يختلف في عالم الذرات والماهيات المادية والظواهر الطبيعية، إذ لا يمكن أن نحدد غاية الحركة في الذرات والإلكترونات وانسياب أشعة الشمس واسترسال نور القمر وحركة النمو في النباتات. فالعلماء يلاحظون ما يجري ويقرنون العلل بالأسباب والأسباب بالمسببات، فالمغناطيس يجذب الحديد ولكن لا نعرف لماذا يفعل ذلك؟ ولا ندري لماذا لا يجذب الخشب؟ وكذلك الخشب يطفو على سطح الماء ولا ندري لماذا لا يطفو في الهواء؟ النار تحرق ولكننا لا نعرف ماهية الإحراق وما جوهر النار أو جوهر الإحراق؟ كما لا ندري ما جوهر الجذب المغناطيسي؟ [29] وكل ما يستطيع العلماء فعله إزاء هذه الظواهر يتمثل في العمل عل الضبط القانوني لها، واستكشاف علاقاتها فيما بينها وفيما بينها وما يحيط بها من ظواهر، ولا يمكن الوصول إلى جوهرها، كما يرى كانط وكما يرى لاحقاً تلميذه النجيب فيبر.

وباختصار، الدراسة العلمية للظواهر المادية تقدم لنا إجابات عن الكيفية التي تحدث فيها الأشياء؛ أي أن تقدم إجابة عن سؤال كيف تحدث الأمور؟ وما أسبابها الملحوظة؟ وعلى خلاف ذلك فإن الدراسات الاجتماعية تقدم لنا إجابة عن سؤال لماذا تحدث الأمور على هذا النحو أو ذلك؟ وما الغاية من حدوثها؟ ومن المؤكد أننا نتحفظ كثيراً على ما يذهب إليه ماكس ڤيبر في هذا السياق، وسنتحدث لا حقاً عن الانتقادات الكبيرة التي يمكن أن توجه إلى أسلوبه وطريقته ومنهجه في البحث الاجتماعي، وحسبنا أن نشرح الطريقة المنهجية التي اعتمدها في التأسيس لمنهجه القائم على الفهم والاستبصار التأويلي[30].

4- علم الاجتماع التأويلي (Interpretive Sociology):

يرى كثير من المتخصصين في المجال السوسيولوجي أن ماكس ڤيبر قد ضمّن معظم أفكاره في كتابه “الاقتصاد والمجتمع” وهذا لا يقلل من أهمية ما تضمنته أعماله الأخرى، ولا سيما كتابه “البروتستانتية وروح الرأسمالية” الذي يتضمن المقومات الأساسية لعلم الاجتماع الديني. وفي كل الأحوال فإن كتاب “الاقتصاد والمجتمع” ((Economy and Society)[31] هو أشبه بموسوعة فيبرية تضمنت مختلف آرائه وتصوراته الاقتصادية والاجتماعية في آن واحد، وتقع الترجمة العربية لهذا الكتاب في 862 صفحة، وهذا يدل على الطابع الموسوعي لهذا الكتاب [32].

يعرف ڤيبر علم الاجتماع في أول جملة من كتابه الاقتصاد والمجتمع بقوله: “نسمي علم الاجتماع… العلم الذي يأخذ على عاتقه تفهم النشاط الاجتماعي بالتأويل، بتأويله ثم بتفسير مساره ومفاعيله تفسيراً سببياً [33]. وفي سياق آخر يقول: ” إن ما ندعوه سوسيولوجيا هو علم مهمته الفهم، عن طريق تأويل النشاط الاجتماعي[34].

ومن الواضح أن المجتمع يتكون من أفراد متفاعلين يقومون بسلوكيات وأفعال في سياق اجتماعي، ويشكل هذا التفاعل بين أفراد المجتمع الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع. والإنسان الفاعل يتميز بأنه “إنسان كائن واع، يتصرف بوعي، تحركه مقاصد وأهداف، وذلك على عكس الأشياء التي يمكن إخضاعها للدراسة العلمية، وهذا يعني أن علم الاجتماع يجب أن يركز على فهم الفعل الإنساني والتفاعل القائم في المجتمع بين الأفراد”[35].

وإذا كان المجتمع يتكون من أفراد بالضرورة فإن هؤلاء الأفراد لا يوجدون إلّا في حالة الحركة والنشاط والتفاعل، والحركة تعني الفعل، والفعل يشكل جوهر حياة الفرد ووجوده وجوهر الحياة الاجتماعية ومعناها، والفعل الاجتماعي أي فعل يجب أن يكون إنسانياً؛ أي يجب أن يرتبط بغاية وأن يحمل معنى ودلالة، ويمكن للفعل أن يكون فردياً يدور حول ذاتية الفرد أو أن يكون اجتماعياً يدور في فلك الآخر. وعلى هذه الصورة يمكننا تصور المجتمع على صورة التفاعل الذري بين الذرات (الأفراد)، وكما يحدث في عالم الذرات تنطوي الذرة في ذاتها على فعل ذاتي يتمثل في حركة أجزائها في داخلها (الفوتونات والنترونات التي تدور في داخل الذرة)، كما تلتحم الذرة في أنساق من الذرات المشابهة لتكوين الأجسام والأشياء. وعلى هذا النحو يميز ڤيبر بين السلوك الفردي عندما يكون الفعل فردياً غائياً خارج سياق العلاقة مع الآخر، والسلوك الاجتماعي الذي يشمل حالة التفاعل بين الفرد والأفراد الآخرين. وباختصار: المجتمع والجماعات نسيج ذري من تفاعلات الأفراد وسلوكاتهم وأفعالهم الغائية.

وترتسم نقطة البداية في سوسيولوجيا ڤيبر في تناوله للفعل الإنساني والاجتماعي بوصفه الموضوع المركزي والأساسي الذي ينطلق منه علم الاجتماع. ويتمثل الفعل الاجتماعي في سلوك الفرد وتفاعله الاجتماعي مع الآخرين بصورة تتميز بطابع الديمومة والاستمرار، والفعل الاجتماعي -كما يراه فيبر – قد يكون ظاهراً معلناً أو خفياً مضمراً، أو بالأحرى قد يكون صادراً عن قوة خارجة اجتماعية، أو طبيعية، أو ناجماً عن أرادة ذاتية حرة.

وبعبارة أخرى يرى ڤيبر أن الفرد هو العنصر الأولي في النسيج الاجتماعي، ولكي يعيش الفرد يجب عليه أن يكون دينامياً نشطاً، إذ لا يمكن للفرد أن يحيا إلّا من خلال النشاط والفعل الاجتماعي، وهذا يعني أن الفعل أمر لازم بالضرورة عن الفرد وصفة جوهرية من صفاته، فالفرد لا يوجد إلّا في حالة الفعل ليضمن حياته ووجوده. والفعل الاجتماعي لا يتم إلّا في أطار جماعة؛ أي في صلة مع الآخرين، وأن الفعل يكون في نسق التفاعل مع الآخرين، وهذا التفاعل الاجتماعي بين الجماعة أو في المجتمع يشكل النسيج الاجتماعي. وهذا يعني أن الأفراد يوجدون من خلال الأفعال التي يمارسونها في صيغة تفاعل اجتماعي بين الأفراد، وهذا التفاعل يشكل بالضرورة النسيج الوجودي للمجتمع.

ويبدأ ڤيبر في نسج أفكاره السوسيولوجية من خلال تناوله للفعل الاجتماعي الذي يشكل منطلق الحياة الاجتماعية. ويرى أن الفعل الاجتماعي يتميز عن الفعل الطبيعي بطبيعته الغائية والمعنوية، وهنا يكمن بيت القصيد، فالفعل الاجتماعي فعل غائي يحمل معنى ودلالة، وهذا يعني أن دراسة الفعل الاجتماعي تعتمد على منهجية مختلفة تماماً عن تلك التي تُعتمد في رصد الفعل الطبيعي. فالأفعال الطبيعية من مثل: الرياح، والصواعق، والمدّ، والجزر، والبراكين وغيرها من الظواهر الطبيعية لا تجري وفق غايات محددة أو نيات مسبقة، فالريح لا تهب لغاية إغراق السفن، والقمر لا يضيء من أجل المسافرين، فهذه الظواهر تحكمها قوانين الطبيعية وهي مجردة من الغاية والمعنى، وهي لا تكتسب غايتها إلّا في مخيال الإنسان الذي يسقط عليها مشاعره ونواياه، كما كان يحدث لدى الأقوام البدائية فيما نسميه بالظاهرة الأنيمية (Animism)، إذ كان ينظر إلى الكائنات الطبيعية والحية على أنها كائنات حيّة مماثلة له في جوهره النفسي والإرادي. فالإنسان القديم عندما أراد فهم الظواهر الطبيعية لم يستطع فهمها إلّا من خلال تصوراته الذاتية عن الإنسان نفسه؛ أي عما يشعر به ويراه، وعلى هذا النحو ربما يستقيم فهمنا للفعل الاجتماعي عند ڤيبر عندما نعتمد ما يجانس هذه “الأنيمية”، إذ يتوجب علينا أن نبحث عن المقاصد والمعاني والغايات والدلالات في سلوك الإنسان وفعله الاجتماعي كي نفهمه.

وبناءً على ما تقدم يمكن القول: “بإن علم الاجتماع -بحسب ماكس فيبر- هو دراسة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع، واستكشاف الطريقة التي يعطي فيها الناس فهماً ذاتياً للعالم، واستقصاء الكيفية التي يسلكونها في حياتهم الاجتماعية، ويهدف في النهاية إلى فهم الفعل الاجتماعي وتأويله وتفسيره في ضوء عوامل وجوده وديناميات حركته القيمية. وهذا كله يعني أن منهج علم الاجتماع الفيبري يقوم على مبدأ فهم السلوك الاجتماعي وتأويله وأدراك معانيه واكتناه دلالته، وباختصار يمكن القول: بإن المنهج الفيبري يؤكد على أهمية الفهم والتأويل ويركز على استحضار الذات المؤولة في الفعل الاجتماعي الذي لا يمكن فهمه إلّا في سياق تاريخي ثقافي مخصب بالدلالات والمعاني.

5- الفعل الاجتماعي موضوعاً للسوسيولوجيا:

يشكل الفعل الاجتماعي مقولة مركزية في سوسيولوجيا فيبر، فالفعل الاجتماعي يشكل النواة التكوينية المشكّلة للمجتمع والسلوك الإنساني برمته. والفعل الإنساني عند ڤيبر فعل غائي يتمثل قي سلوك الفرد أو مجموعة من الأفراد الذين يسلكون ويتحركون في المجتمع وفق الغايات والنوايا والمقاصد. وهنا يكمن بيت القصيد عند فيبر، وذلك لأن فهم السلوك الاجتماعي يتمحور حول مقاصد الفعل الاجتماعي وغاياته ونواياه، (النوايا سابقة للفعل ومحركة له) والنوايا التي تحكم السلوك الإنساني تكون غالباً خفية غائرة في العمق الإنساني ولا تكون ظاهرة دائماً في الفعل الاجتماعي؛ أي في نشاط الفرد أو سلوكه، وكذلك في أفعال الجماعات. ومن أجل فهم هذا السلوك وتحليله يجب على الباحث أن يعمل وفق منهجية مثالية تمكنه من إدراك الفعل الإنساني من مدخل الغايات والنوايا، وليس من مدخل القانونيات الوضعية التي تحمكم كما يرى الوضعيون؛ لأن المناهج الوضعية تقوم على إدراك ظاهر السلوك وليس باطنه؛ ولأن السلوك الإنساني يستبطن غاياته، وجب أن نفهم السلوك بطبيعته الغائية لا بمظهره المفرغ من الدلالات والمعاني. ومن المهم في هذا السياق ان نأخذ بعين الاعتبار أن الفعل الإنساني، كما يراه فيبر، يجب أن يرتبط بغاية إنسانية أو مقصد، وأن هذه الغائية هي التي تعطي للفعل طابعه الإنساني، وكل فعل لا يبنى على مقصد أو غاية لا يكون فعلاً إنسانياً، ويبنى على ذلك أن أي فعل قائم على الصدفة يخرج من دائرة التصنيف الإنساني. فالفعل الذي يقوم به الفرد بالصدفة ليس فعلاً إنسانياً ومثال ذلك إغلاق الباب بالصدفة، أو الارتطام بالحائط دون قصد، أو سقوط شيء من اليد عفوياً، أو الاصطدام بسيارة، هذه الأفعال جميعها ليست إنسانية؛ لأنها لا ترتبط بغاية واضحة. وباختصار فإن ڤيبر “يعدّ الفعل الإنساني، هو (فقط) ذلك السّلوك أو النّشاط، الّذي يمكن أن ننسب إليه قصد أو معنى ذاتي لتبرير ما قام به الفاعل من نشاط” [36].

ويميز ڤيبر بين نمطين من الفعل الإنساني: الفعل الفردي والفعل الاجتماعي:

ويتمثل الفعل الفردي في أوجه النّشاط الّذي يقوم به فرد واحد، ويشترط في هذا الفعل أن يمتلك في ذاته على غاية وهدف ومعنى وقصد؛ أي أن يتضن هدفاً. ويقصد بالفعل الفردي الفعل الذي يكون خارج سياقه الاجتماعي من مثل: عندما يذهب الإنسان ليشرب من النبع، أو يتناول طعامه بمفرده، وعندما يقوم بأي فعل لا يتحرك ضمن علاقة اجتماعية.

وعلى خلاف ذلك يتمثل الفعل الاجتماعي في السلوك الاجتماعي الذي يتم في إطار التفاعل بين الأفراد في المجتمع وهو الذي يتم بين فاعلين أو أكثر في إطار الحياة الاجتماعية داخل مجتمع ما، وهو يتم أيضاً وفق نسق من المقاصد والدلالات والمعاني.

وتتضح نظرة ڤيبر إلى الفعل الاجتماعي بالمقارنة مع رؤية دوركهايم، ففي الوقت الذي ينظر فيه دوركهايم إلى الظواهر الاجتماعية أياً كانت (سلوك اجتماعي، أو فعل اجتماعي، أو ممارسة اجتماعية)، على أنها موضوعات وأشياء، يتناولها ماكس ڤيبر على أنها ظواهر ذاتية لا يمكنها أن تكون أشياء أو موضوعات جامدة. فالسلوك الاجتماعي عند ڤيبر هو السلوك التفاعلي الذي يتحقق بين الأفراد على أساس غائي وإنساني[37]. وعلى هذا النحو ينظر ماكس ڤيبر إلى الظاهرة الاجتماعية بوصفها تكويناً سيكولوجياً زئبقياً شديد التعقيد، تحكمه ترددات النفس الباطنية التي يصعب إدراكها منطقياً، بل يمكن فهمها عاطفياً وعقلياً. وعلى هذا الأساس عكس ڤيبر منهجية علم الاجتماع فجعلها تتحرك من الأفعال الموضوعية إلى الأفعال الإنسانية الذاتية، وقد يصح القول بأنه: نقل السوسيولوجيا من الموضوع إلى الذات، ومن الشيء إلى الإنسان ليؤسس بذلك سوسيولوجيا تأويلية تقوم على أساس الفهم والتأويل للفعل الإنساني وكان له قصب السبق في تأسيس علم الاجتماع التأويلي أو سوسيولوجيا الفهم (la sociologie compréhensive) [38]. فالأحداث الاجتماعية تتصف بأنها وقائع قابلة للإدراك، وهذا يعني أننا نستطيع أن ندرك الظواهر الاجتماعية بطريقة مختلفة عن الظواهر الطبيعية، فعلى سبيل المثال: يمكننا أن ندرك بسهولة نشوب حرب كالحرب الروسية الأوكرانية أو اندلاع ثورة مثل ثورات الربيع العربي، أو سقوط حكومة من الحكومات، أو هبوط سعر الدولار، أو أسباب هجرة العقول إلى الخارج، وهذه المعرفة تختلف كلياً عن معرفة الظواهر الطبيعية، من مثل: الفيضانات والبراكين وشروق الشمس وتغير الفصول؛ لأننا في حالة الظواهر الطبيعية نعتمد الملاحظة الخارجية أي على ما يبدو لنا ولا يمكننا إدراكها من الداخل وتفسيرها بالطريقة السيكولوجية للظواهر الاجتماعية.

