ابن باجه فيلسوفٌ ظُلِمَ حيّاً وميّتاً

image_pdf

 

علاقةُ ابن باجه بزمنهِ كانت متوتّرة وسيرتهُ تميَّزت بالكثير من المحنِ، نظراً لكونه أوّل المشتغلين بالفلسفة وعلومها في الأندلس، دافع عن الإنسان وحريَّة الإرادة والاختيار فيه، واعتبر العقل قيمة مطلقة وفصلَ بين العلم والدين فصلاً واضحاً في نظرياته العلميَّة، وأكَّد أنَّ مجال البحث العلمي يقومُ على التجريب والبرهان، ومجالُ الدين والإلهياتِ يقُوم على الغيب والإيمان، من هنا كانت شخصيَّة أندلسيَّة تنويريَّة مرموقةً وظَّف قلمهُ للبحث العلمي في مجال الطبيعيات كالحيوان والنبات والفلك وفي مجال المنطق والأخلاق والسياسة…غير أن عصرهُ ظلمهُ كثيراً وتعرَّضت له العامَّةُ والخاصَّةُ وسعُوا في قتلهِ والنيل منه، ولم يسلم حتى بعد موته إذ لم تنل كتبه وفلسفته عناية ولم تجد اهتماماً من الدارسين والمفكّرين وطالهُ النسيان، لهذا يستحقّ بالفعل لقب الفيلسوفُ الذي ظُلم حياً وميتاً.

 

والجميلُ أنَّ الإحساس بالظلم قد عبَّر عنهُ ابن باجه بشكلٍ صريحٍ في كتبه مما لا يدعُ الشك في أنه كان شخصيَّة قلقةً بسبب ثقافته وفكره، الأمر الذي جعله يبوحُ بهذا الظلم لتلميذه الوزير ابن الإمام في رسالةٍ بعثها له يقول فيها:”وسِيرَتِي التِي عليها مشهُورةٌ، وأنا مُتعرِّضٌ فيها للخطرِ، ولعَلي لاَ ألقاكَ وفي نفسيِ تشوُقٌ شديدٌ إلى مفاوضتك”[1] ، يدلُّ هذا النصّ على حجم الخطر الذي كان يحسّ به ابن باجه كأي مفكّرٍ حرٍّ في مجتمع متعصِّبٍ، وهو خطرٌ كان يتهدّدُهُ من رجال الدين وشخصيات فكريَّة معروفة في زمنه، وممّا يشهدُ على تطرّف وتعصّب هذا الزمن ورفضهُ للفلسفة وعلومِها ما تعرَّض له المفكر مالك بن وهيب الإشبيلي الذي كان سابقا على ابن باجه، وعُرِفَ بالاشتغال بالفلسفة ولكنه ابتعد عنها بسبب الخوف من أعدائها الذين أفتوا بقتله، وتهمتهُ كانت الاشتغال بالفلسفة وعلومها ويقول الوزير ابن الإمام عن مالك بن وهيب الإشبيلي: “ثُم أضربَ الرجُلُ عن النظرِ ظاهراً في هذهِ العلُومِ وعن التكلُم فيها، لِمَا لحقهُ منَ المُطالبَاتِ في دَمِهِ بسببها…وأقبلَ على العلوم الشرعيَّة”[2].

