سؤال المعنى والحياة الطيِّبة عند الفلاسفة

image_pdf

قراءة في كتاب لوك فيري أجمل قصَّة في تاريخ الفلسفة

يناط بالتفكير الفلسفي طرح الأسئلة الكبرى التي تؤرق العقل البشري على مر التاريخ، وهي أسئلة تندرج عادة ضمن المباحث الكبرى للفلسفة؛ وهي مبحث الوجود أو الأنطلوجيا، ومبحث المعرفة أو الإبستيمولوجيا، ومبحث القيم أو الأكسيولوجيا. فالفيلسوف يتساءل عن علة الوجود ومعناه ومصيره، ولذلك ذهب أرسطو إلى اعتبار الفلسفة بحثا في العلل الأولى للوجود، كما يتساءل الفيلسوف أيضا عن إمكانية المعرفة ومصدرها وحدودها، ثم أنه يتساءل في مجال القيم عن أسس الأخلاق ومعايير السعادة والسبل المؤدية إليها وعلاقة كل ذلك بالحرية والإرادة الإنسانية.

في هذا السياق، يذهب لوك فيري إلى القول بأن «كل الفلسفات الكبرى، مهما تكن الحقبة التي تنتمي إليها، تنتظم دائما حول محاور تفكير رئيسية ثلاثة: الأول يتعلق بالحقيقة والمعارف: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ما مدى مصداقية معارفنا؟ كيف نتوصل إلى اكتسابها؟ أما المسألة الكبرى الثانية، فهي تخص دائرة الأخلاق: ما الخير؟ وما الشر؟ ما معنى أن “نفعل فعلا حسنا”؟ كيف نحدد ما هو عادل..؟ وأخيرا، يؤدي البحث الفلسفي دائما إلى مسألة قصوى، تلك التي تتعلق بالحكمة، أي بمعنى الحياة ذاته، وبتعريف الحياة الطيبة بالنسبة إلى البشر الفانين. كل هذه الأسئلة التي تطرح على كل واحد منا، ولو بشكل غامض، في مختلف لحظات حياتنا، تجد لها أجوبة رائعة في أعمال كبار الفلاسفة».[1] من هنا، نجد الفلسفة تضطلع بمهمة أساسية تتمثل في سعيها إلى إضفاء معنى ما على حياتنا، وذلك بالاعتماد على ملكة العقل التي تميز بها الكائن البشري؛ ذلك «إنه لأمر بسيط وعميق للغاية في آن واحد أننا في حاجة إلى إضفاء معنى على حياتنا.. يكون معنى صالحا بعيدا عن التغيرات الطارئة.. معنى لا يقوضه الموت كليا. والفلسفة إنما تأخذ على عاتقها تحديد الشروط والوسائل الكفيلة بإيجاد هذا المعنى بواسطة الموارد البشرية وحدها.. تلك المتمثلة في العقل والفكر وحدة الذهن دون المرور بالإله، ولا بالإيمان. وبذلك، ستبدو الفلسفة على المدى الطويل لتاريخ الفكر الأوروبي هي المنافسة الكبرى للأديان».[2]

