رَفْعُ «حُجُب إِيزِيسْ» عن اليومي

image_pdf

*«مارتن ستيفان»، «بيير ديلو»، «تيري فورمي»

** ترجمة: الحسين أخدوش

لا يصبح امتلاك أيّ منّا ليومه متاحا، أو محدّدا بشكل مثالي، إلاّ إذا عرف كلّ التفاصيل الدقيقة لليومي الذي يعيشه بالشكل المثالي. فلئن تحدّثنا [مثلا] عن سيارة لم يسبق لنا رؤيتها من قبل، فيقينا سنخيّلها مثاليَّة: أي بعجلات أربع ومحرّك وواقيات تؤدّي وظيفتها كاملة. وسيكون غريبا للوصف أن يبدأ بالحديث عن سيارة معطوبة، مصدومة ومبتورة العجلات، الخ. إنّه لمن المغري التحدُّث في هذه السطور عن الأشياء اليوميَّة البسيطة: الاستيقاظ وتنظيف الجسم، السفر والعمل والاستراحة، عن جودة هذه الأشياء وكمالها الذي يخصّها. يلزمنا في سبيل كلّ هذا التحدُّث عن هذه الأمور بشكل معياري، ما دام قليل من الناس فقط، عدا حكمائهم، يعرفون بذلك.

 

إنه لمن حسن حظّنا أن لا يكون جوهر الأشياء ظاهرا كفاية إلاّ بفضل ما يتهدّده من أزمات. نحن، على سبيل المثال فقط، لا ندرك لما تصلح هذه السيارة التي في متناول يدنا، من حيث كوننا لا نقدِّر أهميَّة ما تسديه لنا من خدمات إلاّ بعد أن تعطب ويستعصي عليها التحرّك. الأمر نفسه ينطبق على هذا اليومي الذي نعيشه دون تقديره من طرفنا؛ فالحديث عن الاستيقاظ فيه عادة ما يعني الكلام عن التعب، كما يعني عناق المحبَّة فيه المزيد من تحمّل المصاعب، بينما التفكير في النوم يفيد التحدّث عن الأرق. في الواقع، لا يظهر المعنى الحقّ لمسار رحلة يومنا بوضوح زائد إلاّ في ازدحام؛ كما الوجبة الجيّدة التي عادة ما لا تكشف عن سرّها حتى لا تتلاشى قيمتها بين مختلف الوجبات السريعة الأخرى. إنّ عدم استمتاعنا باليومي يعود إلى طريقة تفكيرنا فيه، إنّه يتوقَّف على كيفيَّة تصوّرنا له وتمثّلنا للحياة فيه: فإلى أولئك الذين لا يملكون فنّ عيش يومهم وفقًا لأسلوبهم الخاصّ، إلى هؤلاء يتوجّه هذا المقال بالحديث عن ضرورة إزالة حجب جهلهم بفنّ العيش.

 

 

إنّ عدم استمتاعنا باليومي يعود إلى طريقة تفكيرنا فيه، إنّه يتوقَّف على كيفيَّة تصوّرنا له وتمثّلنا للحياة فيه: فإلى أولئك الذين لا يملكون فنّ عيش يومهم وفقًا لأسلوبهم الخاصّ، إلى هؤلاء يتوجّه هذا المقال بالحديث عن ضرورة إزالة حجب جهلهم بفنّ العيش.

 