وتأسيساً على هذه الرؤية التأويلية للعلم يعرّف ڤيبر علم الاجتماع بأنه: العلم الاجتماع الذي يباشر الأفعال الاجتماعية بالفهم والتأويل ” ومن هذا المنطلق يرفض الحتمية الاجتماعية والاقتصادية التي نراها في سوسيولوجيا فيبر، وماركس، ودوركهايم، وسنسر، وابن خلدون، وغيرهم من المفكرين أصحا ب النظرة الوضعية إلى علم الاجتماع. وعلى خلاف هؤلاء جميعاً يرى ڤيبر: أنه لا يمكن فهم السلوك الإنساني ضمن نسيج من الضغوط الاجتماعية الخارجية فحسب، ومع ذلك يقر بأن هذه الإكراهات والضغوط تفسر نسبياً بعض الظواهر الاجتماعية. فالمجتمع كما يراه نسيج من الأفعال والتفاعلات الإنسانية القائمة على أنساق من القيم والدوافع الذاتية والإرادات والمعاني والغايات، وهي العوامل التي تحرك البشر وتدفعهم نحو مصائرهم السلوكية. وعلى هذا الأساس يعرف السوسيولوجيا بأنها: “علم فهم السلوك الإنساني عن طريق التأويل “. وعلى هذا الأساس فإن المجتمع لا يعدو أن يكون أكثر من تفاعل أفراده ضمن أرتال من القيم وأنساق من الغايات الإنسانية التي تفعل فعلها في توجيه السلوك الإنساني نحو غاياته، وإحداث شبكات سلوكية قائمة على المعاني والدلالات. فالإنسان الفرد والإنسان المجتمعي كائن يسلك على نحو غائي إرادي نفعي وكل سلوك يتحدد ضمن مقاصد الفرد ونواياه، وذلك على خلاف ما نشاهده في عالم الظواهر الطبيعية التي يمكن إخضاعها للدراسة العلمية القائمة على الملاحظة والتجربة.

6- النمط المثالي منهجاً لفهم والتأويل:

يشكل مفهوم النمط المثالي (Ideal Types) المفهوم المركزي المنهجي الأكثر أهمية في سوسيولوجيا ڤيبر وفي عموم نظرياته ومقولاته السياسية والاقتصادية. كما يشكل هذا المفهوم الأداة المنهجية الرئيسة التي يعتمدها في تحليل الظواهر ودراسة السلوك الإنساني في مختلف مستوياته الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والإدارية.

لما كان ڤيبر قد رفض المناهج السوسيولوجية والتقنيات التي يعتمدها علماء الاجتماع المعاصرين له والسابقين عليه في دراسة الظواهر الاجتماعية استنباطاً لقوانين المجتمع، واستكشافاً للسببية الحاكمة لها، من منطلق أن هذه المناهج لا تستطيع الخوض في عمق الظاهرة واستكشاف ماهيتها ومعانيها الداخلية، كان عليه أن يبدع منهجه الخاص في دراسة السلوك الإنساني، وأن يطوع هذا المنهج لنظريته الخاصة القائمة على فهم السلوك الإنساني واكتناه معانيه. ومن صلب هذه الحاجة إلى منهج جديد يتوافق مع رؤيته، استطاع أن يبدع منهجه الخاص الذي أطلق عليه النمط المثالي، أو الأنموذج المثالي (Ideal type) وهو يمثل منهجية متفردة يراها الأفضل في مقاربة الظواهر الاجتماعية وتحليل السلوك الاجتماعي.

وقبل أن نبدأ بتحليل الأنموذج المثالي عند ڤيبر، يجب علينا أن ننوه إلى أن الأنموذج المثالي الفيبري يقوم على أساس سيكولوجي معرفي رسخه علماء النفس وعلماء نظرية المعرفة الذين يؤكدون أن عملية الإدراك والفهم تقوم على نماذج إدراكية مرجعية لدى الشعوب والجماعات والأفراد. وتأسيساً على المعطيات السيكولوجية في علم النفس المعرفي وعلم الاجتماع المعرفي وجد فيبر ضرورة استخدام النماذج الإدراكية في عملية فهم الظواهر الاجتماعية وإدراكها ؛ لأن الإنسان لا يدرك الواقع بشكل مباشر وآلي، بل من خلال النماذج الإدراكية الكامنة في الظواهر الاجتماعــــــية وقوانينها، وكذلك في النصوص التي يقرؤها أو يكتبها، لهذا تتمثل مهمة الباحث في اكتشاف سمات الأنموذج المهيمن في مجتمع أو حضارة ما” [39].

وتأخذ النماذج الإدراكية صورة نماذج معرفية: “لكل أنموذج بعده المعرفي، وخلف كل أنموذج معايير داخلية، تتكون من معتقدات وفروض ومسلمات، وإجابــات عن أسئـلة كلـــيـة ونهائية، تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق، وتزوده ببعده الغائي”. [40]. ومن “أجل تحليل سلوك الإنسان وتفسيره، يجب بداية معرفة الأنموذج الإدراكي الذي يحدد إدراكه لواقعه، ثم بعد ذلك يتم تجريده لتوظيفه في تفسير سلوكه، وهذا ما يعـرف بالأنمـوذج التحليلي. فالباحث يستخدم الأنموذج كأداة تحليلية، من خلال رصد الحقائق والمعلومات، ثم يقوم بعد ذلك بتفكيكها والربط فيما بينها، ثم تجريدها وتركيبها بغية وضع المتشابه منها في إطار واحد” [41].

ومن هذا المنطلق وعلى هذا الأساس يبني ڤيبر نماذجه وأنماطه المثالية، ويعمل في هذا السياق على تشكيل النمط المثالي على تأسيس منظومة من المفاهيم الواضحة التي تدل على محددات ظاهرة اجتماعية محددة. ويمكن صوغ هذه المفاهيم المترابطة المتكاملة في إطار منهجي يسمح بدراسة الظواهر منهجياً، ويمكن في الوقت نفسه من فهمها واكتناه معانيها وتفسيرها. ويبدو لنا أن ڤيبر قد استلهم النص المأثور للشاعر الألماني غوتة الذي يقول: “بإن الإنسانَ لم يولد ليحل مشاكل هذا العالم، ولكن ليحدد مكمنها، وبالتالي يتمكن من ضبطها في مفاهيم واضحة[42]. وعلى هذا المنهج القائم على ضبط المفاهيم وترسيمها في إيقاعات الوضوح يرسم ڤيبر منهجه المثالي ضبطاً في المفاهيم وتكاملاً في الإيقاع ليمكنه من فهم الحقيقة وإدراك المعنى في الأفعال الاجتماعية.

وعلى الرغم من أهمية التركيز على الوضوح في الأنماط المثالية عند فيبر، فإن مفهوم النمط المثالي يحمل في طياته شيئاً من الغموض يتردد في التعريفات التي يقدمه فيبر أو تلامذته التي تعاني كثيراً من الارتباك والغموض والاهتزاز. فالأنموذج المثالي ليس مثالياً في جوهره، بمعنى المثالية الفاضلة أو التفضيلية كمثالية أفلاطون في جمهوريته الفاضلة، فالمثالية الفيبرية ليست مثالية تفضيلية بمعنى المثالية التي تسمو على الواقع تفضيلاً، وترقى عليه قيمة أخلاقية، بل هي هذه المثالية التي تتمثل في نمط معرفي مختلف، يستمد من الوقائع ويتميز بالشمولية المعنوية والدلالية. وعلى هذا الأساس يمكن للنمط المثالي أن يكون شديد السلبية (بالمعنى الأخلاقي المتفوق) مرتهنا بالموضوع الموضوع الذي يباشره، فعندما نصنع أنموذجاً مثالياً لسلوك الشر فمن المؤكد أن هذه المثالية ستكون سلبية بالدلالة الأخلاقية. وباختصار يكون النموذج المثالي مثاليا بقدر ما يعبر عن الظاهرة التي يباشرها أفضل تعبير وبالدرجة التي يكون فيها قادرا على أن يكون وسيلة منهجية أفضل في المساعدة على فهم الظاهرة التي يدرسها وتأويلها.

فالمثالية هنا لا تعني الأفضلية بل تعني أن الصورة الذهنية للأنموذج نادرة في العالم الحقيقي. وقد ذكر ڤيبر أن الأنموذج المثالي لا يحتاج أن يكون إيجابياً أو صحيحاً، جميلاً أو قبيحاً، خيراً أو شريراً، بل قد يكون سلبياً مجافياً للقيمة الأخلاقية، وبعبارة أخرى لا تعني كلمة المثالية أمراً يخلو من العيوب والسلبيات، بل هي تعبير عن وضعية واقعية أنموذجية تلتئم فيها صفات وضعية محددة تعبر عن واقع تاريخي محدد لظاهرة اجتماعية. والأنموذج المثالي لا يعدو أن يكون أكثر من أداة منهجية تعتمد في تحديد نظام فكري، أو ظاهرة اجتماعية محددة في سياق تاريخي محدد، وهو أداة توفر للباحثين منهجية فعالة في استقراء الظواهر الاجتماعية وفهمها[43].

وهذا يعني أن النماذج المثالية يجب أن تكون أداة يقاس بها المدلول أو الظاهرة المدروسة، ويتطلب ذلك أن يكون لها معنى في ذاتها، وأن تساعد على استكشاف المعنى في واقع الظاهرة المدروسة؛ أي في العالم الحقيقي.

يرى ڤيبر أن هذه النماذج قد تكون قادرة على وصف الظواهر الطبيعية أيضاً بالإضافة إلى الظواهر الحيوية والاجتماعية.. ومن أجل ذلك وضع ڤيبر نماذج لمختلف الظواهر التي قام بدراستها من مثل: البيروقراطية والفعل الاجتماعي والسلطة، وقد أوضح في سياقات متعددة أن النماذج المثالية يجب أن تكون متغيرة أيضاً ويجب أن يجري العمل على تطويرها بصورة مستمرة في ضوء الدراسات التي تتم بين الحين والآخر؛ لأن النماذج المثالية ليست معطيات نهائية جامدة، بل هي نماذج وأدوات منهجية حيّة لا تخضع للتغيير والتعديل فحسب، بل يجب أن تخضع للتغيير والتعديل بصورة مستمرة لتكون أكثر قدرة على التكيف المنهجي في دراسة الظواهر التي تباشرها بالدراسة والتحليل، وهذا الأمر ينسجم إلى حد كبير مع رؤية ڤيبر أنه في العلوم الاجتماعية لا توجد مفاهيم سرمدية[44].

وفي عود على بدء، فإن الأنموذج المثالي يأخذ صورة تشكيلة ذهنية إبيستيمولوجية من المفاهيم المستوحاة من الواقع تتميز بدرجة عالية من الوضوح، والدّقة، والضّبط، والثّبات، التي يمكن اعتمادها منهجياً في فهم ظاهرة سلوكية أو اجتماعية أو فعل اجتماعي مهما يكن نوعه، وهو المنهج الذي يستعيض فيه الباحث عن المناهج العلمية المطبقة في الطبيعية؛ لأن فهم الظاهرة الثقافية الاجتماعية يختلف عن فهم المادة الجامدة التي يمكن ضبطها كمياً ورقمياً بأدوات علمية تجريبية، كما يجري في دراسة الظواهر الفيزيائيّة والكيميائية.

فالفعل الإنساني الاجتماعي يشكل نسقاً من التفاعلات النّفسيّة العاطفية والأخلاقية التي لا يمكن ضبطها بالمقاييس العلمية، وهي على خلاف ذلك مهيأة للفهم والتأويل، ومن ثم التفسير وفقاً لمنطق الكيفيات، ويمكن التنبؤ بها في المستقبل، وهذا هو الأمر الذي يؤديه النمط المثالي بوصفه أداة للفهم والتعليل والتأويل [45].

ويمكن تعريف النمط المثالي أيضاً على أنه “الصورة التي تتشكل في الذهن حول موضوع محدد وتقاس عليها الأشياء الأخرى؛ للحكم على مدى انطباقها عليها أو ابتعادها عنها بقصد معرفتها، وقد تعكس الصورة حقيقة مادية ملموسة في الواقع، أو فكرة عقلية مستخلصة من تجربة يعيشها الفاعل، ولكنها ما أن تصبح معياراً للحكم على الأشياء الأخرى حتى تصبح أنموذجاً يوجه الفاعل، بصرف النظر عن منطقيته، أو تطابقه مع حقيقة الشيء خارج الذهن” [46]. وهذا يعني أن النمط المثالي هو أداة منهجية تتمثل في تنظيم متكامل لمجموعة من المفاهيم المعيارية التي تعتمد في تناول الظواهر الاجتماعية ودراستها ومقارنتها، وهي تستخدم لفهم الظواهر وتأويلها والتنبؤ بمصيرها.

وباختصار يمكن تعريف النموذج المثالي مرة أخرى بالقول: إنه نسق مركب من المفاهيم يبنيه عالم الاجتماع لدراسة الظواهر الاجتماعية والإحاطة بمعالمها وفهمها وإدراك معانيها. ويضرب لنا جورج رايتز (George Ritzer) مثالاً على ذلك يتعلق بالمعركة العسكرية النموذجية المثالية. فالحرب تشتمل على مكونات أساسية من مثل: الجنود، والجيوش المتحاربة، والقادة المخضرمون، والاستراتيجيات المتعارضة، والأرض المتنازع عليها، والأسلحة المستخدمة، والتكتيكات العسكرية، وقوى الإمداد والدعم، ومراكز القيادة، وخواص القيادة. وهذا يعني وجود مجموعة من المفاهيم التي تصف الحرب، وهي تشكل الأنموذج المثالي أو النمط المثالي.

ومثل هذا الأنموذج يجب أن يعتمد كأداةً منهجيةً تساعد الباحث في دراسة أي حرب من الحروب الممكنة، وهو مع ذلك أنموذج لم يولد خارج السياق الاجتماعي في فضاء سرمدي، بل تم نحته واستيحاءه من تاريخ الحروب والمعارك. وعندما ندرس حرباً أو معركة حقيقة في الواقع نقوم بتطبيق هذا الأنموذج، وننظر من خلاله إلى ما يحدث في حرب على الأرض، وقد لا تكون المفاهيم المستخدمة في الأنموذج جميعها مطابقة لما يجري في الواقع، وفي ضوء المقارنة بين الأنموذج الذهني المكون من المفاهيم الدقيقة يمكننا أن نفهم طبيعة الحرب التي ندرسها ونقرر سماتها وصفاتها ومآلاتها، ويمكن أن نعلل الأسباب التي جعلت طرفاً من الأطراف يهزم في الحرب والطرف الآخر ينتصر. ومن الواضح أن “الأنموذج المثالي” يستنتج من معطيات الواقع الحقيقي للتاريخ الاجتماعي، وهذا يعني يجب على الباحثين أن يغوصوا في الواقع التاريخي لاستلهام النماذج المثالية وتشكيلها[47]. ويبين ڤيبر أن النماذج المثالية ليست مرايا عاكسة للواقع الحقيقي مع أنها مستمدة منه، ولا يمكنها أن تعكس العالم الواقعي بدقة مرآتيه، وهي لا تتعدى أن تكون صورة قريبة منه لا مطابقة لسماته وخصائصه[48].

وفي هذا السياق مراراً وتكراراً يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار، أن النماذج المثالية أدوات منهجية تساعد الباحث في استكناه القضايا الميدانية التي يدرسها. وأفضل تعريف للأنموذج المثالي يتمثل في مقولة لاخمان (Lachman) الذي يصفه بأنه “عصا للقياس” [49]. وقد حدد ڤيبر وظيفته بالقول: “إن وظيفته هي المقارنة مع الواقع الميداني من أجل تحديد انحرافاته أو تماثله لوصفها بأكثر المفاهيم وضوحاً وسهولة للفهم وتوضيحهما وفهمها تعليلياً” [50].

وهذا الأمر يؤكده أنتوني غيدنز (Giddens) إذ يرى بأن الأنماط المثالية تشكل ” نماذج مفهومية تحليلية يمكن استخدامها لفهم العالم. وقلما توجد هذه النماذج في العالم الواقعي، وربما لا توجد على الإطلاق. وفي أغلب الحالات تتضح جوانب أو ملامح قليلة منها في الواقع. غير أن هذه النماذج الافتراضية قد تكون مفيدة جداً، عندما نحاول فهم الأوضاع الفعلية في العالم بمقارنتها بواحد من هذه الأنماط المثالية. وفي هذا السياق، تكون الأنماط المثالية بمثابة نقطة مرجعية ثابتة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النمط المثالي لم يكن يعني بالنسبة إلى ڤيبر أن هذا التصور قد وصل حدود الكمال أو حق الهدف المنشود. وما كان يعنيه ڤيبر أن الأنموذج يمثل صورة صافية لظاهرة ما، وقد استخدم ڤيبر هذه النماذج المثالية في تحليله لأشكال البيروقراطية والسوق ” [51].

