“الهروب من بريتوريا” .. المفتاح الأخير نحو الحريَّة

image_pdf

فيلم “الهروب من بريتوريا” يحدثنا عن نضال فريد من نوعه هو نضال المفاتيح الأبرياء المناضلين ضدَّ أقفال الطغيان الإنسانيّ العفِن، يحدثنا عن معنى الحريَّة الإنسانية، يحدثنا عن وجهَتَيْ نظر لكيفيَّة مقاومة الطغيان، ويعطينا أملاً في الوصول لأهدافنا .. يفعل كل السابق وهو يعرض علينا مغامرة شيقة وأنفاسًا مُتلاحقة، وصراعًا طويلاً نحو التحرُّر.

فيلم ” Escape From Pretoria ” من إنتاج 2020. أخرجَه وشارك في التأليف فرنسس عنان، وشاركه في التأليف كارول جريفث وآخران، عن كتاب يحمل اسم الفيلم نفسه. من بطولة الممثل الشاب الذي كان الصبي الأشهر في العالم دانيال رادكليف (مجسِّد شخصية هاري بوتر)، وإيان هارت، دانيال ويبر، مارك ليوناردو. وهو من تصنيف إثارة غموض.

الفيلم يتناول قصة واحدة من أشهر محاولات الهروب من السجون المشددة. لثلاثة من المناضلين الأفارقة البِيض هم تيم جينكين (دانيال رادكليف)، ستفين لي (دانيال ويبر)، ليوناردو (مارك ليوناردو). وتبدأ الأحداث التي تدور في دولة “جنوب أفريقيا” في منتصف السبعينات؛ نرى شابَّيْن أبيضَيْ البشرة ينضمان للحزب الوطنيّ المحظور من قبل الدولة، والذي يسعى لتحقيق المساواة بين ذوي البشرة البيضاء والمُلوَّنين من ذوي البشرة السوداء وذوي الأصول الآسيويَّة في البلاد. وكانوا يشاركون في تغذية الوعي العام عن طريق بثّ قنابل ضئيلة التفجير عند تفجيرها تنطلق مئات من المنشورات التوعويَّة التي تنشر قضيتهم.

هذه المرة لمْ تسلمْ الجَرَّة ووقعا في قضبة الشرطة التي بذلت كل جهودها لتسقط هذا التنظيم المحظور الذي يسعى نحو جريمة مساواة البشر الشنعاء. ونرى القاضي وهو يتشفَّى فيهما ويثنى على النيابة في جمعها لأدلة تورطهما في القضيَّة. ثم يحكم على أحدهما باثنتَيْ عشرة سنةً، وعلى الآخر بثمانٍ من السنوات في سجن مُشدد الحراسة والتأمين. وعندما يدخلان السجن وفور رؤيتهما عُمرهما يضيع هباءً أمام عينيهما؛ يقرران قرارًا حاسمًا أن يهربا. وفي أول أيام سجنهما يقابلان المسجون الثالث الذي سيشاركهما عمليَّة الهروب “ليوناردو”، ويقابلان أيضًا السجين الشهير لسوابق دفاعه عن الإنسانيَّة “دينيس جولدبيرج” والذي كان قد صاحَبَ المناضل الأشهر “نيلسون مانديلا”.

من هذه اللحظة يبدأ فيلمنا في التعقُّد والتشكُّل حيث تنعقد إرادة الأبطال الثلاث على الهروب بأيَّة صورة من هذا السجن. وفي الليالي التي قضاها تيم جينكين وحيدًا في الزنزانة بدأ يتأمل الأقفال والقضبان، واسترعى انتباهه شكل المفتاح الذي يدور في هذا الباب، والذي يفصله عن حُريته كيف هو؟ فبدأ برسم مُخطط له. ثم يكمل الفيلم طريقه ليُرينا كيف خطَّط أبطالنا لتجاوز خمسة عشر بابًا بها، وخمسة عشر قفلاً لينالوا الحريَّة التي في سبيلها تُراق الدماء، وفي سبيلها يتحرك الذهن، وفي سبيلها ستُدمّر كل الأقفال العتيدة بمفاتيح الإرادة الإنسانيَّة.

