الإنسان هو المقدَّس

image_pdf

 

يلحظ القارئ في تاريخ الأديان والمعتقدات أن أغلب الأماكن المقدسة تقع في أماكن مرتفعة، يستشعر فيها العابدون قربهم من السماء، وتتصل هذه المقدسات بأسباب مخصوصة تلحق بالمكان، وتضفي عليه معاني القداسة والتبجيل. وغالبًا ما تتصل تلك المعاني بقوى غيبية عظمى، أو أحداث بَدْئيّة وقعت قبل خلق العالم، أو اتصلت بالبحث عن الخلود والسعادة العظمى، أو الاعتقاد بأن ذلك المكان هو أول ما خلق الله ويمثل مركز العالم وسُرّة الأرض. والمكان المقدس هو بيت الإله الذي يتجلى فيه، وهو يتصل بالسماء على نحو استثنائي، فمن خلاله يمكن الصعود إلى السماء، وهو أيضًا يرتبط بالفردوس وأحداث نهاية العالم.

 

تمثل مكة استثناءً نادرًا، فهي تقع في منطقة منخفضة: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37]. ولعل هذا الاستثناء يجعلنا أكثر حذرًا في إطلاق التعميمات، والبحث في أسباب القداسة المحتملة. ويشير القرآن إلى أن الغاية من وجود الكعبة هي تحقيق مصلحة الناس جميعًا: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]. فصلاح شأن الناس وتحقيق منفعتهم، هو الغاية التي أوجد الله الكعبة من أجلها. وعند العرب القدماء كانت الكعبة مكانًا يحتمي به المظلوم والضعيف والخصوم والهاربون من الانتقام، كما قال الطبري في تفسيره: “كان الرَّجُل لو جَرَّ كلَّ جريرة ثم لجأ إلى الحَرَم، لم يُتناوَلْ ولم يُقْرَب”. فالمكان المقدس هو “حرَمٌ”، والحرم هو المكان الذي تُحترم فيه حياة الناس، ويُحظر فيه حتى المساس بحياة الحيوان أو النبات.

ليس المكان المقدس مقدسًا لذاته، وإنما لِعِلّة خفيَّة تتصل بإعلان العبودية والخضوع لمعاني القداسة الكامنة وراءها، وهذا ما نراه في قول عُمَر للحَجَر الأسود: “إني أَعْلم أنك حَجَر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلْتك” (رواه البخاري).

قد يسعى العقل إلى اكتشاف مضمون المقدس بعيدًا عن الالتباس بالقوى السحرية والحلولية التي تجسد الإله في المكان، لكن المخيلة الأسطورية القديمة بقيت حاضرة لإعطاء أبعاد غيبية عُلوية للمقدس، حسَبَ ما نجدها في المرويَّات الضعيفة التي تقول: “إنَّ الحَجر والمَقام ياقوتَتانِ من ياقوت الجنة طَمس الله نورَهُما، ولولا ذلك لأضاءَا ما بين المشرق والمغرب” (رواه أحمد)، ورواية “نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللَّبَن، فسوَّدَتْه خطايا بني آدم” (رواه الترمذي)، ورواية “أن لهذا الحجر لسانًا وشفتَيْن يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بِحقّ” (رواه ابن خزيمة).

ليس المكان “المقدس” نقيضًا للدنيوي “المدنس”، على اعتبار النظرة المَثنوِيّة التي جعلت العالم ساحة صراع بين إلهَيْن، فهذا المعنى يتنافى وأبعاد التوحيد الإبراهيمي. فالدنيوي يبقى متصلًا ومستغرقًا في مضمون المقدس، من خلال اعتباره أنموذجًا من الحياة السامية على الأرض.

هناك اشتباك بين المقدس واللامعقول في محاولة فهم سر القداسة، وقد تبدو هذه المحاولة يائسة دون الإيمان والتسليم، فالقداسة الحاضرة في المكان، تتصل بجذوة نور القدوس الأزلي الذي يعجز العقل عن الإحاطة به.

تتنوع أشكال المكان المقدس، فقد يكون المقدس جبلًا، نهرًا، شجرة، حَجرًا، أو حتى حيوانًا، ويُفترض في هذا المقدس أن يحظى بنوع من الحماية والخصوصية، اللَّتَيْن يمتاز بهما عن سائر الأشياء. ثم إننا نجد تنوعًا آخر في تعدد المقدسات المكانية ضمن الدين نفسه، أو تعدُّدًا بين عدة أديان في الاتفاق على قداسة مكان بعينه، كما هو الحال مع مدينة القدس.

ترتبط قداسة المكان المقدس بأخلاق المؤمنين به وسلوكهم. فعندما ينحرف الأَتباع ويَعتدُون، فإن المكان المقدّس يصبح ساحة للظلم والإجرام، كما قال المسيح لليهود: “يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إليها” [متَّى 23: 37]. وهذا الحط بالمقدَّس سبق للنبي إِرْمِيَا أن صرح بما هو قريب منه في قوله لليهود: “هل صار هذا البيتُ الذي دُعيَ بِاسمي عليه مَغارةَ لُصوصٍ في أعينكم” [إرميا 7: 11].

إن الإنسان هو المقدَّس الأعظم الذي من أجله قُدِّست الأماكن، وشُرِّعت الشرائع والشعائر، وعندما تسقط قداسة الإنسان وحرمته، فإن مكانة المقدس وحرمته تُصبحان قَبْض الريح.

 

_________
المصدر: تعددية

جديدنا