“نشاط إشعاعيّ” .. أُنغُومَة العلم والعشق

image_pdf

مع أول لقطات فيلم ” Radioactive ” سيُلامس المُشاهدَ دقَّاتٌ على البِيان رقيقة أشدَّ الرقة، حاملة طاقة رهفة وإنسانيَّة، مع رؤية سيدة عجوز تتحرك وئيدةً إلى مَعمَلها .. ثمَّ يتلوها دقات أخرى أعمق مخرجًا وأدقّ أثرًا؛ حتى نرى الزوجَيْن العالمَيْن العاشقَيْن في أوَّل لقاء بينهما. ثمَّ يدخل الفيلم في حيِّز العلوم مُوغِلاً في الشرح والتعريف بإنجاز هذين العالِمَيْن .. فلا يرى المُشاهد أمامه فيلمًا، بل يرى أُنغومة للعلم والعشق.

تقدِّم لنا “مرجان سترابي” المخرجة من أصل إيرانيّ في هذا الفيلم قصَّة “ماري سكلادوفسكي” التي ستصبح فيما بعد “ماري كوري” بعد زواجها من العالم “بيير كوري” -تُسمى المرأة باسم زوجها في العالم الغربيّ وبعض الثقافات الأخرى- منذ أنْ كانت واحدة من ثلاث وعشرين طالبةً، من أصل ألفَيْن من طلاب كلية العلوم حتى وفاتها؛ إلى وفاتها. مرورًا بكونها أول امرأة تحصل على جائزة “نوبل”، فضلاً عن حصولها عليها مرَّتَيْن. ومرورًا أيضًا باكتشافها لعنصرَيْ “البولونيوم” و”الراديوم” شديدَيْ الإشعاع، ودراسات عديدة في النشاط الإشعاعيّ مما أثَّر بشدة على مسار العلم والعالَم بالنفع والضرّ. وقد طرحتْ المخرجة طرحًا ذكيًّا عددًا من المعاني والأحاسيس مُستغلَّةً سياق ما تعرض.

تنقل لنا المؤلِّفة المرموقة “باربارا جولد سميث” في كتابها اللطيف “هوس العبقريَّة؛ العالَم الداخليّ لماري كوري” ظروف آواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في “باريس” فتقول: ” في إطار التقاليد الفرنسيَّة تلقَّت ماري معاملة محترمة في قاعات الدرس إنْ لم تكن متساوية مع الطلاب الذكور .. كانت النساء تدفع الضرائب عن ممتلكاتها لكنَّها محرومة من التصويت في السياسة، وكان الطلاق يعني أن تتنازل المرأة عن كل حقوقها .. وكان يعني ذلك الفقر لمعظم النساء تبعًا لتعاليم الكنيسة والتعاليم المدنية .. لم تكن ماري تعي أنها تنتمي للجنس الأضعف، فقد كان الكتاب الأكثر تداولاً في ذلك الوقت هو “الضعف العقلي الفسيولوجيّ عند المرأة” .. فإذا وجدت امرأة عالِمة تُوصف بأنها مُسترجلة وخشنة وقبيحة”.

عند معرفتنا لظروف العصر هذه -فيما يتصل بموضوع الفيلم- ندرك مشاهد كثيرة ودوافع انفعالات “ماري” في كثير من المواضع طوال أحداث الفيلم. ونعرف اعتراضها وحدَّتها الشديدة على الأساتذة في السوربون، وعند مقابلتها لـ”بيير” أول العلاقة عندما توقعت ابتداءً أنَّ نظير مساعدته لها أنْ يتخذها معشوقة له. والفيلم قد حاول توضيح الحدة مع الأساتذة لكنَّه لمْ يوضح حدتها على “بيير” ونصَّها على هذا المعنى فيتوقَّع المُشاهد أنَّه من ضمن حدَّتها العموميَّة.

