العولمة وإشكاليَّة عولمة المشاعر والأحلام الإنسانيَّة

image_pdf

 إذا كان كل شيء في طور العولمة، وتقريبا أصبح كل شيء معولم باسم الانفتاح، حتى في دقائق الأشياء ولو كانت خاصة جدا، فهل يمكن عولمة الأحلام والمشاعر والقيم الإنسانيَّة وغيرها من الأمور ذات الصلة بالإنسانيَّة؟ وهل يمكن للأحلام والفضائل القيميَّة الإنسانيَّة أن تعترف بالعولمة في بعدها المادِّي المحض؟ ألم تعولم الثقافة ولو كانت ممسوخة في كثير من جوانبها؟ ألم يعولم السلوك البشري باسم الموضة والإبداع الممسوخين معا؟ أيَّة أحلام نريد أن تكون معولمة في زمن الرداءات والمسوخ؟ ألم يحقّ للإنسانيَّة أن تعولم أحلامها بالفضائل والمثل العليا والأهداف النبيلة ذات الأبعاد الإنسانيَّة والقيميَّة والأخلاقيَّة ؟ كل هذه الأسئلة يجب طرحها على بساط الواقع المعولم بسلوكيات الماديَّة والبراجماتيَّة والدناءة والتفاهة في كل شيء، حتى أضحى كل حلم نبيل وكل قيمة بنَّاءة في قفص الاتِّهام في خانة الرجعيَّة الماديَّة الهمجيَّة وفي واقع ارتكاسات وانتكاسات البعد القيمي الإنساني، هذا ما يتراءى في زمن لم تعد فيه حقائق الأشياء في ذاتها ذات البعد القيمي الفضائلي لا تعني أي شيء.

 كل العواطف النبيلة والمشاعر الإنسانيَّة الجيَّاشة غدت تقابل بشيء من الاستهجان والتردُّد والشك، في واقعنا المعاصر، بعد أن طغت مكاييل خاصَّة بغير ما جبلت عليه الإنسانيَّة من طباع خيِّرة وأحاسيس النبل وشرف الكلمة، وكذا أبعاد قيميَّة لا يمكننا أن نختزلها في المادِّي الملموس المحض، فالماديَّة الرأسماليَّة حوَّلت الكائنات البشريَّة إلى كائنات تفتقد البعد الروحاني بداخلها، ضدا على نزوعاتها الأصيلة، إذ قولبتها بشيء من الحبكة التراجيديَّة المأساويَّة، حيث أصبح كل شيء يقاس بمقياس ما هو مادِّي خالص، حتى في علاقات الكائنات البشريَّة الحميميَّة، وعلو كعب المادي في كل علاقة قائمة بين كائن وآخر أضحى له السبق المتفرِّد والوزن الوازن قي قيام العلاقات كيفما كانت طبيعتها، فدمَّرت في كائنيَّة الإنسان كل مقومات مثالياته ومعها منظومة القيم البناءة، أكان حبًّا، أو تعاطفا، أو تعلُّقًا بشيء أو إنسان، أو شعورا بوخز الضمير، أو تضحية لأجل التضحية لا غير، أو نكرانا للذات لأجل خدمة الآخر، أو محبة في جماليَّة ما، أو اعتقادا وإيمانا بفكرة أو معتقدا يخدم الإنسانيَّة دون انتظار مقابل جزاء وشكور عنها…..  فلم يسلم الحب والنبل الإنساني والعواطف والمشاعر والأحلام من كماشة التبضيع الرأسمالي المادي، فأسمى ما في مثاليات الإنسان المعاصر أضحى مادة تباع وتشترى في سوق الرأسماليَّة الماديَّة، فتقوِّض معها كل أركان البنيان الإنساني الأمثل، ” فالباحثة “ايفا ايلوز” تحثنا – لفهم ورطة الحبّ حاليا – على التعامل مع الحبّ كما تعامل كارل ماركس مع البضاعة. الحب نتاج العلاقات الاجتماعيَّة، ويحتل سوقا بشريَّة، الفاعلون فيها هم في وضعيَّة تنافسيَّة غير متوازنة. “الحب بضاعة”، عنوان كبير لما يحدث في المجتمعات المعاصرة الرأسماليَّة. فحتى الحب هو نتيجة للصراع الطبقي. الواقع يحدِّد معالمه ويوجّهه في اتِّجاهات تهدِّد كيانه وكيان الإنسان. تضيق الأرض، كلَّما تراجع منسوب مياه الحب، وجفَّت أنهار الهوى.” ( 1 )

