مسألة العدالة في الأشكلة المعاصرة للحق

image_pdf

   *بقلم: ألان رينو /ترجمة وحيد الهنودي.

بداية إذا أردنا أن نحدّد وبشكل إجمالي لكن بدقة متناهية ما يتعلّق بمسألة العدالة فإن الإشكاليات المعاصرة للقانون قد تم تجديدها منذ زهاء عقدين. ينبغي أن نحدد أولا موقع هذا التجديد مقارنة بالمرحلة التي سبقته مباشرة، تلك التي كانت خاضعة لهيمنة ما اصطلحنا على تسميته بالوضعية القانونية، والتي كانت  تعبيرتها الأشد شهرة، لما تبقّى من محتوى فلسفة القانون، في مؤلّف رئيس في هذا القرن هو “النظرية المحضة للقانون” والذي نُشر سنة 1934 من قبل المحامي النمساوي كلسن kelsen. في هذا المؤلّف، إن أردنا سرده، ثمة توجّه يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر حيث اكتمل، من خلال أخذ وجهة نظر معاكسة لما كان وإلى حدود القرن الثامن عشر، الأشكلة المهيمنة للقانون بمعنى أشكلة ما يُعْرف بالقانون الطبيعي.

 على كل حال فإن ما ندعوه الحق الطبيعي Jusnaturalisme  الذي يجد منطلقه في الفلسفة الحديثة، عند مؤلّفين مثل غروتيوس Grotius وبيفندورفPufendorf  وبلغ ذروته التاريخية في إعلان حقوق الإنسان في نهاية القرن الثامن عشر، قد تلاءم في الواقع مع طريقة جدّ خاصة في أشكلة القانون، كان لهذا التقليد أن يتساءل عن مابعد القانون الموجود، والممأسس والمودع في القوانين والترتيبات (وإذا مابعد القانون الوضعي) عن نوع من معيار القيمة للقانون الطبيعي وعن فكرة ما سيكون قانونا عادلا، فكرة قانون عادل أو فكرة العدالة التي بفضلها سيكون من الممكن في آن أن نندد بالقوانين الجائرة وأن نحاول تجسيد هذه المعيارية في القوانين الوضعية. هذه الأشكلة الحق طبيعية Justnaturaliste للقانون تتمحور حول مشكل: “القانون العادل”. هذا بالضبط ما جعل كلسن رفقة تيّار كامل يسمّى “الوضعيّة” والذي مازال حاضرا إلى اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما جعله يحاول الانفصال من خلال إعطاء أو الموافقة على أن مشكل العدالة له بالتأكيد فائدة ويمكن فعلا أن يُطْرح، لكن مع ملاحظة أن يُحَلَّ انطلاقا من لغة الحقيقة أو اليقين. إن الفكرة التي تُغَذِّي هذا التقدير هو أن مشكل العدالة في العمق مشكل معيار، ولأنه كذلك، لا يمكن إلا أن يعطي مواقف ذاتية لا يمكن دعمها علميّا –الإدانة التي تم التعبير عنها بشكل شهير وصادم منذ عقود من قبل ماكس فييبر من خلال العبارة الشهيرة”حرب الآلهة”. في الحقيقة بيّن فييبر أنه بين الوقائع والمعايير، وبين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون انقطاع جذري، وأنه بالنسبة لما هو من نظام الأفعال يمكن أن ينشأ باستخدام عدد من الطرق والإجراءات التي للجهد العلمي، لخطاب حقيقي، وإذا لموضوعية يكون بالإمكان تحقيق اتفاق حولها أو إجماع بين الناس. في المقابل، وحول القيمة أو ما ينبغي أن يكون، فإن القاعدة هي الصراع أو الخلاف – فهنا لا يوجد ما يمكن أن نتحقق منه، بين مختلف المعايير لمختلف الجماعات البشرية، ولنقل لمختلف المجموعات الاجتماعية، حيث يقيم أيضا صراع لا يمكن تجاوزه (وهذا هو معنى مجاز “حرب الآلهة”[1]) ذلك الذي واجه مختلف نظم الآلهة حيث جسّدت المدن القديمة آمالها، واستخلص فييبر أنه إذا كان ثمة خطابا يريد أن يطلب الحقيقة ينبغي أن يضع القيم بين معقفين. باختصار هذا الخطاب هو العلم وكما قدّر فييبر المحايد أكسيولوجيّا، أو إن أردنا فإن الحياد الأكسيولوجي هو شرط وصول خطاب ما أو اختصاص إلى العلمويّة. إنه شرط الدخول إلى ما دعاه كانط الطريق الواثق للعلم.

  من الواضح جدا أن هذه القناعة التي يستعيدها كلسن والتي يطبّقها على الخطاب حول القانون إذا كان يجب أن تتجه اليوم كما يقول إلى منح التفكير في القانون الصرامة اللازمة من وجهة نظر علمية. هذا الجهد تجاه علم القانون الموضوعي والذي يفترض أن نضع بين معقفين المشكل الأكسيولوجي للعدالة والتي انتظمت حولها الأشكلة الفلسفية للقانون بعبارة القانون الطبيعي. باختصار فإن مشكل العدالة يكشف عما يسميه كلسن والوضعية “ميتافيزيقا القانون” يتماهى مع فلسفة القانون (إذ أنشئ دوما حول هذا المشكل خطاب الفلاسفة حول القانون) والذي يعارضه الوضعيون بعلم القانون، الذي يستدعي عموما “نظرية عامة للقانون” والذي لا يكون موضوعه إطلاقا مشكل معرفة “أن بعض قواعد القوانين ينبغي أن لا تعتمد أو تنشئ (مشكل القانون العادل أو قانون العدالة) بل التساؤل عن القانون كما هو في الواقع، فعلا، بمعنى القانون الوضعي أكان وطنيا أو دوليّا، فأفضل من مساءلة القانون الوضعي في نزوعه لما ينبغي أن يكون (العدالة) يتعلق الأمر إذا بتناوله في اشتغاله، بتحليل بنية القانون الوضعي، طريقة وجوده –ليس معيار القانون بل وجوده-.

  لقد كان استدعاء مشكل العدالة إذن وبهذا المعنى الإشارة التكوينية للوضعية القانونية، بإمكاننا أن نورد إشارة كان لها أثر إذ على امتداد ما يناهز الأربعة عقود كان يتم رفض أشكلة القانون بعبارات العدالة والتي كانت مهيمنة جدا عند القانونيين المعتقدين في ضرورة المساهمة في تحرير التفكير في اختصاصهم من وصاية الفلسفة. ينبغي أيضا أن نضيف أن هذا الخسوف لمشكل العدالة كان جد عميق من جانب الفلاسفة، فمن بين أمور عدة وفي الفترة التي كان فيها تأثير النقد النيتشوي-الهايدغيري وخاصة في فرنسا للميتافيزيقا عميق، كان الإعلان الكلسني Kelsenienne للعدالة الناشئ عن تساؤل ميتافيزيقي يمكن بيسر أن يجد صدى: فمنذ نيتشه خاصة تمسّكت الفلسفة المعاصرة بأن يكون كل تساؤل عن القيم منظوري، بمعنى أنه يتألف من وضع العلم في منظور انطلاقا  من المنطلقات التي يمكن أن يعيشها نوع معيّن من البشر، بمعنى أن يطوّر دوما القوة. بهذا المعنى فإن الشك يمكن أن ينبع من مثال للعدالة يتلاءم دوما مع نوع من المصلحة –ريبة يمكن أن تغتذي في الأفق الماركسي بتسجيل الخطاب حول القيم في سجلّ أيديولوجي، بذلك فإن الطبقة المُهَيْمِنة اقتصاديا تطبع في وعي المُهَيْمَن عليهم التمثلات التي تحتاجها لضمان هيمنتها. لقد كان في كوكبة هذه الفكرة العقلية –من جهة القانونيين ومن جهة الفلاسفة- الكثير من العناصر التي يمكن أن تتوافق من أجل إظهار مشكل العدالة وكأنه يقع تحت إشكالية القانون التي عفا عليها الزمن. ضمن هذا المنطق أيضا نسجّل فكر ميشال فوكو ومنذ سنة 1976 في كتابه الأخير والمعنون “إرادة المعرفة” والذي بيّن فيه أنه وعوض تحليل السلطة بتقييمها اعتمادا على معيار شخصي ما “القانون الأساسي (الذي يفترض تجسيد القانون في ذاته)، ينبغي عوضا عن ذلك ومن الآن فصاعدا تفضيل تحليل “استراتيجي” للسياسي- لذلك فإن كل أشكال السلطة مثل كل أشكال الاجتماع جزء من هذا النسيج المعقّد لعلاقات القوة التي هي ذاتها جوهر الحياة وحيث ينشأ (سياسيا ولكن قانونيا وثقافيا كذلك) ما يعبّر عن استراتيجيات الهيمنة.

 بيد أن التفكير المعاصر في القانون وفي خضم وضع سؤال العدالة بين معقفين قد حاول تدريجيّا أن يتحرر منذئذ وذلك طيلة زهاء ثلاثة عقود، فإذا كانت “النظرية المحضة للقانون” قد استطاعت منذ 1934 أن تكون تاريخا مفتاحا للمرحلة السابقة، فإن سنة 1971 التي تتناسب مع نشر كتاب “نظرية العدالة” للفيلسوف الأمريكي جون راولس John Rawls تمثّل دون شك تاريخا مفصليّا، إذ انطلاقا منه ستظهر أشكلة جديدة للقانون حيث تكون العدالة في الخط الأول للتساؤل.

