تقديم الموضوع
لقد جاء الاشتغال بالعلوم الإنسانيَّة في الغرب، في سياق الوعي الذي أخذ يتنامى ويتسع حول قيمة العلوم الإنسانيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة في فهم المجتمع وفي معرفة الإنسان وفي نقل هذا الإنسان نحو الأفضل وتحسين حياته الماديَّة، والعمل على دراسة شخصيته بأبعادها المتعدِّدة وبمستوياتها المختلفة، وكان من أهداف هذا العلم ومراميه الاستجابة لحاجيات الإنسان والعمل على تلبية متطلباته، وحل لمشاكله والتخفيف من حدّة الإكراهات، ومن حجم الضغوطات ومظاهر الصعوبات التي أخذت تواجه الإنسان في هذه الحياة بسبب التغير السريع الذي طرأ على الحياة المعاصرة، وهو التغير الذي جاء نتيجة لمجموعة من التحولات الاقتصاديَّة والثقافيَّة والقيميَّة والاجتماعيَّة العميقة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، فكانت وجهة العلوم الإنسانيَّة هو اعتماد الأسس الإجرائيَّة والنتائج والمعطيات العلميَّة واستثمارها لغاية تعديل السلوك البشري الخاطئ، وتصويب الأفعال والعادات السيئة التي سادت في المجتمع وانتشرت في فترة من فتراته التاريخيَّة .[1]
حقيقة العلوم الإنسانيَّة
إنَّ العادة السائدة والذائعة بين الباحثين والدارسين أن يتم اختزال العلوم الإنسانيَّة وتوصيفها بأنها تلك العلوم التي تدرس وتشتغل على الإنسان في أحد أبعاده الأساسيَّة المشكلة لذاته ولشخصيته ولأفكاره، وقد ظهرت هذه العلوم في سياق خاص يتحدَّد في ظهور النزعة الإنسانيَّة التي عرفها العالم وارتبطت بشكل خاص بعصر الأنوار الأوروبيَّة، وأكبر ما تحقق في العلوم الإنسانيَّة في مسارها التاريخي الطويل هو استقلالها وانفصالها بشكل كلي وعلني عن الفلسفة التي كانت محتضنة لها ومتعايشة معها لفترة طويلة لا سيما الفلسفة الإغريقيَّة اليونانيَّة.
وبالتالي نقول إنّ العلوم الإنسانيَّة ظهرت وجاءت لتتبوّأ مكانةً علميَّة مهمّة وخاصة بين العلوم الحديثة في العصر الحديث، وظهرت لتعبر ولتشخص للتحول الكبير وللنقلة العلميَّة العميقة الذي طرأت في المجتمعات الغربيَّة في المستوى الثقافي والفكري والاجتماعي والمؤسساتي والتربوي والقيمي من جهة، ولتجيب على أهم المشاكل الحياتيَّة المتراكمة التي أعقبت هذا التحول العميق في المجتمع الغربي من جهة أخرى، وهو التحول الذي جاء بفعل وفضل الثورة الرقميَّة.
تعريف العلوم الإنسانيَّة
بعبارة أكثر إيجازا وتعبيرا نقول إنَّ العلوم الإنسانيَّة هي تلك العلوم التي تتناول بالدراسة النقديَّة والعلميَّة النشاط الإنساني والبشرى في عدد من أبعاده ومستوياته، ودوافع تلك الأنشطة والعمل على معرفة دوافعها وخصائصها وتحولاتها وكيفيَّة الارتقاء بها نحو الأفضل.
وهذه العلوم المسمّاة بالإنسانيَّة هي حديثة العهد في نشأتها مقارنة مع العلوم الأخرى، أعني العلوم الحقّة والعلوم الدينيَّة التي ارتبطت بالنصوص المقدسة، وهذا التأخّر في النشأة له ما يبرره، فهو يرجع بالدرجة الأولى إلى طبيعة موضوع هذه العلوم المرتبطة بشخصيَّة الإنسان التي عادة ما تتصف بالتركيب المتنوِّع والتحوّل السريع والتغير الطارئ[2].
كما أنَّ البعد النسبي في العلوم الإنسانيَّة في النتائج المحصل عليها، يعد من أبرز خصائص هذه العلوم، وهذا سر من أسرار تفوقها وقوتها ونجاحها بحيث تتغير نتائجها بفضل التغير السريع الذي يحدث ويقع في المجتمع الذي يكون موضوعا للبحث .[3]
سياق العلوم الإنسانيَّة
لقد جاء الاشتغال بالعلوم الإنسانيَّة في الغرب في سياق الوعي الذي أخذ يتنامى ويتسع حول قيمة العلوم الإنسانيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة في فهم المجتمع وفي معرفة الإنسان وفي تفاعله مع واقعه المعيش، والعمل في دراسة شخصيته بأبعادها المتعددة وبمستوياتها المختلفة، وكان من أهداف هذا العلم ومراميه الاستجابة لحاجيات الإنسان والعمل على تلبية متطلباته، وحل لمشاكله والتخفيف من حدّة الإكراهات، ومن حجم الضغوطات والصعوبات التي أخذت تواجه الإنسان في هذه الحياة بسبب التغير السريع الذي طرأ على هذه الحياة والتي جاءت نتيجة لمجموعة من التحولات الثقافيَّة والقيميَّة والاجتماعيَّة العميقة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، فكانت وجهة هذا العلم واختياره هو اعتماد الأسس العلميَّة والنتائج التجريبيَّة والمعطيات العلميَّة واستثمارها لغاية تعديل السلوك البشري الخاطئ، وتصويب العادات السيئة .[4]
ومن الجهات البارزة التي كانت موضوع اشتغال العلوم الإنسانيَّة جهة التعليم و التربية وكل ما له صلة بمهن التدريس وقطاعاته في بعده المؤسساتي والتنظيمي، إذ انخرطت العلوم الإنسانيَّة جميعها وبشكل مشترك في هذه الخدمة المتعلقة بقطاع التربيَّة والتعليم بالأخص: علم النفس وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا –علم الثقافة- والاقتصاد واللسانيات التطبيقيَّة –أو اللسانيات التعليميَّة وعلم اللغويات المعاصر.