ويمكن في النهاية تعريف الأنموذج المثالي بصورة بانورامية على أنه: “أنموذج عقلي ومنطقي ومثالي صالح لوصل الوقائع الواقعية المعطاة، بالتركيز على مكوناتها وسماتها وعناصرها، وإبراز خصائصها المشتركة والمميزة والمترابطة فيما بينها، كما يجسد المثال الواقع المرصود، ويختزله في أنموذج فكري واضح ومتناسق ومنسجم. ومن ثم، فهدف الفهم هو البحث عن معنى العناصر المكونة للواقع المجتمعي، واستكشاف دلالاته الرمزية بتأويلها وإدراكها إدراكاً مباشراً. ويعني هذا أن الفهم يدرك الظواهر المجتمعية إدراكاً سليماً، ويحس بها إحساساً مباشراً، ويدركها دون معالجات تجريبية أو تفسيرية أو إحصائية، ودون أي استدلال أو استنتاج مباشر. وهي تظهر للعقل ظهوراً بديهياً، كما لو كانت يقيناً لا يضيف إليه الاستدلال شيئا ” [52].

وفي هذا السياق يحدد ڤيبر الكيفية التي يتم فيها تشكيل النماذج المثالية ويعين لنا مصادرها، فالأنماط المثالية تستلهم وتستنتج من العالم الحقيقي للتاريخ الاجتماعي ويوجه الباحثين إلى استلهام الواقع التاريخي الذي يشكل الخزان الطبيعي الخام للنماذج المثالية.[53].

وأخيرا، وباختصار شديد، يمكننا تعريف الأنموذج المثالي بأنه تشكيل ذهني أو بناء عقلي، يتضمن نسقاً من المفاهيم الواضحة المجردة على نحو لا يماثله شيء في الواقع الميداني. والأنموذج يشكل أداةً منهجيةً تساعد الباحث في دراسة الظواهر الاجتماعية الميدانية وفهما وتفسيرها وتأويلها، ويمكن استخدام الأنموذج المثالي بوصفه أداةً للمقارنة بين الظواهر المتماثلة في موضوعها، وعلى هذا النحو يمكن القول: بإن الأنموذج المثالي تشكيل ذهني نقي تم صوغه تجريدياً بعيداً عن كل أشكال التحيزات الأيديولوجية، وتحقيقاً لأعلى درجة من الموضوعية.

7- أمثولات النمط المثالي:

يرى أغلب المهتمين بالمنظور السوسيولوجي عند فيبر، أن مسحة من الغموض تلف مفهوم الأنموذج المثالي الذي يتميز بصعوبته وتعقيداته التي يصعب على التعريفات المجردة أن تلمّ به على مرتسمات الوضوح الكامل، وبعبارة أخرى يعاني مفهوم الأنموذج المثالي من الغموض الذي ينفلت من قبضة التعريفات المجردة. ومن أجل استكشاف هذه النماذج المثالية ومعرفتها بشكل جيد، قد يكون من الأفضل لنا، عندما نريد التعريف بالأنموذج المثالي، أن نستعرض بعضاً من النماذج التي وظفها ڤيبر في دراسته للظواهر الاجتماعية. وقد سبق لنا أن قدمنا في فقرة الفعل الاجتماعي الأنموذج المثالي للفعل الاجتماعي الذي تميز بالأنماط الأربعة (العقلاني والقيمي والتقليدي والعاطفي) المشار إليها آنفاً، وقد شكل هذا التصنيف للفعل الاجتماعي منطلقاً إلى نمذجة مختلف الظواهر الاجتماعية القائمة في المجتمع، ولاسيما أنماط السلطة، والنمط البيروقراطي، وغيرها من الأنماط المثالية الخاصة بكل ظاهرة من الظواهر المجتمعية، وسنعمل في التالي على استجلاء ثلاثة أنماط مثالية أساسية رئيسة في سوسيولوجيا فيبر، هي: الأنموذج المثالي للفعل الاجتماعي، والأنموذج المثالي للبيروقراطية، والأنموذج المثالي للسلطة.

7-1- الأنموذج المثالي للفعل الاجتماعي:

يأخذ الفعل الاجتماعي مكانه في الأعماق السحيقة لسوسيولوجيا ڤيبر ويشكل موضوعها الأساسي. فالفعل الاجتماعية يشكل جوهر النظرية الاجتماعية عند فيبر، إذ يشكل الفعل مصدراً لكل الظواهر الاجتماعية الأخرى في مجال الدين والسياسة والحقوق والأخلاق والسيكولوجيا البشرية. وتأسيساً على هذه المركزية الخلاقة للفعل الاجتماعي كان على ڤيبر أن يحدد اتجاهاته ويرسم تضاريسه، وأن يضع له الصيغة النمطية التي تناسبه. ومن صلب هذه الحاجة الإبيستيمولوجية يقدم ڤيبر أربعة أنماط مثالية للفعل الاجتماعي: [54]

7-1-1 – الفعل العقلاني الغائي: وهو الفعل الذي يقوم على المناظرة العقلية والدراسة الموضوعية للبواعث والأسباب والغايات، ويسعى هذا النمط السلوكي إلى تحقيق غايات معلومة، وفي العقل محددة ومرسومة. ويمكن وضف هذا النمط من الأفعال بأنه: كل فعل اجتماعي يقوم به الفاعل وفقاً لمخطط ذهني يحدد فيه الجوانب المطلوبة والخطوات التي يجب أن تتخذ لبلوغ الهدف المرسوم بصورة عقلانية وموضوعية، تقوم على نسق الترابط بين العلة والمعلول، بين الأسباب والنتائج. فعلى سبيل المثال: إذا أراد الطالب أن ينجح في المدرسة ويتفوق فعليه أن يبذل الجهد ويكرس الوقت في الدراسة، وأن يسهر الليالي، وأن يثق بنفسه، وأن يكون صاحب إرادة عالية، وأن ينصت إلى معلميه، وألّا يضيع وقته في اللهو والتسلية، وهذا يعني أنه يجب عليه أن يحسب أهمية كل عنصر من عناصر النجاح، وأن يتخذ قراراً لا رجعة فيه بتحقيق الغاية، وهي النجاح والتفوق في المدرسة.

وباختصار يمكن القول: إن: الفعل العقلاني هو الفعل الذي يتميّز بالتعقّل والمنطق والعقلانية ويهتدي بالتبصر والاستبصار والبصيرة ويعتمد الإدراك الثاقب للأمور والقضايا والمشكلات، ويوجه نحو تحقيق هدف محدد يرغب الفاعل بتحقيقيه، ويكون قادراً على توفير الشروط المناسبة لتحقيقه، ويشعر بأنه يمتلك القدرة على تحقيق هذا الهدف. ومثال ذلك: “المهندس الذي يصمم بناءً معيناً أو الشخص المضارب في سوق الأوراق المالية الذي يهدف إلى تحقيق مكسب مالي، أو القائد الحربي الذي يريد أن يحقق نصراً ما، وأفعال هؤلاء جميعاً أمثلة تدل على نمط الأفعال العقلانية التي ترتبط بتحقيق هدف معين” [55].

7-1-2 – الفعل العقلاني القيمي: وهو فعل يقوم على نسق من القيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية، من مثل: قيم الإيثار والتضحية والمحبة والإحساس بالجمال والإيمان بالله [56]. ويمكن القول: إن الفعل العقلاني القيمي يتمثل في أي فعل إنساني يقوم به فاعل اجتماعي يستلهم من قيمة أخلاقية إنسانية، ويشترط بالفعل الأخلاقي أن يكون عقلانياً؛ أي ألّا يكون عاطفياً أو انفعالياً أو تقليدياً. ومثال ذلك عندما يضحي الجندي في أرض المعركة، وهو يدرك أن تضحيته تتم استجابة لقيم أخلاقية تتمثل في حب الوطن والدفاع عنه، ومثال ذلك أيضاً ربان السفينة الذي يضحي بنفسه من أجل إنقاذ السفينة بما تحمل. ومثل السباح الذي يضحي بنفسه لينقذ غريقاً، أو الطبيب الذي يغامر بنفسه ويخوض في أجواء الأوبئة القاتلة لحماية مرضاه ومساعدتهم، ومثال أيضاً الإنسان الذي يقوم بجمع التبرعات لصالح الفقراء والمساكين، وهذا الفعل يشمل أي نشاط أو سلوك يقوم على أسس قيمية وأخلاقية أياً كانت مستوياته.

7-1-3 – الفعل العاطفي الانفعالي: ويتمثل في أي سلوك إنساني تحركه العواطف والجوارح والميول العاطفية والانفعالية، وفي هذا السلوك تغيب المبررات العقلية، ومثال ذلك قضايا الحب والعشق والغرام وما ينجم عن هذه العاطفة الجياشة من حب وتضحية ووفاء وعرفان، وكذلك عاطفة الأمومة التي ترتبط بأروع أمثلة التضحية التي تبذلها الأم لأبنائها وأطفالها. ويتضح أن السلوك العاطفي لا يخضع للعقلانية ولا يسعى إلى تحقيق هدف خارجي، بل هو في فعل عاطفي انفعالي وجداني، تحركه المشاعر الداخلية والأحاسيس الإنسانية العميقة. وهذا ما يوضحه المثل الشعبي الذي يقول: “بإن الحب أعمى ” وهذا يرمز إلى السلوك اللاعقلاني الذي يقوم بها المتيمون بالحب.

ويمكن القول باختصار: بإن الفعل العاطفي ينبع من العمق الوجداني للفرد ولا يأبه للعقل والعقلانية على الوجه الأعم.

7-1-4 – الفعل التقليدي: وهو أكثر أنماط الفعل هيمنةً وحضوراً وسطوةً في السلوك البشري. والفعل التقليدي يوجه بقوة الأعراف والتقاليد والقيم الاجتماعية السائدة، وعلى هذا النحو تمارس الثقافة السائدة في مجتمع ما تأثيراً ضاغطاً في أفرادها يتمثل في الأعرف والتقاليد الاجتماعية التي تسود وتهيمين في المجتمع. ويكون السلوك الإنساني في ظل هذه القوة الثقافية التقليدية قائماً على الإذعان والخضوع والامتثال، مع أن كثيراً من أوجه هذه القيم التقليدية تكون متنافية متعارضة مع المنطق والأخلاق، أو المنظومة القيمية عند الفرد الممتثل لها بقوة العادة والعرف والتقليد. والفعل التقليدي، أو الموجه بالتقاليد ينتشر في المجتمعات العربية بشكل واسع، فعلى سبيل المثال: تستخدم المرأة العربية في بعض المناطق التقليدية الحناء لرسم الزخارف والأوشمة على الكفين في المناسبات السعيدة كـيوم الزواج[57]، كما تقوم المرأة الغربية اليوم باستخدام الأوشام الإلكترونية (التاتو) وهو نمط سلوكي أصبح مألوفاً في بعض الثقافات التقليدية الغربية. ومثل هذه المظاهر متواترة في تقاليد الزواج والولادة والأعياد.

 وتتشكل معايير السلوك التقليدي وقيمه عبر عمليات التنشئة الاجتماعية التي تبدأ مع مرحلة الطفولة المبكرة، إذ يتشكل الفرد على قيم المجتمع ومعاييره وأخلاقه ويتشبع بثقافته، فيتشكل على صورة أنموذج ثقافي للمجتمع الذي يعيش فيه ويتمرس بأخلاقياته وقيمه ومعاييره.

7-1-5 – الفعل الاجتماعي الموجه بعدة بواعث:

على الرغم من وضوح الحدود الفاصلة بين الأنماط الأربعة للفعل، فإن هذه الحدود قد تتداخل أطيافها في بعض الأنماط السلوكية الواقعية. ويمكن الملاحظة في هذا السياق تداخل ما هو عقلي بما هو عاطفي في السلوك الإنساني، وقد نرى هذا التداخل ما بين الفعل التقليدي والفعل العقلاني، وفي أحيان قد تتداخل هذه الأطياف الأربعة في سلوك أو فعل إنساني واحد، الذي يمكنه أن ينطوي على عدة أبعاد مختلفة من الفعل، كأن يجتمع العقلي بالعاطفي بالتقليدي بالأخلاق في موقف واحد. وهذا ما يشير إليه ڤيبر ويتحدث عنه معلناً أن الفعل الواحد قد يكون موجهاً بعدة بواعث. ويمكن أن نورد مثالاً يتعلق بإعلان أحد أساتذة الجامعة بالتوقف عن التدخين. ويمكن أن يكون هذا القرار محمولاً على عدة بواعث [58]:

1– “باعث عقلي: لأن التدخين مضر بالصحة كما أثبتت الأبحاث الطّبية والنّفسيّة، فهذا هو النوع الأول من أنماط الفعل.

2- باعث قيمي: لأنه أستاذ جامعي فهو يريد أن يحقق في شخصه مفهوم القدوة لطلبته، لذلك فقد عدل عن التدخين، وهذا هو النوع الثاني من أنماط الفعل.

3- باعث عاطفي: لأن زوجته تكره رائحة التدخين، وحبه لها يدفعه لتجنب إزعاجها بهذه الرائحة الكريهة، لذلك ترك هذا الفعل السيء، وهذا هو النوع الثالث من أنماط الفعل.

4- باعث تقليدي: التقاليد الأكاديمية لا ترى أن وجود أستاذ جامعي مدخن شيء مألوف، بل هي لا ترحب بمثل هذا الفعل، لذلك تماشياً مع تقاليد العمل الأكاديمي أقلع عن التدخين، وبالتالي هذا هو النمط الرابع من الأفعال “[59].

ويمكن أن نضرب مثالاً آخر على ذلك سلوك الزواج، فالزواج في قد يكون قائماً على عدة بواعث في آن واحد، عقلية وانفعالية عاطفية وتقليدية:

عاطفي: فقد يكون الباعث إليه علاقة حب بين رجل وامرأة.

عقلاني: الزواج يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي والعاطفي.

تقليدي: التقاليد تؤكد أهمية الزواج وضرورته.

قيمي: لأن الزواج يشكل مؤسسة يتبادل فيها أفراد الأسرة قيم الحب والتضحية والوفاء والتعاون.

وباختصار تمثل هذه الأنماط الأربعة التي سقناها للفعل الاجتماعي أربعة نماذج مثالية للفعل الاجتماعي ومثل هذه النماذج لا يمكن أن توجد في الواقع كما هي لأنها تصورات ذهنية مستمدة من الواقع.

7-2- الأنموذج المثالي للبيروقراطية:

ويشار إلى الأنموذج المثالي البيروقراطي الذي وظفه ڤيبر في دراسة الظاهرة البيروقراطية، من أكثر النماذج وضوحاً وتقانةً ومنهجيةً. يرى ڤيبر في هذا السياق أن البيروقراطية تشكل جوهر السلطة الإدارية في النظام الرأسمالي ويأخذ هذا المفهوم مركزيته في نظريته المتعلقة بتنظيم الدولة، ويرى ڤيبر في هذا الخصوص أن البيروقراطية تشكل أنموذجاً للسيادة الشرعية العقلانية للنظام الرأسمالي، ويعتمد بوصفه منهجاً لترسيخ الموضوعية الكاملة في العمل الإداري، محرراً إياه من كل أشكال التحيزات الذاتية والعاطفية والإنسانية. ويرى ڤيبر أن الظاهرة البيروقراطية تعتمد على ركيزتي العقلانية (Rationality) والكفاية (Efficiency) وكلاهما يؤكد أن النشاطات والسلوكات في المؤسسات البيروقراطية يجب أن تتجه إلى تحقيق أهداف المؤسسات الإدارية في أقل درجة من الجهد والتكلفة والوقت المبذول للوصول للأهداف. وينطوي هذا الأنموذج المثالي البيروقراطي على نسق من المفاهيم الأساسية أهمها: [60]

1– تسلسل السلطة: أي أن تكون السلطات متدرجة بشكل هرمي يكون على رأسه الإدارة العليا، بحيث تتدرج السلطة، ومن خلال هذا التسلسل الهرمي يمكن ضمان التنسيق بين مختلف النشاطات في المنظمة، وكذلك ضمان اتجاه تلك النشاطات نحو تحقيق الهدف.

2-اللوائح والقوانين: أي تنظيم النشاطات والسلوكيات وفق لوائح وأنظمة وتعليمات واضحة ومعروفة.

فصل الإدارة عن الملكية: إذ لا يشترط أن تكون الإدارة في يد مالكيها.

3- الموضوعية: أي أن العلاقات الموجودة في المنظمة ليست علاقات شخصية، وإنما علاقات تنظيمية تسير وفق القوانين واللوائح التي تحددها المنظمة.

4-التخصص: أي لا يسند العمل لأي فرد إلا في مجال تخصصه، وبالتالي تتكون لديه الخبرات والمهارات التي تؤدي إلى إتقانه العمل.