الفيلم ورغم معانيه العديدة إلا أنَّه تأليفًا قد أصرَّ على أن يكون فيلم إثارة وتشويق. نرى ذلك بسهولة حيث غالب دقائق الفيلم كرَّسها فريق التأليف للمغامرة نفسها؛ كيف بدأت كفكرة، وكيف تطورت كإرادة بين السجناء، وكيف أُديرت على حيّز التنفيذ الفعليّ. وهذا اختيار منذ البداية وفريق آخر للكتابة قد يختار التركيز على المعاني لا على التقنيات. ليس هذا أو ذاك هو الصحيح أو الأصحّ؛ الأصحّ هو أنْ تُفلح في تنفيذ اختيارك الذي اخترتَه، وألَّا تقع في حيِّز الرتابة -إنْ اخترتَ الفكرة-، وألَّا تقع في حيّز التفاهة -إنْ اخترتَ التنفيذ والإثارة-. والحقيقة أن الفيلم لمْ يقع في حيّز التفاهة بل لم يقترب منه أصلاً. فالفيلم فيلم إثارة وغموض وفيلم أفكار ومعانٍ؛ ليس على سبيل العرض، بل على سبيل أن الأفكار والمعاني هي المُحرِّكات الرئيسيَّة لكل شيء.

الفيلم اختار أسلوب الراوي ليقدم لنا شخوصه، وليُمهد لأحداثه، وليُقرِّب إلينا تصور تطورات الأحداث. وقد ساهم الصوت المؤثر لبطل الفيلم في أداء كل هذه المهام. واستعان ببعض الجُمل المؤثرة، وبعض المشاهد الحواريَّة التي ترفع من قيمة الفيلم. ونجح نجاحًا بالغًا في بلورة شخصياته التي نقلت لنا اتجاهات الأحداث والأفكار، وساهمت في تفاعل المُشاهد مع الحدث. لكنَّ السمة الأشدّ بروزًا في التأليف هي التركيز؛ وأعتقد أن السبب هو وجود المخرج في طاقم التأليف وهذا وحده يميل بالدفَّة نحو مراعاة التنفيذ منذ البدء أيْ منذ الكتابة ومراحل تعديلها ومعالجتها.

ولنفهم سياقات الأحداث يجب علينا أن نعرف بعض الشيء عن خلفيَّة الأحداث وأماكنها. دولة “جنوب أفريقيا” هي أقصى دول القارة جنوبًا يقطنها العديد من الأجناس؛ فهناك الأفارقة الأصليون وهؤلاء هم الأغلبيَّة، وهناك مهاجرون من آسيا كُثُر، وهناك الأوربيون الوافدون عليها من أيام الكشوفات الجغرافيَّة والاستعماريَّة منذ القرن السابع عشر. وقد جاءوا إليها واستوطنوها بهدف التجارة مع الهند، وبهدف نشر الديانة المسيحيَّة بين الأفارقة. وبهذا تكون من الدول مُتعددة الأعراق والأجناس. منذ استقلالها والبيض الأوربيون مهيمنون على كل الدولة ولهم كل الحقوق التي يحرمون السود منها. وقد طبقوا نظامًا أتوا به من التجربة الأمريكيَّة اسمه “الفصل العُنصريّ” أيْ فصل المواطنين على حسب عُنصرهم وعرقهم وجنسهم. كانت أمريكا تفصل به العبيد الأفارقة عن السكان الأوربيين. أمَّا هنا فالأوربيون فصلوا به أنفسهم عن أصحاب الأرض وهم عليها محتلُّون!

وقد عانت الدولة بسبب هذا النظام العُنصريّ الذي تبلور تحت اسم “أبارتايد” (مذكور في الفيلم بالنصّ). وحاول الكثير من ذوي البشرة السوداء النضال طويلاً لإسقاط هذا النظام العنصريّ الذي كان يمنع السود من أنْ ينتخبوا مَن يحكمونهم، أو أنْ يتولوا المناصب الهامة، أو أنْ ينتقلوا بحريَّة في البلاد ابتداءً دون تصريح سابق، وعديد من الانتهاكات الأخرى. وهذا ما سيقابلنا منذ أول مشاهد الفيلم التي عرض فيها لقطات حقيقيَّة للممارسات القمعيَّة التي مُورست ضدَّ ذوي البشرة السوداء.