قبل أن نموقع محاولة راولس ونعرض خطوطها الكبرى، سنُبْدِي بعض الملاحظات القبلية حول تفسير عودة مشكل العدالة، فإذا تركنا الآن جانبا السياق الأمريكي الخاص حيث تعمل هذه الأخيرة (وبمبررات خاصة بهذا السياق الأمريكي الذي سأتناوله لاحقا في هذا البحث) أعتقد أنه ينبغي إقحام ثلاثة أنماط من الاعتبارات للإعلان عن هذا التغيير في المنظور:

1.بداية يجب أن نأخذ في الحسبان الصعوبات الداخلية للوضعية القانونية. إن وضع مشكل العدالة بين معقفين من قِبَل علم القانون الذي تم تصوّره على هذا النحو لم يعد بمستطاعه توجيه إدانة حقيقية للنظم القضائية- السياسية الاستبدادية، خاصة تلك الأشكال غير المسبوقة والوحشيّة للاستبداد التي سادت طيلة هذا القرن. فالأنظمة الكليانية لا تُشَكِّل إلا إعاقة بالغة، وبما أن علم القانون قد استبعد كل إشارة إلى فكرة العادل التي تسمح للقانون الوضعي بالحكم على عدالته أو جوره، فإنه لا يمنحنا أي تمييز فعلي بين الأنظمة القضائية، فمنذئذ وبمجرد أن يخضع الاشتغال لمبادئ الانسجام الداخلي، أدرك كلسن أنه وبهذا المعنى لا يمنحنا علم القانون اختلافا حقيقيا بين المنطق الداخلي للنظام القضائي للاتحاد السوفياتي وفي إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية ونظام قضائي ديمقراطي، باختصار كتب كلسن في “النظرية المحضة للقانون” ومنذ 1934 على الرغم من كونه لا يشك في تعاطفه مع النظام الذي بدأ يتشكّل في ألمانيا المجاور.

“إن قانون بعض الدول الكليانية يُجَوِّزُ للحكومة أن تسجن في المعتقلات الأشخاص الذين تبدو عقليتهم وميولاتهم أو يكونون في الدين والعرق غير متعاطفين وبلداء ويُكْرَهُون على الأعمال التي يشاؤون بل وحتى قتلهم، وإن كان يمكننا أن ندين بقوة هذه الإجراءات من وجهة نظر أخلاقية خاصة فإنه لا يمكننا أن نعتبرها غريبة عن النظام القضائي في هذه الدول.”                  

  وهكذا فإنه من وجه نظر الوضعية القانونية لا توجد إدانة قضائية ممكنه للظاهرة الكليانية، وسنضيف أن مجرّد إدانة أخلاقية غير مرضي فعلا، إذ وفي المنظور نفسه الذي يتموقع ضمنه كلسن تكون الأخلاق، التي تتوافق مع نظرية القيم، بشكل موضوعي غير قابلة للاختزال، وهذا ما يحرم الإدانة الأخلاقية من كل سلطة حقيقية. بوضوح تم ذلك فضد هذا الفعل المنحرف كانت الدول المنتصرة على النازية تريد ردّ الفعل، وذلك بعد 1945 بمحاولة إعطاء أهمية قانونية إجرائية لقيمة قانون عادل. من خلال البيان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنّته منظمة الأمم المتحدة سن 1948 وسأعود لذلك لاحقا.

2.سبب آخر لعودة إشكالية العدالة يتعلق بالتآكل التدريجي للتيارات الفكرية التي غذّت الموقف السابق: انهيار الماركسية وتوضيح التناقضات والنتائج المرجعية للتيارات المضاد للإنسانوية  Anti-humanistes، من الإلهام النيتشوي-الهايدغيري الذي جعل من الممكن فكريا السؤال عن القيم والتي اهتمت المرحلة السابقة بإزالة غموضها.

3.سبب آخر هو الطريقة التي نشأت بها، وانطلاقا من المجتمع ذاته، حاجيات هائلة وغير مسبوقة للقانون في مجال البيوطيقا خاصة، عندما أصبح كل شيء تقريبا تقنيّا أو تكنولوجيّا ممكنا في مجال الطب الحيوي biomédicale إذ يجب أن نسأل طبعا عن الحدود والتي ينبغي وضعها فيما يتعلّق بالسلوكات أو الممارسات التي ومن أجل أن تظهر تقنيا فإنها مع ذلك –حتى وإن لم تدخل في صراع مع القانون الوضعي بمعنى مع السيادة – تنهض بمشكلات واجب الوجود من هنا فإن سلسلة من الأسئلة، إن كنا نعتزم حلّها، حول أي  قوة مطالبة بتمثيل العدل والجور، لكي نسجّل بعد ذلك أو لا نسجّل تشريع جديد بشأن موقف تطوّر ممارسات كهذه (الأم الحامل، الإنجاب بتدخل طبّي متأخر عند النساء اللاتي أدركن سن اليأس، التشخيص قبل التخصيب…) في كل حالة من هذه الحالات وأمام صمت القانون القائم، تصرف بهذا الطريقة، من أجل الإشارة أو لرفض القيام بذلك، للانطلاق في أشكلة القانون والتي لا تختزل القانون إلى قانون وضعي: سياق لعب دورا هاما في التسريع، خاصة في أمريكا الشمالية حيث كانت لهذه المشكلات البيوإيتيقية[2] تاريخا في إعادة  بروز أشكلة القانون ليس فقط بمعنى الشرعية بل القانون العادل.   

 عندما توضّح هذا السياق المهم للانزياح، ومن أجل فهم ما حصل ولتأكيد أن هذه المسألة التي جدّت حول العدالة وكما تطوّرت عند راولس لا تأخذ دلالتها المكتملة إلا من خلال حوارين شاسعين:

-نقاش يتناول العلاقة مع النظريات الليبرالية وبأكثر دقة مع هايك وروبارت نوزيك[3] كما صاغها بعد صدور “نظرية في العدالة”.

  • نقاش ثان يتناول علاقة ما يشكل في أمريكا اللاتينية التقليد المُهَيمِن في اختصاص الفلسفة السياسية العملية، وهو التقليد البرغماتي: بهذا المعنى فإن الأشكلة الراولسية للعدالة تبدو لنقاش حر بين ممثلي النفعية الأساسيين، الذين لم يُعرفوا في فرنسا وهم جيري بنثام وج. س. ميل وهنري سيدنيك.

  انطلاقا من هذين الحوارين سأتناول هنا محاولة راولس.[4] لكي أبيّن في كل مرّة الموقع المعارض (النيوليبرالي في النقاش الأول والنفعي في الثاني ) والذي دعا بتأثيراته المختلفة أو عيوبه لأشكلة جديدة للقانون بألفاظ العدالة. من أجل ذلك يجب أن أبني الوقف النيوليبيرالي من مسألة العدالة في لحظة أولى، وفي لحظة ثانية سأفحص الجواب الذي يعرضه راولس، وذلك بالكشف عن الكيفية التي يكون بها هذا الجواب عن النيوليبرالية (من خلال المحور الأول للنقاش) هو أيضا نقد للنظرية النفعيّة للقانون (من خلال المحور الذي يتلاءم مع ما يشير إليه بالنقاش الثاني).

النظرية النيوليبيرالية للعدالة

أقول فورا إن مفهوم “النيوليبيرالية” ليس أمريكيا بل قاريّا كما يقول الأمريكان، ونشير بذلك إلى تيار معاصر والذي يسمّى في أمريكا الشمالية بـ”الليبرتاريين” وهذا لأسباب تتعلق بالمعجمين السياسيين الأشد اختلافا واللذين يتم استعمالهما من هذا الجانب الأطلنطي أو ذاك. في الحقيقة نحن ندعو في أوربا بـ “ليبرالية” موقعا يكون محافظا سياسيا والذي يُؤْثِر الدفاع عن الحريات أكثر من تحقيق العدالة الاجتماعية، في حين أنه في الولايات المتحدة فإن المؤلفين والسياسيين لا يتناولون الليبراليين إطلاقا كمحافظين بل كديمقراطيين اجتماعيين، لا يهتمون فقط بالدفاع عن الحريات بل كذلك تنمية ما نسمّيه الحقوق الاجتماعية. إن نتيجة ذلك هو أننا عندما نتحدث عن “النيوليبرالية” لنشير عند هايك ونوزيك إلى تمتين الموقف الليبرالي التقليدي (بمعنى تصوّر لدور الدولة والمتمثل فقط في الدفاع عن الحريات بحسب العبارة المنحدرة من لوك)، في حين فضّل الأمريكان الحديث عن ليبيرتانية[5] وذلك بالحفاظ على عبارة “الليبرالية” التي يستعملها راولس، على سبيل المثال، للدفاع عن تصوّر للـ”مجتمع المنظّم جدا”.[6] وهو موقع ليس بعيدا عما نسمّيه نحن “الاجتماعي الديمقراطي” أو “الديمقراطي الاجتماعي”. عندما ندقق في هذا الفرق الدلالي يبقى أنه من خلال التمتين المعاصر فإن هايك والمفكرين الذين يتقاسمون إلهامه فإن “ليبيرتاري” تُحْمَل على التصور الذي يُثَمِّن الدفاع عن الحريات أكثر من تحقيق العدالة الاجتماعية والذي سمح لراولس بفتح نقاش بتأليف “نظرية في العدالة”.   

