يعيد كتاب الباحث توماس بيريه “الدين والدولة في سورية: العلماء من الانقلاب إلى الثورة” التفكير ملياً، بل ربما الاعتبار للإسلام التقليدي، وهو الذي أخذ في سورية مصطلح “حلقات المشايخ”، الذي طالما كانت النظرة له من التيارات العلمانية أو التحديثية، أو حتى أبناء “الإسلام السياسي” بوصفه رجعياً أو قديماً، غير قابلٍ للحياة والاستمرارية والتكيّف، أو هامشي التأثير.
الكتاب (ترجمه وقدّم له حازم النهار، مؤسسة ميسلون للنشر والتوزيع، 2020، وصدرت طبعته الفرنسية قبل قرابة تسعة أعوام، أي في بدايات الثورة السورية) لا يكتفي بتقديم تأريخ وتحليل مهم لتطور الحالة الدينية في سورية، بصورة خاصة منذ الاستقلال إلى اندلاع الثورة، بل يشتبك مع مفاهيم خاطئة عن تصوّر هذه الحالة أولاً، ويؤسّس لإعادة فهم وتعريف لأهمية الإسلام التقليدي (إسلام المشايخ) في سورية، والدور الذي قام به على الصعيدين، الثقافي والاجتماعي، خلال العقود الماضية.
جدليات التحديث والإصلاح والتقليدية، سؤال تأسيس الكليات الشرعية والفقهية بالتزامن مع بروز وانتشار المعاهد الدينية التي تعود إلى الشيوخ التقليديين، التعلّم في الجامعات للشريعة، وفي الجوامع والمعاهد وحلقات المشايخ للمتون الفقهية والدينية، ذلك كله نجده في كتاب بيريه، في قراءةٍ معمقةٍ جميلةٍ مبدعةٍ لديناميكيات التفاعل بين الإسلام التقليدي والحداثة الاجتماعية وطبقة المثقفين والسلطة.
ربما تتمثل إحدى المفارقات التي يقدّمها لنا المؤلف في أنّ الطبيب أو المهندس أو المحامي، الذي كان يفترض أن يكون على الطرف المقابل للإسلام التقليدي، نجده في حلقات الشيخ في المسجد يدرس المتون الفقهية ويتعلم الشريعة، ويعلن انتماءه كمريد للشيخ أو الطريقة الصوفية التي يمثّلها.
وعلى النقيض من الفرضية الموروثة، فإن بيريه يجادل بأنّ حقبة الثمانينيات، وإقصاء الإسلام السياسي عن المشهد، بعد مجزرة حماة في عام 1982، لم تؤدِّ إلى استئصال التديّن من المجتمع، ولم تكن عملية “الهندسة الاجتماعية” البعثية ناجحة، بل على النقيض من ذلك، تمكن “المشايخ” من “ملء الفراغ” وبناء الشبكات والمجاميع المؤيدة لهم، وساعدت سياسات النظام الدينية المتجاهلة أهمية الدين، أو التي تركّز على بعض الأسماء فقط، في أن تعطي مساحةً من الاستقلالية الدينية والنمو والتجذّر في المجتمع.
ما يمكن أن يضاف هنا إلى كتاب بيريه، أن التعليم الذي اتبعه المشايخ، واعتبره أغلب الحداثيين العلمانيين والإسلاميين متخلفاً، حافظ على نفسه، بطريقة مدهشة، فكان ما يسمى لدى المتصوفة “العلم المسند”، أي إسناد القراءة أو الطريقة عبر سلسلة ممتدة من الحاضر إلى التاريخ على تشكيل هوية دينية مجتمعية ثابتة، تعايشت وتكيّفت مع التحولات الاجتماعية والثقافية التي مرّ بها المجتمع السوري خلال عمليات التحديث.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أنّ الإسلام التقليدي السوري لم يكن متحجّراً أو هامشياً أو مستنكفاً عن الاشتباك مع الحياة العامة، حتى وإن لم يتوافق مع تكتيكات الإسلام الحركي وأهدافه بالمجمل، فقد أسس المشايخ جمعياتٍ عديدة ومعاهد دينية، وبعضهم شارك في الانتخابات النيابية في العامين 1947 و1949، وكان لهم دور ملحوظ في التأثير بالمجتمع. مثل بدر الدين الحسني ومحمد الهاشمي وعلي الدقر وكامل القصاب وبهجت البيطار ومحمد النعسان، ولاحقاً محمود الشقفة وحسن حبنكة وغيرهم من جيل المؤسسين والأجيال اللاحقة الذين ساروا على دربهم.
ربما، وهذه الإضافة لكاتب هذه المقالة، يتميّز “الإسلام التقليدي” في سورية بالتجذّر والعمق الاجتماعي، وقد ساعد على ذلك انتشار الطرق الصوفية، عبر التاريخ إلى الواقع المعاصر، مروراً بالدولة العثمانية، بخاصة حقبة السلطان عبدالحميد الثاني الذي أراد أن يجعل من الصوفية وطريقها بمثابة أيديولوجيا رسمية للدولة، فقرّب إليه شيوخ الطرق الصوفية، وبالذات شيخ مشايخ الدولة العثمانية الحلبي، أبو الهدى الصيادي، الذي أخذ الطريقة الرفاعية عن بهاء الدين الرواس الرفاعي، وكذلك الأمر محمود أبو الشامات، مثلاً، الشاذلي اليشرطي الشامي، واستقطب من تونس حفيد محمد ظافر المدني، الشاذلي الطريقة، فمثل هذا التوجه الديني – السياسي مع القرب الجغرافي بين تركيا والشام عزّز من الحالة الدينية التقليدية وجذّرها، حتى باتت أشبه بالثقافة اليومية في أغلب المدن السورية.
ومن الظلم، أيضاً، اختزال الإسلام التقليدي، بنسخته الصوفية في جيب النظام السوري، أو إسقاط مواقف بعض العلماء والمشايخ الصوفيين على الحالة بأسرها، ولعلّ الكتاب يشير بوضوح إلى إحدى أبرز الجماعات الصوفية البارزة الممتدة التي قامت علاقتها مع النظام بالتوتر، وبالهدنة، ثم بالمشاركة في الثورة، كجماعة زيد (آل عبدالكريم الرفاعي).
لم يقف تأثير الإسلام التقليدي السوري على سورية، ففي دراسةٍ أقوم بها حالياً عن الصوفية والتصوّف في الأردن، أُفاجأ بحجم التأثير العميق المدهش الكبير للمشايخ والطرق الصوفية في سورية على الأردن، فتجد حضوراً مهماً في بناء الحالة الصوفية الأردنية لأسماء كالشيخ محمود الشقفة (قتل في 1979 في حماة على باب المسجد) وقبله الشيخ محمد الهاشمي التلمساني، وعبد الرحمن الشاغوري، والصيّاديين (الطريقة الرفاعية الرواسية)، وقبلهم بدرالدين الحسني، وعلي الدقر، مروراً بالقبيسيات (في الحالة الأردنية الطباعيات)، و”تكية الراوي” في دير الزور.
للأسف، لنعترف بأنّنا، معشر الباحثين العرب، عموماً، صرفنا اهتمامنا بالإسلام الحركي بصوره المتنوعة والمتعددة عن دراسة الإسلام التقليدي، واستسلمنا حيناً من الدهر لفرضياتٍ غير مثبتة عن هامشيته وضعفه، لنجد أنّه عامل رئيس وبنيوي من عوامل بناء الهوية المجتمعية، وأنّ له دوراً عميقاً في فترات تاريخية مهمة ومؤثرة.
*المصدر: العربي الجديد.