تعرَّض الفيلم أيضًا لمُصطلح هو “الاعتراض الضميريّ” وبالعموم يعني اعتراض المواطن -في أيّة دولة- على سياسة من سياسات الدولة، أو قانون تفرضه الدولة ويكون سبب اعتراضه ليس قانونيًّا بل سبب شخصيّ إنسانيّ وهو مخافة ضميره أو تأنيب ضميره على هذا الفعل أو غيره. ويدخل تحت هذا المصطلح الكثير من الأفعال ونرى في مجتمعاتنا العربيَّة الكثير من مُعترضِيْ الضمير لكنْ لا يُطلق عليهم هذا المصطلح. وممَنْ يدخل تحته أصحاب النضال العامّ السياسيّ، والمُدافعون عن الحقوق الإنسانيَّة الأساسيَّة التي تنتهكها الدول، أو المناضلون ضدّ الانقلابات العسكريَّة، أو الرافضون للتجنيد الإجباريّ رفضًا منهم لفكرة الحرب أصلاً بغضّ النظر عن عدالة القضيَّة التي يحاربون عنها أو عدم عدالتها. وقد ذكر المصطلح مرات في الفيلم بنصه وبتفريعات عنه.

وقد دار الفيلم وتطورت أحداثه جميعها طلبًا لشيء واحد هو “الحريَّة”؛ التي عرَّفها المؤلفون في الفيلم أو أجملوا فكرتهم عنها في قول البطل: “الحريَّة فكرة بسيطة جدًّا؛ ورُبَّما هذا هو سبب إمكان ضياعها بسهولة”. وقد قال الفيلم عن الحريَّة إنها “فكرة” مراعاة لسياق الأحداث؛ أمَّا التعريف الصحيح هو أنَّ الحرية قِيمة وليست فكرة. قيمة من القِيَم الأساسيَّة لدى الإنسان، والتي يسعى النضال البشريّ كلّه حول ضمان تمتُّع الإنسان بها. وفي سبيل ذلك تنشأ ممارسات مواجهة الطغيان السياسيّ والاجتماعيّ وغيره. ولا شكّ أنّ للحرية تعريفات كثيرة ومشكلات بالغة التعقيد، بل إنّ الحريَّة إحدى أهمّ القضايا الأساسيَّة في الفكر البشريّ بعامة، وفي الفلسفة خاصةً. من أول طرح قضيَّة: هل الإنسان مُخيَّر أمْ مُسيَّر؟ إلى أقلّ ضروب التفكير في الحريَّة وهي الحريَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة.

ومن الفكرة السابقة تتولَّد أحد أهمّ الأفكار التي عرضها الفيلم، بل لعلَّها غرضه الأوَّل من النقاش؛ وهي سُبُل المقاومة لنيل الحرية، وسُبُل الدفاع عن القيمة الإنسانيَّة أمام الطغيان البشريّ الذي يمارسه بعض البشر تجاه بعضهم الآخر. وهنا يعرض الفيلم وجهتَيْ نظر: الأولى هي وجهة نظر المناضل الكبير “دينيس جولدبيرج” وتميل هذه الوجهة إلى السلميَّة أو إلى الحِكمة والتمهُّل في مواجهة الطغيان؛ أيْ مواجهته بالنضال الصبور المُتأنِّي، الذي وإنْ بدا أنَّه عديم الجدوى إلا أنَّه الأدوم حالاً والذي قد يُضمن نجاحه في نهاية المعركة؛ لأنَّه مَنْ سيبقى حتى النهاية على أرضها. ويعبِّر صاحب الفكرة عن فكرة بجملة غاية في التأثير: “على البذرة أن تتعفَّن في باطن الأرض قبل أن تتمتع برؤية ثمارها”. وهذا اتجاه في النظر إلى النضال له مُبرِّره وله فوائده بعيدة الفائدة، وإنْ كانت على المدى القريب عديمة الفائدة أو قليلتها.

