سياحة في رحاب التصوّف المعرفي

image_pdf

“صيَّر الرومي طيني جوهراً..”
الشاعر محمد إقبال اللاهوري

يمكننا الزعم أنَّ الموروث الصوفي متمثّلا بمشروعه القائم على وحدة الوجود الذي حمل لواءه الحلاج والسهروردي ومن بعدهم محي الدين بن عربي مولانا جلال الدين الرومي ومن حذا حذوهم وسار في خطاهم من رؤوس المتصوّفة الآخرين هو الأكثر جدارة في مواجهة أزمات عصرنا الراهن خصوصا استفحال نزعة التطرّف والإرهاب السلفي.

وقبل الطوف في رحاب التصوّف المعرفي والتزوّد من منابعه الدفّاقة بكل ما لذّ وطاب من معاني الحبّ الكوني والتعايش على أساس وصال المعنى والسعي الدائب للسمو بالنفس والمجتمع إلى مستوى الكمال عبر نافذتي الدين والفن في ثنائيَّة تشكِّل أجمل وأعذب ما في الوجود، قبل ذلك لا بد من استعراضٍ موجز لأبرز ملامح الأزمة التي يعاني منها الإنسان المعاصر خصوصاً في شرقنا المتوسّط على وجه التحديد.

أصل أزمة المسلم المعاصر، كما أتصوّر، هي الشعور الطاغي بالخواء الروحي والتصحّر الوجداني والتيه المعرفي .. والسبب الأبرز وراء مأساة الإنسان المعاصر في تيهه هو سيادة الخطاب الأيديولوجي الذي أحال الدين، وهو معراج الروح وملهم الخيال الإبداعي وملهب أشواق القلب وألق الضمير، إلى مؤسَّسة تدعي الحاكميَّة على نوايا الناس قبل سلوكيّاتهم في سعي محموم لتديين كل الوجود الإنساني بدلاً من أنسنة الدين كي يتناغم مع الوجود.

يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي في هذا السياق: ” إنَّ الأيديولوجيا نسق مغلق، يغذي الرأس بمصفوفة معتقدات ومفاهيم ومقولات نهائيَّة، تعلن الحرب على أية فكرة لا تشبهها، حتى تفضي إلى إنتاج نسخ متشابهة من البشر، وتجييش الجمهور على رأيٍ واحد، وموقفٍ واحد، وكأنّها تتمثَّل قول فرعون: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ) الأيديولوجيا جزميَّة، همّها تنميط وتدجين ونمذجة الشخص البشري، لذلك تقدّم جواباً واضحاً لكل سؤال، وكأنّها لا تدري أنّ أسئلة ثقيلة كأسئلة المبدأ والمصير، ما لبثت منذ جلجامش مفتوحة، يتعطّل التفكير حين تغلق الأسئلة المفتوحة. الأيديولوجيا تقوّضها الأسئلة المفتوحة، لذلك لا تبقي في فضائها أي سؤال مفتوح، وتحرص أن تقدّم إجابات نهائيَّة لكل سؤالٍ مهما كان” (حوار مع مؤسّسة الفكر الإسلامي 15/2/2015) وهذا بالضبط ما نعيشه اليوم، ولهذا لا بد لنا من البحث عن المضاد النوعي للتطرّف المؤدلج والمتلبس بالدين من خلال العودة لمنابع التصوّف العقلاني والعرفاني الذي كان داعيه الابتعاد عن الأدلجة وعن الانتماءات الضيّقة والانتماء للمعنى الذي هو وحده الضمانة لخلق مجتمعٍ مثالي متحضّر متعايش سلميّاً ومتوازن روحيّاً وان يتعايش البشر بسلام ما لم ينعموا بالسلام الداخلي ما لم يعيشوا حالة التوازن الروحي والعاطفي الذي توفّره التجربة الصوفيَّة العرفانيّة.