حُجُب إيزيس الأربعة

تبدو حياتنا البشريَّة اليوميَّة خفيَّة، مغلَّفة بحجب كثيرة وكثيفة، حجب تحول دون كشف معناها الحقيقي، مثل: «حجاب المظاهر»، «حجاب الحكم المسبق»، «حجاب الاعتقاد»، «حجاب العادة». ضدّا على هذه الحجب، قام التقليد الفلسفي بالاشتغال على رفع الغشاوة على معيشنا اليومي، وذلك بغاية تخليص هذه الحياة الإنسانيَّة من الشوائب التي تجعلها تافهة أو غامضة. لكن مهمَّة إعادة تشكيل حضورها الأصيل والبدئي والنقي أمر لا يتحقَّق بمجرَّد الأوامر العاديَّة والعفويَّة، ولا حتى بتلك النوايا الإراديَّة أحيانا، ولا عن طريق أوهام الخيال. مجازيا قد يتعلَّق الأمر برفع لباس المظاهر عن «إيزيس» (تعني في الميثولوجيا القديمة إلهة الطبيعة بالمعنى العام والواقع بمعناه الشامل) الذي يغطّيها. إنّ الأمر يتعلّق بتحرير عقلنا من مختلف الشوائب الطفيليَّة التي تحول بين فكرنا و​​المعنى الحقيقي لما يعرض عليه. فما يحفِّز مبادرة معيّنة، هو طبعا الحرص وقلق عدم إدراك الأساسي في الأمور، إنّه خطر استنفاد الحياة كما لو أنها أضغاث أحلام. إنَّ الحياة بهذا المعنى لهي مجرَّد سفر غير حقيقي، أي رحلة في الوهم وتجوال في المظاهر الخادعة.

التجلِّي الأول لتخفّي حياتنا هو ما يشكِّل نقطة انطلاق هذا الموقف؛ فحياتنا تعاني بشدّة في خضم هذا اليومي من عيب التشتُّت وعدم التحديد. إنّنا نترك الحياة تعيش من خلالنا، ولا نعمل نحن على عيشها كما يجب. نحن نسمح لأنفسنا بالعيش لا كما نريد، بل كما تجري عادة اليومي. أيامنا أولاً وقبل كل شيء هي رحلات متكرَّرة ومستنسخة، تتكرّر بلا كلل. إنّها تنقلنا بشكل آلي من نقطة “أ” إلى نقطة “ب” دون أن يتكشَّف لنا المعنى الحقيقي فيها بوضوح. أو ليس يلزمنا أن نفكِّر مليًّا فيما نفعل؟ هل ما زال بإمكاننا تنظيف الأسنان والتفكير في كون هذا الطقس مناسبة تعكس مدى عنايتنا بالجسم؟ من ذا الذي يشاهد التلفاز فيتساءل، في الوقت ذاته، عما إذا لم يكن مخدوعا جرّاء قلق الفراغ والصمت؟

إنّ الحياة توليفة واقعيَّة، إلاّ أنها تبقى غير متناهية، وهي في تحوُّل دائم في الفعل والتفكير. أمّا مفارقة حضورنا في هذا العالم، فهي ما يجعلنا لا نألف نمط عيش معين فيه، حتى نتخلَّى عن تجريب أيّ محاولة أخرى. فهل يلزمنا التوقّف عن التفكير للعمل، فتصبح الحياة بذلك خفيَّة؟ أم أنّه يلزم التوقف عن العمل للتفكير، فتتكشّف الحياة على ضوء هذا الموت المترتِّب عن عدم المشاركة فيها؟ وهل لنا بالخروج من هذه الازدواجيَّة؟ هل نستطيع الكلام عن الحياة اليوميَّة دون تحطيم شأنها في الوقت نفسه؟ ما السبيل إلى إظهار الحياة دون أن تفقد جوهرها؟ هل من الممكن رفع كل الحجب عن إيزيس دون تعنيفها؟

بالمراهنة على قوَّة كشف الكلام والفكر بدون عنف، يصبح الرهان الحقيقي لهذا كتاب هو: كيف يمكن لجهد فلسفي أن يقرِّبنا أكثر من حياتنا، فيرسم لنا خطَّة داخليَّة تعيدنا إليها، وتنتشلنا من المعتاد اليومي. هذا أكثر ما سنفكِّر فيه ونستحضره هنا؛ ولسوف نجعل رحلة سفرنا عبره غير عاديَّة، بأن نقطع مسار تحقيقه بشكل دائري خلال طرقنا لأهم قضاياه. فأن ننظِّف الأسنان بطريقة غير مؤلمة، هذا الطقس اليومي مثلا، يجب أن لا يكون مجرد ردّ فعل آلي لمواطن يعيش في بلد غني يحرص على سلامة لثّة مواطنيه، بل تمرينا فكريا. لذا، فمن أجل أن يكون هذا اليومي فرصة أوليَّة للتفكير، سوف يصبح من الأهميَّة بمكان أن نتساءل بداية: ما هي تلك الملابس [الأغطية] التي حجبت بها إيزيس حياتنا مرَّة أخرى؟

 

