موقف ابن رشد الأندلسي من صورة الجنَّة والنار في الخطاب الديني

image_pdf

 

لم يكُن لمحنةِ ابن رشد الأندلسي عنوانٌ واحدٌ، فهُو الفقيه والطبيب والفيلسوف والوزير الذي اجتمع الفقهاءُ في مسجد قرطبة ذات يومٍ لتكفيرهِ والنيلِ منهُ، تعدَّدت أسبابُ الفتوى لكن القصد واحدٌ، هو منعُ شخصيَّة متنورةٍ من التفكير ومحاكمةُ الرأي والاجتهاد، لقد كان ابن رشد ضحيَّة لمواقفه السياسيَّة في عهد دولة الموحّدين واجتهاداتهِ الفقهيَّة التي لم تكن تروقُ لفريقٍ من فُقهَاءِ الجمُودِ والتقليدِ، ولم تكن صُكُوكُ الاتِّهامِ بعيدة عن رقابةِ هؤلاء، أغلبها موجودٌ في كتبه كرأيٍ واجتهادٍ من أجل مُقارعةِ الفكرةِ بالفكرةِ وردّهَا أو قبولها، لكن عقليَّة الجُمُودِ والاستبداد تُفضِّلُ محاسبة الضمير والتفكير وممارسة الوصاية، وتوزيع تُهم التكْفِيرِ وما يتبعها من أشكال العنف والترهيب، ومن بين الآراءِ التي شكَّلت عنوانا لمحنة ابن رشد موقفهُ من الجنَّة والنار، وما سمي بمشكلة الحشر والمعاد الأخروي.

نجدُ في الخطاب الديني إسهابا مفرطا في وصف الجنَّة وملذّاتها والنار وعذابها، وهو أمر يبدو غريبا بالنظر لحجم الكتب والمؤلّفات في ثراثنا الإسلامي التي تخصَّصت في أوصاف النعيم والعذاب، بحيثُ يصعب أن تحيط بالعدد الضخم لهذه المؤلّفات التي تفنَّن أصحابها في وصف النعيم الجسماني والحسِّي الذي ينتظر أصحاب الجنَّة، وفي أنواع العذاب الذي ينتظر أهل النار.

الغرابة هنا ليست من الوصف، بل في أنّ القران الكريم وهو النصّ الديني المؤسِّس في الإسلام، لم يخصّص إلا بعض السور والآيات في وصف الجنَّة والنار بشكل عام دون تفاصيل دقيقة، على خلاف رجال الدين فقد حاولوا التفصيل والتدقيق في نعيم الجنَّة ووصفوا كل صغيرة أو كبيرة فيها، فكان خيالهم حقيقةً واسعاً لدرجةٍ لم يعد للقول إنَّ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من معنى، فجميعُ ما في الجنَّة ذكرهُ هؤلاءِ من مساحتها أو عدد أشجارها ومذاق خمرها وجمال نسائها وتفاصيل جسد حُورهَا، بل إنَّ بعضهُم يصفها وكأنَّه تجوّل في غاباتها وقصورها.

المهمّ أنَّ هذا الوصفَ ما زال يتغذَّى عليه الخطاب الديني المعاصرُ وخاصَّة الخطابُ الحركي والدعوي، الذي يستغِلُّ الملذَّاتِ الحسيَّة لاستقطَابِ المنتسبين لهُ، خاصّةً من المحرُومينَ والمكبُوتينَ والمحبطين في مجتمعٍ أغلبُ أفرادهِ مهمَّشون ومقصيون، وهو ما يلبِّي خيال وأحاسيس هؤلاءِ ويحقِّقُ لهم ما عجزوا عن تحقيقه في حياتهم، عن طريق تأجيله إلى ما بعد الموت، ولا يخفى على الكثيرين ما يوفّره ذلك من تجييش للناس ومشاعرهم لأنَّه يخاطب فيهم الغرائز والعواطف، ولا يخفى أيضا أن هذا الخطاب من الركائز الأساسيَّة في صناعة التطرّف والمتطرّفين، لأنَّ القارئ أو المشاهد لخطب التطرُّف الديني يجدها تفيضُ بأوصافِ الجنَّة والنار وأهوال القبور، من أجل ترغيبِ البعض واستقطابه أو ترهيب المخالفِ وتخويفهِ.

