مأزق التعليم الديني وحتميَّة إصلاح المناهج وآليّات العمل

image_pdf



عرَّت الأحداث التي شهدتها المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة في السنوات الأخيرة، واقع التعليم الديني في هذه المنطقة، حيث اتّضح أنَّ مناهج هذا الأخير تعاني من مرض مزمن لم يتمّ التغلّب عليه وعلاجه منذ عقود عديدة، إنّه مرض الجمود والتكلّس وتكرار المناهج ووسائل العمل ذاتها، الشيء الذي أبقى على نفس الآليّات ونفس طرق التفكير ونفس المنهجيّات التي تمّ اعتمادها منذ البدايات الأولى لتأسيس التعليم الديني، بعدما حصل على نوع من القداسة والاحترام المبالغ فيه من طرف المشتغلين عليه خصوصاً، وعامّة الناس على وجه العموم، وذلك بسبب ارتباطه بالدين الإسلامي والقرآن وتراث المسلمين، ممّا أدّى إلى تشكّل مقاومة داخليَّة لأيّة محاولة لإصلاحه، بدعوى الخوف من تحريف المناهج والزيغ عن الطريق السوي الذي اتّبعه الأسلاف في مرحلة التأسيس، لذا فأي إصلاح في المناهج أو آليّات العمل سيكون بمثابة التهديد الكبير الذي سينال من سلامة هذا التعليم، بل يهدّد، حسب زعم الحرس القديم في المدارس الدينيَّة، عقيدة المسلمين وروح انتمائهم، كونه، وفقاً لاعتقادهم، مرتبطاً بالعقيدة ولا يجب أن يتغيّر، لأن العقيدة لا تتغيّر، فأي تغيير أو تجديد لهذه المناهج سيشكّل خطراً حقيقيّاً على عقيدة المسلمين وتدينهم وارتباطاتهم الروحيَّة والإيمانيَّة.

هذا التفكير ظلّ مسيطراً على المشتغلين في حقل التعليم الديني عند المسلمين مئات السنين، ممّا عكس حالة من الجمود والخوف المبالغ فيه على سلامة هذه المناهج، وكذا عقيدة المسلمين، ولعلّ من أبرز الصور تؤكِّد هذه الأشياء، أنّ منظومة التعليم الديني لم تتغيَّر وتتطوّر، وظلّت متمسّكة بالمناهج التي وضعها المؤسِّسون، كما أنّ المدارس الدينيَّة ظلّت تقاوم التطوّرات الجديدة سواء على مستوى المناهج أو المستوى التكنولوجي، ممّا جعلها تتأخّر عن ركب التعليم الحديث بسنواتٍ عديدة، اللهم إلا إذا استثنينا هنا بعض المحاولات الجادّة التي عملت على تطوير هذه المناهج وجعلها إلى حد ما حديثة، رغم استمرار جيوب المقاومة التي تحذِّر من هذه الإصلاحات التي يعتقد رافضوها أنّها في طريق النيل من التعليم الديني وجعله مثل أنواع التعليم الأخرى، التي يعتبرونها حادت عن مسارها الصحيح، وساهمت في المشاكل التي يعاني العالم الإسلامي بشكلٍ واضح، بل إنّ بعضهم يذهب بعيداً في وصف المناهج التعليميَّة الأخرى بأنّها غريبة وأنه تمّ استيحاؤها من مناهج علمانيَّة، ستكون لعمليَّة تطبيقها نتائج وخيمة على أبناء المسلمين وبناتهم ونسيجهم الاجتماعي والثقافي.

في المقابل يعتبر أصحاب اتّجاه إصلاح التعليم الديني، أنّ عدم الإصلاح، ستكون له تكلفة غالية جداً، وقد استدلوا على ذلك بما وصل إليه شباب المسلمين من وحشيَّة وتطرّف سببه الرئيس هو التعليم الذي تلقّوه في مناهجهم الدراسيَّة والدينيَّة منها على وجه الخصوص، فالشواهد كثيرة على أنّ التعليم الديني الجامد وغير المتطوّر، كان له الدور الأساس في الترويج لعدد من الأفكار المدمّرة التي أدّت إلى كل هذه الأحداث العنيفة والمتطرّفة التي أساءت كثيراً إلى المسلمين في كل بقاع العالم، وجعلتهم المهتمّين الأوائل في جعل هذا العالم غير مستقرـ من خلال قتل للأبرياء المسالمين، ونشوء تنظيمات متطرّفة احتلّت أجزاء من دول قائمة كالعراق وسوريا وليبيا وغيرها من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

