كتاب الثقافة الإسلاميَّة في الأردن (مراجعة نقديَّة)

image_pdf

تزايد الجدل في معظم الدول العربيَّة خلال السنوات القليلة الماضية حول سبل مراجعة وتحديث المناهج التربويَّة عمومًا والدينيَّة خصوصًا في مؤسَّسات التعليم الرسميَّة، على اعتبار أنّ المنظومة التربويَّة تشكِّلُ جوهر الإصلاح الفكريّ من جهة، والنهوض بالمجتمع وتنميته من جهة أخرى، و كإجراء عامّ يهدف إلى الارتقاء بالمنظومة التي تكوّن ثقافة المجتمع ومستقبله، وإجراء خاصّ يهدف إلى معالجة الاختلالات وثقافة الكراهية المتجذِّرة بالعقل والفكر العربيّ، والتي لا شكّ أنَّ مخرجاتها تعمل على تضييق مساحة قبول الآخر، وتساهم في قيادة ذاك العقل لارتكاب أشكال من العنف أحيانًا.

يتَّفق معظم الباحثين المنشغلين بالإصلاح الفكريّ عمومًا، والدينيّ خصوصًا، إلى أنَّ أزمة الفكر الإسلاميّ اليوم تعود إلى العلاقة مع الموروث الدينيّ وسلطة التلقين ومن ينقله إلينا من جهة، وإلى ما يحمله الموروث من شوائب تجمَّعت حوله عبر التاريخ من جهة أخرى، الأمر الذي جعل تلك الشوائب تشارك العقل وتقوده في فهم الدين، وبالتالي فإنَّ مشروع الإصلاح الدينيّ، يرتكز على العودة إلى المناهج في مرحلة التعليم الأساسيّ، لأهمّيَّة هذه المرحلة في مأسسة الثقافة الدينيَّة لدى الطفل والناشئ، والتي يَعُدّها خبراء التربية “مرحلة التأسيس الثقافيّ” وحجر الأساس الذي من خلاله تبدأ عمليَّة البناء المعرفيّ، وبالتالي فإنَّ الخروج من هذا المأزق؛ يكون بتحديث وإعادة بناء المناهج الدراسيَّة عمومًا، ومناهج التعليم الدينيّ خصوصًا، على أنَّ الأشجار تُسقى من جذورها.

 

يتَّفق معظم الباحثين المنشغلين بالإصلاح الفكريّ عمومًا، والدينيّ خصوصًا، إلى أنَّ أزمة الفكر الإسلاميّ اليوم تعود إلى العلاقة مع الموروث الدينيّ وسلطة التلقين ومن ينقله إلينا من جهة، وإلى ما يحمله الموروث من شوائب تجمَّعت حوله عبر التاريخ من جهة أخرى.

في الأردن؛ بدأت في الآونة الأخيرة عمليَّة تحديث للمناهج المدرسيَّة، بعد مطالبات متكرِّرة عبر  أصوات ثقافيَّة وتربويَّة شدَّدت على ضرورة تجديد المناهج التي عفَّى عليها الزمن، والتي لم تعد قادرة على استيعاب ومواكبة الحاضر والمستقبل، وبالفعل استجابت وزارة التربية والتعليم لهذا الحراك، وقامت بتشكيل لجنة علميَّة لتحديث المناهج، لحقتها موجة احتجاجات شعبيَّة واسعة من قبل أنصار التيّار الدينيّ، والتي  عَدَّت أنَّ إزالة بعض الآيات القرآنيَّة من الكتب؛ هجمة غربيَّة على الدين الإسلاميّ، ممَّا جعل وزارة التربية والتعليم تعيد النظر في التحديث، وبالفعل أصدرت مناهج حديثة لطلبة الثانويَّة العامَّة، وتمَّ اعتمادها للعام الدراسي 2017/2018، والتي أيضًا بعد مراجعة مقررات الثقافة الاسلامية فيها؛ نجدها بحاجة إلى تحديث لما تحمله من اختلالات، على الرغم من المواضيع الأخلاقيَّة والتعدُّديَّة التي نجدها مناسبة، وسنقوم في هذه المقالة،بعرض أبرز تلك الاختلالات، التي نجدها تقوّض العقل وتحدّ من التفكير الإبداعيّ.

 

لا يمكننا تجاهل هذا المشروع الإصلاحيّ، الذي يُعَدُّ حلًّا استراتيجيًّا، ولكن هناك جزءًا آخر لا يقِلّ أهمّيَّة، وهو المناهج الدينيَّة في المرحلة الجامعيَّة، ومرحلة ما قبل المدرسة، لكي تكون منظومة الإصلاح متَّزنة ومتكاملة؛ لا بُدَّ من إدخال هذه المراحل إلى مشروع الإصلاح التربوي عمومًا والدينيّ خصوصًا، حيث أنّ واقعنا لا يحتمل الانتظار أكثر، ولا يجب الارتكاز فقط على إصلاح مناهج المرحلة المدرسيَّة، حيث أنَّ المرحلة الجامعيَّة، هي مرحلة الشباب المثقَّف التي تتَّسِم بدايتها بمراهقة ثقافيَّة تحتاج توجيهًا، ويتَّسم آخرها بنضوجٍ فكريّ من جهة، وتعدُّدٍ وانفتاح ثقافيّ على مختلف حقول المعرفة من جهةٍ أخرى، بينما تشكِّل مرحلة ما قبل المدرسة – مدّتها عامان – أبجديَّة التعليم العامّ، والدينيّ على وجه التحديد لدى الطفل؛ لأنها مرحلة الأسئلة الوجوديَّة التي تشكِّل إجاباتها قاعدة بنائه المعرفيّ.

