التنوير بين الشرق والغرب وجدليَّة التغيير

image_pdf

 

يثيرُ عنوان “العلوم الإنسانيَّة والتنوير”، شغف السؤال، خصوصاً وأنَّ ولادة هذه العلوم التي نتكلَّم عليها بالجمع جاءت متأخِّرة – هناك من يجعل ميلادها يتحدَّد بالقرن التاسع عشر وهناك من يجعل بعضها متقدِّمة وموجودة بالقوَّة في علومٍ سابقة وهناك من يؤخِّر استقلال بعضها- ولو سألنا العلوم الإنسانيَّة: “علم الاجتماع” و”علم النفس” و”الانثروبولوجيا” … ودورها في التنوير، ولو صاحبنا أوغست كونت باعتباره رائداً للسوسيولوجيا، وسيغموند فرويد كمؤسِّسٍ للتحليل النفسي، وكلود ليفي ستراوس باعتباره رائد الدرس الانتروبولوجي وملامسته لمشروع التنوير بشكلٍ مباشر، لوجدنا أنفسنا نسلك الطريق الأصعب في التماس جوابٍ شافٍ عن الخلفيَّة النظريَّة لعصر التنوير. ولكن ماذا لو ولجنا رحاب الفلسفة وصاحبنا الفلاسفة ونحن نقتفي آثار مشروع التنوير؟ ألا نكون غادرنا مجال العلوم الإنسانيَّة ودخلنا رحبة الفلسفة، إذا ما امتطينا هذا السؤال وسلكنا منحاه؟

تدفعنا الأسئلة التي طرحناها سابقا إلى طرح موضوع “الفلسفة والتنوير”، ونكون بالتالي تجنّبنا جدلاً تاريخيّاً حول جدليَّة وسم العلوم الإنسانيَّة بالعلميَّة؟ وما نسبة العلوم الإنسانيَّة إلى العلوم الحقَّة؟ وما مدى دقَّة العلوم الحقَّة؟ أليست العلوم الحقَّة نفسها، إنسانيَّة وتهتمّ بمجالات بحثيَّة وظواهر تهمُّ الإنسان؟

إنَّ رجل الفلسفة لا يجد حرجاً وهو يتعامل مع سيغموند فرويد ومعه بيير بورديو وبيير كلاستر… كفلاسفة ويجرّ إلى رحبته كل المفكِّرين. إنَّ دارس الفلسفة لا يتخلَّى عن أدواره التاريخيَّة، ولو كنا في زمن التخصُّصات. غرضنا هنا ليس الحديث عن الفلسفة والعلوم الإنسانيَّة والعلوم الحقَّة، ولكنّنا نهدف إلى طرح مشروع التنوير في رحبته التاريخيَّة التي ترتوي بأنهار معرفيَّة متعدِّدة، خصوصاً وأنَّ استعمال العلوم الإنسانيَّة في مقابل العلوم الحقَّة يثير في نفوسنا نوعاً من التأفّف؛ نظراً لغياب الاكتفاء الموضوعي للدلالة والتحديدات التي تُقدَّم لهذه العلوم.

لقد حصل ووقع الناس في اضطراب، نتيجة الالتباس الذي حصل في أذهانهم وقلوبهم بصدد مفهوم التنوير. لهذا فكَّر الفلاسفة في منطق التنوير وعملوا على تحديد دلالته ورسم حدوده، وذلك بمساءلة ما التنوير؟ صحيح أنَّ مشروع التنوير هو سيرورة تاريخيَّة متعدِّدة الأوجه: دينيَّة وفكريَّة وسياسيَّة وعلميَّة، إلا أنَّ الفلسفة رفعت ما أنجز تاريخيّاً في مجالات متعدِّدة وكل ما كان يصبّ في تدشين عصر للأنوار _ وعبره تمَّ تحديد دلالة جامعة لما هو التنوير؟ بهذا التدقيق صار منطق التنوير يفرض نفسه كونيّاً  كأقصى ما وصلت إليه الإنسانيَّة في نظرتها للإنسان والكون والخالق. ولكن ما علاقتنا نحن المسلمين بمكتسبات عصر التنوير؟ وما نصيبنا فيه ومنه؟

  لقد تهيّأت الظروف الذاتيَّة والموضوعيَّة للغرب الأوربي لتحقيق العديد من الإنجازات والثورات التي مكّنته من القطع والانتقال تدريجيّاً من الظلام إلى النور، هذا الأخير وإن بدا لنا على أنه وضعيَّة وحالة إلا أنّه سيرورة. إنَّ التنوير كما يقول امانويل كانط في مقالته المشهورة بعنوان “ما هو التنوير؟ “هو خروج الإنسان من القصور الذي يرجع إليه هو ذاته. القصور هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه دون قيادة الغير. يكون هذا القصور راجعاً إلى الذات، إذا كان سببه لا يكمن في  غياب الفهم، بل في غياب العزم والجرأة  على استخدامه دون قيادة الغير! Sapere aude ، تجرّأ على استخدام فهمك الخاص! هذا إذن هو شعار التنوير.” الأمر يتعلَّق كما يقول الأستاذ المصدق بعملية أو سيرورة يتمّ في إطارها نشر العلم والمعرفة المستندة إلى العقل، والتحرُّر من الأحكام المسبقة والمعتقدات المستندة إلى مختلف أشكال السلطة. نضجت هذه الصيغة التعبيريَّة عن التنوير بعد مسيرة من النقاشات والمجادلات، شملت قضايا ومجالات متعدِّدة متعلّقة بموقف الإنسان من حاضره ومستجدّاته، والماضي ومكتسباته.

