أسرار القراءات القرآنيَّة

image_pdf

علم القراءات علم عزيز المنال، غزير لا تنقضي عجائبه، ومفيداً لا تنقطع فوائده، احتوى علوماً كثيرة تتصل به، أو يتصل بها، كعلوم التفسير والحديث، والرواية، واللغة، والدلالة، والأصوات، والصرف، والنحو، والذي يتوجه إلى عالم القراءات يدخل بحراً واسعاً من المصادر التي تُعنى بهذا اللون من العلوم الجليلة، ويجد نفسه إن أراد التزود من العلم والتدبر في البحث بحاجة إلى النظر في عشرات من أمات المصادر الأولى لهذا العلم التي انشعبت بدورها إلى شعب كثيرة منها ما يخص القراءات نفسها، فهناك القراءات السبع، والعشر، والأربع عشرة، والشواذ من القراءات، وهناك مظان في تعليل القراءات والكشف عن أسرارها ومنبعها الرباني المعجز الميسر، وهناك كتب في توجيهاتها ومقتضياتها الإعرابية والدلالية، وكتب في رجالها، ورواتها، ومدارسهم.

ولا يعني اختلاف القراءات القرآنية اضطراباً في الرواية، أو تشكيكاً فيها من حيث صحتها وارتفاع سندها، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما زعم بعض المستشرقين، ومن تبعهم من الدارسين العرب؛ وذلك لأن اختلاف القراء في قراءاتهم مغاير لاختلاف غيرهم من الفقهاء والأدباء والبلغاء الذين يقوم اختلافهم على الاجتهاد وفهم النص، مما يجعله يحتمل الصواب والخطأ.

أما اختلاف القراء -في القراءات المتواترة الصحيحة- فكله حق وصواب نزل من عند الله، وهو كلامه تعالى، لا شك فيه، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي، والحق في نفس الأمر فيه واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر.

وقد ترتب على اختلاف القراء في القراءات القرآنية، اختلاف آخر في تعدد الأوجه الإعرابية التي تحمل دلالات خاصة من حيث إن القرآن الكريم نص مكتوب، وكل وجه -أو قراءة- من الأوجه له معنى خاص قد يترتب عليه حكم من الأحكام الشرعية، والنحاة بتعدد توجيهاتهم النحوية هذه، إنما يحاولون أن يقدموا الاحتمالات الممكنة في هذا النص للغة العليا التي تفتقد إلى ملابسات الحال أو الموقف اللغوي في حال النطق، فتعدد الأوجه الإعرابية في هذه الحال لا يمكن أن يعد دليلاً على عدم أهمية الإعراب، أو على الترخص في العلامة الإعرابية، ولكنه تفسير للغة المكتوبة وإسباغ مواقف ملائمة لكل حالة أو وجه من هذا الاختلاف الذي يدل على خصوبة عطاء القرآن الكريم بقراءاته المتعددة.

وليس هذا التعدد اعتباطيا أو عشوائيا أو أنه أتى لا يدل على شيء، بل هو تعدد مقصود ومعتبر يدل على وجه من وجوه الإعجاز للنص القرآني، ودليل على ثراء نصه، وتعدد إشعاعه، بحيث تبدو الآية القرآنية -أو القراءة- كالماسة المشعة أنى استقبلتها ألقت عليك بأضوائها.

ولا شك أن الدارس للنفس الإنسانية في ضوء القرآن وقراءاته يجد فيه معيناً لا ينضب ويتبين تأثيره البالغ الشأن في نفس الإنسان فهو يرقق القلب وتسمو به النفس  ويخفف من وهج الحياة وأعبائها فيكون شفاء لما في صدورنا ونوراً نمشي به في حياتنا  «اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّـهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿٢٣﴾»[1]، كما أنه يستشير العواطف والوجدانات ويحرك المشاعر والأحاسيس والانفعالات بجمال أسلوبه وعذوبة لفظه وروعة بيانه وقراءاته ودقة أحكامه فتستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور.

وهذا سر من أسرار القراءات القرآنية يكمن في ذاتها وفي أثرها على الأسماع وتأثيرها في القلوب والنفوس، إنها تخاطب ملكات خفية لا نعرفها نحن ولكن يعرفها الخالق سبحانه وتعالى، وهذه الملكات تنفعلُ حيثما يُقرأ القرآن الكريم، قال الخطابي: …فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له القلب من اللذة والحلاوة في حال من الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور حتى إذا أخذت حظها منه، عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق تقشعر منه الجلود، وتفزع له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها[2].

وهذه الكلمات توجهنا إلى ناحية عظمى من نواحي إعجاز القرآن الكريم حيث توضح لنا كيف نقرت كلمات الله حبات القلوب، وهزت جوانب الوجدان وامتزجت بأرق الأحاسيس واختلطت بأرق المشاعر حتى جعلت من السامع عقلاً يذعن وقلباً يخشع وخواطر تطمئن، ففي القرآن الكريم طاقة روحية ذات تأثير في نفس الإنسان فهو يهز وجدانه ويرهف أحاسيسه ومشاعره ويصقل روحه ويوقظ إدراكه وتفكيره ويجلي بصيرته فإذا الإنسان نتيجة لتأثير القرآن يصبح إنساناً جديداً كأنه خلق خلقاً جديداً، ذلك أن كل من يسمع القرآن سيجد له تأثيراً وحلاوة لايستطيع تفسيرها ولكنها تجذبه إلى الإيمان.

ومن ذلك قوله تعالى: «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿١٩﴾»[3]، وبَاعَدَ، وبَعِدْ بتشديد العين، وبَاعِدْ، وبَعَدَ بتشديد العين، وبَعُدَ، فمن قرأ بَاعِدْ وبَعِدْ بشديد العين فمعناها واحد، وهو على جهة المسألة، ويطوي المعنى أنهم سئموا الراحة وبطروا النعمة، ومن قرأ بَعُدَ فالمعنى: بًعُدَ ما بين أسفارنا، وبَعُدَ سيرنا بين أسفارنا.

وفي السكت على الكلمات الأربعة: عوجا قيما ومرقدنا هذا ومن راق وبل ران؛ ففي كل واحدة منها سر من أسرار الله تعالى، ولأن السكت يوضح معانيها أكثر من وصلها فقد يوهم من وصلها معنى غير المعنى المراد منها فيتوهم من وصل قيما أنه صفة لعوجا وليس كذلك بل هو حال، ويتوهم من وصل هذا أنه صفة لمرقدنا وليس كذلك بل هو كلام مبتدأ ليس تماماً لما قبله، ويتوهم من وصل راق أنه صيغة مبالغة من المروق وليس كذلك، ويتوهم من وصل بل ران أنه مثنى بر ضد البحر، وليس كذلك فإن بل حرف إضراب وران فعل ماض ومن قرأها بالوصل من غير سكت قال إن المعنى ظاهر ولم يلاحظ تلك المعاني.


[1] -سورة الزمر، الآية: 23.

[2] -بيان إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز، ص: 70.

[3] -سورة: سبأ، الآية: 19.
__________
*الدكتور ربيع شكير.

جديدنا