مصطفى عبد الرازق؛ الشيخ الفيلسوف

image_pdf

ينتسب مصطفى عبد الرازق (1885م – 1947م) شيخ الجامع الأزهر الشريف، ومجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث، ومؤسِّس المدرسة الفلسفية العربية؛ إلى محافظة المنيا بصعيد مصر.

 تعلَّم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ثم انتقل وهو في العاشرة إلى القاهرة، والتحق بالأزهر ليُحَصِّل العلوم الشرعيّة واللغويَّة، فدَرَسَ الفقه وعلوم البلاغة والمنطق والأدب، و في سن السابعة عشر؛ بدأ يتردَّد على دروس «الإمام محمد عبده» في الرواق العباسي، فأصبحَ من خواصّ تلاميذه، وتأثَّر به وبمنهجه وبأفكاره الإصلاحيّة، في عام (1346 هـ / 1927م) عُيِّن أستاذا مساعدا للفلسفة الإسلامية بكليَّة الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، ثم أصبح أستاذ كرسي في الفلسفة، تولَّى الشيخ مصطفى عبد الرازق وزارة الأوقاف ثماني مرَّات، وكان أوَّل أزهري يتولّاها، واختير شيخا للأزهر في ديسمبر 1945م.

يقول طه حسين مستذكراً مصطفى عبد الرازق التلميذ: “لن أنسى تلك الجماعة التي ألَّفها من بعض أولئك الممتازين من طلاب العلم في الأزهر، ونظَّم لها اجتماعا برئاسته، مساء الجمعة من كل أسبوع، يلقي أعضاؤها أحاديث في موضوعات مختلفة تدور كلها حول الإصلاح الذي كانت مصر كلها تتحرَّق ظمأ إليه، وإلى إصلاح الأزهر خاصَّة بعد أن أشعل الأستاذ الإمام، في قلوب الممتازين من شبابه، جذوة الثورة على ذلك الركود الذي اطمأنَّ إليه الأزهر قرونا طوالا”.[1]

بعد حصوله على شهادة العالِمية من الأزهر (درجة البكالوريوس) سنة 1908م؛ أبدى مصطفى عبد الرازق اهتماما بالمشاركة في الجمعيات العلميَّة والأدبيَّة، كالجمعية الأزهرية التي أنشأها محمد عبده، ثم انتقل سنة 1909م إلى باريس لاستكمال دراسته العليا، والوقوف على الثقافة الغربيَّة ومعرفة ينابيعها، فالتحق ﺑ «جامعة السوربون»، وحضر دروس الفلسفة، ودرس الاجتماع على يد «دوركايم» و «إدوارد لامبير». ساهم خلال تلك الفترة في نقل أفكار الإمام محمد عبده إلى النخبة الثقافيَّة الفرنسيَّة، حيث اشتغل مع صديقه الأستاذ ميشيل برنارد في ترجمة «رسالة التوحيد» العربيَّة إلى الفرنسيَّة، وقد طُبِعَت هذه الترجمة في سنة 1925م.

وبعد قيام الحرب العالمية الأولى عاد إلى مصر، ثُم عُيِّن موظّفا في المجلس الأعلى للأزهر، ونتيجة لمواقفه السياسية المناصرة للحركة الوطنية التي كان يقودها سعد زغلول، تمَّ إبعاد مصطفى عبد الرازق من الأزهر خوفاً من أفكاره السياسيَّة والاجتماعيَّة، فتمَّ تعيينه مفتِّشا بالمحاكم الشرعيَّة؛ وهي وظيفة لم تكن تناسب قدراته، ولكنَّها وفَّرت له الفرصة لتوسيع دائرة نشاطه العلمي والأدبي.

ترك الشيخ مصطفى عبدالرازق للمكتبة الإسلاميَّة والإنسانيَّة تراثاً فكريّاً وعلميّاً مهمّا، فقد كتب مصنَّفات في الأدب والتصوّف، إلا أنّ كتاباته في الفلسفة كانت أهمّ ما قدَّمه للفكر العربيّ والإسلاميّ، حيث يُعدُّ رائد الفكر الفلسفي الإسلامي الحديث، فقد نجحَ في تفنيد تبعيَّة الفلسفة الإسلاميَّة للتراث اليوناني، وأثبت أنَّ نشأة الفلسفة في كتابات المسلمين كانت سابقة على اتِّصالهم بالفلسفة اليونانيَّة، ومن أهمّ ما كتبه الشيخ مصطفى عبدالرازق في الفلسفة، كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميَّة»، وكتاب «فيلسوف العرب والمعلم الثاني» و«الإمام الشافعي» و«الشيخ محمد عبده»، بالإضافة إلى مجموعة مقالات جمعها أخوه علي عبد الرازق في كتابٍ بعنوان: «من آثار مصطفى عبد الرازق».