الاتجاه الآخر هو اتجاه الشباب الثلاث على نقيض الأول؛ حيث يرون أنَّ سبيل النضال هو القوة، وأنّ الحقَّ لا يُستجدى بل يُنتزع. ويسخرون من صاحب الرأي الأول بأنَّه سيقف رافعًا عَلَمَ نصره لكنْ داخل قضبان السجون! أيْ أنَّه يضحك على نفسه ويتغفَّلها ويُسمِّي جُبنه نضالاً. وهم يعبرون عن اتجاههم بجملة مؤثرة أيضًا فيقول البطل: “أيّ شيء غير الهروب من هذا السجن اللعين هو اتفاق مع الشيطان نفسه” أيْ أنَّ الخضوع لنظام المُحتلّ أو الطاغية أو الظالم هو إتمام لإرادته أصلاً، بل هو موافقة ضمنيَّة على ما يفعله بذلك الخضوع أو الاستمرار فيما قدَّره هو عليك أو وضعك فيه من ظروف (وهي هنا السجن). وهذه الوجهة سليمة أيضًا من جهة أخرى، بل هي وجهة فلسفيَّة عميقة لها أصول كثيرة. كما أنَّهم يضيفون أنَّ الخمول عن المواجهة الطغيان هو الهروب نفسه، لا محاولة الخروج من السجن هي الهروب. قالوا هذا عندما اتهمهم “جولدبيرج” بأنَّهم جُبناء يسعون للجري من المواجهة.

ولعلَّ المشاهد يحار في أيِّ وجهة يختار، ولعلَّه يتذكر أنّ الأهم من وجهتَيْ النظر واعتناق إحداهما أنْ يكون على جانب مواجهة الطغيان لا على جانب الطغيان نفسه؛ حتى لو لمْ يستطعْ أن يواجهه بيده، أو بلسانه. ولعلَّ من القيم اللطيفة التي سعى الفيلم لزرعها قيمة الأمل في ظلّ ظروف صعبة وأمور قد تُصيب أيَّة إرادة بالعجز المطلق. وهذا يُذكَّرنا أنْ مَنْ قيَّدنا بهذه القيود إنسان وأنَّنا أيضًا إنسان؛ ففرصة النجاح أمامه ليست صفرًا في أيّ حال.

وقد تميَّز الفيلم بجانب تقنيّ ضروريّ هو الهندسة الصوتيَّة التي تقتضيها طبيعة الفيلم. فهو فيلم يتناول الصمت أكثر من تناوله الحوار والحديث؛ لكنَّه صمت مؤثِّر ومُشبع بأشياء تكسره وهي أصوات القضبان والأقفال على جانب، وأصوات المفاتيح على جانب آخر. غير أصوات بشريَّة أخرى. كل هذا الاعتماد من طبيعة الفيلم يؤدي إلى بروز جانب الهندسة الصوتيَّة التي أدَّتْ دورها بكل امتياز وتفنُّن. ولعلَّ مُختصِّي الصوت عندنا يتأملون هذه التجارب الناجحة كي يتعلموا، ولعلَّ صانعي أفلامنا ومُنتجيها يتأملون ليعلون ما يقدمه الدعم الصوتيّ للمشاهد في أيّ عمل مهما كان. كما كانت لموسيقى الفيلم التي تضافرت مع صمت الحوار أدوار في نقل أحاسيس الأبطال، ومشاعر اللحظات لعقل وقلب المشاهد.

ومن الملحوظ أيضًا ومما يستحق الذكر هو اختيارات بطل العمل “دانيال رادكليف” وهو صاحب السلسلة الأشهر “هاري بوتر” فمنذ أصبح هذا الصبي شابًّا وهو يجيد اختيار أفلامه. ويصرُّ على أداء الأدوار الصعبة المتنوعة والأفلام الجادَّة ذات المحتوى المُعبِّر. أذكر منها ” Swiss Army Man “، حتى عندما أقبل على أداء أفلام الرعب قام بدور البطولة في فيلم رعب ممتاز هو ” The Woman in Black “. والذي أريد أن أنوِّه عنه أنّ هذا الممثل أصرَّ على مواصلة الاجتهاد، ولم يركنْ إلى شهرته البالغة، وثروته البالغة التي جمعها في سلسلة “هاري بوتر”. ونتيجة الاجتهاد والصبر والعمل المُتأنِّي دائمًا صُنع أعمال تستحقّ المشاهدة؛ كهذا الفيلم الجميل.

جديدنا