قبل أن نصل إلى شروط هذا الصراع بين هايك وراولس، أريد أن أذكر -ولكي لا نضطر تخيّل التعامل مع النقاش الغريب عن تقاليدنا الفكرية- إنه في العمق كل التاريخ الفكري لحقوق الإنسان، وذلك منذ الانبثاق السياسي لهذه القيم في مختلف بيانات نهاية القرن الثامن عشر، والذي شقّته هذه الإشكالية بهذه الطريقة إلى أي مدى يتطلب إعلان حقوق الإنسان كقيمة مثلى للعالم الديمقراطي مراعاة مطلب العدالة الاجتماعية؟ يتعلّق الأمر بالتأكيد بنقاش قديم يدور حول سؤال عمّا ينبغي أن يكون محتوى للمطالبة بـ”العادل”. بهذا المعنى ليس من المستغرب إذ أن المطالبة بالعادل تنبثق من فهم معيّن لما يُفْتَرَض أن يكون حقا للإنسان، أيا يكن وخاصة في الحقبة الحديثة، في النقاشات حول حقوق الإنسان وحول مضمون هذه الحقوق، حيث لعب مطلب العدالة دورا مركزيا.

والحالة تلك فإنه بخصوص هذا التساؤل عن مضمون حقوق الإنسان ينبغي أن نذكر أن مشكلا كلاسيكيا للتأويل (تتمثل مشكلة التأويل الكلاسيكي في ما إذا كان “مابعد الثورة” مضمون حقوق الإنسان لم يُخْتَرَق بلُبْس، بسبب المطالبة بما هو “عادل” وما يكون حقا للإنسان)، استطاعت بعض التيارات الفكرية والسياسية أن تضمّنه، بحسب منطق سأقوم بإعادة بنائه وهو ما يحجبه المفهوم المعقد “للعدالة الاجتماعية”. إنه وبفضل هذه التحولات أصبحت مسألة العدالة بالمعنى الذي تحدد إلى الآن في بحثي سيتضاعف من مشكل العدالة الاجتماعية لدرجة أنه في قسم كبير منه وبفضل هذه المضاعفة قد تركّز حول سؤال معرفة ما إذا كانت العدالة تتضمن العدالة الاجتماعية. حتى وإن تركنا جانبا سؤال معرفة ما إذا كان هذا اللبس في الأصل في إعلان 1789 ذاته. على أي حال علينا أن نؤكد بأن الإعلانات تتبع بعضها بعضا الأمريكي والفرنسي والسوفياتي 1918 وحتى الكوني 1948. فاتجاه مبحث العدالة أصبح أشد غموضا، إلى درجة التهديد بعدم اتّساق مفهوم حقوق الإنسان عينه.

لكي نفهم معنى النقاش بين هايك وراولس أريد أن أقدم لوجهة النظر هذه بالتذكير بأن الإعلانات الأمريكية  ثم الفرنسية الأولى لحقوق الإنسان قد أكّدت وحصرا تقريبا على الحقوق الأساسية المضمونة للمواطنين وفي تعارض مع الدولة وقد رسمت التخوم: العدالة، بمعنى ما يكون للإنسان حقا لكونه إنسانا. (بمعنى حق طبيعي للإنسان حتى نعرف أن المفهوم يُرْسَم في الأسطر التي تلت ديباجة إعلان 1789 هي مجموعة حريات. إن الحقوق الممكنة سنة 1789كانت حقوق-حريّات تحدد للفرد كما في تقليد الحق الطبيعي إمكانات فكرية (حرية التفكير، حرية التعبير، حرية الاعتقاد…) أو فيزيائية (حرية العمل، حرية التجارة، حرية الاجتماع…) بالتأكيد ولكي نبقى في السياق الفرنسي فإن دستور 1791 قد أشار للتنظيم الضروري لـ” الإنقاذ العام” بالدولة، من أجل تعليم الأطفال المشردين ومساعدة الفقراء والمعوقين وإيجاد شغل للفقراء الذين لم يستطيعوا الحصول عليه، لذلك فنحن نلاحظ أحيانا مبدأ آخر للحق[7] لا يحدد القدرة على الفعل المضاد للدولة بل القدرة على إجبار الدولة من أجل بعض الخدمات، بمعنى آخر حقوقا تدير بها المجتمع لصالح الإنسان، فبسبب عدم تكريمهم تكون الدولة ظالمة (هذه المرة تفهم العدالة بمعنى عدالة اجتماعية وإذا بتحويل وتعقيد – في مقتضى العدالة والذي سيحتفظ به لمدى طويل في المجتمعات الغربية وفي الحوار السياسي حول العدالة.) كذلك وفي 1791 إذا كان الاعتراف بهذه الإلزامات أو هذه الطلبات للدولة تجاه المجتمع فقد سُجِّلَت في “الأحكام الأساسية المضمونة بالدستور” ولم تكن ولوقت طويل مصرّح بها كـ”حقوق للإنسان” للعدد الذي إقتصرنا على تكراره بعنوان تمهيد لإعلان 1789 من حيث هي غايته.

سيتغيّر كل شيء في 1848 حيث ترسّخ بالفعل في فرنسا وأوربا اللبس بين العدالة والعدالة الاجتماعية، إضافة لانفجار المرجعية الديمقراطية (أو مرجع فكرة الديمقراطية) بين التقليدين اللذين يمتدّان إلى حدود أيامنا هاته وهما التقليد الليبرالي والتقليد الاشتراكي. وفي سنة 1948 سمح تحرير دستور جديد في الحقيقة لبعض المبادئ الفاعلة لثورة فيفري بفرصة التعبير عن مشروع استكمال مبادئ 1789 بالتنصيص على الحقوق الاجتماعية. من أجل أن نأخذ في الحسبان المشكل الجديد لوضعيّة العامل المتولّد عن التصنيع: إن مشكل “الحق في الشغل”  كان بذلك في قلب النقاشات حيث عارض توكفيل بشدّة الاشتراكيين من أجل إبعاد مبدأ الإعلان الذي بدا أنه سيكون امتدادا هاما لسلطة الدولة. هذا يعني أن معركة توكفيل ستكون بلا هوادة، وسيرسم هذا النقاش نقطة الانطلاق لحركة واسعة نحو الاعتراف اللاحق، تحت التأثير المشترك للماركسية والكاثوليكية الاجتماعية، حقوقا مطالبا، إذا وبمقتضى جديد للعدالة تُقْبَل ليس فقط بمعنى الحرية بل أيضا بمعنى العدالة الاجتماعية: الحق في الشغل والراحة والسلامة المادية والتعليم وفي مستوى حياة لائقة… إن كل التاريخ المعاصر لحقوق الإنسان في حاجة إلى استكمال تطوّرها ليس فقط كميا لكن ترتبط أيضا بطبيعة الحقوق المعلنة ذاتها. بالتوازي مع ذلك فإن هذا التطوّر ينخرط عميقا في تمثيلية الدولة الديمقراطية ذاتها. لدرجة أن قسما هاما من الانقسام السياسي بين “الليبراليين” و”الاشتراكيين” يجد هنا تجذّره.      

في الحقيقة من البيّن أن ظهور الحقوق-المطالب ثم انتشار إلى جانب الحقوق-الحريات حيث يكون محتواها وعددها غير محدد قبليّا ويمكن أن تتنوع إلى ما لانهاية (كما تختلف بشكل خاص درجة الوفرة المادية التي بلغها المجتمع المعني)، بإقحام تحولات هامة في مفهوم العلاقات بين المجتمع والدولة. إن إعلان الحقوق- الحريات قد ساهم في وضوح نظرية من المحتمل أن تكون ليبرالية (بالمعنى القاري للكلمة)، وحدود للدولة تُدْرَك كما لو كانت مقتصرة على أن تضمن للمواطنين أقصى إمكانات الفعل المتناسب مع وجود مجتمع: إن احترام الحقوق-المطالب يعنى وعلى خلاف ذلك فلسفة أخرى للدولة تتحدّد بقدرتها على تقديم الخدمات ولا تستبعد بأي حال أن تقبل زيادة سلطتها حتى يتسنّى لها الاستجابة لطلبات يفترض أنها عادلة. بمعنى آخر: إنها تنبع من مقتضى بسيط للعدالة يفهم بمعنى ما يدل عليه ومنذ أرسطو العدالة التوزيعية، أن معرفة حقيقة إعطاء أو إرجاع ما يعود لكل واحد، من جهة إن منطق تعريف العدالة لمجموعة حريات فإن تمثيلية الدولة الدنيا تتحدد بحماية استقلال الأفراد ومن ناحية أخرى تبحث إتمام العدالة بالعدالة الاجتماعية فإن منظور دولة قوية قادرة على خلق ديمقراطية اجتماعية يتجه لا فقط نحو العدالة السياسية (التي تتحدد بـ”الحق المتساوي والتعاون في نشأة القانون”) بل نحو مساواة ومن ثم يبدو واضحا على الأقل جزئيا في الظروف المادية. وبحسب ما يكون التشديد، في الإشارة للعدالة وحقوق الإنسان، فأن الأمر يتعلّق بالحريات أو المطالب هذين التمثّلين المتناقضين للدولة سيحمل معه مفهوم القانون العادل –حتى وإن كان ذلك سيجعله شديد الإرباك. إن السؤال الذي يطرح أن نعرف إن كان، هذا التمزق، بين الليبرالية والاشتراكية ( فبقدر ما افترض التقليد الاشتراكي على نطاق واسع المنظور الذي فتحته فكرة المطالب)  أن كان مبحث حقوق الإنسان (أو معنى العدالة الذي ذكرته في مقدّمتي، أي بمعنى القانون العادل) يمكن أن يكون له حظا للبقاء واضحا ومتميّزا.

