المعلّم؛ التعاقد مصنع التفتيت

image_pdf

” كاد المعلم أن يكون رسولا “؛ مقولة مهما تشعَّبت تأويلاتها إلا أنها لا تخرج عن كونها بمثابة تعبير عن الهويَّة الاجتماعيَّة “للمعلم”. هذا الأخير الذي ظل رمزا للوجود الاجتماعي الفاعل والفعَّال داخل سلسلة الحياة الاجتماعيَّة.

لطالما كان لكل معنى سياق كفيل بإنتاجه ولطالما كان لكل سياق مقولة تعبِّر عنه، فإن هذه المقولة عبارة عن معنى يعبِّر عن سياق اجتماعي يتميَّز بالوحدة والانسجام يأخذ فيه المعلم مكانة رمزيَّة تجعل منه الضامن الأساسي والأوَّل لهذه الوحدة “التماسك الاجتماعي”، حيث أن رفع المعلم إلى مصاف الأنبياء والرسل لم يأت من محظ الصدفة بل هو نتاج لما يلعبه من دور في تماسك السياق الاجتماعي بكل مكوناته كما أنه أيضا تعبير عن قيمة اجتماعيَّة، إذ بدون المعلم لا يمكننا تحقيق إنسانيَّة الإنسان باعتباره غاية الوجود المثلى.

 

من السلوك والفعل وكذلك من النص المكتوب ومن حكايات الأجداد أيضا تعلمنا بأن “المعلم ” هو الينبوع الذي ارتوت منه الإنسانيَّة في كل مجالاتها، طبقا لهذا يمكننا القول بأن المعلم هو مقياس كل شيء بل أبعد من ذلك ” إذا ضاع المعلم ضاع المجتمع وإذا ضاع المجتمع ضاعت الإنسانيَّة. وهل هناك من هو راغب في ضياع الإنسانيَّة؟ وهل يمكن أن تضيع الإنسانيَّة أصلا؟ وبأي معنى يمكننا الحديث عن انهيار وضياع الإنسانيَّة؟

 

إنَّ الإجابة عن هكذا أسئلة أمر يستدعي منا دراسات ميدانيَّة معمَّقة غير أن واقع الحال ومدى عمق جراح هذا المعلم تمنحنا الشرعيَّة الكاملة من أجل التأكيد على أنه لا عدو للإنسانيَّة إلا من انقطع رابطه معها فأصبح غير منتميا لها ولربما منتميا بالشكل فقط. وكم هم هؤلاء الذين يعملون ليل نهار من أجل التفتيت والتخريب والدمار وذلك وفق منطق ليبرالي متوحش لا يراعي إشكاليَّة الفصل بين الاقتصادي والاجتماعي، الذي تتَّسع هوّته يوما بعد يوم ممَّا يؤدِّي إلى انهيار القيم وانتشار المجتمعات الفردانيَّة على حساب مجتمعات التضامن، ونحن نعلم ما قد يترتَّب عن الفردانيَّة وتوسّعها.

إنَّ المتأمّل لنظام الإنتاج الجديد سواء في بعده الاقتصادي أو الاجتماعي يجده لا يخرج عن إطار تفتيت العلاقات التي يمكن أن تنشأ بين هذين البعدين، بحيث يكون تطوّر الأول على حساب الثاني وهذا أمر لا يمكنه إلا أن يؤدِّي إلى قتل النواة الاجتماعيَّة الضامنة لاستمراريَّة الانسانيَّة، إذ ينتصر هذا النظام الليبرالي لمنطق الربح المادي لا القيمي أو الاجتماعي، وخير دليل على ذلك الزاوية التي ينظر منها هذا النظام للإنسان إذ لا أهميَّة إلا للبعد الإنتاجي المادِّي ( الربح) في تغييب تام للأبعاد الأخلاقيَّة والإنسانيَّة .

 

إن المؤسف في هاته الأزمة ليس كونها إنسانيَّة فقط بل أيضا سرعة تهافت الدول والمجتمعات للانخراط في مسلسل الدمار هذا، ولعلَّ من بين الدول التي انخرطت في هذا المسار نجد “المغرب” عبر مجموعة من الإجراءات، والتي كان آخرها نظام التوظيف الجديد في قطاع التعليم.

 

إنَّ هذا النمط الجديد من التوظيف ولا سيما في قطاع حيوي كقطاع التربية والتعليم لا يمكنه إلا أن يكون مجرد آليَّة لتكريس الهشاشة الاجتماعيَّة عبر جعل العاملين وفقه يعيشون وضعيَّة اجتماعيَّة واقتصاديَّة هشَّة، تجعلهم عرضة للخطر الاجتماعي ويشعرون بالغموض في رؤيتهم للمستقبل مما يحول دون مشاركتهم في بناء الصرح الاجتماعي والحضاري. حيث أنَّ العمل وفق منطق العقدة ومع مؤسَّسة عموميَّة لا تملك الاستقلال المالي سيؤدِّي لا محالة إلى وقوع سيناريوهين  في حالة الأزمة والضيق المالي وهما كالآتي :

-السيناريو الأول: تسريح العمال( الأساتذة المفروض عليهم التعاقد).