أزمة التعليم الديني في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، لا تقتصر فقط في التعليم الأساسي والابتدائي والثانوي، وإنما أيضاً تشمل التعليم الجامعي والعالي، الذي ينتج في أغلبه النخبة في هذا المجال، فجل المناهج الجامعيَّة اتّسمت بجمود كبير، وعدم توفرها على تطبيقات عمليَّة يمكن أن تجعل تفسيرات وأفهام هؤلاء الخريجين منفتحة على أفكار جديدة، وعلى تصورات جديدة لتأثير إيجابي وعلمي على من يتلقون هذه المناهج من أفواه المتخرّجين، وهو ما لم يحدث للأسف الشديد، حيث ظلّت المنظومة جامدة ويتمّ نقلها بكل حذافيرها دون تغيير أو تطوير يتلاءم مع تطورات العصر واختلاف بنياته المجتمعيَّة والفكريّة، ممّا أدّى إلى تشكيل تصوّر موحّد غير قابل للتغيير والاختراق بدعوى الحفاظ على الدين من التحريف والتزوير، وهو أمر أدخل الجميع في مأزق حقيقي عندما أصبحنا نرى أناساً يقتلون باسم الله والدين، ف يحين خلت مناهجنا التعليميّة ممّا يساعد على ردّ هذه الأفكار، وهو الشيء الذي جعلنا نقف في منطقة رد الفعل، مبررين قولاً لا عملاً، رفضنا لكل تلك الأعمال رغم عدم قدرتنا على المواجهة العلميّة المبنيّة على منهجٍ علمي قوي يردّ على الاتّهامات التي تتّهم المسلمين ودينهم بإنتاج أفكار تدمّر الإنسان والحضارة.
تبقى الإشارة إلى أنّ المشتغلين على التعليم الديني في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، يجب أن يتخلّصوا من معضلة صاحبتهم في العقود الأخيرة، وهي إيمانهم بأنّهم الحرّاس الشرسون لهذا التعليم من تربّص المتربّصين من الغرب والشرق، فاستمرار الإيمان بنظريّة المؤامرة، خاصّة في مجال التعليم لن يدفع بتطويره إلى الأمام، فالمسؤوليَّة الحقيقيَّة في تطوير مناهج التعليم الديني تقع علينا نحن، وليس على أي جهة أخرى، نحن من سيعطي المناعة لتعليمنا الديني عبر تطويره بصورة حقيقيّة يجعله مرافقاً ومتناغماً مع التطوّر الذي يحدث حولنا، أمّا الاعتقاد بفكر المؤامرة فلن يساهم إلا في المزيد من الجمود والتخلّف والانتظاريّة التي تكبّل عقول المسلمين منذ مدّة طويلة، ففكر المؤامرة هذا يضرّ بنا نحن أولاً كمسلمين لأنّه لا يساعدنا على تطوير أنفسنا بأنفسنا، بعيداً عن أي فكر آخر نعتقد أنّه يتربّص بنا ليبعدنا عن ديننا وعقيدتنا، فيما نحن الذين نساهم فيها بشكلٍ كبير بسبب انغلاقنا على أنفسنا وعدم امتلاك آليّات للارتقاء والسمو بتعليمنا إلى مستوى مشرّف.

حاجة التعليم الديني أصبحت اليوم ملحّة جداً إلى مناهج حديثة، تدفع بتغيير الأفكار والوسائل والمناهج التي لم تكن قابلة للتطوّر من قبل، مناهج يجب أن تجعل الإنسان في أوّل أولويّاتها، فالمطلوب أن تعمل على منح الإنسان آليّات جديدة للإبداع والتطوّر، كما أنّه أصبح من المطلوب بشكل ملح، التأسيس لمنهج جديد يراعي التطوّر الكبير الذي وصلت إليه البشريَّة في شتّى المجالات، تطوّر يفرض بلا شكّ وقفة متأنيَّة عند مناهج التعليم الديني المطلوب منها ان ترافق هذا التطوّر وتجعل الفهم الديني للمسلمين حديثاً ومعاصراً، وذلك في أفق أن يلتحق المسلمون بالركب وصناعة الحضارة كما هو حال عدد من الأمم الأخرى التي تصالحت مع نفسها، عبر تغيير وإصلاح مناهج التعليم الديني لديها، ووضعتها على ركب التطوّر والتغيير، ما دفعها إلى الازدهار في كل المجالات الأخرى، بسبب تحرّر الأذهان من القراءات القديمة والجامدة للأشياء، وهو ما ساهم بشكلٍ كبير جداً في التأسيس لعقل جماعي ومنفتح وقابل للتغيير والتطوّر الدائم.

أزمة التعليم الديني في المنطقة العربيّة والإسلاميّة، ستراوح مكانها ما لم تتوفّر الإرادة الحقيقيّة لدى المسؤولين على قطاع التعليم الديني في التأسيس لإصلاح جذري للمناهج، لأنّه من دون إصلاح حقيقي ستبقى الأمور على حالها، وسنبقى نعاني من تبعات تعليم ديني وجامد ومنغلق على نفسه، يؤثّر بشكلٍ سلبي على أصحابه وحملته والمدافعين عنه قبل الآخرين.

جديدنا