تاريخيا إن ذروة التناقض من وجهة النظر هذه قد أدركناها -فكل البحوث السابقة حول تاريخ حقوق الإنسان توافق على ذلك- بالإعلان العالمي لـسنة 1948 والذي يسمح لنا أن نعتقد أنها تشكّل أحد أسوأ النسخ التي أنتجها. فكما نعلم فإن إعلان منظمة الأمم المتحدة تريد التعبير عن “مثال مشترك ينبغي أن يُدْرَك من قِبَل كل الشعوب.” هذه الرؤية تمنحه أهميته، لكن أيضا تتحمّل مسؤولية بعض حدوده، إذ أثناء تبنيها وأمام الأهمية الرمزية للحركة، شهدنا تسجيل ثمانية تحفّظات (كانت ستة منها من المجموعة السوفياتية وواحدة من العربية السعودية وواحدة من جنوب إفريقيا) ولم يكن بالامكان أن يصوت عضوا  واحدا من 48 عضوا ضدّه، إذ وتقريبا قُبِل بالإجماع. لكن ينبغي أن ندرك بأي ثمن تم قبوله، في الواقع ومن أجل أن يكون لبلدان الشرق أي تحفّظ (وليس تصويتا سلبيا والذي كان من الممكن أن ينسف المشروع برمّته للإعلان العالمي) فقد كان ينبغي البحث عن تسوية بين التقليد الليبرالي والذي عنه نبع مبحث حقوق الإنسان تاريخيا، وإعادة التأويل لهذا المبحث بعبارات العدالة الاجتماعية من قِبَل الإشتراكيين الذين يستلهمون الماركسية. من هنا فإن الحقوق السياسية والثقافية والفكرية والتي منذ الإعلانات للقرن الثامن عشر تحدد حريات الفرد في مواجهة الدولة، فإن الوثيقة المُعْتَمَدَة: تتجاوز وانطلاقا من البند 22 الحقوق التي طالب بها التقليد الاشتراكي منذ القرن التاسع عشر. هذه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتي تعبّر عن مطالب يمكن لكل أفراد المجتمع أن تطلبها من الدولة وسيكون شرف هذه الأخيرة أن تضمن لكل واحد الضمان الاجتماعي، عملا يختاره بحريّة أو أيضا مستوى حياة لائق.

لكل واحد الحرية أن يرى في ذلك إثراء لمفهوم حقوق الإنسان في تاريخها وأن يعتبر أنه ومنذ سنة 1948 قد واصل المفهوم الثراء لدرجة أنه أصبح شاملا اليوم ولم يعد مثلما كان في 1948 (الفصل 22) “الحق في الراحة والترفيه” بل أيضا “الحق في الشمس” و”الثلج” الذي تطالب به بعض الجمعيات الأمريكية، أو أيضا “الحق في طفل” الذي بدأ في الظهور الآن عند بعض الأزواج الذين يحتكمون فيه لمثال العدالة.

في الواقع فإن مجابهة مثل هذه المشكلات التي يطرحها تعريف حقوق الإنسان وفكرة القانون العادل تبدو لي جد خطيرة: فأن نختزل مضمون المفهوم إلى حلقات تاريخه فهذا يهددنا فعلا وببساطة بتحلّل فكرة قد تتعرّض في الواقع إلى أسوأ التناقضات، ذلك أنه إذا أتممنا الإعلانات الأولى، دون أي مبدأ، والتي شاركت في تصوّر ليبرالي للنظام الاجتماعي (الحقوق الحريات تؤلّف صَدَفَة تمنع تدخّل الدولة.). إن تنوع الحقوق يقتضي أن تأخذ في الاعتبار مشاركة الدولة مجالا واسعا للأنشطة الاقتصاديّة والاجتماعية. فمحرّري إعلان 1948 قد جعلوا مفهوم حقوق الإنسان جد ملتبس ومُبْهَم: فإذا أراد سلفهم في 1789 حدّ الدولة (من أجل تحرير الأفراد) فإن محرري نص منظمة الأمم المتحدة قد قَبِلوا ضمنيّا أن تكون كل السلط للدولة من أجل ضمان الحماية ومستوى الحياة لهؤلاء الأفراد. وهكذا فإن ما    حذّر منه توكفيل الجمعية التأسيسية الفرنسية سنة 1848 حول حق الشغل لم يحرج فرنسا بعد ذلك، ولا ممثّلي الدول العالمية.

رغم وجود تصوّرين مختلفين للعدالة والدولة فقد ظلاّ يتقاربان من غير إشارة لأي مبدأ كان سيسمح  بالبحث عن وسيط بينهما.  في الواقع إن فكرة حقوق الإنسان وتحت غطاء ثرائها فقد انكشف ليُفْرَغ من جوهره الأكثر حميمية، إن أمكن فإن البحث عن تسوية وذلك في 1948 فالمنطق الذي دافعت عنه بلدان الشرق والذي أَوْرَدْتُه، ذلك أنه وفي الوقت ذاته الذي دوّنوا فيه الحقوق-المطالب في ذات سياق رفضوا كل تعبير للحقوق-الحريات. وهكذا فقد تناقضوا بنجاح في الاعتراف بالحق في الإضراب والحق في حرية وجود أحزاب سياسية.

إن نصّا كهذا يبدو شديد الدلالة رغم درجة التناقض التي وصل إليها، في مسار تاريخه. فمفهوم القانون العادل (ما دعاه المحدثون حقوق الإنسان) وبتمثيلية الدولة التي تكون بها متضامنة، بهذا المعنى فإنه ولكي لا يكون الدفاع عن حقوق الإنسان مجرّد حامل للتسويات السياسية فإنه ينبغي اليوم التوجّه إلى إعادة بناء مفهوم جد صارم وضروري حتى لا يتم إخفاء المشكل المطروح بثنائية النوعين من الحقوق. إن السؤال الذي يتعلق بمعرفة ما إذا كان ظهوره في تاريخ حقوق الإنسان هو حدث محض سلبي (وفي هذه الحالة سيكون من الضروري أن تظهر فكرة حقوق الإنسان في كل ما سيتم تدوينه لإدراج العدالة) في الثنائية، في محاولة للتغلّب على المعضلات ولنقل التناقضات التي يمكن أن نقدّمها إن لم نأخذ حذرنا من تمثيلية الدولة. أريد أن أفصل بالتوالي هاتين الإمكانيتين حيث تتوافق الأولى مع الخيار الذي يدافع عنه هايك، والثانية مع محاولة راولس، وذلك بالانطلاق من الموقف الأكثر راديكالية وهو الذي لهايك وفي الفكر النيوليبرالي القائم على رفض كل تدوين لفكرة العدالة الاجتماعية، بمعنى إعادة فصل العدالة عن العدالة الاجتماعية. وسأتناول إثر ذلك المشروع الثاني والذي يتعلّق بإعادة صياغة العدالة والعدالة الاجتماعية وانسجامهما.

في الحقيقة إن تمشي هايك هنا جد مخادع ومتطرّف، وهنا تكمن دون ريب أهميته القصوى. فمن الواضح أن تطرّفه (الأمر الذي يرفع إلى الذروة رفض تأويل العدالة من منظور العدالة الاجتماعية) فيسمح لنا أن نلاحظ بأكثر وضوح منطق الرفض الجذري للعدالة الاجتماعية والأحكام المسبقة المتعلقة بخيار كهذا.

إن تمشّي هايك في هذا الحوار وفي مجمله محمول على الرغبة في القطع الجذري مع كل مخططات التفكير المتحررة من التقليد الاشتراكي –بما في ذلك اشتراكية الدولة على شكل الماركسية والخيار الاجتماعي الديمقراطي-، إذ بالنسبة له تمثل الماركسية جوهر فكرة الاشتراكية عامة، ذلك أن هايك أراد أن يطوّر بديلا جذريا للتصورات التي استخلصتها الماركسية. إن تمشّيه يأخذ شكل التحدّي لقيم “الاشتراكية”، وهو تحدّي يمكن اختزاله في العبارات التالية: إما أن تتخلوا عن مطالبكم في المساواة في الظروف المادية والعدالة الاجتماعية أو أنكم تساهمون في ولادة “نظام كلياني يمنع الحريات الشخصية”.

إن أطروحتين تنشدان هذا التحدّي الواضح:

1.الاستنكار مما يدعوه هايك مع آخرين الوهم البنيوي –وهذا هو المشروع المميّز للفعل السياسي الحديث والذي يسعى إلى إعادة بناء النظام الاجتماعي طبقا لغايات نحددها كخير للبشرية- يعتقد هايك أن هذا التمشّي ساذج إذ هو يفترض ولكي يتحقق معرفة موضوعية بالمسارات الاجتماعية في كلّيتها. بيد أنه لا أحد يستطيع أن يدّعي رؤية كلية “كما لو كان من الخارج” ويكون جزء منها، وبالتالي ليس له عنها إلا معرفة جزئية و”منظوريةّ. إن البنيوية تفرض إذا على الاجتماعي نظام هو في آن مزيف ومليء بالأوهام، بما أنه يُدْرَكُ دوما من خلال وجهة نظر جزئية ومُحَرِّفَة. ضد هذا النظام المزيف والمفروض على الاجتماعي فإن هايك يدعو لنظام آخر، لنقل أنه نظام محايث والذي ينبغي أن نولّده أكثر مما نكتشفه أو نصمّمه. إنه يعارض تصوّر القانون بما هو أثر للناس بقانون مسجّل في طبيعة الأشياء، والذي على الإنسان تأويله –بمعنى قانون السوق- لذلك فإن أطروحته الثانية ستأخذ شكل نظرية السوق.