5- تقسيم محدد بشكل دقيق للعمل الوظيفي، يرافقه تحديد الصلاحيات والحقوق والواجبات. [61]

6- تسلسل هرمي للوظائف تحدد فيه آليات الهيمنة والخضوع، بحيث يجد كل مستوى نفسه تحت سيطرة مستوى أعلى منه.

7- قواعد قانونية وفنية موضوعية وعمومية (لا شخصية) تحدد السلوك الواجب اتباعه والتي يتطلب تطبيقها تشكيلات متخصصة يتمتع موظفوها بمؤهلات محددة، ويتم تعيينهم بعد اجتياز اختبارات معينة..

8- الفصل بين الموقع الإداري وشاغله: لإلغاء حالة التملك للمركز الإداري وأدواته من قبل شاغله، أي الفصل بين الحياة الشخصية والوظيفة لمنع توريث الوظائف.

9- الرواتب: يتم احتساب رواتب نقدية للموظفين تتدرج بحسب المرتبة والموقع في السلم الإداري، وبحسب طبيعة المهنة.

10- الترقية التدريجية بحسب الأقدمية وعلى أساس معايير موضوعية.

11- الاستمرارية والثبات للوظيفة العامة بحيث تجري ممارستها بشكل دائم في مأمن من التقلبات السياسية[62].

ومثل هذا الأنموذج يشكل أداةً منهجيةً يمكن اعتمادها بفعالية من قبل الباحثين في دراسة أي مؤسسة أو منظمة بيروقراطية، وفهم طريقة عملها ودرجة نجاحها ومدى قدرتها على تمثل أهدافها، ويساعد على تحديد أوجه القوة والضعف في النظام الإداري البيروقراطي القائم في أي مؤسسة بيروقراطية كانت، كما يمكن توظيفه لدراسة النظام البيروقراطي في أي مجتمع من المجتمعات الراهنة.

7-3- الأنموذج المثالي للسلطة والسيادة:

شكل مفهوم السلطة أو السيادة أحد أركان النظرية الفيبرية في علم المجتمع، ومدخلاً أساسياً من مداخل فهم المجتمع والدولة والسياسة. ولا ريب في أن ڤيبر كرس كثيراً من الجهد والعمل المضني المتواصل في دراسة مسألة السلطة، وتحليل معطياتها واستكشاف كيفياتها واستقصاء دورها المركزي في الحياة الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الإنسانية عبر التاريخ. وقد بيّن ڤيبر أن الدولة تقوم على بنية السلطة، ويكمن جوهرها في العلاقة السيادة بين الحاكم والمحكوم، وأن سلطة الدولة تقوم على العنف المشروع الذي يشكل شرطاً أساسياً من شروط قيام الدول واستمرارها. وقد بين أيضاً أن السلطة ضرورة وجودية في تشكيل المجتمعات السياسية، إذ لا يمكن لأي تجمع سياسي عبر التاريخ أن يكون من غير اعتماد شكل من أشكال السلطة التي تخول حاكماً أو سلطاناً أو زعيماً سياسياً أو زعيماً دينياً أو طبقةً سياسيةً اجتماعيةً ما بتوجيه المجتمع وإدارته والتحكم بمصادره. ويرى ڤيبر أن السلطة (Authority)، أي سلطة، تحاول أن تتخذ لها غطاءً شرعياً دينياً أو سحرياً أو لاهوتياً أو وضعياً وتأخذ هذه الشرعية ثلاثة مستويات: السلطة التقليدية (Traditional)، والسلطة الكارزمية (Charismatic)، والسلطة الوضعية (Positive)، وعلى هذا الأساس فإن الشرعية التقليدية تؤسس للسيطرة التقليدية، من مثل: الحكومات الملكية المتوارثة، أو السلطة في المجتمعات الإقطاعية، والشرعية الكاريزمية للسيطرة الكاريزمية التي تعتمد على سمات الفرد الزعيم ومزاياه، والشرعية القانونية التي تعزز السيطرة العقلانية للبيروقراطية – القانونية. ويقابل نماذج السيطرة هذه نماذج – من مثل: الأنظمة السياسية: ملكيات، دكتاتوريات، حكم برلماني عقلاني) مقرونة بنماذج نخبوية قديمة، أنبياء موظفون[63].

7-3-1- السلطة الكارزمية (charismatic authority)

يتجلى مفهوم الكاريزما [64] قديماً في الدلالة على معنى النعمة الإلهية التي تضفي على الفرد الكارزمي مزاياً استثنائيةً، من مثل: القوة، والجمال، والحكمة، والقدرة على التنبؤ، وإحداث التغيير في المجتمع، من أجل الخلاص الأبدي للشعوب والأمم مثل المسيح المنتظر. وعلى خلاف هذه الرؤية الدينية لمفهوم الكاريزما بنكهة النعمة الإلهية يرى ڤيبر أن الكاريزما نتاج اجتماعي لشخصيات استطاعت أن تتمثل قيم القوة والإلهام والتأثير في المجتمع، وتأسيساً على هذه الرؤية تتمثل السلطة الكاريزمية في الإيمان بوجود الفرد الذي يمتلك قدرة استثنائية مخصبة بجاذبية سحرية تشد إليها الجماهير، وتدفعهم إلى طاعته والرضوخ له والتضحية من أجله. ويرى ڤيبر في هذا السياق بضرورة نزع السحر عن الساحر الكارزمي، فالكارزمي كائن اجتماعي وهو ليس بالقديس، ولا يمتلك في ذاته على هالة القداسة الروحية، بل هو كائن اجتماعي تشكل في العمق الاجتماعي، واستطاع في الوقت نفسه أن ينجح في إثارة إعجاب الآخرين وتقديرهم وإيمانهم برسالته الدينية، أو الاجتماعية، أو السياسية، وفي قول آخر: تكمن السمة الأساسية للقادة الكاريزميين في مدى قدرتهم على إقناع الآخرين بعظمة فعلهم وقوة إرادتهم وعمق رسالتهم وشمول غاياتهم الإنسانية.

وتأخذ السلطة الكارزمية صورة نوع من السيادة يتصدرها قائد ملهم، يمتلك في ذاته هالة سحرية مغناطيسية جاذبة للآخرين مستحوذاً في الوقت نفسه على خصائص شخصية مميزة تفوق ما يوجد لدى البشر العاديين. وتتميز شخصية الكارزمي بالقوة والصلابة والسحر الشخصي والإلهام الخارق والقدرة على الـتأثير في الآخرين وإلهامهم، بوصفه ملهماً للمعاني ورمزاً للخلاص الإنساني. وتتجلى هذه السمة الكارزمية في ولاء الناس وطاعتهم وانجذابهم إلى القائد الفذ الملهم الذي يتمتع بقدرات نادرة فائقة، من مثل: البطولة، والعقلانية، والحكمة، والقدرة على التأثير الملهم في الجماهير، وهي سمات نادرة قلما تتوفر في الآخرين من البشر، وغالباً ما يعتقد الأتباع والمريدون بأن الأوامر التي يصدرها الزعيم الكاريزمي تأخذ طابعاً قدسياً، مقدسة لا تقبل التفكير والتساؤل أو الجدل.

ويمكن القول في صياغة أخرى: إن الكارزمية تبع من سمات التفرد والفرادة التي تميز القادة والزعماء وتبرز في التأييد الذي يحاطون به من قبل الجماهير التي تنظر إليهم بوصفهم شخصيات فائقة على عامة الناس والبشر. والكارزمية تمثل في النهاية صورة المثال الذي ترسمه الجماهير في مخيلتها عن القائد الملهم المنقذ الذي تعلق عليه الآمال في تحقيق طموحات الأمة وأحلامها المستقبلية ([65]).

ومن الأمثلة التاريخية على هذه الشخصية الأنبياء والرسل والقادة العظام أمثال: نابليون وكونفيشوس في الصين، وبوذا وغاندي في الهند، وسبارتاكوس في روما القديمة، ونيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، وصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس في مصر المملوكية، وتشي غيفارا وفيدل كاسترو في كوبا وبوليفيا، المهاتما غاندي في الهند، ومارتن لوثر وكنيدي في أمريكا. ويرى ڤيبر في هذا السياق أن الأفراد الكارزميين الملهمين مارسوا دوراً كبيراً في توجيه الأحداث التاريخية في تاريخ الحضارة، وأحدثوا تغيرات مهمة في تاريخ المجتمعات الإنسانية، ومن يقرأ التاريخ سيرى أن الثورات والانقلابات والتحولات الكبرى كانت على أيدي شخصيات ملهمة من مثل: شخصيات الأنبياء والرسل والقادة العظام، وقد بين ڤيبر أن السلطة الكاريزمية ارتبطت بداية بالأديان ومن ثم بدأت تأخذ طابعاً سياسياً واجتماعياً في العصور الحديثة. وقد لمّح بعض المفكرين إلى الاحتمال الكبير بأن تكون نظرية ڤيبر الكارزمية قد بشرت بظهور الزعيم النازي الألماني هتلر عام 1933، وهي الشخصية الكارزمية التي أثارت عواطف الشعب الألماني وأشجانه في أعقاب الهزيمة المذلة التي تعرضت لها ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى [66]. ويرجح أن ڤيبر قد تنبأ بظهور قائد سياسي كاريزمي في دولة ديمقراطية علمانية عقلانية، لا في دولة فاشية توتاليتارية، كما هو حال الدولة النازية في ألمانيا الهتلرية[67].

7-3-2- السلطة التقليدية (Traditional authority):

تتجلى السلطة التقليدية في الإيمان بالطابع المقدس للتقاليد وفي مظاهر الخضوع للقادة والزعماء الذين يفرضون مشروعية سلطتهم باسم الأعراف والتقاليد السائدة في مجتمع ما. فالسلطة التقليدية تستمد مشروعيتها من قدسية التقاليد ومن سلطة الماضي الأبدية، وتكتسب قدسيتها من هيمنة الأعراف وسمو القيم الاجتماعية التقليدية المستمدة من أعماق الماضي ومن مهابة الأسلاف، إنها سلطة العادات المقدسة بقيمتها العريقة التي فرضت على الإنسان قوة سيكولوجية، تفرض عليه احترامها وتقديرها وتقديسها والخضوع لها. وتلك هي السلطة التقليدية الأبوية التي كان الأباطرة والملوك والكهنة يمارسونها في الماضي في الأنظمة العبودية والإقطاعية، وما زال هذا التقديس يطل علينا اليوم في ألف وجه ووجه من تقاسيم الزمان الحاضر.

ويمكن القول بصيغة أخرى: إن “السلطة التقليدية تستند إلى قدسية التقاليد والإيمان بخلود الماضي، وبمقتضاها ينظر الناس للنظام الاجتماعي القائم بوصفه مقدساً وخالداً وغير قابل للانتهاك” [68]. وقد يصح هنا القول: بإن السلطة التقليدية تستوحي سلطة الماضي الأبدية المتمثلة في سلطة العادات المقدسة التي تأصلت في وعي الإنسان على صورة رمزية لا حدود لسلطانها وقدرتها على الامتثال في العقل خضوعاً ووضوحاً واستسلاماً [69]. ولا ريب في القول مجدداً: ” إنها نفوذ ” الأمس الأزلي وهيمنة التقاليد المقدسة المتجذرة في وعي الإنسان وفي أعمق تكويناته الذهنية الباطنية اللاشعورية. وهذه “هي “السلطة التقليدية ” التي كان الملوك والإقطاعيون والأسياد في ماضي الأزمان وسوابق الدهر والأيام. وباختصار: السلطة التقليدية هي صورة نفوذ سياسي أو اجتماعي أو ديني يقوم على “السحر الشخصي الفائق لفرد ما يتفرد بصفات شخصية خارقة للطبيعية الإنسانية. [70].

7-3-3- السلطة الوضعية أو العقلانية (Rational Authority)

تتسم السلطة العقلانية بمبدأ سيادة العقلانية وسطوة القوانين الوضعية في الدول الحديثة، ولا سيما في الدول ذات الأنظمة الرأسمالية. فالدولة الرأسمالية البيروقراطية الحديثة بددت هالة القداسة التي فرضتها التقاليد الماضوية على مشروعية الملوك والأباطرة ورجال الإقطاع والأسياد، واستبدلت شرعية التقاليد بشرعية القوانين والأنظمة البيروقراطية القائمة على منطلقات العقلانية والمشروعية الديمقراطية القائمة على القيم الليبرالية، والمشاركة السياسية عبر صناديق الاقتراع والانتخاب، والتمثيل الديمقراطي الموجه على نحو عقلاني وعلماني وبيروقراطي، يتم فيه اختيار الممثلين عن الأمة إلى المجالس النيابية الديمقراطية التي ينتظم مسارها وفق دساتير علمانية تم تأسيسها وتأصيلها بإرادة المجتمع ومشاركة مختلف طبقاته السياسية والاجتماعية.

يدافع ماكس ڤيبر عن الفعل العقلاني الهادف، والهيمنة الشرعية القانونية، وهما أساس الليبرالية البيروقراطية العاقلة والراشدة. وفي هذا الصدد، يقول ماكس فيبر: “يتطلع كل علم إلى الحقيقة. والحقيقة التي يتطلع إليها العلم تكون إما عقلانية ورياضية ومنطقية، وإما لاعقلانية شعورية. والحقيقة العقلانية، في النشاط والفعل هي، قبل كل شيء، فكرية واضحة تمام الوضوح (2+2=4). وأما الحقيقة اللاعقلانية والشعورية، في النشاط فهي، قبل كل شيء، وجدانية… [71].

فالإيمان بقانونية النظام وشرعيته يحيل إلى قوة القانون، بوصفها قاعدةً شاملةً مجردةً لا شخصية، إن الإدارة الحديثة تمثل صيغة الأنموذج – المثال للسيطرة العقلانية المشروعة وهي الشكل الذي تتجلى فيه العقلنة، أي النفوذ المتنامي لعقلانية شكلية مبنية على التطبيق المنهجي للأنظمة والإجراءات، ومفسحة في المجال لكي تكون الأشياء محسوبة وقابلة للاستشراف. هكذا تبدو البيروقراطية بمثابة شكل رمزي من أشكال العقلانية الغربية (121)؛ نظراً لأن ڤيبر يشدد على أولية الشرعية العقلانية القانونية في المجتمعات المحظية بدولة حديثة، فإن فكره السياسي هو من نوع السوسيولوجيا المعنية بإقامة الصيغ والأشكال العقلية على التمام والكمال من مثل: سوسيولوجيا الاقتصاد، أو سوسيولوجيا الأديان [72] .

إن كل تفكير في الأسس الشرعية المتعلقة بالخضوع للسيطرة السياسية تتمفصل إذن حول هذه الصيغ الثلاث «النقية». التي تحيل إلى سلطة الزمن وسلطة الإنسان وسلطة العقل. هذه النماذج الصافية لا تلتقي معزولة؛ لأن الحقيقة التاريخية تقدمها في صيغ مركبة، وبعيداً عن تجميع هذه الصيغ الخاصة من السيطرة في لحظات تاريخية فريدة (ملكية، وتقاليد بيروقراطية، وحداثة) يستنتج ڤيبر أن نماذج الشرعية الثلاثة هذه تتراكب فوق بعضها أكثر مما تتتابع في الواقع التاريخي. وهكذا يمكن أن تكون بعض عناصر الشرعنة الكاريزمية، ومنها «ديموقراطية القادة بالاستفتاء»، حاضرة في آلية عمل المؤسسات الحديثة، ويمكن لهؤلاء القادة أن يعرقلوا الوضعنة – التشيؤ والاستشرافية – القابلية للحساب التكنوقراطية[73].

ثالثًا، ترتكز السلطة القانونية العقلانية على قوانين محددة بوضوح، ولا تستند طاعة الناس إلى قدرة أي قائد، بل إلى الشرعية والكفاءة التي تمنحها الإجراءات والقوانين للأشخاص في السلطة. يعتمد المجتمع المعاصر (الحديث) على هذا النوع من التبرير، وهناك قوة البيروقراطية على الأفراد التي تعالج مشاكل الجميع ومخاوفهم للحفاظ على النظام والتنظيم.