في إطار تقديم الفلسفة لأجوبتها الكبرى عن الإشكالات المطروحة أعلاه، يستقرئ لوك فيري تاريخ الفلسفة لكي يستخرج منه خمسة أجوبة كبرى، حيث نجده يميز في كتابه “أجمل قصة في تاريخ الفلسفة” بين خمسة تصورات لمعنى الحياة الطيبة والسعيدة ولفكرة الخلاص والخلود اللذين ينشدهما الإنسان؛ التصور الأول هو التصور اليوناني الذي يربط الإنسان بالكوسموس ويجعل السعادة والخلاص مرتبطين باحتلال المكان المناسب في النظام العام للكون، والتصور الثاني هو التصور المسيحي الذي يجعل الحياة الطيبة والخلاص مرتبطين بالإله، ويجعلان العقل البشري تابعا لتعاليم هذا الأخير وفي خدمة الوحي الإلهي، بينما نجد أن العقل اليوناني كان يفكر بشكل حر ومستقل عن الإله. أما التصور الثالث فهو التصور الإنسانوي الذي بدأ مع عصر النهضة وتبلور أكثر مع ديكارت، والذي ربط السعادة والخلاص والحياة الطيبة بالإنسان، وجعله مصدر التشريع والتأسيس سواء للمعرفة أو للقيم. ثم سيظهر التصور الرابع الذي هو التصور التفكيكي الذي سيعلن عن موت الإله والإنسان معا، والذي ابتدأ مع فلاسفة التفكيك في القرن التاسع عشر خصوصا نيتشه وشوبنهاور وماركس، والذين عملوا على تفكيك المثل المؤسسة على الدين أو على المبادئ الإنسانوية ذاتها، والعمل على هدمها وتفكيكها من أجل تخليصنا من القيود “الإيديولوجية” التي تكبلنا، ومن أجل إعادة الاعتبار لتلك الجوانب المنسية في الوجود الإنساني لدى الفلسفات السابقة؛ مثل الجوانب الغريزية واللاشعورية والحيوانية عند الإنسان. أما التصور الخامس فهو التصور الذي يرتكز على مبدإ الحب، والذي يرى أن الحب هو الذي يمنح المعنى الحقيقي لحياتنا.

1- الجواب الفلسفي اليوناني: التناغم مع نظام الكون هو أساس الحياة الطيبة

حينما انتصرت آلهة الأولمب بزعامة زوس، ملك الآلهة، في حربها ضد الجبابرة أو قوى الفوضى والدمار، قام زوس على نحو عادل بإعطاء كل إله ما يستحقه من نفوذ في هذا الكون، كإعطاء الأرض لجايا والسماء لأورانوس والبحر لبوزيدون..الخ. وبهذا الإجراء سيحصل تناغم في الكون باحتلال كل واحد مكانه الطبيعي في هذا العالم. وهذا التناغم الكوسمولوجي الموجود في الأساطير اليونانية هو الذي سيستند إليه كبار الفلاسفة اليونان، أمثال أفلاطون وأرسطو، من أجل بناء خطابهم الفلسفي حول الحقيقة والخير والشر والحياة الطيبة. هكذا، يعتقد لوك فيري أن فلاسفة اليونان يرون «أن الكوسموس هو في آن واحد إلهي ومنطقي؛ إلهي لأنه من صنع الآلهة وليس من صنع البشر، ومنطقي لأنه قابل للإدراك من قبل العقل. وهذا الكوسموس سيصلح لتحديد الحياة الطيبة، وتحديد معنى الحياة… بمعنى أن الحياة الطيبة هي الحياة المتناغمة مع الكوسموس، أي أنها بتعبير آخر متناغمة مع التناغم الكوني في العالم… وسيكون بوسع الفلاسفة، بالاعتماد على الأمثلة المشخصة التي توفرها الأساطير في هذا الشأن، أن يستخلصوا منها تصورات عقلية، أخلاقية ووجودية متماسكة ومستقلة عن الدين. معنى ذلك أن المرء بعيد بالفعل، رغم حضور الآلهة، عن أن يسند إليها دور واهبي الخلاص، الذي ستقر به الأديان التوحيدية الكبرى فيما بعد للإله الواحد، إذ على البشر أن يجدوا خلاصهم بأنفسهم في صلب هذا النظام الكوني».[3]   

سيتم الانتقال إذن من الميثوس إلى اللوغوس، أو من الأسطورة إلى الفلسفة، ابتداء من القرن السادس قبل الميلاد، وسيقتبس الفلاسفة النظام العقلي الموجود في الأساطير من أجل التعبير عنه تعبيرا عقليا ونظريا، في أفق إنتاج خطاباتهم حول الوجود والمعرفة والقيم.