ولعل من أخطر أدلجة الدين هو سيادة الخطاب السلفي المتطرّف والمعبأ والمدعوم بالأموال وبتغطية إعلاميَّة ملحوظة.. لم تعد خافية على أحد، ويكفي المتابع أن يقرأ كتاب “داعش دولة الرعب” لجسيكا تيرن وجي. أم. بيركر الصادر هذا العام باللغة الإنكليزيّة، حيث يكشف فيه المؤلفان بالوثائق والأرقام عن الأسباب الداخليَّة والخارجيّة التي أسهمت في تكوّن وتمويل تنظيم “داعش” القائم على الرعب وارتباطه العقائدي بالفكر الوهّابي السلفي القائم بالأصل على قطع الرؤوس كحكم شرعي يمارس علناً بعد صلاة الجمعة وفي أماكن عامّة يحضرها الناس لتنفيذ أحكام المتورطين بجرائم الاغتصاب والقتل والسطو المسلّح وإدمان المخدّرات وامتهان السحر والشعوذة (داعش دولة الرعب/2015 ص 210) ثمّ يؤكِّد المؤلّفان الحقيقة المرعبة أنَّ “داعش” وبالتعاون مع أخواتها “تسعى لتطهير العالم بأكمله من جميع الذين لا يتّفقون مع أيديولوجيتها” (ص233). وهذا يعني أنَّ نسبة 90% من العالم ينتظرون الذبح على يد دعاة دولة الخلافة في ثوبها الداعشي الجديد، تلك الحقيقة التي أكّدها الباحث والروائي المصري يوسف زيدان 2010 في كتابه “اللاهوت العربي” حيث قال: ” تود الحركات العنفيَّة المتطرّفة مسلحَّة بتراثٍ فقهي فرعي غالباً ما يتمّ بعثه من الضفاف المتشدّدة، وحين تتمكَّن تسعى لإسكات الجميع، وفكر ابن تيمية مثال جيّد على ذلك …” (ص216).

وهنا يتبيَّن أنَّ أيديولوجيَّة التطرّف قائمة على النقيض تماماً من نزعة التصوّف، فالأولى متشبّعة حدّ العظم بنزعة الإلغاء والإقصاء للآخر المخالف ولو بالمفخخات والأحزمة الناسفة، كما أنها تدعو وبشكلٍ محموم لما يمكن أن نسمّيه دين الكراهية في نزعةٍ تكفيريَّة في غاية التطرّف، وفي ادّعاء وقح بأنها تمتلك الله دون بقيّضة البشر، في حين أن مفتيها نفسه لا يزال يؤمن بأنّ الأرض لا تدور، ويعتبر أنَّ الصعود للقمر هو من فبركات وأكاذيب هولييود!! وهنا تبرز أهمّيَّة الرجوع للتراث الصوفي العرفاني الذي لا يزال يملك الكثير من الأجوبة الشافية لمشاكل وأزمات عصرنا الراهن، كما يؤكَّد ذلك الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه الرائد “هكذا تكلَّم ابن عربي”.

ويأتي تركيز هذا المقال على محي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي أكثر من غيرهما كونهما الأكثر شموليَّة ومنهجيَّة في طرحها لمشروع التصوّف الذي يعدّ في جوهره “ثورة ضدّ المؤسّسة الدينيَّة التي حوّلت الدين إلى مؤسّسة سياسيَّة اجتماعيَّة مهمّتها الأساسيَّة الحفاظ على الأوضاع السائدة ومساندتها من خلال آليّات إنتاج معرفيَّة ثابتة يقف على رأسها الإجماع ويليه القياس، إذ يختلف المتصوّفة عن الفقهاء والمتكلّمين  في آليّات استنباط المعرفة وإنتاجها، فيحاول الصوفي عبر تجربته الروحيَّة التواصل مع مصدر المعرفة بدلاً من الانشغال بالنصوص الشرعيَّة التي مزّقت الاختلافات المذهبيَّة دلالتها..” (نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلّم ابن عربي/ 2002، ص 23).

