التعدّديَّة الدينيَّة بين النصّ والواقع

image_pdf

شهد التاريخ القديم منه والحديث صراعات دمويَّة ومآسٍ إنسانيَّة، ناتجة في معظمها عن اعتبار الآخر المختلف عقائدياً ومذهبيّاً، مستباح الدم ومشروعاً للقتل والتعذيب والنفي.. ولا يزال الواقع المعاصر يجرّ خلفه هذه الرواسب التاريخيَّة الثقيلة. رغم تطوير الفكر الإنساني الحديث لمفاهيم العيش المشترك والاعتراف بحقوق الإنسان، والإيمان والتعدّديَّة الفكريّة والثقافيَّة والدينيَّة، هذه الأخيرة لا تزال تشكّل بؤرة التوتّرات والصراعات ومصدراً لأفكار التطرّف والإرهاب التي يتردَّد صداها اليوم في أعمالٍ تفجيريَّة وممارسات قتل جماعي هنا وهناك.

إنّ الإنسان لا يمكنه القيام بمثل هاته الجرائم في حق الآخر ما لم يتمثّل ذلك في ذهنه (العقل الباطن) الذي يتشكّل بما يتربّى عليه من قيم ومفاهيم وتصوّرات ورؤى وأفكار؛ فالفكر الذي يتشكّل ضمن ثقافة مانوية أنوية تعلي من الذات وتحقر الغير، وتعتبر الحقيقة معها فقط دون الآخرين. لا شكّ أنّه سيكون فكراً متطرّفاً ومتعصّباً وعنيفاً، يتحوّل بفعل الممارسة إلى سلوك ثمّ إلى عادة، لذلك فإنّ اهتمامنا ينبغي أن يصوّب نحو العقول لتخليصها مما برمجت عليه من أفكار وتصورات تجاه النفس والحياة والآخر والعمل على توسيع آفاق تصوّراتها ورؤاها وأفكارها.

وهو ما فعله النصّ القرآني قبل 14 قرناً، حين قرَّر بداية أنّ الاختلاف طبيعة بشريَّة يسأل عن قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، بل ذكر أنّ اختلاف الألسنة والألوان آية من آيات الله. والاختلاف في اللسان- اللغة- تعبير عن اختلاف الثقافة ككل، والإيمان بالاختلاف يستلزم الإيمان بالحرّيَّة والانفتاح؛ إذ كلّها مفاهيم تتجاور معانيها وتتقارب لتؤثِّث مفهوم التعدّديَّة كما هو متداول اليوم.

وتتجلّى أهمّيَّة الطرح القرآني لموضوع الاختلاف والحرّيَّة، عندما يقرِّر أقصى مراتب التحرّر الإنساني، ممثّلا في اعتبار الكفر والإيمان مشيئة اختياريَّة للإنسان (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، وإنّ مهمّة الأنبياء هي تبليغ الرسالة للناس فقط وليس إجبارهم على اعتناقها، ولذلك اعترف القرآن بوجود أديان رغم حكمه ببطلانها (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) إذ الأديان متساوية في حقّ الوجود، ولأصحابها الحقّ في الدعوة لما يعتقدون في حرّيَّة والناس أحرار في اختيار ما يأخذون وما يدّعون.

وغني عن البيان، أنّ هذا الذي جاء به القرآن هو نفسه ما جاء في الإنجيل والتوراة، غير أنّ التاريخ المسيحي يشهد كيف قامت الحروب الصليبيَّة ضدّ مبادئ الإنجيل القائمة على المحبّة والسلام. وكيف حرّف اليهود نصوصهم الأصليَّة لخدمة معتقداتهم وعلى رأسها عقيدة الشعب المختار، ولم يسلم التاريخ الإسلامي بدوره في تفاعله مع الواقع من هذا الداء، فقد أنشأ المسلمون نصوصاً مقوّضة لمبادئ الحرّيَّة والتعدّديَّة، حين نسبوا للرسول الكريم مقولة (من بدّل دينه فاضربوا عنقه) وهي مقولة لا تصحّ إطلاقاً، كونها لا تتوافق مع أصل الرسالة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام ولا يمكن لرسول الله أن يناقض الوحي الإلهي الذي أقرّ حرّيّة الاعتقاد من جهة، ولم يرتّب على المرتدّ عقوبة دنيويَّة من جهةٍ أخرى.

والمثير للانتباه، أنّ التراجع عن الأفق الإنساني لنصوص الرسالات السماويَّة ليس أمراً خاصّاً بهذه النصوص المقدّسة فحسب، بل هي ظاهرة يسجّلها الإنسان اليوم حتى ضدّ النصوص القانونيَّة الحقوقيَّة التي أنتجها بمحض إرادته.

في كل الأمثلة المشار إليها سابقا، كانت السياسة تتدخّل لتحريف المبادئ الإنسانيَّة عن مساراتها الأخلاقيَّة. لذلك فالمجتمع المدني مطالب يأخذ دوره، خاصَّة على المستوى الدولي، وذلك ببذل جهد أكبر لتفعيل دور المؤسّسات الحقوقيَّة الدوليَّة في صون حقوق الناس وضمان حرّيّاتهم، واقتراح آليات وضوابط تمكّن من حفظ هالة المبادئ من العبث والفساد.

______

*الراصد التنويري/ العدد الرابع (4)/ نيسان- إبريل/ 2009.

جديدنا