2- الجواب الديني: الخلاص بالإله والإيمان

يذهب لوك فيري إلى القول بأن المسيح أحدث انقلابا إيتيقيا، استبدل بموجبه الأخلاق الأرستقراطية اليونانية بأخلاق أخرى تتأسس على الحرية والمساواة. فقيمة الإنسان الأخلاقية لا تتحدد من وجهة نظر مسيحية بمواهبه الفطرية الطبيعية، بل بما سيصنعه لاحقا بنفسه انطلاقا من مجهوده وإرادته الحرة. هكذا، فإن «ما يشهد لدى الإنسان على قيمته الأخلاقية ليس الطبيعة، وإنما الحرية والعمل المنجز!».[4] ومعنى ذلك، من وجهة النظر الدينية هاته، أن الناس سواسية أمام الإله، وهم يتفاضلون عن بعضهم البعض فقط بأعمالهم وبما كسبت أيديهم. ولعل فكرة المساواة هذه هي التي سيقوم إيمانويل كانط وأمثاله من فلاسفة عصر التنوير بعلمنتها، لكي تصبح مساواة أمام القانون وليس أمام الإله.

لكن لوك فيري يجعلنا ننتبه إلى مفارقة عجيبة موجودة في “البيت المسيحي”، هي تلك المتمثلة في أن الكنيسة الكاثوليكية قدمت من خلال توما الأكويني نموذجا كوسمولوجيا تراتبيا موروثا عن أرسطو، وهو النموذج المتعارض مع رسالة المسيح الموجودة في الأناجيل، والتي تنسف الرؤية الأرستقراطية للعالم، وترتكز على فكرة الإرادة والحرية والعمل. وقد أفرزت هذه المفارقة تيارين في العالم المسيحي؛ أحدهما ذو نزعة طبيعية تقول بتفاوت المواهب والطبائع، وآخر ذو نزعة إنسانية يقول بقيم المساواة والحرية. وهذا ما يجعلنا «نفهم كيف ولماذا “توجد عدة غرف في بيت الأب” ولماذا ستوجد عدة عوالم مسيحية».[5]

من ناحية أخرى، يعود لوك فيري إلى بعض نصوص هيجل لكي يبرز لنا التعارض الحاصل بين التصورين اليهودي واليوناني، بخصوص علاقة الإنسان بكل من الإله والطبيعة. فالإله في التصور اليهودي هو كائن متعال ومفارق ولا يمكن تمثله وإدراكه، وهو يفرض قوانين إلزامية ينبغي على البشر اتباعها، بينما الطبيعة مناوئة وينبغي السيطرة عليها والتحكم فيها. أما التصور اليوناني فيقول بعلاقة محايثة بين الإله والعالم، بحيث أن الألوهية متطابقة تماما مع قوانين العالم الطبيعي، مما يجعل خلاص الإنسان مرتبطا بتناغمه وتوافقه مع هذه القوانين الكوسمولوجية.

وبخلاف التصورين السابقين، يأتي التصور المسيحي بفكرة أخرى تتمثل في التوافق بين الميول الطبيعية والقوانين الأخلاقية. غير أنه لا يكفي في نظر المسيح تطبيق القوانين بشكل حرفي، بل تطبيق روح تلك القوانين، «وبتعبير آخر، لا يدعونا المسيح إلى العمل أقل من القانون، بل أكثر: ينبغي إضافة الروح إلى حرفية الفعل. فاتباع القانون، حتى كأشد ما يكون، لا قيمة له بتاتا إن لم يكن فيه إحساس بالقلب».[6] من هنا، فحب الإله هو من سيسمح للإنسان بتطبيق روح القانون، وليس فقط باتباع الواجب على نحو حرفي وجامد. فالحب هو من يجعل الفعل يتوافق مع روح القانون، ويجعل العلاقة وطيدة بين الميل الطبيعي والغائية الأخلاقية. فبواسطة الحب يتحقق التوافق بين الطبيعة والقانون، ويجعل هذا الأخير يفقد إلزاميته، ويمنح البشر طاقة حيوية تحفزهم على الفعل وتمنح لحياتهم الدلالة والمعنى.

