عمر الفاروق؛ مُخلِّصُ آخر الزمان أم المفرِّق بين الحقِّ والباطل؟ قراءة أخرى حول التسمية

image_pdf

 

في هذه المقالة سأُجدِّفُ بعيداً عن ما هو مُسلَّم به وقارّ في الفكر الإسلامي حول تسمية عمر بن الخطّاب بالفاروق، الأمر الذي قد يساهم في أن يَحُثَّ على ضرورة الانفتاح على المصادر التاريخيَّة غير العربيَّة القديمة إن أردنا إعادة كتابة التاريخ الإسلامي أو فهمه بطريقةٍ تاريخيَّة علميَّة. معظم المصادر الإسلاميَّة تورِدُ روايات كثيرة تُفيد بأنَّ النبي محمد عليه السلام هو من لقّب عمر بن الخطاب بالفاروق وذلك لأنَّه فَرَّق بين الحقِّ والباطل، إذ أنَّ إسلامه كان فتحاً للإسلام والمسلمين، فبعد أن كان النبي والصحابة يجتمعون سراً وبعيداً عن أعين الناس، أصبحوا بعد إسلامه يُجاهِرون بدعوتهم أمام الملأ لأنَّه “كان رجلاً ذا شكيمة لا يُرام ما وراء ظهره، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازُّوا قريشا -أي غلبوهم-، وكان عبد الله بن مسعود يقول : ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة، حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلَّى عند الكعبة، وصلّينا معه”. (1)

 

على العكس من ذلك نجد أن هناك رؤية أخرى داخل المصادر الإسلاميَّة_ سِتُّ روايات_ تَنُصُّ على أنَّ أهل الكتاب هم من لقَّبوا عمر بن الخطاب بالفاروق، كمثال ذَكَر ابن سعد في طبقاته ” قال ابن شهاب بلغنا أنَّ أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر الفاروق، وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم ولم يبلغنا أنَّ رسول الله (ص) ذكر من ذلك شيئا”. (2)

 

إذن هناك خلاف كبير بين المؤرِّخين المسلمين حول تسمية عمر بالفاروق، كبار المؤرِّخين أمثال ابن جرير الطبري وابن سعد رفضوا بشكلٍ قاطعٍ جداً في أن يكون النبي هو من سَمَّاه بذلك، واتَّفقوا على أنَّه لُقِّبَ بذلك من قِبَل أهل الكتاب، الرؤية التي ستتراجع كثيراً في المصادر الإسلاميَّة المتأخِّرة، تعضيداً لهذه الرؤية سأُحاجِجُ بأنَّ اليهود إبَّان فتح عمر بن الخطاب لبيت المقدس هم الذين سَمّوه بالفاروق، وأنَّ كلمة فاروق هي تعريب لكلمة غير عربيَّة، وأنَّ هذه التسمية لها حمولة ثيولوجيَّة “عقديَّة” ضخمةٌ جداً في العقيدة اليهوديَّة المتأخِّرة، ممّا سيكشِفُ عن نتائج ذات صلة بالعلاقة بين اليهود والمسلمين في تلك الفترة قد تبدو طريفة وغريبة على العقل الإسلامي المعاصر الذي شَكَّلَتْه المصادر المتأخِّرة في هذه القضيَّة بالتحديد. إذن هو حفرٌ في الطبقات الكثيفة المتراكمة التي تُحِيطُ بالعقل الإسلامي للوصول إلى الحقيقة التاريخيَّة “الموضوعيَّة” وذلك منهجيّاً لايكون إلا بالترتيب التاريخي للمصادر التاريخيَّة أي تتبُّع المرويات في المصادر الأقدم ثمّ التي تليها ومعرفة السياق التاريخي الذي كُتِب فيه كل مصدر _ والانفتاح أيضاً على المصادر التاريخيَّة الأجنبيَّة المعاصرة لهذه الأحداث كما سنرى بالتفصيل. كيف يمكن لليهود أن يلقّبوا عمر بن الخطاب بالفاروق؟  وإن صحّ ذلك ماذا تعني كلمة فاروق؟

 

للإجابة على هذه الأسئلة لابد من توطئة تاريخيَّة تُعينُنا على فهم الأوضاع السياسيَّة والاجتماعيَّة التي مرَّ بها اليهود قبل الفتوحات الإسلاميَّة والتي كانت السبب_ أي الأوضاع_ في احتفاء اليهود بقدوم العرب ” أبناء إسماعيل” كفاتحين لأورشليم النتيجة التي ستكون حاسمة في تعضيد رؤيتنا.