بعد الثورة الصناعيَّة وما رافقها من تحديث في الآلات والتجهيزات التي اقتحمت مجالات متعدِّدة، مروراً بالإصلاح الديني مع مارتن لوثر وجان كالفان، وصولاً إلى الثورة الفرنسيَّة والإطاحة بالنظام الاقطاعي ورفع شعارات “حريَّة، مساواة، إخاء” …يكون الغرب الأوربي قد دشَّن لعصرٍ جديد، الذي راح منطلقاً على أسس جديدة. ولكن ما طبيعة هذه الأسس التي تحدُّ نمط التفكير الحداثي والمتنوِّر، قبل أن نبحث حظّنا فيها ومنها؟

   عن هذا السؤال يجيبنا محمد أركون قائلا “حينما أعود إلى اسبنوزا وديكارت (وأرى) ماذا فعلا في القرن السابع عشر؟ (أرى أنَّ) ما فعلاه لا يُقدَّر بثمن؛ لقد أعطيا الاستقلاليَّة الذاتيَّة للعقل البشري وللذات البشريَّة بعد أن انتزعوها انتزاعاً من براثن العقل اللاهوتي القروسطي.” الأمر متعلِّق بتنصيب العقل في القمَّة، وفكّ ارتباطه بأي سلطة خارجيَّة تعطِّل فعاليته وقدراته. وهذا ليس بالأمر المتاح والسهل، لأنه يتطلَّب جرأة وتشبّعاً بقيمة الحريَّة، واعتبار العقل أعدل قسمة موزَّعة بالتساوي بين الناس. وتزداد هذه المهمَّة تعقيدا وخطورة في مجتمعات تحاصرها كثرة الخطوط الحمراء و”التابوهات” والسلط الخارجيَّة التي تراقب عمل العقل وتحدُّ استعمالاته، خصوصاً عندما تكون خطوطاً وحدوداً مقدّسة شأن الأوضاع عندنا في بلداننا الإسلاميَّة. هذه الأخيرة التي نهضت متأخِّرة على طلقات الدبابات الأروبيَّة وهي تحط على سواحل أغلب شواطئنا.  فكانت الصدمة، عندما انكشف لنا حجم التأخُّر والعزلة عن العالم.

  كانت الحملة الفرنسيَّة على مصر (1798م)؛ كما يقول محمد عمارة “بمثابة الزلزال الذي أحدثَ صدمة حضاريَّة لدى المصريين. لقد شابهت صدمة اللص الذي نبَّه صاحب الدار على الخلل البنيوي القائم في المنزل الذي يعيش فيه.” هذا الخلل يكمن في المفارقة التي تتربَّص وتحاصرنا إلى يومنا هذا بين منظومة دينيَّة إسلاميَّة ما فتأت تتغنَّى بالعقل والعقلانيَّة، وواقع متخم بمظاهر التأخّر واللاعقل على مستوى السلوك ونمط التفكير ونظرة الإنسان لذاته وللكون وللخالق. في هذا السياق برزت على الساحة الإسلاميَّة مجموعة من الجهود والمشاريع، استأنفت النظر والبحث محاولة الانخراط والمساهمة في المسيرة الحضاريَّة للبشريَّة، دون أن تنتبه أغلبها إلى أنَّ ما حصل من تنوير أو حداثة هو إنجاز كوني لجهود متعاقبة ازدهرت أحياناً هنا، وأحياناً هناك.

رغم اختلاف منطلقات ومرجعيّات وأسس المشاريع النهضويَّة الإصلاحيَّة، إلا أنها تعترف بما تحقَّق في الضفَّة الأخرى من الغرب الأوربي ودور الفلسفة وباقي العلوم. وراحت الجهود تتوالى للاستفادة من المناهج المعاصرة في دراسة الظواهر ونقل الخبرات لتحسين جودة المؤسَّسات التربويَّة والتعليميَّة، وتحديث مضامينها وتطوير منهاجها. وتمَّ إحداث أقسام بالجامعات لدراسة “العلوم الإنسانيَّة” و”الفلسفة” التي ما زال تعميمها متعثِّراً في بعض البلدان الإسلاميَّة التي تعتبرها خطراً يهدِّد نسيجها الاجتماعي، وتختزلها لتقيم تعارضاً بينها (الفلسفة) وبين الملّة والقيم التي تنصِّب نفسها حارسة لها.