كذلك فيلسوفنا سيشعُر بالخوف على نفسه رغم المكانة التي كان يتمتَّعُ بها في مدينتهِ سرقسطة، وهو الذي اشتغل وزيرا لأميرها، ويُعتقدُ أن المحَنَ جاءتهُ من مناصبه كسياسي وطبيب في بلاط الأمير، وخاصَّة من زملائه الأطباء والشعراء والفقهاء الذين حسدُوه على مكانته المرموقة، ومن بين أكثر من ظَلَمَ ابن باجه واتهمهُ في دينه وشهرَ به الأديب المعروف الفتح ابن خاقان، الذي كانت لهُ مع الفيلسوف خصومة مشهورة وبسببها شَوَّهَ سيرتهُ ولفَّقَ لهُ تهماً خطيرةً وقال: “هُو رَمْدُ جَفْنِ الدين وكَمَدُ نفُوسِ المهتدين، اشْتَهَرَ سُخْفاً وجُنُوناً، وهَجَرَ مفرُوضاً ومسْنُوناً، فما تشرع، ولا يأخُذُ في غير الأضاليل ولا يَشْرَعُ، ناهِيكَ عن رجل ما تطهر من جنابةٍ ولا أظهر مخايل إنابةٍ ولا سْتَنْجَى من حدَثٍ ولا أشجى فؤاده بتوار في جدثٍ ولا أقر بباريهِ ومُصورهِ ولا قر بتباريهِ في ميدان تهوره، الإساءةُ إليه أجدى من الإحسان، والبهيمةُ عندهُ أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم وفكر في أَجْرامِ الأفلاك وحدود الأقاليم. ورفض كتاب الله الحكيم العليم ونبذهُ وراء ظهره[3] “. يبدو أن خصمهُ هذا لم يترك شيئاً إلا ونسبه لابن باجه، وكل ذلك يدل عن حقدٍ وكرهٍ كبيرٍ لهُ يصعب تفسيره، وهو ما جعل الباحث جمال راشق في مؤلفه ابن باجه سيرة وبيبليوغرافيَّة يعتقدُ أن ذلك لا يُعتدّ به ويقول:” يُشِيرُ القِفْطِي إلى سبب هذه الخصومة أن الفتح أرسل إلى ابن باجه يطلبُ منهُ شيئاً من شعره ليوردهُ في كتابهِ قلائدُ العِقْيَانِ فغالطهُ مغالطةً أحنقتهُ عليه، فذكره ذكرا قبيحا في كتابه، وقال صاحب الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام: كلامُ الفتح فيه لا يعولُ عليه، ولا يلتفت ذو علمٍ إليه، لِمَا عُلم بينهُ وبينهُ من المنافرةِ والمعاداة والمهاجرة بسبب حكاية وقعت بينهما وخصومة سلفت لهما[4] “.

ولم تقف محنةُ فيلسوفنا إلى حدّ التكفير والتشهير، بل وصلت إلى الاعتقال مرتين في السجون، وكان في كل مرة يعاني ويتألمُ من ذلك وهو يكتب ويؤلف في الفلسفة والعلوم، وذكر ذلك في رسالتهِ التي بعث بها إلى تلميذه ابن الإمام حيث قال: “وأَنْ أُضِيفَ إليها مسَائِلُ قد كُنتُ ذكرتُ لكَ أنِي صنعتُ بُراهينهَا مدةَ الإعتقالِ الثانِي الذِي كُنتُ فِيه[5]“، وهذا ما يفسِّر شكل كتبه ومؤلفاته التي تتميّزُ بكونها رسائلُ مختصرةٌ ولا تكَادُ تبينُ عن فِكرتها ومضمُونها، وهو ما انتبه له ابن طفيل حين قال عن كتب ابن باجه: “وأكثرُ ما يوجدُ لهُ من التأليف، إنما هي غيرُ كامِلةٍ، ومجزُومَةٌ مِن أواخِرها…وأما كتُبهُ الكاملةُ فهي كتبٌ وجِيزةٌ، ورسائلُ مُخْتلَسَةٌ…وأن ترتيب عبارته في بعض المواضعِ، على غيرِ الطريقِ الأكمل، ولو اتسع لهُ الوقتُ، مَالَ لتبديلها[6]“، والحقيقةُ أن شهادة ابن طفيل هذه تدعمُ كثيراً ما عرفتهُ حياةُ الفيلسوفِ من أحداثٍ وتقلباتٍ، لم تساعدهُ على الاستقرار والاطمئنانِ في الكتابةِ والتعبيرِ عن رأيهِ وموقفهِ من قضايا عصرهِ، لأن الرقابةَ كانت قويَّة تتصيدُ أنفاسهُ وسُطور مؤلفاته، ما جعلهُ يحاول الانفلات منها عن طريق الإختصارِ في العبارةِ والتلميحِ دُون التصريحِ، خصُوصاً أنهُ كان يؤسِّس لتقليدٍ علمي بالأندلس سيفتحُ الباب أمام من سيأتي بعدهُ، وهي أسبقيَّة ستجد أمامها الكثير من العقباتِ والمعوقاتِ.