يقوم أساس الحكي في الفيلم على مبدأ المشاهد الاسترجاعيَّة (الفلاش باك)، فكلُّ الفيلم مشاهد استرجاعيَّة -تدور منذ 1883- بعد المشاهد الأولى التي تصوِّر “ماري” في آخر لحظات حياتها -عام 1934-. وقد تداخل مشهد استرجاعيّ من ضمن المشاهد الاسترجاعيَّة عندما ورد مشهد يصوِّر سبب نفور “ماري” من المشافي. وفي غير هذيْن المستويين -غير المستوى الأساس- يسير الحكي في انضباط وسيولة مع التسلسل الطبيعيّ. وبالعموم فالحكي من عناصر قوة الفيلم.

ولعلَّ أكبر نجاحات التأليف في الفيلم هو بلورة الشخصيَّة الرئيسيَّة في الفيلم وإدراج المعاني في سياق الدراما. حيث استطاع صُنَّاع الفيلم تقديم شخصيَّة “ماري” (مثَّلتها الممثلة البارعة روزاموند بايك) القويَّة شديدة الحدَّة، التي تصل إلى حدّ التهوُّر في كثير من الأحيان، والتي قد تترك نفسها للانجراف وراء انفعال أو رغبة. وأهل العلم شديدو التمرُّس مُصابون بهذه الأعراض في حياتهم -وكذلك السادة الأدباء والشعراء- والسبب في ذلك هو التوحُّد مع العلوم والآداب، والاستغراق في حوار العالم أو المُفكِّر أو الأديب مع الأفكار المُجرَّدة أو مع البناءات التي بناها بنفسه. ممَّا يصنع عُزلة بينه وبين مُجتمعه ويفصل بجدار لا سبيل لنقضه من بعدها؛ فهو طريق دون رجعة، يحتاج لجُرأة وقرار. وهذه السمات ومعالم الشخصيَّة لا تصاحب كلّ أهل العلم أو الأدب، بل الخاصَّة منهم فقط؛ لذلك يُشتَهَر عنهم بين الناس أنَّهم مجانين.

وقد تعددت المعاني التي قدَّمها الفيلم لكنَّ أهمَّها هو دور العلم في المجتمع، أو ما يُسمَّى في النقاش العلميّ “المسئوليَّة الأخلاقيَّة في العلم” وهي قضيَّة شائكة جدًّا في المناقشات العلميَّة يسودها التعصُّب الشديد بين العلماء الذين لا يريدون لعلمهم سقف، وبين المفكرين وطائفة أخرى من العلماء التي تطالب كلّ أهل العلم بالتزام المسئوليَّة الأخلاقيَّة في علومهم. ويدور صُلب النقاش حول: هل للعلم والعلماء الحريَّة التامة في فعل ما يريدون حتى لو أدى ذلك إلى مصائب (كالقنبلة الذريَّة في الفيلم)؟ وسؤال آخر هو: هل من حقّ العلم والعلماء أنْ يستخدموا كلَّ شيء -أيْ بلا حدود- في بحوثهم العلميَّة؟ (ومثال بارز لهذا استخدام أجساد المرضى أحياء وأمواتًا في البحوث الطبيَّة دون إذنهم -أو بإذنهم حتى-). وقد قدَّم الفيلم اختيارًا في الموضوع أثناء آخر حوار في الفيلم؛ حيث قال “بيير” لـ”ماري”: “كفاكِ أنَّكِ ألقيت حجرًا في ماء راكد”.

ولعلَّ الفيلم يذكر القارئ بمسرحيَّة المفكِّر الفرنسيّ -مازال حيًّا- “إيريك إيمانويل شميت” (صاحب الرواية الشهيرة “مسيو إبراهيم وزهور القرآن”) وعنوانها “خيانة أينشتاين”. ويعرض فيها لفكر الفيزيائيّ الشهير بعدما ساعد كلَّ المُساعدة الرئاسة الأمريكيَّة واستحثَّهم لصُنع القنبلة الذريَّة. ويقصد بها خيانة العالِم للعلم وأهدافه والضمير والأخلاق كليَّة. وهناك الكثير من المؤلفات التي تعرض لقضايا العلم والأخلاق من أيسرها كتاب الفيزيائيّ العربيّ الشهير “د/ علي مصطفى مُشرَّفة” “مُطالعات علميَّة”؛ حيث عرض لبعض هذه القضايا.