8- النمط المثالي للرأسمالية:

تشكل الرأسمالية بوصفها نظاماً اقتصادياً أحد أهم الظواهر الوجودية في عالمنا المعاصر، وقد فرضت هذه الظاهرة حضورها الكبير منذ الثورة الصناعية الأولى في منتصف القرن الثامن عشر. ومن أفضل التعريفات التي أعطيت للرأسمالية وأكثرها تعبيراً وصدقاً وتفوقاً هو التعريف الذي ورد في خطبة بنيامين فرانكلين (Benjamin Franklin)‏ [74] الذي يؤكد فكرة جوهرية قوامها، أن الوقت والائتمان هما المال والثروة، إذ يقول: “إنّ الائتمان هو المال، وإذا ما ترك أحدُهم مالَهُ بين يدي بعد انتهاء أجلِه، فإنه يكون قد قدّم لي فائدةَ المبلغ، أو كلَّ ما يمكن أن أستفيده من ماله خلال هذا الوقت… وهو ما يمكن أن يصل إلى مبلغ كبير إذا تصرفت بكثير من الاعتمادات واستخدمتها بشكل مفيد. تذكّرْ أنّ المال هو بطبيعته مُولِّدٌ وكثير الإنتاج. المالُ يولّد المال، و” أولادُه” يمكن أن تَلِد أكثر، وهكذا دَوالَيك… إذا اشتغلت الخمسة شلنات تصبح ستة، ثم تتحول إلى سبع شلنات، وكلما زاد عدد الشلنات كلما ازداد الإنتاج والكسب أكثر وأكثر. والذي يقتل خِنزيرةً فهو يقتل ذُرّيتها حتى الجيل الألف، والذي يغتال قطعةً من النقود من خمسة شلنات يقضي على كل ما يمكنها أن تُنتجه: أكوامٌ من الليرات الاسترلينية!” [75].

وتشكل الرأسمالية الثقل الأكبر في النظام الفكري عند ماكس ڤيبر ويشكل مفهومها عمقاً استراتيجياً في نظريته حول التطور الرأسمالي ونشوء الدولة وانبثاق النظام الرأسمالي، وقد عرف ڤيبر بكتابه الشهير (الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية) الذي يتناول فيه نشأة النظام الرأسمالي ودور القيم الدينية العقلانية في نشوئه وتطوره. وقد كان لزاماً عليه أن يقدمه في أنموذج مثالي يتسم بالجلاء والوضوح، ويتسم هذا الأنموذج الرأسمالي بالسمات الآتية:

1- تقوم الرأسمالية على مبدأ امتلاك وسائل الإنتاج المادّي جميعها وأدواتها، من مثل: المصانع والمعامل والآلات وتكون الملكية ملكية خاصة لمعظم هذه الوسائل.

2- تنطلق الرأسمالية من منصة حرية الأسواق والتجارة، وحرية تدفق البضائع دون حواجز جمركية بين الدول والمقاطعات، وهذا يشكل الدورة الدموية الحقيقية لنمو الاقتصاد الرأسمالي.

3- تعتمد الرأسمالية بقوة على أهمية التكنولوجيا والتقانة العالية، وقد أصبح الإنتاج التقني وإنتاج التقانة والتكنولوجيا وتطويرها من أهم سمات النظام الرأسمالي وخصائصه.

4- تركز على مفهوم الليبرالية الذي يمتثل لمبدأ حرية التفكير والتملك والتنقل والعمل، وهي سمات النظام الليبرالي الحر في المجتمعات الرأسمالية.

5- الاستثمار في البشر والأموال وإتاحة الفرصة للقادرين من السكان جميعهم بالمشاركة في عملية الاستثمار الاقتصادي، بأموالهم وعملهم وخبراتهم وكفاءاتهم عن طريق الشركات والمؤسسات المساهمة القائمة على تجميع قوة المال والخبرة والعمل، ودمجها في صورة قوة اقتصادية مؤسساتية.

6- العقلنة والعلمنة في مختلف مناحي الحياة الرأسمالية في عمليات الإنتاج والتوزيع والإدارة والاستثمار.

7- ظهور المؤسسات الإنتاجية العملاقة، فمع التطور العقلاني أصبح أي فرد في المجتمعات الحديثة يعمل ضمن مؤسسة ضخمة أو جهاز بيروقراطي.

8- نمو المؤسسات الاجتماعية الإنتاجية بوصفها قوةً هائلةً وتزايد تخصصاتها في مختلف ميادين الحياة والإنتاج.

9- تقدير أهمية العمل والوقت والمال بوصفها قوة اقتصادية رأسمالية فاعلة في عملية الإنتاج الرأسمالي.

10- التخصص الوظيفي وزيادة تقسيم العمل بين الأفراد والمؤسسات.

11– الاعتماد على الخبرات والكفاءات والمهارات التي تعطي للشخص، أو للمؤسسة قيمته الإنسانية في داخل النظام الرأسمالي. والرأسمالية هي في نهاية الأمر نتاج فاعل في عملية عقلنة المجتمع والحضارة الإنسانية.

12 – ترتكز الرأسمالية على مبدأ جعل الثراء والربح ضرورة أخلاقية، وهذا يعني أن الربح هو قيمة غائية لا وسيليه.

13- يقوم جوهر الرأسمالية على مبدأ العقلانية والتراكمية في كل مظهر من مظاهرها وتركز على عقلنة العلاقة بين الوسائل والغايات وتربط جوهرياً بين الادخار والاستثمار.

هذه أبرز سمات الأنموذج المثالي للرأسمالية الحديثة عند ڤيبر.

9- الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية:

يعدّ ڤيبر المؤسس الرئيس لعلم الاجتماع الديني دون منازع، وهو الذي شيده بقوة ومناعة في سياق عدد من إبداعاته السوسيولوجية في الحقل الديني، ولا سيما كتابه المشهور ” الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية “ويوجد إجماع بين علماء الاجتماع، على أن أعماله وكتاباته في المجال الديني كانت من أكثر الأعمال السوسيولوجية أهمية وخطورة وإثارة في القرن العشرين. ومن الواضح أن عبقرية ڤيبر قد توهجت إبداعاً في تناوله للعلاقة بين الأديان والحضارات، ولا سيما العلاقة بين الأخلاق البروتستانتية وصعود الرأسمالية الغربية. ومن المعروف أن ڤيبر كان قد انكب على دراسة العلاقة بين الحضارة والأديان العالمية البوذية، والكونفوشيوسية، واليهودية، والإسلام، والمسيحية في مختلف تجلياتها الكاثوليكية والبروتستانتية والكالفينية. ويُستدل على عمق إنتاجه السوسيولوجي في مجال الأديان بإنتاجه الفكري الغزير المتدفق في هذا الميدان، وقد ترك لنا مجموعة من الكتب المهمة في مجال سوسيولوجيا الأديان أهمها: الدين في الهند (The Religion of India) وكتاب اليهودية القديمة (Ancient Judaism)، والديانة في الصين (The Religion of China)، وعلم الاجتماع الديني (The Sociology of Religion , 1922)، وكتابه الأشهر (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) (The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism ,1904)).

وقد ركز ڤيبر في هذا العلم الاجتماع الجديد (علم اجتماع الأديان) على دراسة تأثير القيم الدينية وتأثيرها في تشكيل الأنظمة الاقتصادية السياسية عبر التاريخ. واستطاع أن يقدم لنا نظريته التي تؤكد التأثير الكبير للمذهب البروتستانتية المسيحي في نشوء الرأسمالية وتطورها. وفي عمق هذه النظرية يرى ڤيبر أن منظومة القيم الأخلاقية البروتستانتية أسست لنشأة الرأسمالية وتطورها في أوروبا الغربية. وهنا يجب التأكيد والتشديد أن ڤيبر كان يتناول تأثير القيم الدينية في الاقتصاد والسياسة، ولم يكن مهتماً بالطابع الإيماني للدين وقضاياه الوجودية، بل كان يركز على تأثير القيم الدينية في السلوك الاقتصادي، ولذا نجده يقول في ذلك: “إننا لسنا مهتمين بتأكيد ما كان يدرس نظرياً ورسمياً في مجال الأخلاق في ذلك الزمان، ولكننا مهتمون بشيء مختلف كلية وهو تأثير التصديقات السيكولوجية المتولدة عن الاعتقاد الديني والممارسة الدينية والتي تعطي توجيها للسلوك العملي يلتزم به الفرد” [76].

وإذا كان من الصعب بمكان استعراض التجليات السوسيولوجية للدين في فكر ڤيبر فإننا سنكتفي في هذه السياق بالتعرض لنظريته المتعلقة بتأثير القيم البروتستانتية في نشوء الحداثة الرأسمالية، وهي من أهم النظريات التي أسالت مداد المفكرين والباحثين منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم.

ويذهب ڤيبر في كتابه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية إلى تعظيم الأثر الذي أحدثته الأخلاق والقيم البروتستانتية في قيام النظام الرأسمالي ونشأته، وهو في رؤيته هذه يقدم رؤية معاكسة لنظرية ماركس الذي يرى بأن البنية التحتية بقواها وعلاقاتها الإنتاجية توجد في أصل تشكل وقيام النظام الرأسمالي وذلك على منوال الأنظمة الاجتماعية الأخرى الإقطاعية والعبودية. وعلى خلاف هذه الرؤية يرى ڤيبر أن البنية الفوقية بأفكارها وقيمها وتصوراتها هي التي تؤثر في التأسيس للنظام الاقتصادي الاجتماعي القائم. وقي كتابه الأخلاق البروتستانتية يقدم ڤيبر رؤية دقيقة تفصيلية لتأثير القيم الكالفينية الطهرية في تسريع وتائر نمو النظام الرأسمالي وتشكله، ويركز على التأثير الخلاق للقيم البروتستانتية حول العمل والوقت والربح والتوفير والرأسمال والمسؤولية في قيام ونهضة النظام الرأسمالي الحديث.

انطلق ڤيبر في تأسيس رؤيته للعلاقة بين الدين والحضارة من أسئلة متدرجة في طبيعتها المنهجية يتصدرها سؤال مركزي قوامه: هل تؤثر التصورات والقيم الدينية الإيمانية في السلوك الاقتصادي للأفراد في مختلف المجتمعات الإنسانية؟[77]. وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال يرى ڤيبر أن القيم الدينية تشكل المدخل المنهجي لدراسة التطور الاقتصادي وفهمه كما “أن سلوك الأفراد في مختلف المجتمعات لا يفهم إلا في سياق تصورهم العام للوجود، وأن المعتقدات الدينية تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات بما في ذلك السلوك الاقتصادي” [78]. وفي هذا التساوق يتناول ڤيبر العلاقة بين القيم الدينية البروتستانتية والنظام الرأسمالي، ويبحث في العلاقة بين النظامين على مستوى القيم، ويرى باختصار أن القيم والتصورات التي تبثها البروتستانتية تتناسب مع متطلبات النظام الاقتصادي الرأسمالي.

والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يستدل ڤيبر على هذا التأثير الذي أحدثته القيم الدينية البروتستانتية في النظام الرأسمالي؟ والإجابة بسيطة جداً، إذ يلاحظ ڤيبر أن الرأسمالية القوية انتشرت في المناطق التي تشهد نفوذاً كبيراً للمذهب البروتستانتي الكالفيني في أوروبا وأمريكا، ولا سيما في بريطانيا وألمانيا، وكانت وتائر نموها ضعيفة في البلدان التي هيمنت فيها الكاثوليكية التقليدية المسيحية. وقد بينت الإحصائيات التي اعتمدها ڤيبر حول هذه المسألة في ألمانيا “أنّ كبار رجال الأعمال، وأصحاب الحيازات الرأسمالية، ومُمثّلي الشرائح العليا من اليد العاملة والملاك التِّـقْني والتجاري في المؤسّسات الحديثة هم بأغلبيتهم العُظمى من البروتستانت، عِلماً بأنّ ألمانيا بلدٌ تتعايش فيه طوائفُ دينيةٌ متعدّدة. كما أنّ غالبية سكّان المدن الغنيّة والأكثر تطوُّراً من الناحية الاقتصادية قد اعتنقت البروتستانتية منذ القرن السادسَ عشرَ” [79]. ولا “أدلَّ على ذلك -كما لاحظ فيبر- من أنّ المناطق التي تسُود فيها البروتستانتية -الأراضي المنخفضة (هولندا وبلجيكا في أيامنا هذه) وإنكلترا وغيرها- هي أهمُّ الدول الصناعية التي تطوّرت فيها الرأسمالية، على حين أنّ المناطق التي تعتنق الكاثوليكيةَ بغالبيتها العُظمى هي الأقلُّ تطوُّراً من الناحية الصناعية والاقتصادية”[80] .

ومن ثم ينطلق ڤيبر في تحديد أهم القيم البروتستانتية النشطة التي تعزز السلوك الرأسمالي وترسخ القيم الرأسمالية، ومنها أن البروتستانتية تعلي من قيم العمل، والعقلانية، والحرية، والمحافظة على المال وتنميته، وتنظر إلى هذه القيم بوصفها واجباً دينياً مقدساً، كما تحارب فكرة هدر المال وترسخ في الوقت ذاته القيم العقلانية، ولا سيما هذه القيم التي تؤسس للنظام الرأسمالي الجديد، وبالمقابل يُلاحظ ڤيبر أن القيم الماثلة في الأديان الاتكالية التقشفية القدرية الزهدية كالبوذية، والكونفوشيوسية، والإسلامية، والمسيحية الكاثوليكية لا تشجع على تنمية العمل والمال ولا تؤسس للنظام الرأسمالي بصورته العقلانية. ويرى في هذا السياق أن البروتستانتية تشكل ثورة عقلانية ضد أوهام الكاثوليكية التي تناسب الأنظمة الإقطاعية التوتاليرية التي تعتمد على الأوهام والأساطير والمعجزات، وتقلل من دور العمل والعقلانية، وهي القيم ذاتها التي أدت إلى تخلف المجتمعات الغربية في العصر الوسيط.

ويصف ڤيبر الكاثوليكية بأنها تشكل دعوة دينية محافظة تركز على الطابع الزهدي تقشفاً في الأرض وتأملاً في معجزات السماء، وهي إذ ذاك تعزز لدى أنصارها قيم اللامبالاة والتقشف والطاعة والحرمان على نحو تتناقض فيه مع هذه الصورة التي ترسخها البروتستانتية الداعية إلى الحرية، والنشاط، والمسؤولية، والعقلانية، وفهم العالم والإحاطة به علمياً، والسيطرة عليه معرفياً. وينقل ڤيبر عن مونتسكيو صاحب روح القوانيين وصفاً للإنكليز البروتستانت: «أنهم أكثر شعوب العالم انتفاعاً من أشيائهم الثلاثة الكبرى: الدين، والتجارة، والحرية ” وهذا يؤكد الروح الرأسمالية للبروتستانتية. ويمكن القول في هذا السياق: بإن مفهوم الروح الرأسمالية (Spirit of Capitalism) يعبر عن منظومة القيم الأخلاقية الاقتصادية التي تنمي في الإنسان مواقفه الإيجابية من العمل والمال والإنتاج والعقلانية والثروة. ونجد تفاصيل هذه الروح في كتابه المشهور «الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية» .وهو عنوان الكتاب الذي كرسه في استقصاء مظاهر انتصار النظام الرأسمالي الصناعي والتجاري، وانتشاره الكبير في المناطق البروتستانتية في أوروبا في بريطانيا وألمانيا وأميركا البروتستانتية، ويرى في سياق هذا التناول أن الانتشار الكبير للرأسمالية يعود إلى التخاصب الملهم بين العقلانية الدينية والعقلانية الاقتصادية القائم ما بين البروتستانتية والرأسمالية، وهنا يؤكد ڤيبر بشكل كبير أهمية العقلنة الأخلاقية للدين بوصفه مؤثراً فاعلاً في التنمية الاقتصادية الرأسمالية.

ومن الواضح تماماً أن ڤيبر يؤكد هذا التخاصب البديع بين العقلانية الدينية التي تمثلها البروتستانتية والعقلانية الاقتصادية التي تمثلها الرأسمالية، وهو التخاصب الذي يؤدي إلى النمو الاقتصادي والرأسمالي الكبير الذي يتشكل في قلب النظام الرأسمالي. ومن هذا المنطلق يريد أن يقول لنا: إن الأخلاق الرأسمالية تجسد الروح الحقيقية للرأسمالية ومن غير هذه الأخلاق الفاعلة اقتصادياً واجتماعياً ستحول الرأسمالية إلى رأسمالية متصلبة من غير روح أو وجدان أخلاقي. وهذا يعني أن مطالب الحرية والعقلانية للبروتستانتية تؤدي بصورة طبيعية إلى توليد النظام الرأسمالي، وترسيخ مساراته الاقتصادية.

أوضح ڤيبر في كتابه الأخلاق البروتستانتية أن المذهب البروتستانتي يدعو الإنسان إلى بذل أقصى جهد ممكن في مجال الحصول على المال وجمعه وتنميته، ويطالبه بأن يستمر في أداء هذا الدور الاقتصادي في غير ما حاجة إليه، وفي هذه الدعوة تصريح بروتستانتي واضح بأن جمع المال وتنميته هدف غائي واضح بذاته، كما يتضمن هذا التصريح بأن جمع المال وتنميته بشكل مشروع يشكل واجباً مقدساً عند الإنسان المؤمن في حد ذاته[81]. ومثل هذا الواجب الديني البروتستانتي قد شكل دفعةً كبيرةً هائلةً لنمو النظام الرأسمالي في أوربا وأمريكا البروتستانتيين، ويذهب ڤيبر إلى أن هذه الروح البروتستانتية قد شكلت الطاقة الملهمة للنظام الرأسمالي العالمي وقوته المذهلة، وتأكيداً لطبيعة هذا التأثير الكبير للقيم الدينية البروتستانتية في الرأسمالية.