وسيصلُ الأمرُ بخصومِ إبن باجه حداً لم يكُن يتوقعهُ، حيثُ سيسعَى زميلهُ الطبيب ابن زهر فيِ قتلهِ بمدينة فاس سنة 533ه، وهو الأمرُ الذي تحقق لهُ بعد أن وضعَ لهُ السم في طعامٍ من الباذِنْجَانِ، فكانت نهاية مأساويَّة لرجلٍ بذل الكثير من أجل التغيير في عصرهِ على المستوى الفكري والسياسي، ما يُذكّرنا بنهاية سُقراط وموته بكأسٍ من السُم في محاورةِ فادُون، وتحتفظُ لنا مدينةُ فاس المغربيَّة بقبرِ ابن باجه في مقبرةٍ خارجَ أسوارها أمام بابِ الجيسةِ وبجوارِهِ قبرُ ابن العربي المعافري، غير أن الظُلم سيطالهُ حتى فيِ قبرهِ فنحنُ لا نجدُ له أثراً بهذه المقبرة، ولمن يعرف مقبرة باب الجيسة بمدينة فاس سيلاحظُ جانباً كبيرا منها اندثرَ وتحوَّلَ إلى عُمرانٍ، ما يعني أن الرجل لم ينعم حتى بقبر يشهدُ له ويكرم ذكراهُ. والغريبُ أن جميع كتبهِ طالهاَ النسيانُ ولم يُكتب لها أن تُحقّق وتُدرس إلا في بداية القرن العشرين، حيثُ سيتم اكتشافهُ مع الباحثِ الإسباني أسين بلاثيوس Asin Palacios الذي يعودُ لهُ الفضلُ الكبيرُ في بعثهِ ونفضِ غبارِ النسيانِ عنهُ. وما زلنا رغمَ ذلك نشهدُ على مظاهرِ الظُلم والإقصاءِ لهذا الرجل في أغلبِ الأبحاثِ والدراساتِ التيِ تعرَّضت للفلسفة الإسلاميَّة وقضاياها عامَّة، وللفلسفة المغربيَّة والأندلسيَّة خاصَّة، بحيثُ لم تحظى كتبهُ بتحقيقاتٍ علميَّة ولا بدراساتٍ أكاديميَّة وأغلبُ ما كتبَ عنهُ تنقصهُ الدقةُ ولا يعدُو أن يكُونَ دراساتٌ سطحيَّة غارقةٌ في العُموميَّة والأحكام الجاهزة.

 

مصـــــــادر ومراجــــع الموضــــــــــوع:

– ابن باجه، رسائل ابن باجه الإلهيَّة، تح ماجد فخري، دار النهار للنشر، لبنان، 1968.

– ابن خاقان الفتح، قلائد العقيان، مطبعة التقدم العلميَّة، ط.1، مصر، 1320ه.

– راشق جمال، ابن باجه سيرة وبيبليوغرافيَّة، دار الأمان، الرباط، 2017.

– ابن باجه، رسائل فلسفيَّة لأبي بكر ابن باجه، تح جمال الدين العلوي، دار الثقافة ودارالنشر   المغربيَّة، 1984.

– ابن طفيل، حي بن يقظان، تح يوسف زيدان، دار الأمين، ط.2، 1998.

-رسالة الوداع، ضمن رسائل ابن باجه الإلهيَّة، تح ماجد فخري، دار النهار للنشر، لبنان، 1968، ص113.[1]

-ابن الإمام أبو الحسن، ملحق، ضمن رسائل ابن باجه الإلهيَّة، م.س، ص175[2]

-ابن خاقان الفتح، قلائد العقيان، مطبعة التقدم العلميَّة، ط.1، مصر، 1320ه، ص ص. 313-314.[3]

-راشق جمال، ابن باجه سيرة وبيبليوغرافيَّة، دار الأمان، الرباط، 2017، ص 24.[4]

-ابن باجه، رسائل فلسفيَّة لأبي بكر ابن باجه، تح جمال الدين العلوي، دار الثقافة ودارالنشر المغربيَّة، 1984، ص 88.[5]

– ابن طفيل، حي بن يقظان، تح يوسف زيدان، دار الأمين، ط.2، 1998.ص 164.[6]

جديدنا