العلاج الرباعي المضاد

هناك «حجاب المظاهر» كما سبقت الإشارة إلى ذلك. إنّه بمثابة حجاب عطاء حسِّي يعود إلى لحظيَّة الأشياء. ولذلك، يبدو ظاهريا أنّ اليوم العادي المبتغى، هو بمثابة ذلك اليوم الخالي من المشاكل. غير أنه، ورغم هذه البداهة، يبقى من الضروري تجاوز هذا المظهر الأولي الذي تبدو عليه الأمور. يعدّ ذلك اختبار لعمليَّة الشَّك التي نعوّل عليها كي تحررنا من تبسيطيَّة التعميم. أما بخصوص «حجاب الحكم المسبق» وبادئ الرأي، فإنّه ينبني على اعتبار الحجاب هو ذاته واقع؛ ذلك أنه لأسباب واعية أو غير واعية (وغالبًا ما يكون المبرر هو الكسل ببساطة)، يفضّل الحكم من هذه النوعيَّة إخفاء جوانب الواقع التي لا تثيره أو لا تهمّه. فاليوم العادي هو الذي لا نحسّ فيه ببذل أي جهد فكري معتقدين مسبقا معرفته. إنّنا في المعتاد اليومي لا نفكِّر في أي شيء، وذلك لكوننا نعتقد معرفة مجرى الأمور ونتوقَّع سرعة التحكّم بها عند الضرورة. هنا تكمن الريبة لأنَّ استقلاليَّة التفكير الشخصي، التي بإمكانها أن تسائل يقينيات العادة، أصبحت معطّلة.

كذلك يوجد، إلى جانب «حجاب الحكم المسبق»، حجاب آخر أكثر ترسّخا في الاعتقاد، وهو حجاب يصاحبه عادة جهل خالص وتبسيطي للأشياء. إنّه «حجاب الاعتقاد»، ذلك الفهم الضعيف الذي يملئ فراغ المعرفة. نعتقد أنّ يومنا المعتاد يلزم تجاهله مادام عديد الأشياء فيه لا يمكننا أن نقول أيّ شيء مؤكَّد بخصوصها. تعتبر الإرادة العاقلة الحرّة هي القادرة وحدها على مجابهة هذا الاعتقاد الراسخ، لذلك نريد من خلالها مساءلة هذا الاعتقاد ضدا على كلّ بداهة جاهزة. وإرادة المعرفة هذه ليست مجرَّد فضول بسيط، وإنما هي في العمق طموح لاكتشاف ما هو أساسي.

أخيرا هناك حجاب أكثر رقّة ورشاقة، بحيث لا يبدو عليه أنّه كذلك؛ إنّه «حجاب العادة». وهذه العادة التي تأتي من تكرار نفس التصرّفات والوضعيات والهيئات بشكل آلي ودائري، هي الحجاب الأكثر استحكاما من حيث تجذّرها في الفكر، لتتحوَّل إلى شيء غير مفكّر فيه. إنّها بمثابة الفعل الذي استحال ليصبح ردّ فعل، والحركة المقصودة التي تحوّلت، مع مرور الوقت، لتصبح نمط تفكير قائم. «حجاب العادة» هذا هو الحاجز الأخير الذي لا يثير أدنى انتباه، وذلك بسبب كثرة رؤيته، وليس بفعل انعدام الرؤية. تجعل العادة أي شيء غير مفهوم، لا لكونها تخفي الأشياء عنّا، ولكن بعرضها الدائم لها على نفس المنوال. ويا للمفارقة ! لقد أصبح الخافي أكثر ما تسلّط عليه الأضواء، بينما بقي المعروض الظاهر لا يجلب أيَّة أنظار واهتمام. ونظرا لهذا السبب، أصبح اليوم العادي يفلت من حاجتنا لمساءلته. بذلك سيصبح قول الشاعر «فيكتور هيغو»: «ما الحياة سوى عاداتنا الطوال» واقعا مريرا يستدعي المعالجة؛ ولن نجد لعلاج آفة “العادة” غير وصفة “الدهشة”.