2.بأكثر دقّة هل يتعلّق الأمر بتحليل السوق بعبارات نظرية المعلومات. ففي السوق يلاحق كل من التجار والمنتجين أهدافهم الخاصة، وبحسب منطق كل واحد منهم يتعلق الأمر بالمصلحة الخاصة. يبقى أنه لا أحد من الفاعلين الاجتماعيين يملك رؤية إجمالية عن السوق (ومن باب أولى لا أحد في المجتمع بكلّيته) إن الأسعار تُعْلِمُ الشاري أن رغبته تتلاءم مع نظام السوق أو لا، والأرباح تُخْبِرُ المنتج إن كانت منتجاته تندمج مع هذا النظام، وهذا ينتج تبادلا متواصلا للمعلومات التي بفضلها تتكيّف أهداف البعض مع حاجيات الآخرين وعفويّا وهو ما يسمح بسير دفق الخيرات. وبذلك تتزايد حظوظ الجميع لتحقيق آمالهم وكل تدخّل للدولة في نظام السوق لا يمكن إلا أن يؤدي إلى الفوضى في هذا النظام العفوي بالمعنى السيبرنيطيقي للكلمة. إن السياسي مطالب بالانتصار على خلق “مجتمع القانون” –فالدولة تأذن فقط بولادة إطار قانوني حيث تدور لعبة العرض والطلب، ومنبع المعلومات يكون حرّا قدر الإمكان. يتعلق الأمر إذا وقبل كل شيء بحماية الحريات الفرديّة (العدالة بمعنى حقوق كل واحد في نفس الحريات) دون توجه لتحقيق ما نزعم أنه “حقوقا اجتماعية”) وإذا دون إتمام فكرة العدالة بعبارات المطالب أو العدالة الاجتماعية. لذلك فإن هذا الموضع الذي يفصل جذريا الحقوق-الحريات عن الحقوق-المطالب قد أمكن وضعها بعبارات “الليبارتانية”.

 توجّهنا الليبرالية المتطرّفة لهايك، وهذا ما ندركه دون عناء، إلى رفض تام لأي اعتبار سياسي لمقتضى العدالة الاجتماعية، رفض يقوم هنا على رؤية حقيقية معينة للنظام الاقتصادي- الاجتماعي، (كنظام السوق) وللدينامية الداخلية التي يُفْتَرض أنها تحرّكه. فما الذي يمكن تفكّره؟ سأترك جانبا الاعتراضات التي يمكن أن تُوَجَّه إلى هايك انطلاقا من التقليد الاشتراكي: يمكننا أن نتنبّأ بها، فهذه الاعتراضات كما هي غير مهمة نسبيّا. الأهم في الواقع أن نسأل إن كان فكرا مثل فكر هايك، وللمفارقة، لا يبقى سجين نفس الصعوبات التي تئن تحت وطئتها الاشتراكية عندما تنكر كليا مكوّنها الماركسي.

من ناحية إن النيوليبرالية ذاتها مثل الماركسية تاريخانية، بمعنى أنها فكر يتكون من اعتبار ينبغي أن ينطلق من منطق أن التقدم محايث للتاريخ، فهايك لا يكف عن الإلحاح: بأن النظام الحالي للسوق ينبغي أن يُعْتَبَر مفيدا، إذ أن اشتغاله وانتظامه نتاج لمنطق محايث للتاريخ وهو، على نحو ما، قد انتقى من بين مختلف الأنظمة الممكنة ذلك الذي يكون له تأثير مفيد من جهة كونه المحرّك الرئيسي الوحيد لاقتصاد السوق. إن المصلحة الخاصة، العنصر الرئيسي الذي يغتذي منه النقد الهايكي haykéienne لكل إرادوية سياسية (كما تتجسّد في المشروع البنيوي الحديث لبناء نظام أفضل اعتمادا على العقل، من ذلك الذي وُرَث من التاريخ) تظهر إذا مشكلة من اعتقاد مدهش بتطوّر عقلاني مُتَجَاوَز في زمن حيث ندرك أنه في عالم منسجم وفي تاريخ حيث، وبحسب عبارة ريمون آرون Raymond Aron الوضعيات تتناسب دون أن تنتظم من تلقاء نفسها ينبغي علينا أن نفعل.

من جهة أخرى أيضا فإن الليبرالية، مثلها مثل الماركسية، اقتصادوية، بمعنى نوع من التصوّر للاجتماعي يُرْجِعُ كل شكل للتقدّم إلى ما يحدث أساسا في المجال الاقتصادي –إذا اقتصادوية مثل تلك التي تسحب من المجال السياسي كل استقلال ذاتي- ففي هذا التصور يكون مشكل دور الدولة قابل للحل بسهولة. فلكوننا مقتنعون بداية بحسب عبارة هايك “أن الروابط الوحيدة التي تشد مجموع مجتمع كبير هي بالأساس اقتصادية” وأن نظام السوق هو الذي تعود إليه فقط “جعل المعالجة السليمة للمشاريع المتعارضة ممكنة.” لكن من المدهش أنه وبتفضيلها لهذا المجال الاقتصادي فإن النيوليبرالية الهايكية تجني طريقة تفكير كانت قد زرعتها وفي أفق سياسي آخر، فالماركسية تقود في الواقع إلى جعل المجال السياسي مجرد انعكاس أو مساعد  ثانوي للنظام الاقتصادي.

هل سيُسْمَح لنا أيضا أن نسأل ما إذا كان في هذا العود القوي للبنى النظرية المماثلة لتلك التي للماركسية، بهذا المعنى فإنها بالية مثلها، فالنيوليبرالية الهايكية لا تجد أشد حدودها بداهة: فلسفة موت الدولة (مثل الماركسية) وعلى الأقل التقليل من الدولة وجعلها ثانوية مقارنة بالسوق. إن رؤية كهذه لليبرالية تشوه المشروع الليبرالي عينه(والتي ومن أجل احتواء تقييد الدولة تحافظ مع ذلك على ضرورتها  واتساقها) ألا تكرّس نفسها للظهور فكريا كأخ عدوّ للماركسية أكثر مما تكون أطروحة نقيضة؟

لذلك فليس من المدهش حقا –وسأقتصر هنا على ذكر ذلك بشكل عابر- أن يكون عند ريمون آرون، الخصم الحازم لصور التفكير الماركسي، أن نجده وقد أشرت لذلك فعلا يوجّه أول النقودات الراديكالية التي جرت في فرنسا ومنذ الستينات لأطروحة هايك. ومع أفق مثل هذا النقد دعوة هامة لكونه ينحدر من التقليد الليبرالي، وقد عقد نوعا من الهيئة لمقتضى العدالة الاجتماعية. أخذت هذه الدعوة في الحسبان وعلى الأقل بطريقة معيّنة، ما دعاه آرون وفي نصوص منسيّة شيئا ما: الحقوق الشرعية التي يطالب بها الاشتراكيون”. في الواقع –وهو ما يمكن أن نأسف بشأنه- لم نجد في فرنسا صدى من قبل الفلاسفة السياسيين الذين يدّعون أنهم يتبعون التقليد الليبرالي: في الحقيقة –وإن أردنا أن نجد- في الفلسفة السياسية نقاشات تمتد فيها الأمثلة المفتوحة ومنذ الستينات، من خلال التشكيك في الليبرالية الهايكية التي لخّصها ريمون آرون فإننا اليوم مطالبون بالالتفات نحو المجال الأنجلو-أمريكي وتحديدا نحو الأدب الهائل الناتج ومنذ نحو خمس وعشرين سنة عن المؤلف الرئيسي لراولس والذي أريد أن أبين الآن في ما يتطابق مع ثاني المواقف التي ذكرتها آنفا مضادة لتلك التي تعتمدها النيوليبرالية: أن نفكر في ثنائية الحقوق والمطالب، من أجل إعادة توضيح مجال حقوق الإنسان بصرامة وإعادة إنشاء فكرة العدالة التي لا تكون خاوية من كل مرجعيّة لقيم العدالة الاجتماعية. 