 

 

هناك خلاف كبير بين المؤرِّخين المسلمين حول تسمية عمر بالفاروق، كبار المؤرِّخين أمثال ابن جرير الطبري وابن سعد رفضوا بشكلٍ قاطعٍ جداً في أن يكون النبي هو من سَمَّاه بذلك، واتَّفقوا على أنَّه لُقِّبَ بذلك من قِبَل أهل الكتاب، الرؤية التي ستتراجع كثيراً في المصادر الإسلاميَّة المتأخِّرة، تعضيداً لهذه الرؤية سأُحاجِجُ بأنَّ اليهود إبَّان فتح عمر بن الخطاب لبيت المقدس هم الذين سَمّوه بالفاروق، وأنَّ كلمة فاروق هي تعريب لكلمة غير عربيَّة، وأنَّ هذه التسمية لها حمولة ثيولوجيَّة “عقديَّة” ضخمةٌ جداً في العقيدة اليهوديَّة المتأخِّرة، ممّا سيكشِفُ عن نتائج ذات صلة بالعلاقة بين اليهود والمسلمين في تلك الفترة قد تبدو طريفة وغريبة على العقل الإسلامي المعاصر الذي شَكَّلَتْه المصادر المتأخِّرة في هذه القضيَّة بالتحديد.

_ قُورَش ملك الفرس كمُخلِّص:

سنة 586 ق.م حاصر الملك البابلي نبوخذ نصر مدينة أورشليم “مملكة يهوذا” وأخضعها ودمَّر هيكلها، وسبى عدداً  كبيراً من اليهود، مع هذا السبي انتهى أيّ وضع سياسي وجغرافي لليهود في المنطقة آنذاك، سُمِّيَ ذلك بالسبي البابلي (3)، هذه الكارثة التي حلَّت على العبريين كان لها تأثير كبير جداً على عقيدتهم، فقوَّت وأشعلت في أسفارهم الأفكار الأخرويَّة الخَلاصِيَّة التي تحدث عنها أشعياء(4) قبل السبي البابلي، ملخصها أنَّه في آخر الزمان سيظهر المسيح”ماشيح”، وهو الملك الذي سيكون من نسل داؤود، والذي سيجمع بني إسرائيل من جديد وبقيادته سينتصرون على أعدائهم، ومن ثَمَّ سيقيمون مملكة الرب في الأرض، جُلُّ الأسفار اليهوديَّة التي كُتبت بعد السبي البابلي كان الخَلاصُ وظهور الملك المُخلِّص “الماشيح” من موضوعاتها الرئيسيَّة. في عام 538 ق.م احتلَّ قُورَش الملك الفارسي بابل وجعلها عاصمته، شرع فوراً في تحرير اليهود، وسمح لهم بالعودة لأورشليم وأعانَهم في إعادة بناء الهيكل، انعكس ذلك في أسفارهم واعتقد بعضهم أنَّه المسيح الملك المُخلِّص ذُكِر في سفر إشعياء 1:45 هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ، لأَفْتَحَ أَمَامَهُ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَالأَبْوَابُ لاَ تُغْلَقُ. وذُكِر أيضاً في نفس السفر والخطاب مُوجَّه لقورش 45: 3 وَأُعْطِيكَ ذَخَائِرَ الظُّلْمَةِ وَكُنُوزَ الْمَخَابِئِ، لِكَيْ تَعْرِفَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي يَدْعُوكَ بِاسْمِكَ، إِلهُ إِسْرَائِيلَ.

 

_ أبناء إسماعيل الفاتحين وأمل الخَلاَص:

من التوطئة التاريخيَّة أعلاه أريد القول بأنَّ اليهود قُبَيْل الفتح الإسلامي لبيت المقدس أورشليم كانوا يعيشون في نفس الأوضاع السياسيَّة والإجتماعيَّة السيئة التي مرّوا بها في فترة السبي البابلي، فكانوا أقليَّة مستضعفة تَستَبِدُّ بها الإمبراطوريَّة الفارسيَّة تارة والإمبراطوريَّة البيزنطيَّة تارة أخرى، ففي عام 591 م حصلت مجازر لليهود في العاصمة الساسانيَّة بأوامر من الملك خسرو الثاني، لأنهم دعموا ضدّه عدوه بهرام شوبين (5)، وراح ضحيَّة هذه المجازر أعداد مقدَّرة منهم، لم يكن وضعهم مع الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة أفضل حالاً، بسبب خصومتهم الدينيَّة مع المسيحيَّة فقد أُجبِر بعضهم باعتناق المسيحيَّة بقوَّة الإمبراطوريَّة، تَجلَّى ذلك عندما استرجع هرقل أورشليم من الفرس، آنذاك أصدر مرسوماً امبراطورياً عام 634 م يأمر فيه بإجبار اليهود على اعتناق المسيحيَّة أو القتل(6)، لذلك كردَّة فعل على كل هذه الأوضاع المأساويَّة المتقلّبة كان المخيال الديني اليهودي كله قائم على انتظار المُخلَّص، مُخلِّصُ آخر الزمان_ المنقذ_ كما كان قديماً أثناء فترة السبي البابلي، بعض المصادر تشير إلى أنَّ المسيحيين كانوا ينظرون للعرب “الساراسانيين” على أنَّهم الشيطان بينما كان اليهود يرون أنَّهم مُخلّصين، قدومهم يُنبئ بقرب مجيء العهد الخَلاَصي، ذكر روبرت هويلاند في كتابه (أن ترى الإسلام كما يرونه الآخرون) (7) نصًّا يقول فيه: “كانت إرادة الله قد أظلتنا برحمتها، حتى قبل قيام المملكة الإسماعيليَّة، وذلك يوم فتحوا الأرض المقدّسة وانتزعوها من أيدي أيدوم إشارة الى الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وعندما جاء الساراسانيون “العرب” إلى أورشليم، كان معهم رجال من بني إسرائيل هم الذين كشفوا لهم عن موقع الهيكل”. لقد بدا لليهود أنَّ العرب “أبناء إسماعيل” الفاتحين منقذين، وبدا لهم عمر بن الخطاب كمُخلِّص آخر الزمان، وهي نظرة تتماثل تماماً مع ما أوردناه سابقاً حول نظرتهم لقورش ملك الفرس في القرن السادس قبل الميلاد كملك مُخلِّص لأنَّه حررهم من القهر والمنفي البابلي، هذه الفكرة تبدو جليَّة في نص مطوَّل ذُكِر في كتاب الأسرار لشمعون بن يوحاي أورد “بعد أن رأى مملكة إسماعيل سوف تجيء أخذ يقول ألم يكفنا أنَّنا أُبتُلينا بمملكة إيدوم الشريرة؟ فرد عليه الملاك الأعلى قائلاً : لاتخف يا ابن الإنسان فالله القدير أتى بمملكة إسماعيل لكي يُخلِّصكم من مملكة ايدوم يقصد الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة… وسوف تحصل أشياء مرعبة بينهم وبين أبناء عيسو… كيف نعرف أنَّهم جاؤوا لخلاصِنا ؟ فردّ عليه الملاك ألم يقل النبي أشعياء أنّه رأى ركباً، أزواج فرسان، ركاب حمير، وركاب جمال؟”.(8)