ومن المعاني أيضًا مفهوم الشرف العلميّ، وإحساس اللذة في اقتناص الأفكار والاكتشافات، وجهاد العلم والعلماء. وقضيَّة أثر توحُّد الإنسان مع الأشياء عمومًا، ومع العلم خصوصًا. ولا شكّ أنَّ الفيلم يدفع مَن يشاهده على احترام كلّ هذه المشاعر، ويدفعه أيضًا للاقتراب من حيِّز العلم لزيادة المعرفة به.

بقي أنْ ننبِّه على موضوع إلحاد “ماري” حيث خصَّص الفيلم حوارًا لعرضه. تقول فيه: “إنَّها تؤمن بالإنسانيَّة، تؤمن بالتقدُّم لكنَّ الإيمان بالحياة الأُخرى ليس له أساس علميّ”. وهنا مجال لعرض ظروف العصر الفكريَّة التي ستساعدنا على فهم أعمق للفيلم كمنتج ثقافيّ. وبالعموم كلُّ ما قيل في الفيلم هي نتاجات لعصر يُسمَّى “عصر التنوير” -ويسمَّى في بعض كتب التأريخ بعصر فولتير لشدَّة تأثيره عليه-. فالمذهب الفلسفيّ العامّ الذي تتبعه “ماري” يُسمَّى “الماديَّة”، وفي الفلسفات العلميَّة تتبع مذهب “العِلمويَّة” -وهو مذهب يحصر العلم في الأصل التجريبيّ والرياضيّ فقط، ويستثني تمامًا ونهائيًّا أيّ مجال معرفيّ غيرهما كالفلسفة والأديان وكلّ العلوم الإنسانيَّة ويطلق على جزء كبير من تكوين الإنسان صفة “عدم العلميَّة”. وقد اقتسم عصر الفيلم اتجاهان كبيران في أوربا “العقلانيَّة” -التي ترتكز حول العقل محورًا ومركزًا للإنسان وحركة الإنسانيَّة في الكون- و”التجريبيَّة” -التي تحصر منهج العلم حول فعل واحد هو التجربة، ومنها اتخذت اسمها-.

التجريبيَّة عمومًا اتجاه يتركَّز على دراسة ما يمكن إدراكه بالحواسّ؛ أيْ ما يمكن لمسه أو قياسه. وهذا قد يبدو مُفيدًا في الإجراء العلميّ؛ لكنَّه لا يصلح أصلاً للحياة كلِّها. فالإنسان هذا الكائن شديد التعقيد داخليًّا لا يتعامل فقط مع ما يمكن لمسه أو قياسه فقط؛ فكثير مما نراه ونتعامل معه لا يمكن قياسه بالمقاييس العلميَّة الإجرائيَّة. ولا ننسى أنَّ كلمات كالإحساس أو الإدراك أو الشعور أو حتى العلم نفسه هي معانٍ لا تُقاس بالمقاييس العلميَّة أصلاً. أيْ أنَّ بدء كلّ العلم تجريبيّ من أساسات لا يمكن قياسها تجريبيًّا. والأمر شديد الفساد وبائن القصور للغاية. ولعلَّنا إذا طبقنا هذه المعايير فلا مجال أصلاً للسؤال عن “الفنّ” أو التذوق الفنيّ أو الجمال. فكل هذا لا أساس تجريبيّ له -تجريبيّ وليس علميّ فليس كلّ العلم تجريب-.

أمَّا عن موضوع عدم إيمانها فسببه مُغالطة منطقيَّة شهيرة؛ هي أنَّ الإنسان عندما اكتشف “كيف” تدور الأشياء في الكون اعتقد أنَّه أجاب عن سؤال “لماذا” ما في الكون. وأنَّه عندما اكتشف أنَّ “السرطان” -مثلاً- مرض مُؤدٍ إلى الوفاة اعتقد أنَّه أجاب عن سؤال العلَّة أيْ السبب؛ ولمْ يُفرِّق بين “علَّتَيْ الفاعليَّة والغائيَّة” -أيْ الخالق-، وعلَّتَيْ المادة والصورة -أيْ المرض أو التأثير المُباشر-. وبالعموم فإنَّ هذه المُناقشات مُستفيضة ولها الكثير من التفريعات. لكنَّ الواجب الفكريّ يفرض علينا تبيين الأمر للمُشاهد كي لا ينخدع بكلمات زائفة تسمعها أذناه.