راولس وإعادة بناء فكرة العدالة

إن ما أقصده هنا بإعادة بناء فكرة العدالة عند رولس تتجلى في المحاولة المثيرة لإعادة صياغة فكرة قانون العدالة في “نظرية في العدالة”. بمعنى الحقوق-الحريات –أي لفائدة العدالة الاجتماعية- وإذا للكف عن الفصل الجذري بين الدفاع عن الحريات ومقتضى العدالة (الاجتماعية). محاولة مثيرة لكونها ليست فقط قاومت الدينامية النيوليبرالية بل أيضا لكونها يمكن أن تعيد اليوم الظهور. وبوضعها في سياق أوسع بوصفها بديلا للاستنتاجات التي يحصل عليها كثيرون، بما في ذلك فكريا “اليسار” ومشتقات كليانية المشروع الماركسي، لأن “نظرية في العدالة” لا تمثل فقط رد فعل ضد-ليبرتانية ولكن لتهب “اليسار” محاولة أخرى لأزمة الماركسية. فبخلاف الاندفاع الصريح للمخططات النابعة من الحقوق-الحريات، ولكي نُقَدِّر هذا البعد من المحاولة ينبغي أن نتذكّر ما يمكن أن يكون فعلا، من وجهة النظر هذه وفي النصوص الأخيرة لماكس هوركهايمر Max Horkheimer حيث نعلم أنه ورفقة آدرنو Adorno اللذين كانا في الثلاثينات مؤسسين لما نسميه النظرية النقدية لمدرسة فركفورت، والتي تتطابق مع مشروع سياسي وفكري هائل مستوحى مباشرة من الماركسية ويناضل من اجل ثورة أعطاها ماركس معناها. من أجل هذه الغاية (في معنى المسار الضروري لإقامة مجتمع عقلاني وعادل) لكن وفي كتابتهما القديمة[8] وفي نهاية الستينات، رسم هوركهايمر مخططا حاد النقد ومخيّب للآمال لما كانت عليه أوهام جيله، وخاصة النظرية النقدية –مع التشديد بأن التحول إلى الكليانية للبلدان التي أقامت تجارب اشتراكية، حقيقة كشفت في الواقع مشروع العقلنة المُدْرَج في المحاولة لإنشاء مجتمع عادل لم تكن له نتائج تحررية بل كانت نتائجه استعبادية. باختصار فإن التطوّر نحو مجتمع عادل وكما أشار هوركهايمر سنة قبل وفاته “يؤتي ثماره أشياء سلبية ومروّعة” وبالقدر الذي

تكون فيه (وهذه المحاولة مدهشة بالطريقة التي تواجهها بها، وهي قادمة من أفق سياسي آخر إذ هي استنتاجات هايك ذاتها) “ثمة عدالة كلما كانت هنالك حرية أقل”. لذلك فإن التنظيم العقلاني للمجتمع والذي يضمن طريقة إنتاج وتوزيع عادلة، وبعيد عن أن يمنح في نفس الوقت عهد الحرية. إنه يسمح بانبثاق “عالم مرؤوس كليا” ويتميز أساسا بالنمطية وغياب كل سلطة للخصوصي في مجتمع لا يكون فيه للفرد أي دلالة. إن ما يعتبره ماركس اشتراكية اعتبره هوركهايمر في نفس النص المذكور “عالم مرؤوس” موسوم “بغياب الذات المستقلة”. من هنا فإن هذه التشاؤمية المشطّة التي تُعَبِّر عنها النصوص الأخيرة لهوركهايمر من خلال عدم التفكير في أي ممارسة سياسية غير الدفاع وبشكل خاص عن المجالات الأخيرة: الاستقلال الذاتي للفرد، والاختلافات التي لم يتم امتصاصها بعد في الهوية، ذلك أن بعض خصائص الثقافة تعبّر عنها. أنا لا ألح كثيرا على هذا الموقف الاحتياطي الذي يتبناه هوركهايمر: فنصوصه الأخيرة تهمّني بالقدر الذي تكون فيه قد كُتِبَت بوضوح وانطلاقا من الاعتقاد –الذي وُضِع في إطار خيار سياسي مضاد لذلك الذي لهايك) إذ يوجد في الأخير تناقض لا يمكن تجاوزه بين العدالة والحرية، فالحرية تتلاشى بالضرورة بالمجيء الحتمي للعدالة (مجيء حتمي، إذ كيف نتمنى الابقاء على الجور؟). فنحن نعتبر ومنذ سنة 1971نموذج التمشّي المكتمل وفي العقدين المواليين من قِبَل أغلب ورثاء الاشتراكية المستوحاة من الماركسية –لندرك وأمام انهيار آمالهم في مجتمع يكون في الآن نفسه عادل وحر، الانثناء إلى دفاع ليبرالي محض وصلب، وليكن نيوليبرالي عن الحريات. إنه تحديدا وفي مواجهة نفس كهذا يمكن ودون شك أن نَحُدَّ الفائدة الخاصة لـ”نظرية في العدالة” الذي نشره راولس علم 1971، بما أن الكتاب معاصر للنصوص الأخيرة لهوركهايمر، ويقوم عكس الرهان الذي يستطيع تجاوز تناقض العدالة (الاجتماعية) والحرية، بأن يعيد المبحث توضيح حقوق الإنسان (أي العدالة بمعنى القانون العادل) الحقوق-الحريات والحقوق الاجتماعية. هذا ما يعتبره راولس حقيقا بالفحص، ليس لكونه يطرح اليوم في اختصاص الفيلسوف الأمريكي، بل يمكن أن نرى أن هذا المشروع شاهد وإلى جانب شواهد أخرى على إعادة توضيح الحرية والعدالة وهذا توجّه لتفكير جديد.

إننا نعرف أن راولس يعيد البحث عن تبريرات للحقوق الملازمة للكائن الإنساني المُدْرَك تماما كذات، أو إن أردنا عبارة أخرى كشخص –باختصار يتعلّق الأمر بنظرية في العدالة تتحدد صراحة في إطار قيم الإنسانية الحديثة كما تشكّلت معتبرة أن الكائن البشري واع ومسؤول، سيد أفعاله وتمثلاته. وهكذا فإن راولس يشير إلى أن “نظرية في العدالة” تنبع من الاعتقاد أن “كل شخص يملك حرمة تقوم على العدالة والتي لا يمكن انتهاكها حتى باسم الوجود الأفضل للمجتمع في كليته.”[9] هذه القيم التي لم يعد من الضروري أن نتذكّر أنها تعرّضت للانتهاك بشكل خطير، في فرنسا خاصة، من قبل مختلف التيارات المضادة للإنسانية لفلسفة الستينات، ولا كيف أعادت الظهور عند العديدين منذ خمسة عشر سنة واحتفظت بكل دلالتها، خاصة منذ أن أصبح واضحا أن تلك القيم بالذات قد سعت الأنظمة الكليانية لانكارها، وانه كان ينبغي ينبغي معارضتها للمساهمة في إنهيارها الذاتي. أيضا لا يبدو أنه من الضروري  أن نلح على هذا الأفق الإنسانوي الحديث حيث يُسَجَّلُ تفكير راولس، في المقابل إن ما نراه أقل وما ينبغي أن نتحدث عنه ولو بضع كلمات كيف للنفكير –في السياق الأنغلوأمريكي- في مثل مرجعيه هذه القيم – أن يدخل في صراع مباشر مع ما يشكل – في المستوى القاري- الفلسفة المهيمنة،  وهي النفعية. إنه ومن خلال هذا الانحراف نلتقي بالفعل بالنقاش الفلسفي الثاني والذي يشق كل محاولة راولس.

نستطيع الاكتفاء ببعض الكلمات من أجل التذكير، فما كانه المقصد الأساسي للنفعية النابع من تفكير مثل ذلك الذي لبنثام أو في القرن العشرين ج س ميل إذ بالنسبة للنفعية كل إنسان يتوجّه فقط بفضل “منفعته”، أي بحثا عن أقصى سعادته أو أرفع ملذاته الممكنة. بهذا المعنى فبقدر ما يكون وجوده الأفضل، فحرية الفعل للآخرين أو حتى حياتهم لا تتأثر، إن كل شخص يمكنه أن يقوم بكل شيء من أجل تحقيق أكبر قدر من الخير وبالنسبة له أن ينمّي قدر الإمكان غاياته الخاصة. إن النفعية بذلك تعتبر أن كل ما هو عقلاني للفرد هو كذلك بالنسبة لكل المجتمع، وأنه “وبما أن المبدأ بالنسبة للفرد أن يُثْرِي قدر الإمكان وجوده الأفضل وجهازه اللّذي فإن مبدأ المجتمع أن ينمّي قدر الإمكان الوجود الأفضل للمجموعة وأن يحقق وبأعلى درجة الجهاز المكمّل للذة الذي ندركه بفضل رغبات أفراده.”[10]

بناء على ذلك فإن المجتمع عند النفعية يتم تصوّره وفقا لنموذج الفرد، وهذا ما يمكننا من تنظيم المؤسسات بشكل يزيد من معدّل الرضا الاجتماعي. فكل عدالة سياسية أو اجتماعية تتحدد في علاقة بهذا الهدف وهي لا تشكّل إلا أدوات لتحقيق هذا الهدف. لكن وبحسب راولس تكمن هنا أولى الصعوبات الملازمة للنفعية: بتوجه كهذا لا يأخذ التصور النفعي للعدالة بعين الاعتبار الطريقة التي يتم بها توزيع الرضا بين الأفراد،[11] إذ وكما يكون عقلانيا بالنسبة للإنسان أن يؤوّج إشباع رغباته فإنه بالنسبة للمجتمع يكون عقلانيا أن يؤوّج المجموع الإجمالي للرضا، أيا كانت طريقة توزيعه بين الأفراد: بحسب هذا المنطق ينبغي تأويج صافي رصيد الرضا فقط. إنه ومقارنة بهذه الغاية فقط يتم تبرير الوسائل، فنظريا كل الوسائل المتطابقة، بمعنى كل ما يحقق هذا الهدف سيكون جيدا، ولا يوجد ماقبليا أي حد لهذا التحشيد للوسائل من أجل الوصول بطريقة مثلى للغاية. لذلك فإن العدالة ذاتها مادامت مشتقّة من هذا الهدف الوحيد فلا يوجد هنا سبب من حيث المبدأ لعدم تعويض مكاسب البعض عن خسارة الآخرين، أو بسبب انتهاك حرية عدد صغير لا يُبَرَّرُ بنصيب وافر من السعادة لعدد كبير. إن رفض العبودية لا يمكن الحديث عنه إلا من خلال التكاليف الاجتماعية – بمعنى بمراعاة التكاليف فقط سيكون من الأفضل ماديا النظر إلى وسائل أخرى لمزيد تأويج الرضا.