هنا مربط الفرس، وهذا هو الجزء الكبير من كبوتنا. إذ بعدما قصدنا في الفقرات السابقة الوقوف بشكل مبسَّط وخاطف على دور الفلسفة والأسس النظريَّة لمشروع التنوير وعصر الحداثة، وأكَّدنا على البعد التاريخي والتراكمي للفكر الإنساني دون إقصاء مساهمات مختلف الثقافات والحضارات. يواجهنا هذا الواقع الذي يعيش تمزُّق وصراع الخيارات والمنطلقات – من إديولوجيا ليبراليَّة مروراً بأخرى اشتراكيَّة، وأخرى سلفيَّة، وصولاً إلى إديولوجيا منغلقة قاتلة. عبر هذه الإديولوجيّات نكون نتنقَّل بين نماذج مختلفة من أنماط التفكير وأشكال مجتمعيَّة تزداد إمَّا انغلاقاً مع هذه الإيدولوجيا، وانفتاحاً مع الأخرى – من مجتمعات مضيافة ومتسامحة، إلى أخرى واحديَّة البعد ومتوجِّسة تجاه الآخر المختلف.

إذا كانت الفلسفة تاريخيّاً هي الأم التي انفصلت عنها مختلف العلوم الإنسانيَّة، وإذا كنا لا نجد لها أثراً في بعض البلدان الإسلاميَّة، فإنَّ حضورها في باقي البلدان من داخل الجامعات والفضاء العمومي يبقى دون الأثر المرجو بالمقارنة مع دور الفلسفة الريادي في خلخلة البنى الثقافيَّة المتكلِّسة في الغرب الأوربي. ويلاقي الدرس الفلسفي في مختلف البلدان الإسلاميَّة مجموعة من العراقيل، ويبقى تعاملنا مع تاريخ الفلسفة انتقائيّاً، وتحدّده التوجهات الإديولوجيَّة للدولة. وهذا ما يفسِّر مختلف أشكال المضايقات التي مارستها أطراف معيَّنة باسم السلطة الرسميَّة للدولة أو باسم سلطة المقدّس (لأصحاب الإسلام السياسي) على الفكر الحرّ والعقلاني. ونذكر في هذا الصدد محاكمة “نصر حامد أبوزيد”، واغتيال “فرج فوده”، واغتيال المفكِّر “مهدي عامل”… ولكن، قد يقول قائل إنَّ تاريخ الفلسفة في الغرب الأروبي، لا يخلو من هذه المضايقات وثمن التنوير والحداثة كان مكلّفاً ومرَّ بمخاضات عسيرة؟

لا يمكن لشخص عاقل أن ينكر هذا الأمر، بحيث سيتذكَّر المضايقات على باروخ اسبينوزا الذي نشر بعض كتبه باسم مستعار، ومحاكمة العالم “غاليلي” وإحراق “جيوردانو برونو” و”كارل ماركس” الذي قضى جزءاً من حياته هارباً متنقّلاً من هنا إلى هناك. ولكن هل يكون هذا قدر التفكير الفلسفي الذي لا يمكن تجنّبه؟ يمكن القول إنَّ ثمن التغيير يكون دائماً غالياً سواء على مستوى خلخلة البنى الفكريَّة أو الاجتماعيَّة، وهذا ما يحيلنا على العلاقة الجدليَّة بين “العلوم” والإديولوجيا. وهي الإشكاليَّة التي عالجها لويس التوسير في قراءته البنيويَّة لمشروع كارل ماركس، عندما ربط مهمَّة الفلسفة برسم الحدود والتمييز بين المثاليَّة والماديَّة سواء على مستوى العلوم أو الفلسفة هذه الأخيرة التي تصير بمهمّتها هذه “سلاحاً ثوريّاً”.

   بهذا الكلام الأخير، نكون قد وصلنا إلى نقطةٍ مفادها، أنَّ كل فكر ينخرط ولا ينفلت من الإديولوجيا، خصوصاً وأنَّ هذه الأخيرة لا تكشف عن نفسها – إنها لا ترفع يدها لتصرخ قائلة: “أنا إديولوجيا”. وهذا حال العلوم الإنسانيَّة من داخل البلدان الإسلاميَّة، فهي إمَّا مناضلة وواعية بمهمّتها التاريخيَّة، وإمّا محافظة ومتواطئة لخدمة استقرار الأوضاع، وبالتالي دوام العلاقات والمصالح نفسها.

__________
[1]  امانويل  كانط ، ما هو التنوير ؟، ترجمة، إسماعيل المصدق، ص. 2.

[1]  محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هشام صالح، دار الطليعة، بيروت، 1998، ص. 316.

[1]  محمد عبدة، الكتابات السياسية، تقديم محمد عمارة، سلسلة كتاب الدوحة 23، ص.7.

جديدنا