على العموم، فإن الرؤية الدينية تعد الفرد بخلاص شخصي، وتمنح لحياته معنى وغائية، وتجعل من حب الإله مصدرا لقيمة الفعل الاخلاقي، وتقر بالمساواة بين البشر أمام الإله، مما يجعلها رؤية تتعارض مع الرؤية الأرستقراطية التي تكرست في الفلسفة اليونانية، والتي تقول بفكرة “الطبائع” وتقر بالتفاوت الطبيعي بين الأفراد.

3- الجواب الإنسانوي الحديث: الديمقراطية والمساواة في الحقوق

قدمت الكوسمولوجيا اليونانية تصورا مغلقا للكون، قوامه التناغم والتراتبية التي تحكم أجزاءه. وقد انعكس هذا أيضا على المستوى الأخلاقي والسياسي، بالقول مثلا بفكرة “الطباع” مع أفلاطون وتصوره لجمهورية سياسية تكرس التفاوت الطبيعي بين الأفراد، وقول أرسطو بالعلل الغائية التي تجعل الشيء يحتل قيمته ومكانه المتميز بحسب اختلاف طبيعته عن باقي الأشياء. ومع ظهور الكوسمولوجيا الحديثة، مع نيوتن على وجه الخصوص، سيتم تجاوز التصور القديم للعالم لصالح تصور جديد يقول بالعلل الفاعلة وبكون متجانس ولانهائي. في هذا العالم الجديد لا وجود لأي تراتب أو تفاضل بين الأشياء والموجودات. وسيكون لهذا التصور الجديد للعالم انعكاسات على المستوى الأخلاقي والسياسي، وسيؤدي إلى ظهور حقوق الإنسان. فمثلما أنه لا تفاضل بين أشياء الكون، فكذلك لا تفاضل بين بني البشر. من هنا، فإن «هذه النشأة التي عرفتها المساواة بين الأمكنة في العالم، على خلفية فضاء لامتناه، ستؤدي على هذا النحو إلى القول بمساواة بين الكائنات البشرية على الصعيد الأخلاقي والسياسي. وبهذا المعنى، يمكن القول إن القطيعة مع الكوسمولوجيا القديمة، المتراتبة والمحددة بغايات، ستكون في المستوى الأخلاقي والسياسي أحد عوامل القطيعة التي ستؤدي إلى نشأة عالم المساواة وإلى نشأة الديمقراطية».[7]

يتعلق الأمر هنا، بقطيعة بين التصور القديم للعالم والتصور الحديث، باستبدال رؤية للعالم برؤية أخرى؛ فلم يعد العالم منغلقا ومحكوما بالعلل الغائية وبنظام متراتب وسرمدي، بل أصبح منفتحا ولامنتاهيا ومحكوما بالعلل الفاعلة وبمبدأ السببية، إنه عالم غير متراتب وليس له نظام ثابت، ولا يسير نحو غاية محددة. ستلغي الفيزياء الحديثة العلل الغائية المسيطرة على العالم القديم لكي تعمل على تفسير الظواهر بالاعتماد على العلل الفاعلة. كما ستستبدل النزعة الإحيائية في الفيزياء الأرسطية، بالنزعة الآلية المرتكزة على مبدأ السبب الكافي.


