في ثنائيَّة الخطأ والصواب

image_pdf

عادةً ما يتحدَّث الناس عن “الخطأ” في علاقته بالقوانين والأخلاق والأعراف والعادات والطقوس والمواضعات الاجتماعيَّة والحدود والموانع المؤطّرة، باعتبار الصواب هو ما انسجم مع هذه النظم الاجتماعيَّة والخطأ ما خالفها، وغالبا ما ينتهي هذا التفكير في هذين المفهومين –من داخل هذا الإطار- بأطروحتين، تذهب الأولى إلى الانتصار لهذه الأخلاقيَّات والمواضعات الاجتماعيَّة، وتُجرِّم كل محاولة لتجاوز هذه النظم الاجتماعيَّة والاستقرار الأخلاقي، وتعتبر هذا التجاوز خطأ، فيما تنتصر الأطروحة الثانية إلى إعادة التفكير في كل هذه الحدود وتجاوزها بما يضمن الحريَّة الفرديَّة للفرد. ولكن الأطروحة المغَيَّبة في هذا التفكير هي الجواب عن السؤال التالي: متى يصبح السلوك القرار/السلوك خطأ في علاقته بالذات نفسها لا بالنظم الاجتماعيَّة؟

 

الخطأ هو ما لا يتناسب مع مساري الفكري، العقدي (الديني)، الاجتماعي، الشخصي، الدراسي…في لحظة ما وشروط ما.  ومعيار الحكم عليه هنا ذاتيا وزمنيا أي حسب انسجام وتوافق نتائج السلوك/القرار الذي قُمت به، فمثلا قد أختار مدرسة ما أو شعبة ما وأعتبر اختياري صائبا حينئذ ثم بعد استكمال دراستي بها وتخرجي لم أجد أفاقًا أو شغلا أو وجدت شغلا ولكنه متعب ومستنزف، فأخلص إلى اعتبار قراري في ذاك اليوم كان خاطئًا (مع العلم كنت قد اعتبرته آنذاك صحيحا) إنَّ معيار الزمن والنتائج يغيِّر من نظرتنا الذاتيَّة لنفس السلوك/القرار. فهنا السلوك/القرار لم يتغيَّر بل الذات التي تغيَّرت، تبلورت وشكَّلت وعيًا وفهمًا جديدًا وعادت إلى نفس السلوك/القرار بنظرة وشروط جديدة وأسقطتها عليه، إن الذات تحتمي بالزمن لتعود إلى نفس الوقائع والسلوكات بقراءة جديدة وفق وعي اليوم لا استنادًا إلى ما وقع قديما.

 

وهي صيغة أخرى للقول إنَّ الذات تقوم بما يشبه قراءة جديدة للقديم لكن ليس معيار الزمن وحده بل معيار الذاتيَّة أيضا، أي الذات التي تشكِّل وعيها وفهما عبر سيرورة زمنيَّة لا تستطيع بعدها أن تتجرَّد ممَّا راكمته فيها أثناء العودة إلى نفس الوقائع، ومعيار النتائج أيضا، فمثلا قد يختار الشخص عقيدة ودينا معينا (x) ولكن إذا تبيَّن فيما بعد أن يوم القيامة والحساب والعذاب موجود سيعتبر اختياره لذاك الدين خطأ بعدما كان يعتبره صحيحا.

 

إنَّنا لا نعود إلى الأحداث بتجرُّدٍ مطلق وبريء كما يبدو عليه الأمر في الظاهر، بل نعود محمّلين بأفكار وبفهم وإيديولوجيا ووعي… لنبحث عن انسجامها مع مسارنا الذاتي لا مع الشروط والوقائع التي أطَّرتها آنذاك، ونقول: “لو عاد بي الزمن لفعلت كذا وما فعلت كذا”، وتقدير هذه العبارة  :”لو عاد بي الزمن وكنت بهذا الفهم والوعي والتجربة…لفعلت كذا وما فعلت كذا”.

 

وهنا نصطدم بإشكاليَّة الذاتيَّة في العلوم الإنسانيَّة، فالذات خائنة للوقائع والأحداث وتحتمي بالزمن والوعي والفهم والإيديولوجيا… لتعود إلى نفس الأحداث وتقدِّمها بصيغ وأحكام جديدة، ولا يكون ذلك سوى لحظة توهّم الذات بأنها تعاملت موضوعيا مع وقائع ماضويَّة. حتى الذي يكتب سيرة ذاتيَّة لا يكتب لنا وقائع ماضويَّة وهو خالي الذهن أو بريئًا من كل حكم مسبق، إنَّه يكتب لنا الوقائع القديمة، ويقدمها انطلاقا مما تجيزه موسوعته وتشتهيه نفسه وتنتقيه وتفهمه وما تجيزه لغته وتستطيع التعبير عنه اليوم.

__________
* سفيان الضاوي، المغرب.

جديدنا