الإسلام السياسي .. هل من معنى حقيقي؟

image_pdf

لا يختلف اثنان أنّ بإمكان المسلمين أن يلعبوا دورًا حاسمًا في استقرار النظام الأخلاقي لعالم مضطرب من خلال التطبيق الفاعل لأخلاق الإسلام وتقديم نماذج ساطعة للعالم أجمع، فوجود المسلمين المؤمنين كعناصر أخلاقيَّة في مؤسّسات الدولة ضرورة بالغة مع امتلاكهم مهارات وقدرات وكفاءات مطلوبة، في خطوة مهمة للمساهمة في تطوير وتنمية المؤسّسات السياسيَّة والاجتماعيَّة.

وقد نجحت بعض الأحزاب الإسلاميَّة في تحقيق بعض الخدمات الاجتماعيَّة للطبقات الفقيرة أكثر من المؤسّسات الرسميَّة، ولكن كانت ثمّة أسباب تكمن خلف تلك الجهود؛ أو بعضها على الأقل، من إنجاز مؤسّسات اجتماعيَّة متطوّرة تنمو مع المجتمع وتصبح كتلة واحدة متراصّة.

تجارب الإسلاميّين السياسيّين على صعيد الأفراد والمؤسّسات والدول تشير إلى فشل ذريع في الحكم، إذا لم يقدّموا سوى بدائل سيّئة، إضافة إلى تهالك على السلطة وفساد مالي وإداري وغش واستبداد، علمًا أنّ الاستبداد الديني غالبًا ما يكون أقل رحمة وأكثر جرمًا من الاستبداد السياسي بسبب تلفّعه بالمقدّس واستغلال الدين كواجهة لردع وقمع الآخر المختلف.

وفي هذا الإطار ثمّة سؤالين أساسيين يتطلّب نقاشهما دقّة بالغة وهما؛ الأوّل: هل تعريف الإسلام السياسي يتمثّل بالدعوة إلى قيام دولة إسلاميَّة أو دينيَّة؟ الثاني: هل الدعوة إلى قيام دولة مدنيَّة يعني غياب آثار ثقافة الدولة الدينيَّة بمفهومها التقليدي حتى عند أولئك الذين يرفضون وجودها؟

يتّضح أن مناداة معظم الأحزاب الإسلاميَّة، بقيام دولة مدنيَّة وليست دينيَّة، ولكن قيام تلك الدولة يتطلّب وجود المجتمع المدني ومؤسّساته، بينما في واقع الحال أنّ منظّمات المجتمع في مساحة غير قليلة من العالم الإسلامي مهمّشة من قبل الدولة والمؤسّسات الدينيَّة التقليديَّة ومنها على وجه الخصوص، فضلًا عن وجود مجاميع ومؤسّسات وميليشيات تعمل لمصالحها، وتقف بالضدّ من عمل المجتمع المدني.

غالبًا ما يعرف الإسلام السياسي بمن يطالب فقط بقيام دولة إسلاميَّة، وهو تعريف مبتور للمصطلح. فالأحزاب الإسلاميَّة السياسيَّة تستخدم الإسلام كواجهة لجذب الناخبين لقوائمها وتحقيق المآرب السياسيَّة وتكريس الظواهر التراثيَّة الملائمة لنهجها.. وما ينطبق على السياسة يتماثل أيضًا مع الثقافة الفقهيَّة السياسيَّة.

ولا بد من القول إنّ معظم الأحزاب الإسلاميَّة السياسيَّة تتخلّف في مزاوجة الإسلام مع ثقافة الديمقراطيَّة، سوى في الشكل السطحي، لذا هناك عوز كلي للعقلانيَّة والوعي السياسي والحسّ المشترك لتطوير الخطاب السياسي للحركات الإسلاميَّة، غير أن معظمها متأثّرة، إن لم تكن عاملة، بأصول الفقه التراثي الذي لا يستند إلى مفاهيم الآخر بغية التكامل، الأمر الذي يعمل بالضدّ من الوعي السياسي باعتباره أحد أهمّ دعائم الدولة المدنيَّة.

كذلك تعتقد الحركات الإسلاميَّة السياسيَّة أنّها صاحبة الشرعيَّة لأكثريَّة اتباعها وبحجّة دفاعها عن الإسلام باعتبار أن المجتمع يقع تحت خيمة توجّهها الديني، أي شرعيّات القبيلة أو فردانيَّة التوجّه، بعيدًا عن تلك القائمة على الموضوعيَّة والعقد الاجتماعي والوفاق الوطني، شرعيّات غير زمنيَّة أو قانونيَّة تسلم للاستبداد بأنماطه الجديدة، وفي هذا الإطار نتساءل: ما ذنب الأقلّيّات غير المسلمة، رغم صغر حجم تمثيلها النسبي داخل المجتمع، وكيف نضمن عدم تحيّز الأحزاب الإسلاميَّة إزاء المواطنين وفقًا لانتمائهم الديني أو المذهبي.

ولعلّ تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم في “ميثاق المدينة” بضمان حقوق الأقلّيّات غير المسلمة كاليهود وبعض القبائل الوثنيَّة، كذلك تجربة الخليفة الرابع عليه السلام، الذي لم يرض ببيعة نخبويَّة مقتصرة على مجموعة محدّدة، مصرًّا على بيعة تجمع عليها الأمّة، لأنّه يرى في الخلافة عقدًا اجتماعيًّا بينه وبين الأمّة جمعاء.

ومن التجارب الحاضرة للإسلاميّين في الحكم هي احتكار السلطة السياسيَّة والدينيَّة غير تعيين شخصيّات غير كفؤة مهنيًّا بسبب ولائها السياسي أو التزامها الديني، ممّا أدّى بالتالي إلى سوء إداري وغياب التنمية الاجتماعيَّة والاقتصاديّة، وتفشّي الفقر مع غياب واضح للحرّيَّة، وكانت النتيجة اتّساع الفوضى والعنف والخراب وشلل أصاب مرافق الدولة ومؤسّساتها وزيادة الاستقطاب والتمزّق واستخدام الدين كواجهة لأعمال غير مشروعة، إلى جانب التمتّع بالسلطة تحت يافطات إسلاميَّة، حتى لاحت أسئلة كبيرة بدأ المسلمون قبل غيرهم بطرحها وتتمثّل بماذا جنى الناس من حكم الإسلاميّين وشعاراتهم؟

وجود إسلاميّين في سدّة الحكم لا يضمن بأيّة صورة من الصور، استئصال الفساد والحدّ من التهالك على السلطة وإيجاد حلول عمليَّة لمشاكل البلاد والعباد، بمجرّد أنّ القائمين عليها يتلفعّون بعباءة إسلاميَّة. وما ينطبق على الإسلاميّين يتكرّر بذات الصورة على العلمانيّين، من خلال المؤسّسة العسكريَّة وغيرها من المؤسّسات التي ركّزت على الدكتاتوريَّة وتحالفت مع أنظمة غير شرعيَّة ضدّ مجتمعاتها.

ويكمن الحل الأمثل بوجود مؤسّسات ذات ضوابط تحدّ من بعض نوازع الطبيعة الإنسانيَّة وتوازن حدود السلطة وتفصل بين السلطات وتوفّر الشفافيَّة وترسّخ الوعي لدى الجميع بأنّ الدولة المدنيَّة هي لخدمة المواطنين على اختلاف عقائدهم الدينيّة، ممّا يحقّق أحد أهداف الإسلام وذلك يحفظ كرامة الإنسان وحرّيّته.

_______
*الراصد التنويري/ العدد السادس/ خريف 2009.

جديدنا