تجليات صوفية في كتاب عمار علي حسن “مقام الشوق”

image_pdf

في كتابه الجديد “مقام الشوق” الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، يعود عمار علي حسن إلى التصوف، عبر تجليات هي عبارة عن ثلاثة وثلاثين مقاما صوفيا مختلفا عن تلك التي وردت في كتب التراث، وكانت تمثل إلهاما وإبداعا لمتصوفة بارزين في التاريخ الإسلامي، وتم تداولها على مدار القرون، وصارت جزءا من الإرث الصوفي بتجلياته العرفانية والفلسفية والروحية، لكن الكتاب لا ينسى الجانب المادي المتعلق بمعيشة الناس.

ويعد كتاب “مقام الشوق” الذي يندرج تحته عنوان فرعي هو “تجليات صوفية” كتابا سرديا، يحوي مقامات صوفية جديدة، تجمع بين تجليات روحية، وأوضاع اجتماعية، وتأملات فلسفية، وأذواق أدبية، وأحوال نفسية، وطقوس دينية، وظروف سياسية. إنه نص عابر لأنواع الكتابة، لا يمكن تصنيفه على مستوى الشكل، لكن مضمونه يمكن وصفه، في سهولة، بأنه تعبير طبيعي عن شوق الإنسان إلى المحبة والحرية والعدل والسكينة، في مجتمع يتوحش.

ويحاول الكاتب هنا أن يجعل الصوفية متقاعلة مع حركة الحياة التي تضطرب تحت وطأة مشكلات لا تتوقف، ولذا يتوجه إلى من يعنيهم بكتابه هذا قائلا في مفتتحه: أيها المولعون بما قد مضى فحسب، له وحده القداسة في نفوسكم ورؤوسكم، عليكم إدراك أن بينكم الآن وهنا، من لا يقلون ولاية وهداية وتزكية وتقوى عن الذين راحوا، وسكنوا في الزمن الغابر. فمن بين الذين يعرقون بينكم ويكدون في حلال وشرف، ويضحون في صمت، وترونهم في الذهاب والإياب دون أن تلتفتوا إليهم، أولياء، لا يقلون أبدًا عمن تُجلِّونهم، لا لشيء إلا أنهم راحوا”.

ويضيف الكاتب في مفتتحه “ها نحن هنا قد ننزع عنكم بعض التتيم بالراحلين، حين نقول لكم، إن بينكم كثيرًا من أهل الولاية، فانصتوا إليهم وأنظروا، ليس لتعطوا ظهوركم للذين ذهبوا، ففيهم من القول والفعل ما يستحق الرعاية، إنما لتنتبهوا إلى من هم بين أيديكم ولا ترونهم، وهم يطيرون في الملكوت الفسيح، بينما يحطون على الأرض يكافحون في سبيل تحسين شروط الحياة”.

ويشكل الكتاب مقامات عن الكلمة والوجود والناس والتيه والحيرة والتجربة والدرب والولاية والمعرفة والجمال والشوق والطيبة والصحبة والتعافي والغربة والوطن والاعتدال والمثابرة والعزة والعدل والإصرار والتحمل والفداء والتجرد والحصاد والطرب والخوف والصفح والتفاؤل والإقدام والعطف والبشارة والرحيل. ويبدو أن ما بين الكلمة باعتبارها هي البدء، وبين الرحيل، ما يجسد عبر مقامات صوفية رحلة الإنسان وأحواله المتقلبة من البداية إلى النهاية.

ويبدو أن الكاتب يرى الولاية بالمعنى الصوفي تتجسد أو تتجلى في كثير من الشخصيات البسيطةة التي تكافح بشرف وإخلاص من أجل أن تستمر وذويها على قيد الحياة، وبذا يوسع مفهوم أهل الطريق أو المتصوفة إلى ما هو أبعد من أولئك الموجودين في كتب التاريخ أو من يجلسون على رؤوس الطرق الصوفية أو بعض الدعاة والمشايخ المعروفين.