 

قد تكون تفاهة اليومي خاصيتنا الدائمة، لكن اختلال معنى الأشياء ضمن هذا اليومي ليس في عمقه غير اختلال فكرنا فيه. لذلك، متى شعرنا بأنفسنا سجناء هذه الثنائيَّة: التفكير بدون فعل، أو الفعل بدون تفكير، فذلك ما يعني أنّنا ما زلنا لا نملك بعد مقياس الربط الخاص بين الفعل والفكر.

من البديهي أن يعمل رباعي الحجب هذا بنشاط كشاشات أربع، ويقوّي بعضها بعضا. في العادة يجعل الحكم المسبق العقل طيّعا لبادئ الرأي، وقد يكون أحيانا أساس الاعتقاد الذي يوقّعنا في غواية المظاهر. إنّ حُجب «إيزيس» في نهاية المطاف شيء واحد، نفس اللباس يغطي العالم من حولنا ويجعلنا غرباء عن ذواتنا؛ لكن التفكير يعد بإنقاذنا من هذه الوضعيَّة. لذا، تستدعي الحُجب الأربعة السابقة علاجا رباعيا: العلاج بالشك وبالحكم النقدي، والعلاج بالإرادة، والعلاج بالدهشة.

هي إذن أربعة حجب في مقابل أربع طرق للمساءلة: ما يظهر ليس حقيقي، ما نفكّر فيه وندركه ليس معلوما، ما نعتقده ليس متاحا، أخيرا ما نحياه لا نعيشه بكيفيَّة أصيلة طالما لا نتمكن من استعادته في ضوئه الأصلي والنقي. هي إذا أربعة حجب، لكنّها أيضا، أربع وضعيَّات تفكير لإيقاظنا من السبات اليومي. أربع محاولات تختبر كيف يمكن ليوم عادي أن يحوّل إلى يوم فلسفي. لهذه الأسباب كلّها، من النادر أن يلتقي التمرين الفكري باليومي إلا صدفة، وذلك عندما ينحرف، لسبب أو لآخر، عن مظهره المعتاد ومخطّطاته التفسيريَّة التي نلصقها به تلقائيا. المفارقة أننا لا نفكر في هذا الأمر إلاّ حينما يكون اليومي ذاته ما يدعونا إلى ذلك، بعدما يفلت عرضا من مخططات للإمساك به. هذا الأمر يخلو من القرار الأصيل بالتفكير، ذلك القرار الذي يتوجَّب أن يكون حرّا بطبعه، وأن يمثل الختم الحقيقي للإرادة المحكمة. لذا، فتشجيع قرار التفكير، وإثارة أسئلة الصدفة الآنيَّة عبر عنصر الفكر، هو ذا ما يشكّل الهدف من الكتاب.

قد تكون تفاهة اليومي خاصيتنا الدائمة، لكن اختلال معنى الأشياء ضمن هذا اليومي ليس في عمقه غير اختلال فكرنا فيه. لذلك، متى شعرنا بأنفسنا سجناء هذه الثنائيَّة: التفكير بدون فعل، أو الفعل بدون تفكير، فذلك ما يعني أنّنا ما زلنا لا نملك بعد مقياس الربط الخاص بين الفعل والفكر. الفكر نَفَسٌ مكتوم، كآلة “الباس” الموسيقيَّة، يخترق تصرفات كل واحد منا. بتعبير أخرى ليس اليومي ضعيفا، بل نحن هم الضعفاء خوفًا من الشك والدهشة، وأن يصير شاهدا على استقلاليتنا وعقلانيتنا. أمَّا ثمن هذا الجهد وهذا القرار، كما هو الحال دائما في الفلسفة، فهو عدم الارتياح لواجب استبدال عادات يوميَّة بأفعال مدروسة، ولأحكام مسبقة بأحكام مؤسّسة، ولمعتقدات بأطروحات عقلانيَّة، ولليقينيات بشكوك. هكذا، لن نربح أيّ شيء بشكل تلقائي، غير أننا سنفقد قليلا من الطمأنينة التي تتيحها لنا هذه الحياة مثل: الحلاقة صباحا، ارتشاف القهوة، أخذ قسط من الراحة، السفر عبر المترو، الخ. إنّ هذه التصرّفات لن يكون لها معنى إن لم تكن قابلة لأن نفكّر فيها؛ وإذا هي كذلك، فسوف تفقد معناها يقينا.

 

 

جديدنا