يختلف مفهوم الدين لدى المتصوّفة عن مفهومه لدى الفلاسفة ورجال اللاهوت والفقهاء وعلماء الاجتماع، وحين يشير الدين لدى الفلاسفة اللاهوتيّين على النظام والنسق في بعده الجمعي ولهذا فهم يهتمّون  بالعقائد كأنساق معرفيَّة وقضايا إيمانيَّة مجرّدة، أمّا تركيز الفقهاء فيتمحور حول الدين كمجموعة من الأوامر والنواهي التي يتحقَّق خلاص الإنسان بإتباع الأوامر واجتناب النواهي، كذلك ينظر علماء الاجتماع للدين من خلال حركة المجتمع كونه ظاهرة اجتماعيَّة، في حين يختلف المتصوّفة عن جميع أولئك في فهمهم للدين على أنّه تجربة روحيَّة ذاتيَّة تتعلّق بالفرد وقدرته على التحليق في فضاءات المعرفة متسلحّاً بالحبّ لله وخلقه والاحتراق بنار العشق حدّ التوهّج. يقول الرومي بهذا الخصوص:
“كنت نيئاً، ثمّ أُنضجتُ، والآن أنا محترق”.
ويرى أنّ كل شيء في الصوفيَّة يقوم على الحبّ ويُبنى عليه، فيقول:

“الحبّ هو ذاك اللهب الذي عندما يتأجّج يحرق كلّ شيء، ولا يبقى ثمّة إلا الله”.
ويشترك المتصوّفة في الدعوة لدين الحبّ الذي يؤكِّد أنّ مهمّة الدين الأساسيَّة هي التأسيس لحاكميَّة الضمير من خلال التأكيد على الوجود الإنساني واحترام حاجاته الأساسيَّة من الداخل. فقضيَّة الدين هي قضيَّة قلب يحتاج لمن يمنحه فرصة تعشّق جماليّات الوجود التي تمثّل تجلّيات الحقّ (الله) باحترام حرّيّته في التفكير والاعتقاد حيث “الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق” الحديث النبويّ الذي يؤكّده المتصوّفة كثيراً. العقيدة برأيهم هي دين حبّ ينبض به القلب لا فكرة يفرضها سوط السلطان او رأي الفقيه، ولهذا فالناس أحرار فيما يعتقدون وبناء على ذلك تنتفي شرعيَّة جميع الحروب التي شنّت باسم الدين ومصادرة عقائد الآخرين، حتى لو كانت وثنيَّة، والدليل أنّ الوثنيّين عاشوا في ظلّ الإسلام إبان تألقه في حماية المسلمين معززين مكرّمين ولم تحلّ بهم المصائب حتى أطلَّت نزعة التطرّف والغلو والتكفير والعنصريَّة الدينيَّة بشكلها الممنهج على يد الغزالي في إحيائه لعلوم الدين على أساسٍ أيديولوجي إلغائي إقصائي كانت من ثماره المعاصرة أفكار المودودي والندوي وسيد قطب والتي مهّدت لظهور القاعدة وأخواتها بشكلٍ أو بآخر.

يقول ابن عربي في أبياته الشهيرة في ديوانه ترجمان الأشواق:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
                             فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف

                         وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت

                          ركائبه فالحبّ ديني وإيماني

دين الحبّ أصل كل الأديان والعقائد السماويَّة قبل تزييفها بالأيديولوجيا، ذلك الدين الذي يجتمع في رحابه سكنة الدير والطائفون حول الكعبة وعبدة الأوثان، وتتعانق فيه التوراة مع الإنجيل والقرآن في لوحةٍ ساحرة بألوان طيفها الرباني الذي يسع في فسحته الناس كافة ويفيض فضله على الجميع دون تمييز، وهنا تعكس لوحة دين الحبّ لدى الصوفيَّة سمفونيّة الوجود التي رسمتها كلمات الله في قوله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وفي قول نبيه الكريم: ” لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، فليس ثمّة رائحة للتمييز سوى التفاضل الذي هو سنّة الحياة في كلّ زمانٍ ومكان. فمن غير المنطق ولا الحكمة أن ” يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون” وليس في دين الحبّ سوى رائحة الأخوّة في حوار التعارف والتعايش مع احترام التمييز والكفاءة، رغم انتماء الناس لملل ونحل وقبائل مختلفة. جميع الأديان والطوائف والانتماءات تلتقي في قلب من يدين بدين الحبّ كونه يعي تماماً الأصل الوجودي الذي تستقي منه شوقها الوجودي وقلقها المعرفي وتوقها للمطلق الكامل وعوالمه المفعمة بالجمال والجلال.