وبالطبع فإن هذا الكتاب يحتلف عن سابقيه في التصوف للمؤلف نفسه وهما “فرسان العشق الإلهي”، الذي تناول فيه أبرز الشخصيات الصوفية في تاريخ المسلمين، ودراسته الأكاديمية التي حواها كتابه “التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر .. ثقافة الديمقراطية ومسار التحديث لدى تيار ديني تقليدي”، حيث أن “مقام الشوق” هو نص صوفي لمؤلفه، أضاف فيه مقامات جديدة، تختلف عن المقامات السائدة عن المتصوفة السابقين، وبذا بدا نوعا من  التأمل الذاتي العميق والحر، الذي يهبط من السماء إلى الأرض، ويتفاعل مع أحوال الناس.

ويزاوج الكتاب بين سرد وتأمل، متنقلا بين عبارات قصصية وأخرى تنطوي على طرح فلسفي أو عرفاني، وقد وضع لكل مقام تمهيد بسيط جاء أحيانا أشبه بقصة قصيرة جدا مثل تلك التي يقول فيها: “جلس الشيخ بين مريديه شاردًا، مغمض العينين. قال بعضهم: الشيخ يسري إلى السماء ويعود. قال آخرون: إنه يخاطب كائنات من عالم آخر، لا يسمعها غيره. حين فتح هو عينيه قال لهم: أجاهد كل ليلة، لأستعيد لحنًا شجيًا، يسكن نفسي منذ سنوات بعيدة، لكنه يروغ مني”.

أو هذه التي تقول: “كلما أنصَتَ إلى وجيب قلبه، سمع صرخات أبيه التي كانت تفزعه صغيرًا، وصرير القلم على ورقة الإمتحان، وزعيق بوق عربة الشرطة، وضربة سوط سجان مكابر، وثغاء ماعز صغير انفرد به ذئب جائع في حقلهم ذات ليلة بعيدة، ونفضة يده التي تخرج خاوية من جيبه بعد نفاد راتبه الضئيل. مع هذا كان عليه أن يَطمئِّن إلى نجاته من وعيد ما بعد الموت”.

وإلى جانب اللمحات القصصية هذه ينطوي الكتاب على تصورات أقرب إلى الفلسفة الصوفية، لاسيما ما جاء في حديث المؤلف عن مكانة الكلمة ومعنى الوجود، وهمزات الوصل بين الناس والله، وحيرة الإنسان التي لا تنتهي وهو يفكر في حاله ومآله، والتجليات الروحية التي يجب أن نلجأ إليها في مواجهة الغرق في المادية، وضرورة السعي بلا كلل ولا ملل من أجل العمران.

ومن ضمن اللمحات الفلسفية تلك التي تقول: “كل شيء يزول إلا الكلام، وحده يصمد في وجه الفناء، محمولًا في ألواح محفوظة، وذاكرة لا يأكلها الدود. الكلمة وحدها التي سترسم كل ما خلفناه وراء ظهورنا. كلمة الله فيها اكتمال كل شيء، أما ما نقوله نحن، فمهما ارتقت بلاغته، يظل طفلًا يحبو في حدائق المعنى”.

جدير بالذكر أن “مقام الشوق” هو الكتاب الأدبي الرابع والعشرين لعمار علي حسن الذي صدرت له اثنتا عشرة رواية، وسبع مجموعات قصصية، وديوان شعر، وسيرة ذاتية سردية، ومتتاليتان قصصيتان، وقصة للأطفال، إلى جانب سبعة وعشرين كتابا في الثقافة والاجتماع السياسي والتصوف، وتُعد حول أعماله الأدبية عشرون رسالة ماجستير ودكتوراه داخل مصر وخارجها، وحصلت على جوائز رفيعة، وكتبت عنها دراسات ومقالات نقدية عديدة، وترجمت بعض كتاباته إلى لغات عدة.
_____
*الدكتور خالد عزب.

جديدنا