4- الموقف التفكيكي: تفكيك المثل العليا وإعادة الاعتبار إلى اللامفكر فيه

بعد أن قدم لوك فيري الأجوبة الفلسفية الثلاثة عن سؤال المعنى في الحياة وكيفية بلوغ الحياة الطيبة، وهي الجواب الكوسمولوجي اليوناني والجواب اللاهوتي المسيحي والجواب الإنسانوي الحديث، انتقل بعد ذلك في كتاب “أجمل قصة في تاريخ الفلسفة” إلى الحديث عن الجواب التفكيكي الرابع، والذي ابتدأ مع فلاسفة التفكيك في القرن التاسع عشر خصوصا نيتشه وشوبنهاور وماركس، والذين عملوا «على تفكيك المثل المؤسسة على الدين أو على المبادئ الإنسانوية ذاتها، بلا هوادة… إن فلاسفة التفكيك إذ يقومون بعملية الهدم يأملون تخليصنا من القيود “الإيديولوجية” التي تكبلنا، وبهذه الطريقة يأملون تحرير أبعاد من الوجود منسية إلى ذلك الحين، مخمدة أو مقموعة، كما هو الشأن بالنسبة إلى اللاشعور أو الحيوانية فينا».[8] هكذا، بالرغم من أن الإنسان في عصر الأنوار قد عوض الكوسموس والإله، إلا أنه مع ذلك ظل بنظر نيتشه إنسانا عدميا. ولهذا، ستعلن فلسفة التفكيك موت الإله والإنسان معا. فبعد تحطيم نيتشه للأوثان وإعلانه عن موت الإله، سيعلن ميشيل فوكو بعد ذلك عن موت الإنسان المثالي كما تتصوره فلسفة الأنوار، ذلك الإنسان الذي يتوهم أنه قادر على التحكم في الدوافع والقوى الحيوية والاجتماعية في حين أنه نتاج لها. من هنا، سيتم إعطاء معنى للحياة انطلاقا من تحرير تلك القوى الحيوية من القيود التي تضعها فيه المثل العليا، سواء كان مصدرها الإله أو الإنسان، وترك المجال لهذا الأخير لكي يعيش حياة أكثر حيوية وقوة وثراء. وستصبح شروط الحياة الطيبة ملتصقة بالحياة الدنيوية الواقعية، وملازمة لغرائز الإنسان وقواه الحيوية، ومبنية على التناغم الحاصل بين تلك القوى. وسيتم في فلسفات التفكيك رفض كل القيم الخارجية والمتعالية عن الواقع البشري، سواء كانت إلهية أو إنسانية.

سيعتبر لوك فيري أن نيتشه هو المؤسس الفعلي لفلسفات التفكيك في القرن العشرين، هذه الفلسفات التي أعادت الاعتبار إلى المنسي واللامفكر فيه لدى الفلسفات المثالية واللاهوتية، وستعيد الاعتبار إلى الجوانب المهمشة من قبل تلك الفلسفات مثل: الجنس، الغرائز، الجسم، الجنون، اللاشعور…الخ. من هنا، سيرتبط معنى الحياة وستتحدد الحياة الطيبة بإفساح المجال لهذه الدوافع الحيوانية والجسدية، لكي تبرز وتحقق ذاتها بكل قوة وحرية. وبهذا نكون مع فلسفة التفكيك «قد تغلبنا على المبادئ المتعالية التي كانت تحدد تقليديا معنى الحياة، وغرسنا مسألة المعنى هذه في كائن بشري أكثر التحاما بالجسد مما كان عليه يوما في ما مضى».[9]

ومهما تكن المزايا التي جاء بها الموقف التفكيكي مع نيتشه، في نقده اللاذع للقيم اللاهوتية والأنوارية ولفلسفات الوعي، وفتحه لآفاق جديدة وواعدة في فهم الكائن الإنساني، فإن الموقف النيتشوي مع ذلك يطرح الكثير من الصعوبات ويسقطنا في العديد من المآزق التي تفرض بالضرورة تسليط سهام النقد عليه والكشف عن تناقضاته، من أجل تأسيس موقف فلسفي آخر يتجاوزه ويحتفظ ببعض مزاياه في الآن ذاته. هنا، يتحدث لوك فيري عن ثلاثة تأويلات رئيسية خضعت لها فلسفة نيتشه في الفكر الغربي، يسوقها كما يلي: « يمكن أولا أن نرى في نيتشه.. وريثا للأنوار، فيلسوفا يواصل ويجذر نقد الدين والميتافيزيقا… وهنالك تأويل ثاني نجده في مؤلفات جيل دولوز..، يجعل من نيتشه ناقدا متجذرا وليس مواصلا لإنسانوية الأنوار، التي يدرجها في تفكيكه اللاذع للحداثة. هذه القراءة، التي يتبناها فوكو أيضا، تعتبر أن نيتشه هو الفيلسوف الأول والرئيسي،  ليس فقط ل”موت الإله”، ولكن ل”موت الإنسان” بحق، وأنه مفكر لا إنسانوي قطعا… وأخيرا تأويل ثالث، هو تأويل هيدجر.. إنه يكتشف في نيتشه مفكر التقنية بامتياز، على اعتبار أن  تصور “إرادة القوة” لدى نيتشه يجد تجسده الكامل في “عالم التقنية”».[10]