إذن في هذه الفترة أوَّلَ اليهود مقاطع أسفارهم الرؤيويَّة الأخرويَّة التي تتنبّأ بظهور الملك المخلِّص القديمة بما يتناسب مع الوضع الجديد، استبداد الإمبراطوريَّة المسيحيَّة، وقدوم العرب كفاتحين للأرض المقدّسة، بذلك يكون الفارس الراكب على الجمل يمثِّل العرب الذين جاءوا لتحرير إسرائيل من اضّطهاد المسيحيين أبناء عيسو، ويكون الملك الذي يأتي ممتطياً حمار كما ذُكِر في سفر زكرياء أيضاً (9،9) سيكون هو الخليفة الفاتح عمر بن الخطاب، هذه الأفكار الخَلاصِيَّة اليهوديَّة لم تَغِب تماماً عن المصادر الإسلاميَّة، فهناك رواية في تاريخ الرسل والملوك تسير في نفس الإتجاه، ملخصها أنَّ يهودي تنبأ لعمر بأن لايعود إلى بلاده قبل أن يفتح له الله أبواب إيلياء “القدس”، ولما سأله عمر عن المسيح الدجال ومتى يظهر، ردّ عليه اليهودي بأنَّه من بني بنيامين وأنتم والله يامعشر العرب ستقتلونه. وبنفس الإسناد عن سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، أنَّ عمر بن الخطاب لما قَدِم إلى سوريا جاء يهودي من دمشق لملاقاته وقال له :”السلام عليك يافاروق، أنت صاحب إيلياء بيت المقدس، لا والله لاترجع حتى يفتح الله لك إيلياء”(9).  هذه الرواية في غاية الأهميَّة ولها دلالة تاريخيَّة كبيرة تُعضِّد ما سبق من تحليل، لأنَّها تنصّ على أن هناك يهوديّا نادى عمر بن الخطاب صراحةً بالفاروق، مما يُخِيلُ لنا أن نقترح بأنّ كلمة فاروق هي تعريب للكلمة الآراميَّة “بوروق” أو “بورقو” التي تعني في التوراة المكتوبة باللغة السريانيَّة المنقذ أو المحرر أو المخلِّص (10)، فليس من قبيل المصادفة أن نجد أقدم المصادر الإسلاميَّة في التاريخ تنفي تماماً أن يكون النبي محمد هو من لَقَّبَ عُمَر بالفاروق، وتقول لنا بأنّ أهل الكتاب هم من سَمّوه بذلك والمسلمون كانوا يأثرون ذلك من قولهم، وتُورِد لنا رواية يُقدِّم فيها يهودي لعمر بن الخطاب ويناديه بهذه التسمية، ويتنبّأ له بفتح القدس، وفي ذات الوقت نجد أنَّ المصادر غير العربيَّة التي كانت معاصرة للأحداث آنذاك أو ظهرت بعدها بقليل تُصوِّر أنَّ اليهود فعلاً كانوا ينظرون لأبناء إسماعيل كمنقذين، ولعمر بن الخطاب كمُخلِّص، وأوَّلوا نبوات أسفارهم القديمة على هذا الأساس، بالإضافة لكل ذلك ليس من قبيل المصادفة أيضاً أن نجد أن كلمة فاروق شديدة الشبه بكلمة “فورقو” الكلمة التي تعني المُخَلِّص أو المنقذ في التوراة المكتوبة بالسريانيَّة. من كل ذلك نستنتج أنَّ اليهود هم فعلاً من لقّبَ عمر بن الخطاب بالفاروق “فورقو” وهي الكلمة التي تعني مما تعني الملك المنقذ الذي يظهر في آخر الزمان والتي تقابل اللفظ العبري “ماشيح” الذي أطلِق على كل ملوك مملكة بني إسرائيل في المملكة الجنوبيَّة في البداية، ثم أضحى يُطلق على الملك المنقذ الذي سيظهر في المستقبل، وأُطلِق  على قورش الملك الفارسي في القرن السادس قبل الميلاد لأنَّ خلاصهم كان على يديه. إذن كلمة فاروق هي تعريب لكلمة فورقو الآراميَّة السريانيَّة، سبب غموض هذه الحقيقة اليوم راجع  للمصادر المتأخِّرة_ ابن الجوزي، ابن تيميَّة_ التي استحت من هذه الرؤية وحاولت أن تُؤصِّل للقب الفاروق من داخل المجال التداولي الإسلامي، لذلك تجاهلت رفض المؤرِّخين الأوائل الكبار أمثال الطبري للروايات التي تقول بأنّ النبي محمد هو من لقّب عمر بالفاروق.

 

المصادر:

(1) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر 25/27. وأيضاً تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 108.

(2) ابن سعد الطبقات الكبرى 3/205. انظر أيضاً تاريخ الرسل والملوك، أحداث سنة ثلاث وعشرين 4/196.

(3) انظر موسوعة تاريخ الأديان ضمن الأعمال الكاملة لفراس السواح، الكتاب الخامس. ص 149.

(4) من أنبياء بني إسرائيل الذين ظهرت معهم لأول مرة فكرة المسيحالملك المُخلّص الذي سيظهر في آخر الزمان.

(5) الفريد لويس ديبريمار، الإسلام بين الكتابة والتاريخ. ص175.

(6) نفس المصدر ص 176.

(7) Seeing Islam as Others Saw It: A Survey and Evaluation of Christian, Jewish and Zoroastrian Writings on Early   Islam p307.وهو من أهم الكتب التي جمعت معظم الكتابات التاريخيَّة الأجنبيَّة المبكّرة عن الإسلام.

(8) تأسيس الإسلام، مصدر سابق، ص 180.

(9) تاريخ الرسل والملوك، الجزء الأول، ص2402.

(10) تأسيس الإسلام ص 182.

جديدنا