ومن المثير للاهتمام أن ڤيبر لم يضع المذاهب البروتستانتية في سلة واحدة من حيث التأثير، بل وجدناه يركز على المذهب الكالفيني[82]، ويغوص في مضامينه القيمية، ويبحث في تأثيره العميق في النظام الرأسمالي مؤكداً أهمية التأثير الكبير الذي حققه في تغذية النظام الرأسمالي بالأفكار والقيم الملهمة، وقد جاء في وصايا جون كالفن ( John Calvin) زعيم النزعة الكالفينية قوله: بإن “النجاح على الصعيد المادي هو دلالة على نعمة إلهية واختيار مسبق للخلاص[83] وتلك هي واحدة من عشرات المقولات والوصايا والقيم التي تجد مجدها في الكالفينية تارة وفي اللوثرية تارة أخرى، وهي جميعها تحض على العمل والعقلانية والحرية والإيمان بقدرة الإنسان ومسؤولياته الأخلاقية في الدنيا قبل الآخرة. ويركز ڤيبر على المذهب الطهري الكالفيني بخاصة، ويرى أن القيم الكالفينية التقشف والعقلانية والواقعية والإنتاج والعمل والفردية كان لها أكبر الأثر في نمو الرأسمالية وازدهارها في أوروبا وفي أمريكا[84]. وعلى هذا النحو يرى ڤيبر أن البروتستانتية – في شِقِّها الكالفيني بخاصة- “هي مجموعةٌ من الحوافز التي تدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج، وتحصيل الثروة والإسهام في زيادة ازدهار الحياة الاقتصادية، بل إنها تمنح المهنةَ قيمةً أخلاقية كبرى، وتُقدّس العمل إلى درجة أنها ترى في تأدية العمل -بأمانةٍ وحيويةٍ وحماسةٍ- واجباً مقدّساً” [85].

ينظر اللاهوت البروتستانتي الكالفيني إلى العمل بوصفه إلهاماً مقدساً فرضته إرادة إلهية بنداء رباني، وجعله فوق ذلك كله الوسيلة الأسمى، إن لم تكن الوحيدة، في مطلب النعمة والخلاص[86] وعلى هذا النحو وكُلّما “عمِل المرءُ بنشاطٍ أكثرَ وحيويةٍ أكبر كان ذلك له من علامات رِضى الله عنه. كما عليه في الآن عينِه ألاّ يقتطع من المال الذي يَجنيه من عمله الدؤوب إلّا ما هو ضروريٌّ لأنْ يعيش عِيشةً راضيةً قنُوعاً تحترم شريعة الله وحُكمه وتقديره. اِقرأْ إنْ شئتَ قول بعض الطُّهريّين البروتستانت. وعلى هذه الصورة يرتفع شعار الكالفينية بـ “إننا لا نعمل فقط لكي نعيش، بل إننا نعيش لأجل حُبّ العمل، وإذا لم يكن لدينا ما نعمل فإننا ننام النوم الأبدي”[87]. ويأخذ هذه القول دلالته في الشعار الكالفيني الذي يقول: “إنّ بليداً أو مُتكاسلاً لا يمكن أن يكون مسيحيّاً ولا أنْ يحظى بالخلاص”، [88]. ومن الطبيعي جداً أن يبالغ أصحاب المذهب في تقشفهم الطهري إلى حد الإيمان بأن “إنفاق أي قطعة نُقودٍ إنما هو أمر يتم بمشيئة الله وفي سبيل إرضائه، ويتم هذا المطلب في الدعوة إلى الحرص على المال لأن المال هو مال الله ويجب ألّا يتم تبديده أو السرف في إنفاقه. وعلى هذا الأساس يرى ڤيبر أنه لا بد لمثل هذه الروح الاقتصادية التقشفية الاستثمارية التي تتجلى في الكالفينية، أن تكون قد أثمرت وأزهرت في تشييد الكيان الرأسمالي القائم على العمل والاستثمار والإنتاج، رفضاً لكل أشكال البَذخ والسرف والترف، وهي التي استطاعت أن تؤسس للروح الرأسمالية وأن تعمل على تطوير آليات عملها وازدهارها.[89] .

وفي الختام نقول حاول ڤيبر في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” أن يبرهن على أنّ الرأسمالية -من حيث كونُها أهمَّ ظاهرةٍ اقتصادية حديثة- “هي من نتاج الروح الدينية البروتستانتية بأخلاقها وقِيمها ومعتقداتها، وخصوصاً لدى أتباع الكالفينية؛ إذ إنّ هذه الطائفة البروتستانتية تعمل على تشجيع الادّخار والاستثمار، بل إنّ أتباعها يُقدّسون العمل ويحترمون أرباب المهن، بالإضافة إلى فرضِها الواجباتِ والقواعدَ التي تُنظّم السلوك الاقتصادي، ونبذِها الخمولَ والتكاسلَ والتواكلَ، وتحذيرِها أتباعَها ضَعفَ الهِمّة وخَوَرَ العزيمة، وتنفيرِها إياهم من الركود والرُّقود والقعود، وحثِّها على الحركة والنشاط من أجل العمل والكسب، بوصفهما سبيلاً لتحقيق الخلاص الفردي” [90].

10- رؤية نقدية لماكس فيبر وأعماله:

شكلت أعمال ماكس ڤيبر دريئة للجدل والنقد العلميين على مدى القرن الماضي، وما زالت نظريته السوسيولوجية تشكل موضوعاً ساخناً للنقد المعرفي الذي لم يتوقف حتى اليوم. ومن الواضح أن التعقيد المعرفي الكبير في نظرياته، والتنوع الفكري لأعماله واشتغاله في مجالات فكرية مختلفة، جعل من مهمة النقد العلمي مهمة صعبة ومعقدة أمام الباحثين والمفكرين، وقد زاد من هذه الصعوبة الأسلوب اللغوي المجازي المضمخ بالطابع الرمزي والمتشبع بالطابع الفلسفي الذي اعتمده ڤيبر في كتابة أعماله، ويضاف إلى ذلك صعوبة الترجمة وتعقيداتها من الألمانية إلى اللغات الأخرى، وفوق ذلك كله أن أعماله لم تكن قد اكتملت قبل وفاته وقد قامت زوجته وبعض من أسرته بجمع أعماله وطباعتها ونشرها بعد وفاته. وهذه الحيثيات كان لها دور كبير في التنافر النقدي الذي وجه إلى ماكس ڤيبر ونظرياته، وقد تأرجحت الموجات النقدية التي تعرضت لها أعماله إلى تدرجات تبدأ من الهجوم الأيديولوجي العنيف ضد ڤيبر وأفكاره، ولا سيما من قبل الماركسيين السطحيين لتنتهي إلى التمجيد الرسولي بأفكاره وتصوراته، وزاد من حدة هذا النقد وتطرفه الموقف الأيديولوجي الصريح لماكس ڤيبر الذي أعلن فيه وفاءه وولاءه المطلق للبرجوازية الرأسمالية في أوروبا وأمريكا، وجعل من نفسه مدافعاً شرساً عن مصالح الطبقات الرأسمالية دون سابق إنذار.

ومن أكثر الأمور خطورة في عملية النقد الموجهة إلى نظريات ڤيبر تتمثل في أن معظم الباحثين والدارسين كانوا قد تناولوه دائماً في معترك المقارنة مع الأنداد والخصوم من المفكرين العمالقة، أمثال: ماركس، ودوركهايم. وهذا هو الأمر الذي جعل من النقد فيه كثير من التحيزات العلمية والفكرية. وهذا هو الأمر الذي أشار إليه لوران فلوري بقوله: “إن ماكس ڤيبر لم يُقرأ أبداً لذاته: جرت قراءته لفترة طويلة بصفته نقيضاً لدوركهايم أو نقيضاً لماركس أو نقيضاً لهيغل (Hegel)، أو نقيضاً لبوبر (Popper) وجرى توظيفه من قبل علماء اجتماع خلال عملهم على بلورة نظرياتهم الخاصة” [91]. وقد شكلت هذه الوضعية معضلة معرفية حقيقة حجبت كثيراً من الزوايا القضايا المهمة في تفكير ڤيبر وفي نظرياته السوسيولوجية المهمة.

ومن الملاحظات النقدية التي وجهت إلى ڤيبر أنه بالغ كثيراً في النظر إلى الأخلاق البروتستانتية” بوصفها المحرّكُ الأساسُ لِنُموّ النظام الرأسمالي، ذاهِلاً عن أنّ ثمة عواملَ أخرى ساعدتْ، إن لم تكن قد حرّكت عجلة نُموّ الرأسمالية، من مثل: انفصال العمل اليدوي عن العمل الحِرفي، وتدفُّق المعادن والموادّ الأولية والنقود، وتطوُّر النظام المَصرِفي وما رافق ذلك من تطوُّراتٍ علميةٍ وثقافية وتكنولوجية… إلخ” [92]. وقد ذهب كثير من النقاد إلى أنّ الذهنية الاقتصادية الإيجابية للعمل والإنتاج، واحتساب الزمن والميل إلى الربح والمحافظة على المال كانت قد ظهرت قبل ظهور الذهنية البروتستانتية الكالفينية، وهي الذهنية التي يعدها ڤيبر أصلاً في نشأة الرأسمالية. وقد يكون من الممكن جداً أن تكون الذهنية البروتستانتية قد نشأت تحت تأثير الذهنية الاقتصادية للرأسمالية.

وقد أخذ كثير من النقاد على ماكس ڤيبر نزعته المثالية المفرطة التي تجلت في مقولاته حول الأخلاق البروتستانتية، وهي نمط مثالي يعود في أصله إلى مثالية هيغل، الذي كان يرى “أنّ لكلّ حقبةٍ تاريخيةٍ رُوحَها الخاصَّة بها، والذي يشتمل على مجموعةٍ من النظرات النفسية” [93] وهو الأمر الذي استلهمه ڤيبر فجعل من الأخلاق البروتستانتية وذهنيتها الاقتصادية روحاً محركةً للرأسمالية العقلانية الجديدة.

ويأخذ كثير من النقاد على ڤيبر نظرته العنصرية التي تقول بالتفوق الغربي في مجال العقل والعقلانية، وقد أشار في أكثر من موقع، في مختلف كتاباته، إلى تفرد العقلانية الأوروبية وتَميُّزِها عن باقي الشعوب والأمم، ولم يخف أبداً تعصبه الواضح للحضارة الغربية، وتمجيده للعنصر الأوروبي، وذَهابُه إلى الاعتقاد بأن الغرب يتميز بنمط من العقلانية التي يتفرد بها عن مختلف شعوب العالم[94]. يرى ڤيبر في هذا السياق أن العلم بصيغته الحديثة نشأ في البلدان الأوروبية دون غيرها، ولم ينكر في السياق ذاته وجود الحكمة الفلسفية واللاهوتية في بعض الثقافات الأخرى، كما هو الحال في الثقافة الهندية والصينة والفارسية. ومن يعتدل في القول ليرى أن المعرفة في هذه البلدان لم تتوج بالعلوم البرهانية، من مثل: الرياضيات، والعلوم، العقلية ولم تقم على تجارب علمية.

ويشار أيضاً أن ڤيبر قد تعرض لهجوم كبير من قبل رجال الدين الكاثوليك ضد أطروحاته التي يصف بها الكاثوليكية بمذهب الجمود والتطير والسكون والتواكل والانفصال عن العقلانية. وفي السياق نفسه تعرض لهجوم الكنائسُ البروتستانتية، ولا سيما اللوثرية الذين رفضوا أطروحته التي تُمجد التقَويّين والكالفينيين، ووجدوا في هذا الأمر نوعاً من التجني والظلم الذي نال من دورهم في عملية الإصلاح الديني والسياسي.

ويشير كثير من النقاد إلى شطحات ڤيبر المثالية التي ركزت على إبراز أهمية الجوانب الذاتية في الحياة الاجتماعية التي تتجلى في دوافع الناس السيكولوجية ونزعاتهم الفردية، وذلك إلى الدرجة التي اقترب فيها من الإيمان بالنزعة السيكولوجية في علم الاجتماع أو في دراسة الظواهر الاجتماعية. كما يؤخذ عليه المبالغة في التركيز على دور الفرد في التاريخ، وهو الدور الذي يتجلى في دور الزعيم الكارزمي الملهم الذي قد يسجل حركة في التاريخ ويحدث تغييراً في مساراته.

ويسجل على ڤيبر أنه قد أفرط وبالغ في تقدير أهمية القيم الدينية والثقافية في تفسير حركة التاريخ، وقد دفعه هذا التأكيد إلى التنكر للقانونيات التي تحكم حركة المجتمع والتاريخ، وقد رفض في مسار ذلك أن يكون للمجتمع قوانين تسيره وتحكمه، وأن الظواهر الاجتماعية ظواهر تاريخية متفرد لا يمكن أن تتكرر مرتين. ومن الواضح أنه رفض وجود تحليل علمي قانوني مطلق للثقافة أو للظواهر الاجتماعية. وكان لموقفه هذا أثر كبير في نزع الموضوعية عن العلوم الإنسانية بما فيها علم الاجتماع، واستطاع أن يولد تياراً سوسيولوجياً يقوم على الآراء والنزعات الفردية، وكان لهذا أثر كبير في عملية تطور علم الاجتماع على أسس موضوعية.

ومن أهم الانتقادات التي وجهت إلى نتائج ڤيبر في “الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية” أن ڤيبر درس مرحلة محددة في تاريخ أوروبا، ولم يدرج هذه الظاهرة التي تجلت في مناطق أوروبية كثيرة في إيطاليا وفي مختلف أنحاء العالم.

ويأخذ كثير من النقاد على أن سوسيولوجيا ڤيبر تدور في فلك القيم الفردية والذاتية، وأن السوسيولوجيا التي قدمها تتحرك جوهرياً في الأنماط الذاتية، وتدور حول القيم الفردية الغارقة في مستنقع الذاتية التي تفقد العلم موضوعيته واستقلاله. ويرى كثير من النقاد أن هذه النزعة الفردية الذاتية المتشبعة بالطابع السيكولوجي قد فعلت فعلها في الدفاع عن المشروع الرأسمالي، وعن أيديولوجيا الطبقات البرجوازية ضد الطبقات العمالية التي تتعرض لأقصى أشكال القهر والاستغلال في الماكينة البرجوازية الضخمة.

ومن المآخذ الكبرى على ماكس ڤيبر أنه انحاز كلياً على نحو أيديولوجي، دون سابق إنذار ودون خجل أو وجل، مع الطبقة الرأسمالية ومصالحها وامتيازاتها ضد الطبقات العمالية والفقيرة، ولم يتفاعل أبداً مع هموم وشجون الطبقات الفقيرة المسحوقة والمغلوبة على أمرها، جاعلاً من نفسه وحشاً أيديولوجياً لا يرحم ضد الفقراء، ومدافعاً عن الأغنياء ومصالحهم وقرتهم على سحق المقهورين والمظلومين، وهنا يبرز الطابع الإنساني لكارل ماركس الذي كرس حياته وفكره من أجل العدالة والحق دفاعاً عن مظلومية الطبقات المهيضة. وبالمقارنة فإن الطابع الأيديولوجي الوحشي قد غلب في فكر ماكس فيبر، إذ لم يتطرق يوماً إلى آلام المعذبين وشجونهم وهمومهم والمقهورين في الأرض، وتجاهل حقوقهم منافحاً عن الظالمين ومنتصراً للقاهرين. وباختصار أعلن ڤيبر التزامه الأيديولوجي بـ النظام الرأسمالي وبالغ في تمجيده واصفاً إياه بأنه “النظام الأمثل للبشرية الذي يجب الحفاظ عليه وإدخال التحسينات والتعديلات عليه ويرتبط بذلك نزعة عنصرية واضحة تتمثل في الدعوة إلى سيطرة ألمانيا على غيرها من البلدان” [95]. وما لا شك فيه أن هذه الموقف الأيديولوجي قد أساء كثيراً إلى ماكس ڤيبر وقلل بشكل كبير من موضوعيته العلمية. ويؤخذ عليه في هذا السياق التركيز الشديد على نظرية كارل ماركس الذي شكل مدخله المنهجي إلى الشهرة، وربما قد بالغ كثيراً في الاشتباك مع شبح ماركس ومعارضة أفكاره إلى الحد الذي دفع كثيراً من النقاد إلى القول: بإن ماكس ڤيبر ما كان له أن يوجد لولا شبح ماركس. وقد وجد ڤيبر من السهولة بمكان أن يأخذ أنموذجاً فكرياً عظيماً مثل: الأنموذج الماركسي وأن يبني لنظريته أنموذجاً نقيضاً له، دون أن يخرج عن دائرة هذا البناء الفكري الانعكاسي. ولا يختلف حال ڤيبر في علاقته بماركس عن حال المهندس الذي يعتمد أنموذجاً لبناء يرسمه على شكل مختلف أو مناقض له بقدر الإمكان. ومع أهمية الجهد الذي بذله في ڤيبر في إظهار نفسه نقيضاً لماركس، إلا أنه قد أُكره على تبني معظم أفكاره وتصوراته ومقولاته بحكم النمذجة التي لم يستطع الخروج عنها.