بطريقة أكثر شمولا فإن ما يظهره راولس جيدا أنه لا شيء في منطق النفعية يستبعد كتابة منظور تضحوي في نظرية المجتمعات وممارساتها. ومن أجل فهم أفضل لهذه النقطة سآخذ مثلا أدبيا لم يأخذه راولس يمكنه كشف الآثار الهائلة للنفعية،[12] إنها الوضعية المتخيَّلَة من قِبَل وليام ستورن William Styrn في “خيار صوفيا Le choix de Sophie -وضعية تجعلك قادر على أن تدرك ما فيها من ترويع- فقد أمر الضابط النازي صوفيا من مِن أبنائها سَيُرْسَل غلى غرفة الغاز، بأيهما ستحتفظ والحال أنها تُدْرِك أن كليهما سيهلك. إن الأخلاق تستدعي أصلا رفض مبدأ الاختيار المريع، فقبول المنفعة مثل قبول العقلانية يقتضي من صوفيا أن تعيّن الضحية، فأن تحتفظ بطفل على الأقل سيخفف بشكل مفيد من نوعية المعاناة المفروضة على الأفراد وعلاوة على ذلك فعقلانيا قبول التضحية بهذا أو ذاك بما أنه وفي كل الحالات وحتى إن لم تقبل الأم فسَيُقْتَلُ. نحن هنا إزاء مفارقة حقيقية وبالمعنى الأصيل لما تعنيه المفارقة، حيث يقع العقل النفعي في تناقض مع الأخلاق. للوهلة الأولى يبدو أن هذه المفارقة لا تتعلق إلا بالوضعيات القصوى أو الوضعيات الكوابيس، غير أنها أحد مزايا راولس بأن يبيّن إلى أي حد يكون منطق التضحية، وبعيدا عن كونه تلاشى مع المجتمعات الدينية فقد ظل ماثلا في المجتمعات الديمقراطية. إن النظام الليبرالي هو نظام السوق عينه، النفيس عند هايك حيث تكون القاعدة التنافس بين أفراد لهم حقوقا متساوية. من جهة المبدأ فإن إقامة الاستقلال الفردي كقيمة عليا ينبغي أن يستبعد كا تضحية ممكنة بالبعض من أجل الآخرين. رغم ذلك فإن العقيدة تظل ممكنة (وفي العمق فإن هذه العقيدة تغذّيها النفعية وتبررها) فاستمرار الكل الاجتماعي ووجوده الأفضل يقتضي قدرا من التضحية. لا يتعلق الأمر هنا كما نلاحظ بعقيدة مدرسة، حيث تدير مجتمعاتنا وجود الملايين من العاطلين فيها، فأن نضحّي على معبد سلامة أكبر عدد ممكن، أو الطريقة التي (ومن الواضح أن “نظرية في العدالة” كتبت ضد هذا) يتسامح فيها عدد كبير من الأحياء الأمريكية في التضحية من أجل عدد هائل من غيتوهات السود المتروكين لبؤسهم. إن أطروحة راولس إذا هي ضد المنطق التضحوي  للنفعية، وللحفاظ على ذلك فأخذ قيم الإنسانوية الحديثة على محمل الجد تتضمّن في الواقع كون كل شخص يملك حُرْمَة لا يمكن انتهاكها وهي حتى باسم الوجود الأفضل للمجتمع. في هذا المعنى تعني نظرة لا يمكن لسياسة ديمقراطية أن تأخذ كهدف أزلي زيادة المنسوب الصافي للتضحية الاجتماعية، بل ينبغي تقييم المزايا والمهام وفق مبدأ عدالة يمكن قبوله من الجميع.

إننا ندرك معنى هذا النقد للنفعية، فالخلاصة التي لا يمكن للنفعية على الأقل استبعادها كليا، وأيضا إقحامها بالضرورة، تدخل مباشرة في تناقض مع قيم الإنسانوية الحديثة التي ذكرتها سابقا، وإن كنا نبحث عن تدقيق، في المنطق النفعي، فهي تشتبك بذلك مع قيمنا مباشرة. يبدو لي وقبل كل شيء أنه تصور للكائن الإنساني يتضمنه، أي هذا الاختزال الأداتي واللذية للإنسان إلى وحدة لا تكون قيمتها إلا في كونها سياج للحس أو اللذة وبوصفه فعالية منتجة للرضا، فباسم القيم الإنسانوية تتطلب منا صورة كهذه للكائن الإنساني إعادة إنشاء تصور للعدالة يكون على العكس في توافق أمثل مع هذه القيم ولا يساهم في انحلال الإنسان الذات أو الشخص.

من أجل القيام بذلك نحن نعرف أن “نظرية في العدالة” تتخيّل وضعية مداولة يكون فيها الأفراد في بحث عن المبادئ التي ينظمون وفقها المؤسسات الاجتماعية بترتيب المهام والمغانم. ينبغي إلى جانب ذلك أن نؤكّد إن كان دور مبادئ العدالة هي أن تحدد تبويب مثل ذلك، إنه وبالقدر الذي يتميّز فيه بهوية مصالح وبصراع للمصالح:

-من ناحية فكل عضو له مصلحة في التعاون ويطمح في مسار لحياة أفضل من تلك التي يبحث عنها كل واحد منهم بقواه الخاصة.

-لكن من ناحية أخرى “ثمة صراع مصالح بما أن الناس ليسوا غير يهتمون بالطريقة التي يوزّعون بها ثمار تعاونهم.[13]

 هذا هو السياق الذي يتنزل فيه مشكل العدالة: كيف وانطلاقا من صراع للمصالح كهذا أن نقتنع بأن اتفاقا حول مبادئ مشتركة للعدالة يكون فيها كل شيء ممكنا، كحق في المجتمعات البشرية فإن الشعور بالعدالة يكون مختلفا من شخص لآخر باختلاف مصالحهم.

هنا ومن أجل أن يجيب فّإن راولس يقترح تدقيقا منهجيا، ويتمثّل في تصوّر مجموعة من الكائنات يقبلون البحث سويّا لأن لهم مصالح مشتركة والتعاون في “مبادئ في العدالة” صالح للبنية الأساسية للمجتمع، وضعيّة متخيّلة، تجربة تفكير إن شئنا، تُسَجِّل بطريقة واعية ومقبولة تفترض طرح الأسئلة المطابقة لإشكالية العقد الاجتماعي: أشخاص أحرار وعاقلين يرغبون في تحقيق مصالحهم الخاصة يتموضعون في وضعية بدئية للمساواة، يبحثون عن المبادئ التي يقيمون فوقها علاقاتهم الأساسية.

  ثمة نقطتين ينبغي تدقيقها حتى تكون المعطيات التكوينية للوضعية المتخيّلة من قبل راولس واضحة:

-من ناحية فنحن نفترض هنا أن الشركاء الاجتماعيين عاقلين –بالمعنى الذي يكون فيه كل واحد منهم قادر على معرفة “ما يكون عليه خيره” وأي “جهاز غايات” يكون معقولا بالنسبة له ليبحث عنه، وأي وسائل ينبغي له “استعمالها لكي يدرك غاياته”عقلانية بالمعنى الواسع للعبارة، وإذا بمعنى عقلانية أداتية كالقدرة على استعمال الوسائل الأشد نجاعة لإدراك الغايات المعطاة، عقلانية يمكننا فعلا اقتراحها بما أن الأمر يتعلّق بكائنات بشرية قادرة عل دمج الوسائل والغايات.

-بالتأكيد فإن افتراض أفراد يكونون في وضعية تساوي وذلك من أجل تمثل ما يتدخّل كعنصر ثان والذي يميّز الوضعية الخيالية التي يقيمها راولس –من أجل ما ندعوه “ستار الجهل”- والذي يكمن في قرار اعتبار أن التفكير في المبادئ يعمل كما لو كان بحرمان الأفراد من المعلومات المريبة عن موقعهم في المجتمع. هنا أيضا يتعلق الأمر بخيال منهجي في النطاق الذي لا ينبغي لأحد بالتأكيد أن يخطئ بوضع المشاركين في هذا النقاش حول العدالة تحت ستار كهذا، في الحقيقة يعطي راولس شركاء اجتماعيين، والذين دون أن يُحْرَمُوا من القدرات التي تخوّل إمكانية خيار منسجم وهم في المقابل مبتورين من كل معلومات خصوصية يمكن أن يفترضها الأفراد عن أنفسهم وعن الآخرين نلاحظ بيسر دلالة كهذا: يتعلّق الأمر في عمقه بتخيّل أفراد يقتلعون أنفسهم فرادى ويرتفعون إلى النقطة التي لا تحرّكهم فيها اعتبارات نابعة من مصالحهم الخاصة. إنهم يفكرون بوصفهم ذوات أو أشخاص في مبدأ العدالة. بهذا المعنى وبعيدا من أن تكون شاذّة مثلما تعتقد أغلب القراءات (وخاصة القراءات الفرنسية) فإن فرضية ستار الجهل هي على خلاف ذلك، وكأداة منهجية ذات أهمية بالغة –بما أنها تسمح بترتيب موقف يكون فيه البعد الأنسب للإنسان بوصفه ذات أو شخص يترأس مؤسسة مبادئ العدالة، باختصار فإن الأمر يتعلّق بمنح الوسائل لتحديد المبادئ التي ستكون محلّ توافق، ليس فقط مع لعبة المصالح الخاصة والحساب الأناني بل مع ما يتوافق أيضا مع إنسانية الإنسان –إننا نجد هنا حتى وإن كان في صياغة جديدة الإشكالية التي سمحت بولادة: فكرة “حقوق الإنسان” ولكن في وضعية محددة على هذا النحو فإن الشركاء وبحسب راولس يتوافقون ضرورة من أجل إختيار مبدأين للعدالة:

-“في مقام أول ينبغي أن يكون لكل شخص حق مساوي في النظام الأكثر انتشارا للحريات الأساسية التي يتساوى فيها الجميع ، نظام يكون متوافقا مع ذلك الذي للآخرين.

