قوَّة التعليم

image_pdf


احتلَّ على الصفحة الرئيسيَّة لصحيفة الـ”تايمز” اللندنيَّة خبر أثار انتباهي حقّاً، إذ جاء فيه أنَّ المتحف البريطاني سمح بإعارة إحدى منحوتات البارثينون الرخاميَّة إلى متحف “إرميتاج” في سان بطرسبرغ في روسيا.
لعل الخبر دفعني إلى البحث عن الكيفيَّة التي ظهرت بها الاعمال الفنيَّة في هذا المتحف الذي تأسّس عام 1764 في عهد كاثرين العظيمة الذي مكّن روسيا من المشاركة في فترة التنوير الأوروبيَّة.
ولا بدّ من التأكيد على استمراريَّة رمزيَّة هذا المكان في فترة ازدادت فيها المخاوف من اندلاع حرب باردة جديدة بين موسكو والغرب. بالمقابل يؤمن نيل ماكجريجور، مدير المتحف البريطاني، بأنّ العلاقة مع المتاحف هي المثال الشاخص على دور الثقافة وقوّتها في بناء الجسور بين الأمم، والذي يعدّ أمراً مهمّاً في أوقات يزداد فيها التوتّر والتمزّق السياسي.

تمّت استعارة الشكل الشبيه بالإله ليكون رمزاً يمثِّل نهر إليسوس؛ وهو أحد الأنهار التي نبعت بالقرب من روما في العصور القديمة. وهنا تحديداً ووفقاً لأفلاطون (كما يصف ماكجريجور) فإنَّ سقراط وفيدروس قد تحدّثا تحت ظلال أشجار الدلب التي نبتت على ضفاف النهر، حيث بحثا قيمة الجمال وأخلاقيّة الحبّ. وعلى هذا النحو فإنّ القيم الرئيسيَّة للحوار والنقاش قد تمثّلت في يومنا هذا في تحقيق المثل العليا للاستفسارات الفكريَّة والحرّيَّة السياسيَّة، وهي رموز بليغة وعميقة، وتعدّ من القيم الأساسيَّة في أثينا القديمة وفي التنوير الأوروبي.

الآن، لا أرغب في أضعاف نقطة ماكجريجور حول قداسة الجدليَّة، بل على العكس تماماً، فمن باب البديهيَّة أنَّ أخذ كلامه كمثال على ما أريد قوله عن قوّة التعليم. بالرغم من ذلك فإنّه من الجيّد أن نتذكَّر بأنَّ سقراط قد تمَّ إعدامه لكونه (حسب ما ذكر أفلاطون) كان نقطة الإزعاج للدولة آنذاك، أيضاً فقد كان المصدر الرئيسي لحشد الجماهير وتحريكها، وأخيراً كان شوكة في جسد الدولة. لذا فإن المفكّرين الأحرار كضياء الدين سردار الذي كتب في مقدّمة مقاله “نقد المسلم”: أنَّ المفكّرين الأحرار يتمّ النظر إليهم باعتبارهم الخطر الحقيقي الذي يتحدّى التفكير التقليدي والأرثوذكسيّة ووجهات النظر السائدة، وأضاف إنها نتيجة غير مفاجئة من خلط ورق اللعب. في حالة سقراط، فإن الأثينيّين المشهورين كانوا يبدون حمقى أمام حكمته المتناقضة نوعاً ما، وقد كانت واحدة من جرائمه كفيلسوف وناقد اجتماعي وأخلاقي أنه كان عديم التقوى من وجهة نظر الدولة، إذ أنّه لم يؤمن فقط بالآلهة السائدة في تلك الحقبة.

نحن بحاجة لأن نأخذ بنظر الاعتبار أنّ سقراط لم يكن مجرّد شخص ذاتي التحفيز وعامل محرّض للعامّة، ومفتوناً بذكائه وأفكاره الخاصَّة، أو إبداعيَّة نهجه وميله للراديكاليَّة، ولا حرّيّة فكره والتفاته لبناء أيدولوجيَّة عقائديَّة يفترض من خلالها الوقوف ضدّ الخرافة في الدين. ولو كان سقراط بيننا اليوم، لنشاهده في موقف غير متّفق مع قواعد النقد المحايد، ولكان خانعاً أمام النصر الذي حقّقته قيم التنوّر أو العلمانيَّة الإنسانيَّة أو المادّيَّة العلميَّة أو أيّة أصوليّات أخرى، سواء كانت علمانيَّة أو دينيَّة. وفي النهاية فإن سقراط يعدّ آخر شخص من الممكن أن يكون نرجسيّاً، ليس فقط لأنّه لا يمتلك أي اهتمام بأن يكون بمكانة اجتماعيَّة أو شعبيَّة متميّزة، ولكن لأنّه كان دائماً يعترف بأنّه لا يزال يجهل الكثير.