هذه الاعتبارات المشار إليها تعني أن العلوم الإنسانيَّة إنما نشأت لتواكب التطور العلمي في الظواهر الإنسانيَّة بحيث واكبت العلوم الإنسانيَّة التاريخ الغربي وميلاد المجتمع الصناعي، وتطور نمط الإنتاج الرأسمالي، كما واكبت مجمل التغيرات التي عرفها تطور المجتمع في مراحله المتعددة، إضافة إلى تطور علاقات الإنسان وتفاعله مع الطبيعة و التاريخ، وسعيه لمعرفة مظاهر السلوك الإنساني في مختلف أبعاده، من أجل تحقيق معرفة أفضل بشخصيَّة الإنسان وبمحيطه، إنها معرفة تمكن من تحسين أحوال هذا الإنسان، والتحكم في مستقبله ومصيره.
وقد ازدادت الحاجة إلى هذه العلوم أمام التأثير الكبير الذي مارسته العولمة على حياة الإنسان وعلى مستقبله [5] .
أقسام العلوم الإنسانيَّة
من العادة السائدة والمعهودة بين الباحثين والدارسين في البحوث والدراسات الإنسانيَّة أن يتم تفريع هذه العلوم وتقسيمها إلى فروع وأقطاب منها علم النفس الذي يهتم بدراسة السلوك والأنشطة العقليَّة والوجدانيَّة للإنسان لفهمها وتفسيرها والبحث عن علاجات لأمراضها، وتقويمات لمشاكلها.
أما علم الاجتماع فهو دراسة الإنسان وسلوكه في المجتمع الذي يتواجد ويعيش فيه، فهو العلم الذي يهتم بدراسة العلاقات الرابطة بين الأفراد، وعلاقتهم وتواصلهم في المجتمع، وتفاعلهم المباشر والمستمر بالمؤسسات التي تؤثر في سلوكياتهم وكيفيَّة تفسير تلك السلوكات علمياً من أجل الارتقاء بها نحو الأفضل.
أما علم التاريخ فهو العلم الذي يتناول دراسات الماضى الإنساني في كافة مجالاته، ومدى تأثيرات ذلك الماضى في حاضر الإنسان ومستقبله، وكيفيَّة الاستفادة من دروس وأحداث الماضي في بناء الحاضر و المستقبل.[6]
وهذه العلوم المسماة بالإنسانيَّة حديثة العهد في نشأتها مقارنة مع العلوم الأخرى، وهذا التأخر في النشأة له ما يبرّره، فهو يرجع بالدرجة الأولى إلى طبيعة موضوع هذه العلوم المرتبطة بشخصيَّة الإنسان التي عادة ما تتصف بالتركيب والتحول والتغير الطارئ وبوثيرة سريعة [7].
خلاصة وتقرير
ما نقرّره في الأخير أن العلوم الإنسانيَّة هي تلك العلوم التي تتناول بالدراسة النقديَّة والمتعدِّدة النشاط الإنساني والبشري في عدد من أبعاده ومستوياته، ودوافع تلك الأنشطة وخصائصها وكيفيَّة الارتقاء بها والرفع من تلك الأنشطة الإنسانيَّة نحو الأفضل.
وأكبر ما تحقق للعلوم الإنسانيَّة في مسارها التاريخي البعيد هو طلاقها وانفصالها بشكل نهائي عن الفلسفة، واختصاصها بموضوعها الخاص ومنهجها المميز لها.[8]
بهذا نقول لقد حقَّقت العلوم الإنسانيَّة طفرة معرفيَّة ونقلة علميَّة كبيرة بين العلوم، وشكلت لحظة متميزة في مسار تطور العلوم .
_______
[1] -المستجدات التربويَّة والبحث التدخلي لأحمد اوزي مجلة علوم التربيَّة العدد: 16- السنة 1994. ص54
[2] Les grands penseurs des sciences humaines: Nicolas Journet:78
[3] ـ تأصيل العلوم الإنسانيَّة في الفكر العربي المعاصر للدكتور كمال عبد الطيف: ص :9
[4] -المستجدات التربويَّة والبحث التدخلي لأحمد اوزي مجلة علوم التربيَّة العدد: 16- السنة 1994. ص54
[5]. نشاط العرب في العلوم الاجتماعيَّة في مائة عام للدكتور عاقل فاخر بيروت1965 .ص : 59
[6] الخطاب التاريخي عند ابن خلدوندراسة لمنهجيَّة ابن خلدون لعلي امليل ص: 17
[7] Les grands penseurs des sciences humaines: Nicolas Journet:78
[8] -ما هي العلوم الإنسانيَّة لمحمد وقيدي ص: 11
______
الدكتور محمد بنعمر: أكاديمي من المغرب/ أستاذ التعليم العالي زائر بكليَّة الاداب وجدةالمغرب/ مكون بالمركز التربوي الجهوي لجهة الشرق.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.