منهجه

مثَّل الشيخ مصطفى عبدالرازق تجربة مهمَّة في تاريخ تطور الفكر الإسلامي الفلسفي خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي التجربة التي توقَّف عندها، ورجع إليها معظم الدارسين والباحثين الذين حاولوا دراسة تاريخ تطوُّر الفلسفة والفكر الفلسفي والدرس الفلسفي في مصر والعالم العربيّ، واكتسبت هذه التجربة أهمِّيَّة بحيث لا يمكن تخطّيها وتجاوزها، أو إهمالها وعدم الالتفات إليها، وذلك لشدَّة تأثيرها، وقوَّة حضورها، وتمكُّنها من البقاء والامتداد، وظلَّت موضع ثناء وتقدير الكثيرين من الباحثين والمؤرِّخين والمشتغلين بالدراسات الفلسفيَّة، من الذين عاصروا صاحب هذه التجربة، ومن الذين جاؤوا بعده، وحتى من الموجودين اليوم.

يعتبر مصطفى عبد الرازق أن الفلسفة الإسلامية ليست تلك التي نجدها عند ابن سينا والفارابي، ولكنها تكمن في منجز العرب المسلمين في علم الكلام ومصادر فلسفة التشريع الإسلامي، وأنَّ الدين والفلسفة يبتغيان سعادة البشر، غير أنَّ الدين يقوم على التصديق والإيمان ومصدره القلب، بينما الفلسفة تقوم على النظر والفكر ومصدرها العقل؛ لذلك فهما متَّفقان في الغاية مختلفان في الوسيلة، ولا يجوز أن نخلط بينهما ولا أن نفسر الدين بالفلسفة، وإنَّما يبغي أن ننظر إلى كليهما باستقلالية عن الآخر، وهذه القراءة للدين والفلسفة من قبل مصطفى عبد الرازق؛ ساهمت وأثَّرت بشكل كبير على تفكير شقيقه الصغير علي عبد الرازق صاحب الكتاب الجدلي “الإسلام وأصول الحكم” الذي حوكم بسببه وجرَّده من شهادته الأزهرية.

من هنا كان موقف الشيخ مصطفى عبد الرازق، حين انتُدِبَ لإلقاء محاضرات في الفلسفة الإسلاميَّة، بعد أن فكَّر وقدَّر، رأى أن تكون محاضراته في المنهج، وعلى أساسه تمَّ تقديم إطار عامّ للفلسفة الإسلاميَّة، وعلى هذه الرؤية قدَّم كتابه: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميَّة.

وكان الهدف من رؤيته يعود إلى أمرين:

الأمر الأول: حصر قضايا المغالطات التي افتراها الغرب على العرب فيما اختلقه من مزاعم وهي كثيرة، منها: نظرية العقل الآري والعقل السامي.

الأمر الثاني: تقديم إبداعات العقل العربي واجتهاده في ميدان الفكر العقلي والفلسفي، وكان يوجِّه تلاميذه بالتجديد والمعاصرة مع إحياء النفيس من التراث، فقد كان مجدِّداً في الدروس الأكاديمية والحياتية، كما كان مدافعاً عن المرأة وحقوقها.

من كتبه

الدين والوحي والإسلام:

يناقش الكتاب موضوعات في حقيقة الدين تشمل تحديد أصوله في نظر باحثي العلوم الإنسانية من جهة، وفي نظر أهل الإسلام من جهة أخرى، وكذلك العلاقة بين الدين والعلم، وارتباط الدين بظاهرة الوحي، وتفسيرات تلك الظاهرة بين إسلاميّة وفلسفيَّة، ويأتي على شرح المعنيين اللغويِّ والشرعيِّ لكلمة «إسلام». و«مصطفى عبد الرازق» في تناوله السَّلس لجميع تلك المباحث، يبسُط رؤيته النقديَّة المتجرِّدة، وما يعُدُّه الرأي الأكثر ترجيحا من غيره، مستشهدا بآيات من القرآن الكريم، وعارضا لأقوال المفسِّرين واللغويِّين والمتكلمين.

فيلسوف العرب والمعلم الثاني:

يهدف هذا الكتاب إلى التعريف بأعلام الفلاسفة العرب وتصحيح الفهم الخاطئ الذي لدى الناس عن الفلسفة وموضوعاتها حيث اعتبروها مرادفا للكلام الغامض والأقاويل المبهمة على الرغم من كونها دعامة قوية للتفكير ومقوِّم مهمّ من مقوِّمات الثقافة. يبدأ الكتاب بالتعريف بفيلسوف العرب والمسلمين: «الكندي» وهو أوَّل من ترجم ونقل العلوم الفلسفيَّة من اليونانية إلى العربيَّة، كما كان له إنتاجه الفكري والفلسفي الخاص الذي استقاه من اطلاعاته المُوسَّعة في شتَّى علوم عصره. كذلك نتعرَّف سريعا على الفيلسوف الكبير «الفارابي»، والشاعر الحكيم «المتنبّي» الذي نطقت أبياته بأفكاره الفلسفيَّة، وبطليموس العرب الفيزيائي الكبير «ابن الهيثم».


[1]محمد الفيومي، في مناهج تجديد الفكر الإسلامي،  ص 74 ط 1 دار الفكر العربي، القاهرة، 2001 – مصر.

جديدنا