يعتمد المتصوّفة الكبار في دعوتهم لدين الحبّ على حديثٍ قدسيّ في غاية الأهمية في دلالاته المعرفية المرتبطة بفلسفة الخلق أن الله تعالى يقول: ” كنت كنزاً مخفيّاً فأردت أن أعرف فخلقتُ الخلق لكي أعرف” ويصلون إلى نتيجة مذهلة تتناغم مع حركة الوجود في واقعها أنّ الله لم يخلق الخلق إلا ليأنس بهم من خلال معرفتهم لعظمة ما هو عليه من حبّ ورحمة وعطاء بلا حدود. فلم يخلقهم ليجعل حياتهم كابوساً، كما هي عليه عبر ممارسات الذين يقتلون الناس ويخربون الحياة باسمه، أنه الكنز المخفي.. كنز للفيض وللرحمة والعطاء والحبّ المطلق. يقول الباحث السوري أحمد الحسين نقلاً عن ابن الرومي: إنَّ طريق الحبّ في الصوفيَّة يؤدي إلى بلوغ السالك مرحلة الإنسان الكامل أو الإنسان الكلي، الذي هو قلب الكون والذي يكون قادراً على أن يكتشف في نفسه ذلك “الكنز المخفي”، بحسب الحديث القدسي، الذي يبحث عنه الإنسان في مكانٍ آخر عبثاً، بينما هو في داخله.

كما أن من بين أهم أركان دين الحبّ لدى العارفين هو التخلّي عن الجنّة كونها تفقد الوصال مع المعشوق (الله) لذته حين تربطه بمنفعة متبادلة وحينها تنطفئ شعلة توهجه حين يتمّ التعاطي مع الدين كنوع من التجارة مع الله، وهم بهذا يستندون لملهم المتصوّفة جميعاً علي بن أبي طالب في قوله الشهير “إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك ولكنّني وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك”. كما أنّهم يدعون بقوّة إلى تحرير الإنسان من عبوديَّة الانتماءات بغية الانتماء للمعنى الذي في وصاله يجتمع أتباع الديانات والمذاهب كلها دون خلاف ولا حرج.

يقول جلال الدين الرومي: “يا أيها المسافر لا تضع قلبك عند منزل من المنازل”، ويقول البسطامي: “غب عن الطريق تصل إليه” في تأكيد على تحرير الإنسان من عبوديَّة الانتماءات الضيقة التي هي مصدر أزمات العالم اليوم، خصوصا حين يغدو الانتماء للطريق او الطريقة المتمثّلة بالمذهب والمفتي والشيخ مدعاة لتصنيم أفكاره ومنحها مرتبة الكمال ومن ثمّ النظر للآخر بعيون المذهب ومفتي المذهب. ومن هنا تأتي مكانة القول الصوفي البالغ الأهميَّة في بلاغةٍ ساحرة تدعو إلى أن نتجاوز الانتماء الضيّق كي نصل للانتماء للحقّ وللوجود كله الذي يشكّل “حضرة الحق” وفق فلسفة المتصوّفة والذي تتعدّد طرق الوصول إليه بتعدّد البشر على اختلاف قدراتهم ومواهبهم وأشواقهم.

ولعل من أهم ملامح دين الحبّ لدى المتصوفة الكبار ومن أهم ركائزه هي تأكيده الكبير على أهمّيّة الفن كونه الجناح الذي يحلق به العارف في رحلته في عوالم الوجود نحو الوصال بالحقّ، ولهذا نجد أنَّ جميع المتصوفة الكبار إن لم نقل كلهم شعراء مرهفون وفنّانون بارعون في العديد من الفنون كالموسيقى والرسم والعمارة … كلماتهم تحمل زخماً معرفيّاً وعاطفيّاً يملك الأسماع ويأسر القلوب والأرواح في دلالةٍ واضحة على عمق تجربتهم وجمالها وعظمتها. يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه المشار إليه مسبقاً ما نصّه “إن استدعاء ابن عربي مع غيره من إعلام الروحانيَّة في كل الثقافات، يمثّل مطلباً ملحّاً، لعلنا نجد في تجربته، وفي تجاربهم، ما يمكن أن يمثّل مصدراً للإلهام في عالمنا.. إنَّ التجربة الروحيَّة هي مصدر التجربة الفنيَّة- الموسيقى والأدب وكل الفنون السمعية والبصرية والحركية- فهي الإطار الجامع للدين والفن. هذه أهمية استحضار ابن عربي في السياق العام. لكن استحضار ابن عربي في السياق الإسلامي- واستعادته من أفق التهميش إلى فضاء المتن مرّة أخرى- لا يقل أهمّيّة، وذلك بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفيّة على مجمل الخطاب الإسلامي في السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن العشرين”. (هكذا تكلّم ابن عربي، ص26).

