في كتابه الثوري”نيتشه والإسلام” وظَّف روي جاكسون مقاربة نيتشوية تركز على نظام القيم، في تلقيه للإسلام، مخترقا، بذلك، النسق الاستشراقي الذي تلقى الإسلام كتجربة تاريخية أقرب إلى النظام السياسي المغلق. الإسلام، كما تلقاه جاكسون من منظور نيتشوي، نظام قيمي ناتج عن نفسية جماعية، أما التجربة التاريخية فهي محاولة لتجسيد هذا النظام القيمي ليس إلا ! لذلك، يدعو جاكسون إلى الانشغال بالنظام القيمي وليس بمحاولات تجسيده تاريخيا.
هذه الرؤية النيتشوية للإسلام هي وحدها القادرة على اكتشاف روحه، وهي وحدها القادرة على تغيير الصورة النمطية للإسلام، كما أرساها المتن/المنهج الاستشراقي الذي تحكم في التلقي الغربي للإسلام، ووصل صداه ليتحكم في تلقي الكثير من المسلمين المستشرَقين لدينهم.
تحضرني في هذه المقاربة النيتشوية للإسلام، كنفسية جماعية وكنظام قيمي، محاولة ماكس فيبر M.Weber في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” L’Éthique protestante et l’Esprit du capitalism هذا الكتاب أعاد الجدل الماركسي إلى أصله الهيجلي، حينما بحث في نظام اقتصادي/سياسي عن جوهره القيمي المؤسس. ولعل ما يثير في الكتاب هو الطابع السوسيولوجي، بأدواته الاستقصائية والإحصائية التي تكشف عن جوهر النظام القيمي البروتستانتي الذي تحكم في البناء النظري/العملي للرأسمالية.
من صميم الوهم الإيديولوجي، إذن، محاولة تجريد الحداثة من نظامها القيمي والروحي ! فقبل أن تتجسد الحداثة كمتون، علمية وفكرية وتقنية، قد كانت منظومة قيمية ساهمت في تشكيلها حضارات إنسانية متعددة، وتبلورت باعتماد نظام معرفي خاص بالعقل الغربي.
المحاولة الرشدية لتحقيق الاتصال بين الحكمة والشريعة (ابن رشد، فصل المقال فيما الحكمة والشريعة من الاتصال)، تجاوز تأثيرها المجال التداولي الإسلامي، لتحدث ثورة منهجية في المجال التداولي الأور-مسيحي، وتعجل بإطلاق حركة إصلاح ديني انتهى بتخليص الخطاب الديني المسيحي من اختطاف الكنيسة.
هذه الحركة الإصلاحية، التي قادها مارتن لوثر M.Luther وجون كالفن J.Calvin، خلّصت الدين المسيحي من أرثدوكسيته، وحولته إلى مشتل لزراعة واستنبات منظومة قيمية جديدة كانت حاسمة في بلورة رؤية جديدة للعالم.
لا يمكن، إذن، تصور الثورة الحداثية، علميا وفكريا وتقنيا، من خارج هذه الرؤية الجديدة للعالم التي بلورتها حركة الإصلاح الديني، بمعنى أن الثورة حدثت، أولا، على مستوى نظام القيم قبل أن تتجسد على مستوى الممارسة. فقبل أن تندفع أمواج تسونامي الحداثة نحو شاطئ الممارسة، كانت تسبقها حركة زلزالية في أعماق نظام القيم !
هذا الوعي الابستملوجي، هو الذي تحكم في العمل الفكري الثوري الذي أنجزه ماكس فيبر حينما اختار البحث في أعماق نظام القيم الذي قاد حركة سياسية واقتصادية جبارة من حجم الرأسمالية. وغير بعيد عن التجربة الغربية، تحضر التجربة الآسيوية (الصين، اليابان) كتأكيد على صلاحية النموذج التفسيري ال(فيبر)ي، فلا يمكن، معرفيا، تصور نجاح هذه التجربة الحداثية الصاعدة، إلا في علاقتها بالنظام القيمي الكونفشيوسي الذي أعيدت صياغته، على يدي الميجي وماو تسي تونغ، ليتم توظيفه، معرفيا، لصياغة رؤية جديدة للعالم، ومنها صياغة نظام جديد للقيم، ليستوي هذا النظام، أخيرا، ك (براديغم) مستقل وقائم الذات، يمتلك نظامه المعرفي الخاص الذي يوظفه في انتمائه إلى التاريخ الإنساني العام.
في المجال التداولي العربي الإسلامي، سادت منهجية التأصيل الإيديولوجي، لعقود، وأنتجت كما هائلا من اللغط الذي لا يساوي في ميزان المعرفة مثقال ذرة ! فقرأنا تارة عن الإعجاز العلمي في القرآن، وقرأنا، تارة أخرى، عن علم الاجتماع الإسلامي والأدب الإسلامي، وما زال شيوخنا يتحفوننا ب(ذررهم) الإيديولوجية المزيفة عن الفيزياء والرباضيات المسلمتان !
وكما هي عادة البريكولاج الإيديولوجي الذي يقوم على التفكير برد الفعل، فقد ولدت منهجية التأصيل الإيديولوجي نموذجها المضاد الذي جسدته منهجية التحديث الإيديولوجي، التي خلفت على شاطئها كما هائلا من الحيتان النافقة التي لفظها بحر المعرفة ! وهكذا قرأنا، تارة، عن إمكانية استنساخ العلمانوية الفرنسية جاهزة، وقرأنا، تارة أخرى، عن استيراد النموذج الديمقراطي جاهزا، وزاد الطين بلة ذلك اللغط الإيديولوجي الممسوخ الذي يدعي إمكانية استنساخ العلوم الخالصة les sciences pures بلغاتها الأجنبية، واستيراد التقنيات جاهزة مع مطبوعات تفصل كيفيات استعمالها !!!
كانت أول محاولة للخروج من ظلمات الإيديولوجيا، تلك التي دشنها المفكر محمد عابد الجابري، بانفتاحه على الدرس الابستملوجي الحديث، حيث قاد صراعا مزدوجا ضد النزعتين الإيديولوجيتين السائدتين، في التداول الفكري العربي الإسلامي، معتبرا أنهما يشكلان معا نزوعا سلفيا. فدعاة التأصيل الإيديولوجي منفيون في الماضي يحاولون استعادته ضدا على قانوني التقدم والتطور، ومثلهم، في ذلك، دعاة التحديث الإيديولوجي المنفيون في حاضر الآخر متوهمين القدرة على استنساخه في حاضرهم. لقد كان الغائب الأكبر، في ساحة الصراع الإيديولوجي، هو الوعي الابستملوجي بضرورة تأصيل المنهجية الحداثية، من داخل نظام القيم، وليس استنساخها جاهزة من خارجه كما قد يتوهم العقل الإيديولوجي المختَطف.
______________
د. إدريس جنداري- باحث.