-السيناريو الثاني: وهو الذي أرجحه لكون دساتير التربية والتكوين قد نصَّت عليه في أكثر من مناسبة ألا وهو البحث عن شركاء جدد يمولون هاته المؤسَّسات ممَّا سيدفع نحو الانسياق وراء سلعنة الخدمات التي تقدِّمها هذه المؤسَّسات.

 

إنَّ المعلم في زمن التوظيف الجديد لم يعد منتجا ولا ناقلا للقيم التي من شانها أن تهذِّب الغريزة البشريَّة وإنما أصبح أجيرا يفكِّر باستمرار في تغيير وضعيته المهنيَّة التي يشعر فيها بعدم الرضى والاندماج السوسيومهني، وهذا أمر لم ولن يؤثِّر على مردوديته فقط بل سيؤثِّر وبدرجة أقوى على مكانته ورمزيته داخل المجتمع، حيث أن تعبيراته عن عدم الرضى والتي تمثَّلت في خوض أشكال عديدة من الاحتجاجات والإضرابات سترسم خارطة طريقه الجديدة داخل عمليَّة الإنتاج الاجتماعي، إذ أنَّ تعرّض الأستاذ ـــــــــ باعتباره القناة التي تؤمن عبور القيم بين الأجيال ـــــــــ إلى التنكيل والتهميش والتحقير كردّ على احتجاجه هو ضرب واضح لمركزيته في الإنتاج الاجتماعي.

 

صحيح أنَّ الأستاذيَّة قتلت ماديا منذ زمن بعيد لكنها اليوم تقتل رمزيا وأمام الجميع، إذ لم تعد تحظى برمزيتها المجتمعيَّة والقيميَّة كما سبق وأشرنا، فلا الأستاذ يعتز بها كهويَّة اجتماعيَّة ولا المجتمع يتمثّلها كما عهدناه من قبل، إذ بمجرد ما يقدِّم الفرد نفسه على أنه أستاذا تجده محاطا بوابل من الأسئلة والكلمات التي لا تحمل إلا معنى اللاإستقرار واللاأمن واللايقين من قبيل: هل من الرسميين أم المتعاقدين؟ وإذا حصل وأجبت بتأكيد الاختيار الثاني تلطمك تعبيرات الشفقة والرأفة لحالك ( مسكين) ممَّا يؤدِّي بهؤلاء إلى فقدان الإحساس بالانتماء الاجتماعي وتفكّك الروابط التي تجمعهم ببقيَّة المجتمع، إذن كيف سنوفر لهؤلاء الحماية ونقوِّي لديهم إحساس الانتماء الاجتماعي؟

 

إنَّ مقاربة هذا السؤال تستدعي منا ولو تأمّل بسيط في ماهيَّة هذه الثنائيَّة التي أحدثها منطق التوظيف الجديد في قطاع التعليم حيث لم يعد المجتمع الأستاذي مجتمعا للتساوي بقدر ما هو مجتمع للتشابه فقط، ذلك أنه بالرغم من كون هؤلاء المشتغلين وفق نظام التوظيف الجديد يتمتَّعون بنفس الحقوق وخاضعين لنفس القوانين كما يشاع إلا أنهم مختلفون على مستوى المسارات السوسيومهنيَّة.

 

إنَّ هلعنا ليس ممَّا قد يؤول إليه حال الأستاذ بل ممّا قد يترتَّب عن هذا الحال من سخط اجتماعي، حيث أنَّ مجتمع المتشابهين هذا سينضاف إليه ـــــ بفعل عودة الفئات الخطيرة ـــــــ حشد من المقصيّين والمهمّشيين وهم فئة واسعة من أولئك الذين فقدوا الإحساس بالانتماء الاجتماعي وتفكَّكت لديهم الروابط الاجتماعيَّة هم الآخرون، قاسمهم المشترك هو الحرمان والتفكّك واللاأمن الاجتماعي، وهذا أمر لن يزيد الوضع إلا سوءًا.

 

لم تكن يوما المقاربة القمعيَّة حلا بل ليس إلا تعميقا للمشكل؛ لذاك في نظرنا حلّ هذه المشكلة رهين بردّ الاعتبار للأستاذ ومكانته داخل المجتمع وذلك عبر تأمين مساراته السوسيومهنيَّة وتعديل التمثّلات الاجتماعيَّة السائدة حوله، وهذا أمر لن يتأتَّى إلا بفعل إرادة سياسيَّة جادَّة في إحداث تغييرات عميقة على مستوى الواقع.

جديدنا