لقد وصل خطابُ التطرُّف الديني بأوصافِ الجنَّة والنار حدوداً غير معقولةٍ، تدلُ على حجم التخلفِ الذي أصبح عليه خطابنا الديني، الذي لا يريدُ كهنتهُ ومؤسساتهُ الكهنوتيَّة تقدمهُ وتطورهُ ليصبح أداتاً للوعيِ ورقي الفرد والمجتمع، إننا في حاجةٍ لتجديد خطابنا الديني عن طريق انفتاحهِ على مناهجٍ العلوم التجريبةِ والإنسانيَّة، من أجل تحريره من جموده وتكلسه المعرفي وطغيان الاجترار والتكرار والتقليد والخرافة عليه.

فيِ هذَا الإطارٍ نستحضرُ فيلسوف قرطبة ومراكش أبو الوليد ابن رشد الذي كان له موقف خاصّ من صورة الجنَّة والنار كما يقدِّمها الخطابُ الديني، وقد صاغ هذا الموقفَ من خلال رأيه في مشكلة المعاد أو الحشر الأخروي، وهي قضيَّة اختلفَ حولها الفقهاء والفلاسفة في الإسلامِ اختلافاً شديداً وصل بتكفير الفريق الأوَّل للثاني، وتتلخّصُ القضيَّة في أنَّ رجال الدين يقولون بأنّ الحشر والعاد سيكون بالأجساد والأنفس، فعند موتِ الشخص يفنى جسدهُ في التراب لكن روحه تبقى، ليبعث من جديدٍ هذا الجسدُ مع روحه في العالم الأخروي، ويثاب الصالح منها بنعيمٍ حسِّي في الجنَّة، كما يعاقبُ المقصرُ بعذابٍ حسِّي في النار.

الأمرُ الذي رفضهُ ابن رشد في كتابه تهافُتُ التهافُتِ، وقال: “الشرائعُ كلُها اتَّفقَتْ على وجُودٍ أُخروي بعدَ الموتِ، وإِنْ اختلفتْ في صِفَتِ ذلكَ الوجُودِ”[1] وهو هنا يتَّفق مع الأديان المختلفة أن  البعث والأخرة أمر حقّ والإيمان به واجب لدى أهل الشرائع، لكن الأمر الجوهري هو اختلافهم في وصف الآخرة، أي في كيفيَّة المعاد وكيف يكون الحشر هل بالأجساد والأرواح معا؟ أم بواحد منها؟ من هنا يتأسَّس موقف ابن رشد من صورة الجنَّة والنار كما جاءت في الشريعة، حيث يعتمد على آليَّة التأويل، ومعناها صرفُ اللفظِ عن ظاهرِ معناهُ، بالانتقالِ من المعنى السطحي والظاهرُ عند القراءة الأولى، إلى معنى أعمق وباطن يظهر بالتأويل اللفظ، لذلك يُعتبرُ التأويل قراءةٌ ثانية أو أكثرُ للنص، ما يفسِّر كثرة التأويلات والمعاني للنص الواحد ويفرز تعدُّدا في الخطابات والمذاهب.