-في المقام الثاني فإن أشكال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي ينبغي أن تكون مُنَظَّمَة على نحو يجعلنا قادرين على أن ننتظر منها أن تكون في آن واحد لصالح كل فرد وأن تكون مرتبطة بمواقع ووظائف مفتوحة للجميع.”[14]  

هذين هما إذا المبدأين (مبدأ المساواة ومبدأ الاختلاف) اللذين اختارهما راولس بمجرّد أن نقرر (وهنا تكمن الأهمية القانونية-السياسية للفرضية المنهجية التي تظهر في وضوح) البحث عن تصور للعدالة والذي ينبغي عليه القبول بالتفاوتات، فيكون من غير المقبول أن “يستعمل صدفة المواهب الطبيعية والطوارئ الاجتماعية كأوراق رابحة في ملاحقة المكاسب السياسية والاجتماعية.”[15] هل يجب ن نفهم أيضا –وهذا ما يبدو لي في الحقيقة شديد الأهمية من أجل البدء في صياغة منسجمة لحقل حقوق الإنسان- أن مبدأي العدالة ليس لهما نفس القيمة، ومن أجل أن يُحْتَرَم الاستقلال الذاتي لكل شريك. ينبغي أن تكون الأسبقية إما متصلة بالمبدأ الذي يمنح للجميع المساواة في الحق في نفس الحريات الأساسية.[16] إننا نجهل أن “هذه الحريات ينبغي أن تكون متساوية للجميع” هذا ما تؤكّد عليه بالفعل “نظرية العدالة” وأعتقد أن راولس كان على حق في ذلك. إن فكرة الذات أو الشخص نفسه، ومعها فكرة الاستقلال الذاتي المكوّنة للإنسانية الحديثة ستُلْغَى. إن راولس يدرك بدقة ما العلاقات الملازمة التي تُوَحِّد مبحث حقوق الإنسان (على الأقل المتعلقة بالحقوق –الحريات) وتأكيد الكائن الإنساني بوصفه ذاتا، السبب الذي من أجله يضع المبدأين في نظام غير متغيّر، حيث تكون للحقوق المتساوية والحريات أسبقية مطلقة على المبدأ المتعلق بالتفاوتات المادية (الحقوق- المطالب). بتعبير آخر: الأولى فقط من لها هيئة ضرورة حتمية بالمعنى الذي يكون الفعل مطابق له يعبّر عن الطبيعة المستقلة للذات الإنسانية، وحيث يمكننا أن نلمح أن هذا العمل على المبادئ رغم جفافها ينفتح على نتائج دقيقة جدا حول تمثيل الديمقراطية الذي أنتجته.

إن المبدأين الراولسيين المُنَظَّمَيْن تراتبيا لهما في الحقيقة أهمية قانونية-سياسية شفافة: فالأول يشترط حقوقا متساوية وحريات متساوية تحترم قيم الديمقراطية الصورية الحتمية الضرورية للسياسي، والثاني وبتحديد الظروف التي تكون تحتها التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية مطابقة للعدالة بوصفها إنصافا ويمكن أن تكون مقبولة من قبل كائنات أخلاقية (وأن تكون مربحة للجميع) لها في العمق الأفق الاجتماعي –الديمقراطي أو إن أردنا الديمقراطية الاجتماعية (إذ انقدنا هنا إلى إعلان كل التفاوتات كجَوْر لا يتلاءم مع الوضعيات المعروضة لقبولهم بمبدأ الاختلاف). إن راولس لا يضع إذا العدالة ضمن مشروع مساواتي مطلق للشروط المادية والتي جعلها هذا الزمن غير منفصلة تاريخ الاشتراكية الحقة. بمعنى أن التفاوت لا يكون مقبولا أخلاقيا (وإذا عادل) إلا بشرطين: ينبغي أن يكون مربحا للجميع، وهو ما يبدو مستحيلا حتى بالنسبة للأفراد الأقل حظا أن يتصوّروا مجتمعا أكثر عدلا وهم غائبون عنه. ينبغي إذن ألا تكون تلك التفاوتات على النحو الذي لم يعد بإمكان هؤلاء الضحايا أن يعتبروا أنفسهم أو أن يعتبرهم الآخرون أشخاصا.

 يمكننا أن نجد أن معايير الإنصاف هذه جدّ مجرّدة لكن علينا أن نذكّر –حتى وإن كان ذلك بداهة- أن الفلسفة السياسية ليست بحال هي السياسة، وأن هذه الأخيرة تضع الشروط =، يمكن أيضا أن يكون ساذجا التذكير  )وبشكل قطعي اجتماعي –ديمقراطي) بنوعي المقتضيات التي تصوغ مادة العدالة، في المؤلف الضخم لراولس، وفي هذا المعنى التقديس الحقيقي الذي يثمّنه راولس في الولايات المتحدة يمكن أن يفجع. ومع ذلك ينبغي القيام بجهد المطالبة إذ –وعلى خلاف الأوهام المتماثلة الداعية للتضحية بالحريات من أجل تحقيق لامحدود للمساواة والمطالبة المحضة والبسيطة بمثال العدالة. فليس التذكير بهذه التفاهة هو أفضل ما يحدد، من الآن فصاعدا شروط فضاء سياسي ديمقراطي.

Alain Renaut : La question de la justice dans les problématisations contemporaine du droit.

http://www.philopsis.fr.

CRPD Midi-pyrénées. 2001

الهوامش


[1]  أحيل في هذه النقطة إلى دراستي (بالتعاون مع S. Mesure ظهرت سنة 1996

La guerre des dieux. Essai sur la querelle des valeurs. Gresset

[2]  Y. Lajeunesse et L. Sosoé , Bioéthique et culture démocratique, Montréal, Harmattan.

[3]  حتى وإن كان الكتاب الأكثر منهجية لهايك لم يظهر إلا بين 1973 -1979 droit, législation et liberté tr. PUF 1983 فإن الاقتصادي النمساوي كان قد أصدر في الخمسينات  Scientisme et sciences sociales  والستينات La constitution de la liberté  حيث صاغ أهم أطروحاته، كما يتضح من مناقشتها من قبل ريمون آرون منذ 1965 حيث أدرك تصّلب المبادئ الليبراليةEssai sur la liberté 1965 Clmann-lévy p124  وأطروحات قريبة يدافع عنها بولاني M. Polanyi La logique de la liberté 1951 tr. PUF1987  بنشر كتاب راولس واستنسخه نوزيك Anarchie, Etat et Utopie 1974 tr. PUF1988  فلم يقم إلا بإطالة حوار مفتوح وذلك بإعادة صياغة أطروحات ليبيرتانية سابقة لـ”نظرية في العدالة”. 

 [4] إن مقاربة أخرى ممكنة لكن بتشديد متعمّد على نتائج “نظرية في العدالة” وتتكوّن من مواجهة أطروحات راولس منذ 1982 بالمدرسة الجماعاتية مع سندال وتايلور، أنظر حول هذه النقطة

A. Renaut Libéralisme politique et polythéisme des valeur in S. Mesore (ed) La mondialisation des valeurs. A paraitre. PUF 1997

[5]  نستطيع أن نعود حول هذا التيار إلى

P. Lémineux, Du libéralisme à l’anarcho-capitalisme PUF 1983

والممثلين الأكثر راديكالية  لهذا التيار هم اليوم في الولايات المتحدة مثل J. Buchanan P. Friedman, le fils de M.Friedman ou M. Rothbard

[6] نستشهد خاصة بكتابه الثاني Libéralisme politique 1993 TR PUF1995.

[7]  هذه هي الأطروحة التي يدافع عنها غوشييه La révolution des droits de l’homme. Gallimard 1989

[8]  أنظر خاصة

La théorie critique hier et aujourd hui 1971 dans Théorie critique. Payot 1978

[9] Rawls ; théorie de la justice tr. Tr. C. Autdard 1978 Seuil p30.

[10] Rawls ; théorie de la justice 49

[11] Id p 51

[12]  هذا المثال تم تحليله وفقا لنفس وجهة النظر التي يعتمدها هنا من قبل

J. P. Dupuy Le sacrifice et l’envie. Le libéralisme aux prise avec la justice social. Calmann-lévy 1992

[13] Rawls ; théorie de la justice p30

[14] Rawls ; théorie de la justice p91

[15] Rawls ; théorie de la justice p41

[16]Rawls ; théorie de la justice p92
_____________________________
*يستعيد هذا النص الخطوط الكبرى لعرض شفوي للنظريات المعاصرة للعدالة في تولوز، وفي محاولة لباسكال دوبون أمام أقسام نهائية بالممعهد، وقد حافظت هنا على الخاصيّة التعلّميّة ولم أبحث عن إتمام مادة المراجع التي تحرّكه.  
__________
*بقلم: ألان رينو /ترجمة وحيد الهنودي.

         

جديدنا