ومن أوجه النقد التي يمكن أن نوجهها إلى ڤيبر تتعلق بمنهجية الأنموذج المثالي الذي بدا لنا كأنه نتاج بحثي أكثر منه قوة منهجية للدراسة العلمية، وهو في النهاية أشبه ما يكون بالتعريفات الإجرائية التي نجدها في الدراسات الأمبيريقية الاجتماعية التي تُدرس الظواهر الاجتماعية في ضوئها. فلو أخذنا مثلاً النمط البيروقراطي فإن كل ما جاء فيه لا يعدو أن يكون مجرد تحديدات إدارية واضحة للعيان، ولا تستدعي أي لبس. ويمكن الاطلاع على هذا الأنموذج في الأنظمة الداخلية للإدارات البيروقراطية؛ أي في اللوائح التنظيمية التي تحددها الإدارة في أي مؤسسة بيروقراطية حكومية. وهذا ينسحب على عدد كبير من الأنماط المثالية التي لا تقدم لنا كثيراً في مجال البحث العلمي. هذا كله عداك أن ڤيبر لم يقدم لنا ڤيبر أي أنموذج تطبيقي على دراسة ميدانية واقعية كي نستطيع أن ندرك كيف تجري عملية استنباط النماذج المثالية التي برأينا لا تعدو أن تكون تعريفات إجرائية مطولة ومتشعبة تعبر عن واقع واضح دون لبس أو غموض. ويمكن أيضاً توجيه النقد إلى الفعالية المتعلقة بالنمط المثالي، فلو أخذنا على سبيل المثال “الأنموذج المثالي للفعل الاجتماعي” الذي يتضمن أربعة مستويات (عقلاني، وعاطفي، وأخلاقي تقليدي) وحاولنا تطبيقه على استكشاف الجوانب العقلانية وغير العقلانية في سلوك فرد مقبل على الزواج، فكيف نستطيع أن نميز في طبقات هذا الفعل ونيات الفاعل المقدم على الزواج، ضمن سياق أربعة تصنيفات في الفعل (عقلانية، وعاطفية، أو أخلاقية، أو تقليدية)؟!، والسؤال كيف يمكن تطبيق الأنموذج المثالي للفعل الاجتماعي في هذا المثال وتحديد نوايا الفاعل (المقدم على الزواج) ؟! أي كيف نعرف فيما إذا كان المقدم على الزواج يقدم بدافع المصلحة، أم الحب، أم التقاليد، أم الأخلاق؟ وكيف نحسب مستويات التداخل بين هذه المستويات الأربعة للفعل الاجتماعي. وبالمقابل في سياق الرد على منهجية النمط المثالي عن ڤيبر بينت السوسيولوجيا التقليدية القائمة على الموضوعية أنه يمكننا من خلال أساليب منهجية كثيرة إدراك حتى أعمق أعماق التفكير الباطني عند الإنسان، حتى أن الأدوات المنهجية من مثل: الاستبيانات، وأساليب الملاحظة وبطاقاتها، والأسئلة الإسقاطية اللاشعورية يمكنها أن تصل إلى أعمق أفكار الإنسان في كثير من القضايا السيكولوجية الشائكة. وقد تقدمت العلوم السلوكية في هذا الأمر إلى درجة مذهلة، وما علينا إلّا مراقبة استطلاعات الرأي العام التي تستطيع أحياناً وعلى الهواء مباشرة تحديد نسب نجاح المرشحين في انتخابات سياسية بدقة متناهية. وهذا دليل على أن المناهج السوسيولوجية والسيكولوجية قد تقدمت كثيراً، واستطاعت أن تحقق الغايات السوسيولوجية المطلوبة بدقة متناهية. ومع أهمية الجديد في هذا الأمر فإن سوسيولوجيا دوركهايم كانت قد برهنت على فعالية المناهج السوسيولوجية التقليدية، ومثال ذلك دراسة دوركهايم عن الانتحار قي فرنسا، التي قدمت لنا نتائج مبهرة عن ظاهرة شديدة التعقيد سيكولوجياً واجتماعياً.

ويمكننا القول في هذا السياق: إن الأنموذج المثالي هو ناتج دراسة قبل أن يكون وسيلة منهجية للدراسة، فعندما نقيم تصوراً ذهنياً من المفاهيم المتكاملة عن الحرب، فهذا يعني إنجازاً علمياً يمكننا من فهم الحرب قبل أن ندرسها في الواقع. وهذا يعني برأينا أن الباحث قد فهم الحرب وعلاماتها ودلالاتها قبل أن يدرسها فعلياً، وكل ما في الأمر أنه عندما يدرس حرباً فإنه قد يكتشف انحيازات صورتها عن الأنموذج الذي رسمه في وعيه من قبل.

ويمكن القول في النهاية: بإن ماكس ڤيبر يعدّ من أكثر المفكرين إثارة للخلاف والجدل في القرن العشرين، وقد اختلفت فيه الرؤى والمواقف والتقييمات، وقد قيل عنه كثيرٌ من التناقضات التي تتعلق بأسلوبه الرجراج، وطرائقه المحيرة ومناوراته في الكتابة الرشيقة الزلقة، التي تظهر نمطاً من الفكر الدينامي العميق المفتوح على كل احتمالات الاستدارة والاحتواء والتجاوز الذي يقع في غمار رؤية أيديولوجية صريحة أحياناً، وغائرة في كثير من الأحيان. وهذا الأمر جعل من شخصه وأفكاره محوراً للتناقضات في الرؤى والتقييمات الفكرية، وقد ذهب “بعض المفكرين إلى وصفه ماركسياً مرتداً، أو ماركسياً بورجوازياً، وبعضهم صوره كأبرز ملهمي علم الاجتماع الأمريكي المعاصر. وآخرون قالوا: بإن قدراته المنهجية والتحليلية تفوق بكثير قدراته النظرية وإسهاماته التنظيرية [96].

ومن المعروف بأن أحد أسباب شهرته يعود إلى التمجيد الذي حظي به بين المفكرين الأمريكيين، ولا سيما هذا التماهي الذي أبداه عالم الاجتماع الكبير تالكوت بارسونز بشخص ڤيبر وبأعماله، ويرجح كثيرٌ من الباحثين بأن هذا الاهتمام الأمريكي والتمجيد الكبير بـ ڤيبر يعود إلى مناصرته المطلقة للرأسمالية والطبقات البرجوازية في مواجهة المدّ الماركسي الذي كاد يقتحم أبواب أمريكا الفكرية الموصدة في مواجهة المدّ الفكري الماركسي الذي يهدد النظام الرأسمالي، ويقلب له ظهر المِجَنّ، مهدداً بالثورة البروليتارية التي تشكل الشبح الذي يقض مضاجع الرأسمالية العالمية في حينها. وهذا يعني أن ڤيبر كرس نفسه لمناهضة الفكر الماركسي الثوري في أساسه وجوهره[97].

ومهما تكن الانتقادات التي وجهت إلى ڤيبر وتصوراته المثالية، ومهما تكن الإشادات التي عظمت بأعماله سيبقى ڤيبر درّة مضيئة في عالم الفكر الإنساني، ولا يمكن لأحد أن يقلل من شأن العطاءات الفكرية التي قدمها في مجال علم الاجتماع والسوسيولوجيا النقدية.

لقد أبدع ڤيبر في دراسته حول تأثير القيم في نشوء الرأسمالية وتطورها، ولكنه كما يرى كثيرٌ من المفكرين قد بالغ في النظر إلى الأفكار والقيم بوصفها الأساس الذي يقوم عليه المجتمع، مع أنه لم ينكر أهمية العوامل المادية في المجتمع، ولكنه أكد تبعيتها للعوامل الفكرية والثقافية. وقد رفض تحت غطاء تأييده للنظام الرأسمالي فكرة التغيير والثورة ورأى ” أن العمال قد يكسرون أغلالهم بالثورة ولكنهم لن يكسبوا شيئاً من ورائها [98]. وقد أبدع ڤيبر في تنميط الفعل الاجتماعي وظواهر الاجتماع ضمن أنماط مثالية، “ولكن هذه الأنماط المثالية التي قدمها عن السلطة والفعل الاجتماعي لا تعدو أن تكون أنماطاً تصورية لا تستند على أدلة واقعية، كما أن افتراضاته عن الطبيعة المثالية للواقع الاجتماعي وبخاصة مقولته التي مؤداها أن الرأسمالية نشأت عن الروح البروتستانتية لا تستند إلى أدلة تاريخية إمبيرقية” [99] .

11- خاتمة: تأثير ماكس فيبر:

يشكل ڤيبر واحداً من أخطر المفكرين وأهمهم في القرن العشرين، وإذا كان قد شغل الوسط العلمي في القرن التاسع عشر بأفكاره ونظرياته العبقرية في الاقتصاد والسياسة والإدارة والدين، فإن عبقريته الفكرية قد تألقت مجدداً وتوهجت بقوة أكبر في القرن العشرين، وما زال وهج تألقه الفكري يومض في فضاء القرن الحادي والعشرين، وذلك بعد قيام عدد كبير من المفكرين بترجمة متأخرة لأهم أعماله إلى الإنكليزية والفرنسية والعربية وبقية اللغات العالمية، وانتشار أفكاره ونظرياته في عالم الفكر في مختلف أنحاء العالم.

وإذا كان ڤيبر يصنف بين الآباء الخمسة الكبار لعلم الاجتماع، فإنه بالإضافة إلى ذلك ينظر إليه بوصفه صاحب السبق الأكبر في تأسيس علم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع الإداري، وقد ترك إرثاً فكرياً لا يمحى في مجال سوسيولوجيا الموسيقا والسوسيولوجيا الاقتصادية، واستطاع أن يحقق هذه الإنجازات الكبرى في فترة زمنية قصيرة من العمر نسبيا، إذ خطفته يد المنون في سن مبكرة لم يكن حينها قد تجاوز السادسة والخمسين من العمر.

ومن المهم في هذا السياق أن ڤيبر قد انفرد بالتأسيس العبقري لنمط منهجي جديد في علم الاجتماع يتمثل في المؤصدة الأنماط المثالية. وقد شكل كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ” درة أعماله الفكرية بالإضافة إلى كتابه “الاقتصاد والمجتمع “. وقد كًتب عنه وعن أعماله المثيرة للجدل أطنانٌ من الكتب والدراسات والأبحاث، وما تزال أعماله تشكل مداداً فكرياً لا ينقطع للباحثين والدارسين في التضاريس المعقدة والعالية لنظرياته التي لا تستنفد طاقتها ولا يتناقص وهجها، بل يتوهج عطاؤها دائماً في كل دراسة وبحث جديد عن مواطن العبقرية السوسيولوجية في فضاءات نظرياته الخلاقة.

وقد اعتاد المفكرون كما فعلنا نحن على المقارنة الدائمة بينه وبين ماركس ودوركهايم، وقد حققنا في تخاصبه الفكري مع ماركس، وبينا أوجه الالتقاء والافتراق بينهما في آنف هذه الدراسة. ويجدر في هذا السياق الإشارة إلى أن عالم الاجتماع جون ركس Rex قد أشاد بعبقرية ڤيبر السوسيولوجية وعدّه من أعظم منظري علم الاجتماع ومن أخطر السوسيولوجيين في العصر الحديث، وذهب إلى أبعد من ذلك، إذ قدر بأن ڤيبر قد تفوق على دوركايم في مجال الخصوبة الفكرية في الحقل السوسيولوجي. ولا يمكن حصر الشهادات العالمية لكبار المفكرين في العصر الحديث حول التألق العبقري لماكس فيبر، ولا سيما في سوسيولوجيا الإدارة والأديان والاقتصاد وقد “صنفه ألفن جولدنر A. Gouldner على أنه من مفكري العصر الحديث في مجال الحدس والبصيرة والفهم والتفسير. وفي هذا السياق يقدم دونالد ماك ري D. Mack Rue وصفاً بديعاً لعبقرية فيبر، إذ أطلق عليه واصفاً أعماله بالمملكة السحرية في علم الاجتماع والاقتصاد. ويتجلى هذا التقدير لفيبر في رأي السوسيولوجي الأمريكي النقدي تشارلز رايت ملز (C. Wright Mills) [100] الذي قارن بين المفكرين الذي شكلوا التراث الكلاسيكي، ووجد أنهم على عظمة ما قدموه لم يكونوا على المستوى نفسه من الإسهام والعمق وذهب بالقول: إلى إن “اثنين من بينهم تعلو قامتهما على الباقين كافة، ألا وهما كارل ماركس وماكس فيبر، (……) وإذا كان علينا أن نحدد أنفسنا بدراسة أعمال عالمين من علماء الاجتماع فإن اختياري سوف يقع على هاتين الشخصيتين “[101].

ويعد ماكس ڤيبر من وجهة نظر أيديولوجية المنظر الفائق للأيديولوجيا البرجوازية في العصر الحديث وقد ألهم بأعماله معظم المفكرين السوسيولوجيين البرجوازيين في أمريكا وأوروبا، الذين كرسوا أنفسهم للدفاع عن النظام الرأسمالي وطبقاته البرجوازية ومصالحه في العصر الحديث. ولا يستطيع أحد من المفكرين اليوم أن ينكر الإضافات الألمعية التي قدمها ڤيبر للعلم والمعرفة في مجال العلوم الإنسانية، ولا سيما في مجال علم الاجتماع. ومن البين أنه أغنى علم الاجتماع بنظرياته ومقولاته وأخصبه بعدد من المفاهيم الخلاقة الاستثنائية التي تدور في فلك البيروقراطية، والعقلانية، والتنظيم، وعلم الأديان، والأنماط المثالية، والمكانة، والسلطة، والطبقة، والتنظيم الاجتماعي. وهي أنماط من المفاهيم التي تجاوبت مع متطلبات النظام الرأسمالي الحديث بوصفه تنظيماً اقتصادياً يتميز بقوته وجبروته وسيطرته على معالم الحياة الإنسانية في العصر الحديث.

ومن مآثر ڤيبر أنه قد سجل “فتحاً عظيماً في تسليطِه الضوء على أحد أهم العناصر والعِلل والأسرار التي كانت وراء نهضة الغرب، وفي اكتشافِه تلك الرابطةَ القوية بين الأخلاق والعمل، بين النظري والتطبيقي، بين الروحي والمادّي؛ إذ لاحظ أنه أنّى وُجدت البروتستانتية (في شِقّها الكالفيني بخاصة) -وهي التي تُقدّس العمل، وتُشجّع روح المبادرة، وتحُثّ أشياعها على مُراكمة الأموال وتجميع الثروات… وكل ذلك في سبيل إرضاء الربّ واستدرار عطفِه وبلوغ الخلاص- انبعثتْ الرأسماليةُ ونشطت ” [102].

والحق يقال بإن ڤيبر ترك بصمته المميزة وعلامته الفارقة في العلوم الاجتماعية، ولا سيما في مجال السوسيولوجيا الدينية، وقد شكلت أعماله قوةً هائلةً تجلت في مدرسة فكرية رائدة في علم الاجتماع تحت مسميات عديدة أهمها: “علم الاجتماع الفيبري” أو “السوسيولوجيا التأويلية ” ومازالت مدرسته تسجل حضورها الفكري الكبير في مختلف ميادين العلوم الإنسانية المعاصرة.

هوامش الدراسة ومراجعها:


[1] – يقع كثير من الباحثين في خطأ القول إن ڤيبر ينتمي إلى الطبقة الوسطى، والحق يقال إنه كان من الطبقة البرجوازية: ماكس ڤيبر ابن عائلة من كبار الصناعيين وتجار الجملة وأصحاب مصانع نسيج إنكليزية ألمانية، كان شاهداً التحولات الاجتماعية الناجمة عن الثورة الصناعية، والده كارل أوغست ڤيبر (August Weber) الذي كان عضواً في جمعية تجار بيليفيلد (Bielefeld)، يجسّد شخصية المقاول في بدايات الرأسمالية. عمه كارل دافيد ڤيبر Car David Weber يمثل هو الآخر نموذج المقاول الرأسمالي إياه في العصر الجديد.

