1
عملية العثور على الأدوات الفلسفية في اللغة تُمثِّل تَحَدِّيًا حقيقيًّا للإنسان، في رحلة بَحْثه عن معنى الوجود الإنساني، وتأثيره في صناعة التفاعل الرمزي بين الشكل الاجتماعي والمُحتوى الفلسفي. وكُل نظرية فكرية تحليلية لا بُد لها مِن أدوات، لأنَّ النظرية ذات كُتلة معرفية ضخمة وشحنة عاطفية هائلة، وهذا يَمنعها مِن تحريك نَفْسها بنَفْسها، لذلك تتحرَّك بأدواتها الإبداعية التي تُمثِّل قُوَّتَها العقلانية الضاربة، وتُقَاتِل بأذرعها الفكرية التي تُمثِّل أسلحتها المعرفية الفَتَّاكة، كما أن هذه الأدوات والأذرُع تَحْمي بِنيةَ النظرية مِن الانهيار تحت ضغط العناصر الاجتماعية، وتَمنع المنطقَ الفلسفي مِن التَشَظِّي والتشتت بفِعل إفرازات البِنى الاستهلاكية.
2
لا يُمكن للإنسان أن يجد مسارَه ومصيرَه خارج اللغة، ولا يَستطيع العُثورَ على جَدوى حياته وفلسفة وجوده خارج اللغة. وإذا لم يجد الإنسانُ الأدواتِ الفلسفية في اللغة، فلن يجدها في أيِّ مكان آخَر. فاللغةُ هي الأُم، وعمليةُ ولادة الأفكار مُستحيلة بدون وُجود أُم. وكما أن السمك لا يعيش خارج الماء، كذلك الفلسفة لا تعيش خارج اللغة. وفي ظِل هذه المُعطيات، ينبغي على الإنسان أن يُركِّز اهتماماته في اللغة، رُوحًا وجسدًا وسُلوكًا وسُلطةً، ويَغوص في اللغة بحثًا عن الأدوات الفلسفية اللازمة لتشريحِ الألفاظ والمعاني في الوجود الإنساني، وتحليلِ الروابط الرمزية بين الشكل الاجتماعي المُسيطر على تصالح الإنسان مع ذاته، وبين المُحتوى الفلسفي المُسيطر على صراع الإنسان معَ ذاته. وبين تصالح الإنسان مع ذاته والصراعِ معها، يَبرُز هامش المُناوَرة الذي يُتيح للعقل الواعي أن يُؤَسِّس مشروعه المعرفي القائم على حرية التعبير المُنضبط بالمصلحة الشخصية والمنفعة العامة، والقادر على التَّحَرُّر الفكري،وتحريرِ السلوك الإنساني من الوهم والعبث.
3
الوجود الإنساني لَيس نسقًا بسيطًا أو مُعادلة خطية بمُتغيِّر واحد، وإنما هو نظام مُركَّب، ومنظومة مُتجانسة تشتمل على الأصول والفروع، والمنابع والروافد، والثوابت والمتغيرات، والجواهر (حقائق الأشياء القائمة بنَفْسها ) والأعراض (العناصر القائمة بغَيرها ). وهذا يستلزم أن يتسلَّح الإنسانُ بالأدوات الفلسفية النابعة من مركزية اللغة ورمزيتها، والقادرة على اختراق الحواجز الذهنية، واجتياز المراحل الزمنية، مِن أجل الوصول إلى ماهية الوجود الإنساني، وكشفِ تفاصيل الحياة الكامنة وراء الأقنعة والستائر. وبما أنَّ الحياة حقيقة جوهرية في غاية الخطورة، وليست لُعبة عبثية أو مسرحية هزلية، فإنَّ تفاصيل الحياة تستحق أن تُدرَس بشكل تحليلي وتجميعي، بعيدًا عن العاطفية والمزاجية. والتحليلُ والتجميعُ ينبغي أن يسيرا معًا، لأن العلاقة بينهما تكاملية تجاذبية، بلا تنافُر ولا تعارُض. فالتحليلُ يُقَسِّم تفاصيلَ الحياة المُعقَّدة إلى أجزائها الصغيرة وأنويتها الأولية، مِن أجل ضمان تعدُّد زوايا الرؤية، وفهم الموضوع واستيعابه بشكل سليم ودقيق. والتجميعُ يَحصُر شظايا الحياة المُشتَّتة في بؤرة مركزية واحدة، مِن أجل تكوين روابط منطقية بين أجزاء الحياة ومعناها الكُلِّي، الأمر الذي يُؤَدِّي بالضرورة إلى تسليطِ الضوء الفلسفي على الوجود الإنساني، وتَوظيفِ الشعور الاجتماعي لتعزيز السلام في أعماق الإنسان، وتحقيق المصالحة بَينه وبَين نَفْسه. وهذه هي الضمانة لحماية الإنسان من غُربة الروح عن الجسد.