وقد اهتمَّ الإخراج بشكل لافت للنظر على استخدامات الضوء في الفيلم؛ بل يكاد الضوء يكون كلمة السرّ -فنيًّا وإجرائيًّا- في الفيلم كلِّه. وفي هذا ذكاء شديد من المخرجة؛ لالتصاق هذا التصور بالموادّ المُشعَّة التي يتناولها عمل “ماري وبيير”. وقد استطاعتْ المخرجة بمهارة ومُثابرة على توظيف الضوء في كلِّ المشاهد الخالص منها للعلم والخالص منها للدراما. والتفريق به عن الأزمان التي يتناولها الفيلم الأقرب منها والأبعد. ولا شكَّ أنَّ مثل هذه المهارات تعوِّض عن كثير من “زخرفيَّة أماكن التصوير” التي ينصبّ عليها اهتمام غالب المخرجين في تصورهم للأفلام ذات الحقب الزمنيَّة المُتأخرة.

ومن أكبر نجاحات الإخراج الأساليب التي اتخذتها في ربط المشاهد الروائيَّة بمشاهد المعاني في الفيلم؛ مثل مشاهد الانفجار والمشفى والمدينة المصنوعة لتجربة الانفجار. وتحتاج وحدها إلى دراسة ضيقة متفحصة. كما استطاعت أن تنظِّم أو تشرف على مجموع ممثلين ماهرين في الأساس لتُخرج منهم الحدّ المُلائم لعملها.

لعلَّ هذا الفيلم واحد من أظهر النماذج الفنيَّة على العزف العاشق للموسيقى؛ فمَن ألَّف موسيقى الفيلم -الأخوانِ جالبرين- سيصدِّر لك طوال دقائقه أنَّه لمْ يؤلِّفْ موسيقى ليكسب مالاً، أو ليُبهر الآخرين بل لأنَّه يعشق ما يقدِّمه. موسيقى الفيلم تمثِّل حالة تماهي مع قصَّة الفيلم وموضوعه. فاختيار آلتَيْ “البِيان” و”الكمان” لمْ يكنْ عبثًا؛ بل هما أقدر آلتَيْن على مُصاحبة رحلة العلم العاشقة التي تعرض. فكلاهما يصل سريعًا إلى القلب، وكلاهما يشعر السامع بالأُلفة والانتشاء الرُّوحيّ. وقد كانا مثالاً لانطباق التأليف الموسيقيّ مع التأليف الدراميّ.

هذه الأفلام التي تتناول العلم والعلماء يجب أنْ نشاهدها ونقبل عليها في عالمنا العربيّ لسبب هامّ للغاية؛ وهو استلهام القدوة منها، ومُصاحبة أجواء العلم، ومعرفة مدى الجهاد الضاري الذي يقوم به العلماء في سبيل العلم وفي سبيل الإنسانيَّة جمعاء. ويا للأسف فلو نظرنا إلى عالمنا العربيّ وما نُحيط به شبابنا من قدوة لوجدناه راقصة خليعة تمتلك الملايين، ومُهرِّجًا يُدِّعي الغناء، ورجلاً لا يفقه شيئًا في حياته إلا استعراض جسده نُعرِّفه للشباب الطاهر كذبًا وزورًا أنَّه “مُمثِّل”، وطفيليات نُشهرها بأيدينا على مواقع التواصل الاجتماعيّ. ثمَّ ننتظر أنْ نتقدَّم!! فكيف يكون التقدُّم وهذا هو الحُلم كما نصوِّره وهؤلاء هم مَن يملئون الأفق بضجيجهم؟!

جديدنا