[2]– Weber, Max, . Economy and Society. Edited by Max Rheinstein. Translated by Edward Shils and Max Rheinstein. New York: Simon and Schuster, 1922/1968

[3] – Weber, Max, The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism, 2nd ed. Routledge (original work published 1904). 2001. 

[4] – Weber, Max, From Max Weber: Essays in Sociology. Translated and edited by H. H. Gerth and C. Wright Mills. Oxford University Press, USA. 1946/1958. 

[5] – Weber, Max, The Methodology of the Social Sciences. New York: Free Press, 1949. 

[6] – Weber, Max. 1993. Basic Concepts in Sociology. Translated and with an introduction by H.P. Secher. New York: Citadel Press (original work published 1962).

[7] – Weber, Max., The Religion of India: The Sociology of Hinduism and Buddhism. Free Press. 1962.

[8] – Weber, Max, Ancient Judaism. Free Press, 1967.

[9] – Weber, Max, The Religion of China. Free Press, 1968.

[10] – Weber, Max, The Vocation Lectures: Science as a Vocation, Politics as a Vocation. Hackett Publishing Company, 2004. 

[11] – لوران فلوري، ماكس فيبر، مرجع سابق، ص 15.

[12] – لوران فلوري، ماكس فيبر، مرجع سابق، ص 11.

[13] – جورج زيمل ( Georg Simmel) (1858-1918 ) فيلسوف وعالم اجتماع ألماني من رواد الكانطية الجديدة.

[14] – ويلهلم دلتاي ( Wilhelm Dilthey)‏ (1911-1833) فيلسوف وطبيب نفسي وعالم اجتماع ألماني، يعتبر الممثل الرئيسي للفلسفة بوست-هيغلية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن 20

[15] – هاينريخ ريكرت (: Heinrich Rickert)‏ َ فيلسوف ألماني، من مواليد 15 مايو 1863 في مملكة بروسيا، تلميذ فندلباند، وممثل رئيسي لمدرسة بادن الكانطية المحدثة.

[16] – لوران فلوري، ماكس فيبر، مرجع سابق، ص 25.

[17] – ويل ديورانت، قصّة الفلسفة، مرجع مذكور، ص 374.

[18] – يعد مفهوم النومينون (Noumenon) واحدا من أهم المفاهيم المركزية في فلسفة كانط، ويقصد به “الشيء في ذاته أو الحقيقة الأساسية للشيء التي تكمن وراء الظواهر( Thing in itself)، ويقابله بالألمانية (Ding an sich). ويعود أصل الكلمة إلى اليونانية، فهو من كلمة (νοούμενoν) المشتقة من الفعل (νοέω) ومعنى هذه الكلمة هو: أعتقد أو أعني. ويستخدم مصطلح “النومينون” بشكل عام كمصطلح مضاد لمفهوم الظاهرة “فينومينن” (Phenomenon) الذي يقصد به ظواهر الأشياء أو الأشياء من الخارج أو المواضيع التي تتلقاها الحواس.. و”النومينات” هي أشياء أو أحداث لا يمكن العلم بها عن طريق الحواس، لأنها مفاهيم مجردة مستقلة عن الحواس الإنسانية. وهذا يعني أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الأشياء بذاتها بل يستطيع أن يدرك مظاهرها وقوانينها الخارجية.

[19] – جميل صليبا، المعجم الفلسفي (ج 2)، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982، ص 513.

[20] – انظر: علي أسعد وطفة التربية الأخلاقية في الفلسفة الكانطية: مكاشفات نقدية معاصرة، لجنة التأليف والتعريب والنشر، جامعة الكويت، مجلس النشر العلمي، 2022 .

[21] – حيدر خضر، إيمانويل كانط الفيلسوف الشاهد على الحداثة والناقد لعيوبَها، مرجع مذكور، ص 319.

[22] – وائل القاسم، عن «كانط» ونقد العقل المحض/الخالص، مرجع مذكور.

[23] – مصطفى حلمي، فلسفة كانط الأخلاقية (الواجب)، الألوكة، 1/12/2012. http://api. alukah. net/sharia/0/47183/

[24] محمد بوبكري، التربية والحرية: من أجل رؤية فلسفية للفعل البيداغوجي، إفريقيا الشرق، مارس 1997، ص42.

[25] – محمد علي البار، الأخلاق أصولها الدينيّة وجذورها الفلسفية، دار كنوز المعرفة، عمان، 2010. ص 797.

[26] – محمد علي البار، الأخلاق أصولها الدينيّة وجذورها الفلسفية، مرجع مذكور، ص 797.

[27] – لوران فلوري، ماكس فيبر، مرجع سابق، ص 29.

[28] – جامباتيستا ڤيكو Giambattista Vico فيلسوف تاريخ ومنظّر قانوني إيطالي، ولد في نابولي ومات فيها، تعلّم بالكلية اليسوعية، وعلّم البلاغة بجامعة نابولي، درس اللغات القديمة والأدب والفلسفة وكذلك الطب والحقوق. واهتم بدراسة الحقوق الطبيعية وتوسيعها، كما أولى عناية فائقة لدراسة الحقوق الرومانية، فقرأ أمهات الكتب القديمة ونفائس المخطوطات المحفوظة في مكتبة دير «ايسكيا» في مدينة ڤاتولا Vatolla قرب سالرنو Salerno.

[29] – نقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع: طبيعتها وتطورها، ترجمة: محمود عودة وآخرون، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثامنة 1983، ص: 261.

[30] – look: Weber, Max. 1949. The Methodology of the Social Sciences. New York: Free Press.

[31]– Weber, Max. 1922/1968. Economy and Society. Edited by Max Rheinstein. Translated by Edward Shils and Max Rheinstein. New York: Simon and Schuster.

[32] – ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع، ترجمة محمد التركي، مراجعة فضل الله العميري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2015.

[33] – لوران فلوري، ماكس فيبر، مرجع سابق، ص 29.

[34] – فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه، علم الاجتماع، ترجمة: أياس حسن، دمشق: دار الفرقد، 2010، صص 47،48. .

[35] – جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع، مرجع سابق.

[36] – عبد الحكيم شباط، ماكس ڤيبر والفعل الاجتماعي، دار ناشري، 03 تشرين2/نوفمبر 2013. http://bitly.ws/zjnd

[37] – جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع، مرجع سابق.

[38] – جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع، مرجع سابق.

[39] – عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، دار الهلال، القاهرة، 2001، ص 20.

[40] – عبد الوهاب المسيري: دفاع عن الإنسان(دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة)، ص 298. نقلا عن: ليندة صياد، النموذج باعتباره منهجا في التحليل عند عبد الوهاب المسيري، مجلة الكلمة، العدد 64 أغسطس 2012. http://www.alkalimah.net/Articles/Read/4684

[41] – عبد الوهاب المسيري: دفاع عن الإنسان، المرجع السابق.

[42] – عبد الحكيم شباط، ماكس ڤيبر والفعل الاجتماعي، مرجع سابق.

[43] Rolf E. Rogers ,  Max Weber’s ideal type theory , Philosophical Library, Social Science , 1969.  p90.

[44] – George Ritzer, Classical Sociological Theory, Eighth Edition, New York :Published by McGraw-Hill, 2010. PP 119,120.

[45] – Edward Shils and Henry Finch, (eds.), Max Weber. On the Methodology of the Social Sciences (New York, The Free Press 1949), p.90.

[46] – فكروني زاوي، النمذجة في العلوم الاجتماعية، من المفهوم إلى المؤشرات، مجلة التدوين، العدد 01 السداسي الأول 2018. صص 24-29. ص 24.

[47] – George Ritzer, Classical Sociological Theory, Eighth Edition, New York :Published by McGraw-Hill, 2010. PP 119,120.

[48] – George Ritzer, Classical Sociological Theory, Eighth Edition, New York :Published by McGraw-Hill, 2010. PP 119,120.

[49] – Lachman, L. M., The Legacy of Max Weber. Berkeley, Calif.: Glendessary Press, 1971.  P 26.

[50] – Max weber, The Methodology of the Social Sciences. Ed. Edward Shils and Henry Finch. 1949 New York: Free Press, 1949. P 43.

[51] – نقلا عن جميل حمداوي: أنتوني غيدنز: علم الاجتماع، ترجمة فايز الصياغ، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة1، 2005. ص 71.

[52] – نقلا عن جميل حمداوي: عبد الله إبراهيم، الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2010. ص 98-99.

[53] – George Ritzer, Classical Sociological Theory, Eighth Edition, New York :Published by McGraw-Hill, 2010. PP 119,120.

[54] – ماكس فيبر، مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ترجمة: صلاح هلال، مراجعة وتقديم وتعليق محمد الجوهري، القاهرة، المركز القومي للترجمة، العدد 1675، ص 1، 2011. ص 53.

[55] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، القاهرة: دار الهاني للطباعة والنشر، 2006. ص120.

[56] – ماكس فيبر، مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ترجمة: صلاح هلال، مراجعة وتقديم وتعليق محمد الجوهري، القاهرة، المركز القومي للترجمة، العدد 1675، ص 1، 2011. ص 53.

[57] – عبد الحكيم شباط، ماكس ڤيبر والفعل الاجتماعي، دار ناشري، 03 تشرين2/نوفمبر 2013. http://bitly.ws/zjnd

[58] – عبد الحكيم شباط، ماكس ڤيبر والفعل الاجتماعي، المرجع السابق.

[59] – عبد الحكيم شباط، ماكس ڤيبر والفعل الاجتماعي، مرجع سابق.

[60] – يحي سعد، النظرية البيروقراطية لماكس ويبر، موقع دراسة، 7/12/ 2020. https://drasah.com/Description.aspx?id=3599

[61] – عبد الستار إبراهيم دهام، ”التنظيم البيروقراطي إزاء الفكر الإداري المعاصر: إطار نظري”، مجلة جامعة الأنبار للعلوم الاقتصادية والإدارية، العدد 2 ،2008 ،ص.6.

[62] – نقلا عن: الحبيب بلية ومعمري المسعود، نموذج التنظيم البيروقراطي لماكس فيبر: الخلفيات والحدود، مجلة الميدان، العدد 4، 2019. http://bitly.ws/zG8U

[63] – لوران فلوري، ماكس فيبر، مرجع سابق، ص 88.

[64] – كاريزما (Charisma) كلمة يونانية الأصل تعني التفضيل الإلهي لشخص إنساني بسمات وخصائص وفضائل ملهمة تفوق ما يوجد لدى البشر العاديين وتشير إلى الجاذبية الكبيرة والحضور الطاغي الذي يتمتع به بعض الأشخاص، ولاسيما قدرتهم الفائقة على التأثير في الآخرين والهيمنة عليهم روحيا واجتماعيا وغالبا ما يوصف الرجل الكاريزمية بأنه يمتلك سحرا فائقا مميزا في شخصه يوظفه في استقطاب الولاء والحماسة والطاعة لدى الآخرين من أتباعه ومريديه.

[65]. Max Weber( 1968) , On Charisma and Institution Building, Edited by Eisenstadt, University of Chicago Preess, p 51. “It is written … but I say unto you”.

[66]. Joseph Nyomarkay ( 1967) , Charisma and Factionalism in the Nazi Party, University of Minnesota, p. 9.

[67] – لوران فلوري، ماكس فيبر، مرجع سابق، ص 90.

[68] – عبد الباسط عبد المعطي، عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، عالم المعرفة، العدد 44، الكويت، 1981. ص 93.

[69] – لوران فلوري، ماكس فيبر، مرجع سابق، ص 125.

[70] – جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع، مرجع سابق.

[71] – جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع، مرجع سابق.

[72] – لوران فلوري، ماكس فيبر، مرجع سابق، ص 91.

[73] – لوران فلوري، ماكس فيبر، مرجع سابق، ص 91.

[74] – بنجامين فرانكلين (Benjamin Franklin)‏ (1706 –1790) هو أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة. كان موسوعيًا وكاتبًا وطابعًا وفيلسوفًا سياسيًا وعالمًا ومخترعًا ورجل فكاهة وناشطًا مدنيًا ورجل دولة ودبلوماسيًا. كان شخصية بارزة في التنوير الأمريكي وفي تاريخ الفيزياء بسبب اكتشافاته ونظرياته في الكهرباء. وكمخترع، فهو معروف بمانع الصواعق والنظارات ثنائية البؤرة وموقد فرانكلين، وغيرها من الاختراعات. أسس العديد من المنظمات المدنية، بما في ذلك شركة المكتبة وأول قسم إطفاء بفيلادلفيا وجامعة بنسلفانيا.

[75] – ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة: محمد علي مقلّد، مركز الإنماء القومي، مراجعة: جورج أبي صالح، بيروت، لبنان، 1990، ص26-27.

[76] – نقلا عن: محمد أحمد بيومي، علم الاجتماع الديني ومشكلات العالم الإسلامي (الأزاريطية: دار المعرفة الجامعية، 2003 )، ص ص 272-273.

[77] – انظر: كاترين كوليو تيلين، ماكس ڤيبر والتاريخ، ترجمة: جورج كتورة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 1994، ص34-35.

[78] – .زيدان عبد الباقي، علم الاجتماع الديني (مكتبة غريب، 1981 )، ص 110

[79] – براق زكريا، ماكس ڤيبر وأخلاق العمل والرأسمالية، مجلة حكمة، 21/6/2021. http://bitly.ws/zoxK

[80] – براق زكريا، ماكس ڤيبر وأخلاق العمل والرأسمالية، مرجع سابق.

[81] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، 126.

[82] – الكالڤينيّة هي مذهب مسيحي بروتستانتي يعزى تأسيسه للمصلح الفرنسي جان كالفن، وكان هذا الأخير قد وضع بين عامي 1536م و 1559م مؤلّفه (مبادئ الإيمان المسيحي) الذي يعّد من أهم ما كتب في الحركة البروتستانتية الإصلاحية

[83] – موسوعة المعرفة، الكالفينية، http://bitly.ws/zUwZ

[84] – إسماعيل نوري الربيعي، ڤيبر والعقلانية الألمانية، أكاديميا ،26/1/2022 http://bitly.ws/zpc9

[85] – براق زكريا، ماكس ڤيبر وأخلاق العمل والرأسمالية، مرجع سابق.

[86] – فيبر، المصدر نفسه، ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة: محمد علي مقلّد ص146.

[87] – فيبر، المصدر نفسه، ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص154

[88] – فيبر، المصدر نفسه، ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ص154

[89] – براق زكريا، ماكس ڤيبر وأخلاق العمل والرأسمالية، مرجع سابق.

[90] – براق زكريا، ماكس ڤيبر وأخلاق العمل والرأسمالية، مرجع سابق.

[91] – لوران فلوري، ماكس ڤيبر، ترجمة: محمود علي مقلد، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2008، ص 21.

[92] – براق زكريا، ماكس ڤيبر وأخلاق العمل والرأسمالية، مجلة حكمة، 21/6/2021. http://bitly.ws/zoxK

[93] – براق زكريا، ماكس ڤيبر وأخلاق العمل والرأسمالية، المرجع السابق.

[94] – ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، مرجع سابق، ص14.

[95] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، القاهرة: دار الهاني للطباعة والنشر، 2006. 127.

[96] – عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 94-95.

[97] – عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 94-95.

[98] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، القاهرة: دار الهاني للطباعة والنشر، 2006. ص 128.

[99] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، المرجع السابق، ص 128.  

[100] – تشارلز رايت ميلز (C. Wright Mills) عالم اجتماع أمريكي، (1916-1962) كان له سبق في تطبيق نظريات ماكس ڤيبر ونشرها في الولايات المتحدة، كما طبق نظريات مانهايم حول سوسيولوجيا المعرفة على الفكر السياسي وسلوك المفكرين. ويعد ميلز الأب الروحي للاتجاه الراديكالي في علم الاجتماع المعاصر، ومن الأعلام البارزين في اليسار الجديد بالولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات القرن العشرين المنصرم.

[101] – ارفينج زايتلن، النظرية المعاصرة في عالم الاجتماع: دراسة نقدية، ترجمة: محمود عودة وإبراهيم عثمان، دار السلاسل، الكويت، 1989. ص 211.

[102] – براق زكريا، ماكس ڤيبر وأخلاق العمل والرأسمالية، مرجع سابق.
________
*أ.د. علي أسعد وطفة / كلية التربية – جامعة الكويت

جديدنا