إدراك الإمكانات البشريَّة

أعتبر شخصيّاً أنَّ بديهيّة التعليم النوعي (جودة التعليم) لا يمكن أن تستند إلى فهم ناضج من مجموعة كاملة من القوى والملكات البشريَّة. المادّيّة والحسّيّة والمعرفيَّة، الإدراك، الخيال، الوجدانيَّة والأخلاقيَّة والروحيَّة- وإذ تضع في الاعتبار أنّ من المنظور الروحي كل هذه القوى والملكات هي أوقاف الهية “وليس هناك سلطة ولا قوّة إلا بالله وحده”.
مفهوم وممارسة التعليم الشمولي، وبتعبير أدق الكلي أو المتكامل، هو جزء لا يتجزّأ من الرؤية الشاملة لملكات الإنسان في الإسلام، فالنصائح المتكرّرة في القرآن لاستخدام الملكات أتيحت لنا لتحقيق المعرفة وإدراك الحقيقة، وتشمل هذه الحواس التي تمكّننا من التعلّم عن طريق الملاحظة المباشرة والخبرة، وكذلك من خلال التعليمات على أساس اللغة التداوليَّة أو عقلانيّة الملكة (العقل) والتي تمكّننا من التفكير والاستفسار والتحليل والانخراط في عمليّة جدليَّة.
هل الإبداع جانب من جوانب الامتياز والتفوّق البشري أو ما يجري تصوّره باعتباره مجرّد براعة من دون أي اعتبار أو فكرة للأغراض التي يتمّ استخدامها؟
هناك فارق مهم بين الاحتراف والامتياز .. المافيا على سبيل المثال فيها رجال محترفون للقتل، هل بالإمكان القول بإنهم من المحترفين الجيّدين. الفرق هو أنّ جوهر الامتياز ليس مجرّد الإتقان الشخصي للمهارة أو الفاعليَّة في إنجاز مهمَّة، بل يشمل تميّز شخصيّة الإنسان التي تملك بعداً أخلاقيّاً، وفي نهاية المطاف البعد الروحي.


كتاب هاري لويس “تميّز بلا روح” يوجّه نقداً قويّاً للتعليم العالي في أمريكا، فحرم الكليَّة أصبح للحفلات المستمرَّة، والكثير من يلقي اللوم على الطلبة أنفسهم، ممّا يوحي بأنّ هذا الجيل كسول وهدفه الترفيه والمتعة ولا يهتمّ بأي شيء آخر سوى ذاته. ووفقاً للويس “لقد نسيت الكليّات في أمريكا أنَّ المهمَّة الأساسيَّة للتعليم الجامعي هي تحويل المراهقين إلى راشدين، لمساعدتهم على النمو ولمعرفة من هم، للبحث عن الهدف الأكبر في حياتهم، ومغادرة الكليَّة كبشر أفضل”.

مهمّة التعليم

ويرى لويس أنَّ الكليّات فشلت في تدريب الطلبة حول أسباب التعليم الذي يفترض من الطلبة العراك مع أسئلة أعمق في المعنى والغاية والغرض. على سبيل المثال لا الحصر لم تعد جامعة هارفارد تدرس الأمور التي من شأنها أن تحرِّر العقل والروح البشريَّة.

تأسّست جامعة هارفارد عام 1636 في كامبردج، ماستيوشيس، وهي أقدم مؤسّسة تعليميَّة في الولايات المتّحدة، فيما تعتبر جامعة كامبردج في إنكلترا أقدم منها، إذ تأسّست عام 1209، واقدم بكثير من الاثنتين هي جامعة القرويّين في فاس في المغرب التي تأسّست عام 859 والأزهر في مصر عام 970. جامعة هارفارد جاءت الرابعة في تصنيف الجامعات العالميَّة (كيو أس) والثانية في تصنيف (ذي أج اي) بينما كامبريدج جاءت الخامسة والثانية على التوالي. الجامعة الأولى كان معهد التكنولوجيا (أم أي تي) في ماستيوشيس وكاليفورنيا الثانية. الجامعة الأولى في العالم الإسلامي جاءت في موقع 151 وفقاً لنظام التصنيف ذاته، ولم تكن هناك أية جامعة من العالم العربي في تصنيف أفضل 200 جامعة.

في كثير من الأحيان تشير تلك الإحصائيّات إلى الجمود الفكري وقلّة إنتاج المعرفة في العالم الإسلامي، رغم التحفّظات التي لها ما يبرّرها حول صحّة التصنيف العالمي، فإنّ الترتيب هو مقياس عالمي معترف به على نطاق واسع عن جودة التعليم على المستوى الجامعي، ومؤشّر على وجود أزمة عميقة داخل المجتمعات الإسلاميَّة. وحتى مع، ذلك، فإنّ نقد أمثال لويس هي مهمَّة بغرض افتراض أنّ الدواء الشافي للتعليم في العالم الإسلامي هو مضاهاة دون تمحيص النماذج الغربيَّة، كما لو أنّ المعيار الرئيسي لـ”النجاح” في إلحاق البطة العرجاء” أي المؤسّسات الإسلاميَّة في الترتيب العالمي على النحو المحدَّد من قبل أنظمة الترتيب الدوليَّة والمعايير.

التعليم المتطوّر يقدّم لنا عمق واتّساع البصيرة التي تمكّننا من الرؤية التي تدفع البشريَّة نحو التطوّر على أكثر من صعيد للوصول إلى تكامل أفضل ما هو موجود في كل ثقافة وحضارة.
_______
*فصليَّة “المسلم الناقد” عدد 14، نيسان (أبريل) 2015.”بتصرّف”.

جديدنا