   وإن سلمنا بأنَّ ” تاريخ الإنسانيَّة هو تاريخ الصراع الطبقي وتمظهرات هذا الصراع في السياقات الرأسماليَّة، باطنها أكبر من ظاهرها. العالم يسير على رأس أعوج، وجنون الواقعيَّة تضرب عرض الحائط أحلام و مثاليات الفكر والممارسة…  ( 2 )

 ” إنهم يلعبون بالأهواء ويوظِّفون العقول و يزرعون إيديولوجيات الوهم حتى يتمّ التحكُّم في المصائر بأقل الأضرار. نعم، “السياسة هي فن توظيف النوازع”، كما يقول عبد الله العروي في كتابه :”ديوان السياسة”. أليس صحيحا، عندما نقرأ تاريخ الحب وجماليات ومتون العواطف، تبدو لنا الهوة شاسعة بين الفكر و الواقع ؟ ” ( 3 )

إنَّ عولمة المادي أفرغ كل مقومات الإنسانيَّة من مضامينها الأصيلة والحقَّة، فسطحت المعاني والدلالات القيميَّة الإنسانيَّة، خلف ستار التقدُّم والحداثة وما بعد الحداثة، كرَّست جنونا فظيعا في واقعها المؤلم والتراجيدي في الآن ذاته، استبدَّت أنماط تستند على ثقافة تبخيس البعد الجواني في الإنسان، وتشتغل على سخافة المشاهد وتعلي من شأنها وكأنها نماذج مثاليَّة وجب الاحتذاء بها والعيش عليها وبها، فالقبح ملأ كل أرجاء واقع البشريَّة، وممَّا زاد من تغوله هو التقنية الميسرة لإيجاده وفبركته بسرعة فائقة، أين نحن من الجمال والحب ومثاليات الفكر والممارسة أمام انتشار صوره المتعدِّدة هنا وهناك وفي كل بقاع الأرض؟ وأين نحن من أحلامنا من وراء التقدُّم العلمي والتقني والفلسفي والفكري والثقافي والحضاري المترامية الأطراف في كل بقاع الحضارات والأمم والشعوب؟

    “فلا تعني العولمة تعويم النظام الاقتصادي الوطني وحده ولكن تعويم كل النظم المجتمعيَّة، العلميَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة من دون تمييز. ففي سياقها سيشعر الفرد المتمكن من الموارد بأنه أمام اختيار لا حدود له في جميع الميادين وأن ما كان مفروض عليه كحقائق نهائيَّة ووحيدة، لأنها حقائق وطنيَّة أو ذات مشارب محليَّة، ليست إلا نظما عاديَّة يستطيع التخلي عنها أو عن بعض أجزائها وقيمها ليبني هو نفسه، نظامه الخاص بقدر ما توفره له العولمة أو المنافسة العالميَّة من موارد وقدرات وتطلعات وآمال. لكن الفرد المحروم من الموارد سيشعر، بالعكس تماما من ذلك، بضياع تام وسيفقد أي علام في توجهه العام وفي سلوكه الشخصي معا. وهو ما يهدِّد بتعميم نوع من الفراغ النفسي والأخلاقي والثقافي معا.” ( 4 )