لكن يجب أن يكون التأويل مبنيّا على قواعد مضبوطةٌ لذلك يقول ابن رشد: “وأن يتَأولَ لِذلِكَ أحسَنَ تأوِيلٍ”[2]  هكذا اعتبر الفيلسوف أنَّ نصوص الشريعة التيَّ تكلمت عن الجنَّة والنار يجب تأويلها، وفي رأيه أن البعث يكون بالعقل وليس حشراً للأجساد، فالخلود عنده خلودٌ عقليٌ، وليس جسمانيًّا وحسّيًّا، وعلى أساسه لا وجود لجنَّة ولا نار حسّيَّة، بل أوصافهما في الشريعة مجرّد رموز لترغيب وترهيب الناس، من أجل تربية الناس وتقويم سلوكهم، وقد اختار الشرعُ خطاب الاستعارة والمجاز والوصف بأشياء محسوسة وجسميَّة، ليقرِّب خطابه للناس عامَّة بحسب مستوى فهم كل واحد. لأنَّ الخطاب الديني في نظر ابن رشد موجَّه للجميع حيث قال: “والشرائعُ تقصِدُ تعليمَ الجمهُورِ عامةً، ومع هذا فلا نجدُ شريعةً من الشرائع إلا نبهت بما يخُصُ الحكماء”[3]، يعتقدُ ابن رشد من خلال هذا الكلام أن خطاب الشريعة يحملُ معنيينِ، معنى موجّهٌ لعامّةِ الناسِ وهو الظاهرُ الذي يفهم من أوَّلِ قراءةٍ، ومعنى ثانٍ موجَّهٌ لخاصَّةِ الناس وهو الباطن الخفي الذي لا يفهم إلا من خلال التأويل، والمقصودُ بخاصَّة الناس هم أهل الحكمة من الفلاسفة، لقد كان ابن رشد واضحا في موقفه من صورة الجنَّة والنار، فهي صورة تخاطب عامَّة الناس بشكلٍ فيه تبسيطٌ وتخييلٌ حسب فهمهم، فكان لا بد من التشبيه والتمثيل في المعاد ووصف الجنَّة بمحسوساتٍ واقعيَّة عندهم ولذة معروفة لهم كالعسل و الحليب والخمور وأنواع الفواكه والنساء الجميلات…، ووصف جهنَّم وعذابها المتنوّع الأشكال بما هو معروف في حياتهم كالحراس والسلاسل والنار الحارقة والماء الساخن…، وهذه الطريقةُ في التعليم مطلوبةٌ حسب ابن رشد لتحفيز الناس على التحلِّي بالفضيلة والأخلاق الحسنة، وإلا كيف يمكن أن تمنع شخصا من سرقة غيره أو الكذب بغير تخويفهِ بأمور حسيَّة معروفةٍ له، وكذلك كيف تحثُّ الناس على فضائل الأخلاق دون تحفيزهم بمتع وملذّات معروفة لهم. لذلك يقول ابن رشد: “ولذلك كان تمثيلُ المعادِ لهم بالأمور الجسمانيَّة أفضل من تمثيلهِ بالأمور الروحانيَّة كما قال سبحانه:مثلُ الجنَّة التي وُعِدَ المتقُون تجري من تحتها الأنهار”[4] .

من هنا تظهرُ حاجتنا لابن رشد من أجل فهم حقيقي لصورة الجنَّة والنار في الشريعة، فهي مجرّدُ تمثيل ومجاز لمعاد روحاني عقلي، فالسعادة والجنَّة هي تلك الدرجة التي تُقرّبُكَ من العقلِ الأوّل(الله) والتي تكتسبها عبر البحث العلمي والتأمُّل الفلسفي، أمَّا الألمُ والنار فهي النفوس التي بقيت مدنَّسة بالجسماني والشهواني في وجودها الدنيوي ولم تكتسب في الحياة علوما ولا فلسفة.

__________

– ابن رشد أبو الوليد, تهافت التهافت, تقديم صلاح الدين الهواري, 2003, بيروت, المكتبة العصريَّة, ص373 [1]

-تهافت التهافت،م,ن,ص170 [2]

– تهافت التهافت،م,ن,ص173[3]

– تهافت التهافت،م,ن,ص174[4]

جديدنا