ويولي المتصوفة في دعوتهم لدين الحبّ اهتماماً بالغاً بقيمة الجمال وأثره في الارتقاء بالحسّ والذوق الفني للإنسان، ويؤكّدون ذلك عبر حضورهم الواسع في مجالات الفن والثقافة والحياة الاجتماعيّة بشكلٍ عام وهم يقرأون الحديث النبوي: “الله جميل، يحبّ الجمال” بطريقتهم الفريدة في قراءة النصوص، إذ يعلّق ابن عربي على ذلك الحديث بقوله: ” إذا كان الله يحبّ جمال الصور فلأنها مرآة جماله مثلما هي مرآة الوجود”.

ويؤكّد الرومي إنَّ تأمّل الجمال الذي هو مرآة لجمال الله يسهم في تشبّع المتأمل بالقداسة التي لها أثرها الإيجابي على الروح وأنّ الفن المستند إلى الجمال يسهم في إعادة خلق للجمال من منظور بشري له دلالته في الارتباط بالجمال بمعناه الإلهي المقدّس.

ونود أن تختم هذا المقال باقتباس بالغ الدقة والإيجاز للدكتور عبد الجبار الرفاعي في حوارٍ أجرته معه مؤسّسة الفكر الإسلامي، حيث يقول: “إما التصوف المعرفي الفلسفي والعرفان النظري فإنه أنتج قراءة للنصوص خارج إطار المناهج وأدوات النظر الموروثة، التي اخترعها الشافعي والأشعري وغيرهما، ثمّ أضحت مقدّسة، ومنح المسلم أفقاً رحباً في التأويل، وإنتاج قراءات تتوالد منها على الدوام قراءات حية، في فضاء يواكب متغيرات الحياة.. والخلاص من توثين الحروف وإهدار المقاصد، والتمسّك بالأشكال ونسيان المضامين، والغفلة عن الحالات والغرق في الصفات.. كما أعاد التصوف المعرفي الفلسفي والعرفان النظري الاعتبار للذات المستلبة، والعالم الجواني المطموس للشخص البشري، وعبّد دروب القلب في رحلته الأبدية نحو الحق تعالى، وانشغل بإرواء الظمأ الأنطولوجي للروح ..” (تاريخ الحوار 13/2/2015).

وخلاصة ما نود التوصّل إليه أننا بحاجة لإشاعة هذا الدين الذي سيستظل به الجميع وبملء إرادتهم آمنين مطمئنين، والترويج له من خلال المناهج التربويَّة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والندوات والحوارات والبحوث والدراسات، والأهم من كل ذلك أن يتمّ تناول رواد مدرسة دين الحبّ من خلال الفن المرئي والمسموع كالسينما والمسرح والتلفزيون لأنها الأقرب للناس والأكثر تأثيراً في المتلقي، فكما يتمّ إنتاج عمل درامي ضخم عن الحجّاج ينبغي أن يكون هنالك عمل أضخم منه عن الحلاج، وكما يتم تناول عمرو بن العاص في مسلسلٍ طويل يتوجّب أن تكون هناك مسلسلات تعكس الفكر الفذ والحياة المعطاء والمواقف التاريخيّة لرواد التصوف كابن عربي وجلال الدين الرومي وأمثالهم، ويمكن من خلال مشروع كهذا أن تتراجع نزعة “دين الكراهية والعدوان” وأن تتلاشى لأنها تفتقر لمنطق وجاذبية ومشروعية دين الحب، ولعل من بيدهم الأمر أن يهتدوا بالقول الذي معناه الإجمالي إنَّ انتصار أهل الباطل لا يتأتّى إلا من تقاعس أهل الحقّ.

جديدنا