     
 ففي جانب واقعنا العربي القيمي والثقافي، طغت تصورات تنحو نحو تسييد ثقافة العولمة العرجاء، تقف على رجل واحدة، مسندة على عكاز تنخره سوسة مدمرة للقوى الذاتيَّة والإمكانات القيميَّة الأصيلة، وللرؤى البديلة لفك قنوات الارتباطات التبعيَّة في علاقاتنا بالآخر المتقدم، وإبعاد الداخل المنحاز، ليست العولمة هي أن ترمي بثقافات أصيلة ولها من الإمكانيات لتحقيق الوجود الفعلي على أرض الواقع الدولي الحضاري في تلاقح وتناغم مع المبادئ الإنسانيَّة الكونيَّة، بل العمل على  تعزيز الوجود الإنساني عبر الفضائل والقيم الهادفة، بحسب المرجعيات الثقافيَّة والحضاريَّة للأمم والشعوب، إلا أنه هناك من الأنظمة العربيَّة / الإسلاميَّة التابعة تجنِّد من يبدع آليات التفكيك لكل مقومات الذات بداخل كل جغرافياتها، وتحيين الفرص للوافد الجديد باسم التقدّميَّة والحداثة، كما أن هناك من المثقّفين من يخدمون أجندات خلف ستار سميك لا يسمح بوضوح الرؤية أمام الإنسان العادي، وقد ينبهر له حتى المثقف الأصيل من جانب أخر من دون قصد، لينتشر وباء الاستلاب الثقافي على أوسع نطاق في صفوف الخاصة والعامة.

إن مقياس تحضر أمة ليس بما تعيش عليه من منتجات وإبداعات الآخرين، بل بما تنتجه بمحض إراداتها وتساهم به في بناء الإنسانيَّة، لا أن تعيش عالة عليها.

فـ” على الصعيد الثقافي دفعت الضغوط الداخليَّة والخارجيَّة، ولا تزال، إلى تعميق أزمة الهويَّة والتراجع عن سياسة بناء الثقافات الوطنيَّة السابقة القائمة على تعزيز إطار بناء الكوادر الوطنيَّة وتوطين الحداثة واستنباتها في الثقافة والبيئة العربيتين. وتزداد في المقابل موجة التبعيَّة الثقافيَّة لأسواق الإنتاج الثقافي الخارجيَّة أو للثقافة الاستهلاكيَّة. وبقدر ما تتسارع وتيرة بناء المؤسسات التعليميَّة والجامعيَّة والثقافيَّة الأجنبيَّة التي تدرس بلغاتها الخاصة، تتحول الحداثة من جديد إلى بنيَّة أجنبيَّة أو غريبة وتحدث شرخا متزايدا بين قطاعات الرأي العام المستقطب بين ثقافة إسلاميَّة وثقافة علمانيَّة حديثة. ويقود الانفتاح الثقافي من دون رؤيَّة ولا هدف ولا مضمون، أي من دون أن يكون مرتبطا بمشروع مجتمعي واضح وواع للتنميَّة أو للتحديث، إلى تذرر البنيَّة الثقافيَّة وتعميق التشتت الفكري والنفسي والضياع. وتزداد بالقدر نفسه هجرة الكفاءات والكوادر الثقافيَّة والعلميَّة العربيَّة التي تفتقر لأي آفاق في بلدانها الأصليَّة.”(5)  ‘
  

   شتان بين الحلم – أي حلم كان – وإمكانيَّة تحقيقه على أرض الواقع المعولم بنماذجه المنتشرة، التي تبعد الإنسان في كنهه عن إنسانيته ومثله السامية، وترمي به في أحضان الهمجيَّة والتفكُّك والتوحُّش بلهاثه خلف الماديات والغرائز الحيوانيَّة والتجليات البراقة.

( 1 ) محمد نبيل. كاتب ومخرج سينمائي.

في التيه، في انتظار الحب..

https://www.hespress.com/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A%D9%87%D8%8C-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B8%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8-280542.html

( 2 )، نفس المرجع.

( 3 )، نفس المرجع.

( 4 )، برهان غليون.

” العولمة وأثرها على المجتمعات العربيَّة ”

( 4 )، نفس المرجع.

________
*عبد المجيد بن شاوية/كاتب مغربي، مهتم بالقضايا الفكريَّة والثقافيَّة، باحث في الشؤون المغاربيَّة، فاعل جمعوي.

وسوم:

التعليقات:

  1. تحياتي إليك أخي عبد المجيد ولكل المجهودات التي بذلتها في سيق ما شرحت وبسطت نعم هي مفاهيم متناقضة بين الواقع والمفروض وللأسف عالم المصالح

Comments are closed.

جديدنا