5- الإنسانوية الثانية: الحب هو الذي يمنح المعنى الحقيقي لحياتنا

بالرغم من إقرار لوك فيري بمزايا فلسفة التفكيك، التي تمثل الحقبة الرابعة في تاريخ الفلسفة، وبقيمة الكشوفات التي جاءت بها، وبأهمية النقد اللاذع الذي وجهته إلى فلسفة الوعي والقيم اللاهوتية والأنوارية، فإنه مع ذلك يرى أنها، أي فلسفة التفكيك، أفضت إلى تناقضات ومآزق تستدعي بالضرورة تجاوزها إلى فلسفة أخرى ترتكز على مبدإ الحب. وتمثل هذه الفلسفة القائمة على الحب المرحلة الخامسة من تاريخ الفلسفة، وهي تمثل فلسفة لوك فيري نفسه والتي يسميها “الإنسانوية الثانية”، باعتبار أن فلسفة الأنوار تمثل “الإنسانوية الأولى”. إنها إنسانوية ما بعد الأنوار وما بعد التفكيك، «فبدل أن تقصر هذه الإنسانوية الجديدة قيمة الحياة الإنسانية، كما تفعل الأنوار، على ما يتبع العقل والحقوق والتاريخ والتقدم، فإنها تبدو إنسانوية قائمة على الحب… إذ هو الذي يعطي حياتنا معنى».[11]

وفي معرض مقارنته بين الإنسانوية الثانية وفلسفة التفكيك يقول لوك فيري: «تذهب الإنسانوية الثانية إلى أبعد مما أنجزته فلسفات التفكيك: ذلك أن هذه الأخيرة تعطي الأولوية للقوى اللاواعية التي لا نحس آثارها إلا بصفة غير مباشرة، بينما تسعى قوة الحب بالذات إلى تأسيس الحياة الطيبة على شعور نحسه مباشرة في بداهة المعيش».[12] وإذا كان الحب قيمة إنسانية متعالية، فإن هذا التعالي ليس خارجيا ومفروضا من فوق، بل هو محايث لتجربتنا الإنسانية الواقعية نفسها. إنه تعال إنساني خالص، جسدي وروحي معا. إن الحب هنا ليس صنما جديدا بالمعنى النيتشوي، كما أنه ليس حبا ميتافيزيقيا سماويا يتم فرضه على الحياة الإنسانية، بل هو حب محايث للتجربة الإنسانية الدنيوية ذاتها.


[1] – لوك فيري بالتعاون مع كلود كبلياي؛ أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ترجمة محمود بن جماعة، دار التنوير، الطبعة الأولى 2015، ص. 75-76

[2] – المصدر السابق، ص.19-20.

[3] – المصدر السابق، ص.88.

[4] – المصدر السابق، ص.123.

[5] – المصدر السابق، ص.125.

[6] – المصدر السابق، ص.139.

[7] – المصدر السابق، ص.180.

[8] – المصدر السابق، ص.46.

[9] – المصدر السابق، ص.54.

[10] – المصدر السابق، ص.278-279.

[11] – المصدر السابق، ص.59.

[12] – المصدر السابق، ص.65.
____________
بقلم: محمد الشبة.

جديدنا