“لأن النقد منبع التطوّر العقليّ والثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، ومصدر إلهام التكامل الروحيّ والنفسيّ، والرافد الأخصب لتحديث التفكير الدينيّ، النقد أساس التقدُّم، وشريان تحديث كل شيء وتجديده. لا حياة للتفكير الدينيّ؛ إلاّ بتواصل المراجعة النقديَّة وتعميقها، للثقافة والتجربة التاريخيَّة والتراث والمجتمع”.

“لأن النقد منبع التطوّر العقليّ والثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، ومصدر إلهام التكامل الروحيّ والنفسيّ، والرافد الأخصب لتحديث التفكير الدينيّ، النقد أساس التقدُّم، وشريان تحديث كل شيء وتجديده. لا حياة للتفكير الدينيّ؛ إلاّ بتواصل المراجعة النقديَّة وتعميقها، للثقافة والتجربة التاريخيَّة والتراث والمجتمع”.

سنحاول تقديم مراجعة نقديَّة هادفة لكتاب الثقافة الإسلاميَّة في الأردن، الذي يُدّرس في مؤسَّسات التعليم الرسميَّة وغير الرسميَّة بمختلف مراحلها، متطلّبًا إجباريًّا للطلبة في مرحلة ما قبل المدرسة (الحضانة)، والتعليم الأساسيّ بالإضافة للثانويّ، ومتطلّبًا اختياريًّا عامًّا لكافَّة الطلّاب في الجامعات الرسميَّة والمعاهد، وذلك  لاكتشاف الاختلالات المعرفيَّة،  والهوّة بين المناهج المرسومة والكتب المدرسيَّة المقرَّرة للتدريس ومخرجاتها، و تسليط الضوء على أبرز المواضيع التي نعتبر استمرار وجودها في الكتب؛ يشكّل أزمة، ليس فقط على المستوى الفكريّ  والتعليميّ لدى الطلّاب، بل تصل إلى الثقافيّ المجتمعيّ.

 

تنقسم هذه المراجعة النقديَّة إلى أربع مراحل متكاملة؛ تبدأ من مرحلة ما قبل التعليم المدرسيّ، مرورًا بمرحلتي التعليم المدرسّي الأساسيّ، والتعليم المدرسيّ الثانويّ، وصولًا إلى المرحلة الجامعيَّة.

الأسئلة الموجّهة إلى كتاب الثقافة الإسلاميَّة من أجل إنجاز هذه المراجعة النقديَّة:

  • هل تعمل المناهج والكتب على تحفيز العقل للتفكير الدينيّ؟
  • هل تقبل المناهج والكتب الآخر والآخرين؟
  • كم هي مساحة التفكير النقديّ في المناهج والكتب؟

 

مرحلة ما قبل التعلُّم المدرسيّ

هي مرحلة (الطفولة المبكِّرة) التي تتضمَّن روضة أولى (KG1/ما بين 4-5 سنوات)، وروضة ثانية (KG2/ما بين 5-6 سنوات).

تختلف هذه المرحلة عن مرحلة التعليم المدرسيّ من حيث الرقابة الحكوميَّة ومصادر المناهج، وتتشابه في ذلك مع مرحلة التعليم الجامعيّ، حيث أن الكتب المقرَّرة في هذه المرحلة لا يوجد لها منهاج حكوميّ، ممَّا يجبر إدارة هذه المؤسَّسات على البحث عن مصادر خارجيَّة قد لا تتناسب مع عقليَّة الطفل في الأردن تحديدًا عنها في دولة أخرى، بالإضافة إلى أنَّ هذه المرحلة من التعليم، لا تجد اهتمامًا حكوميًّا كونها مرحلة تعليم غير إلزاميَّة، ممَّا يجعل الاختلال كبيرًا هنا.

 

بعد انتهاء الأطفال من امتحان “كنوز الايمان” – وهي مادة  للتربية الإسلاميَّة تستخدم في معظم مؤسَّسات التعليم لهذه المرحلة- توجّهتُ إلى مجموعة من الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم بعد الخمس سنوات، بالسؤال: ماذا تعلّمتم من كتاب التربية الإسلاميَّة؟

كان الجواب الذي تكرَّر كثيرًا؛  “أن هذه الحياة قصيرة وليست مهمّة، والحياة الجميلة الأبديَّة  هي هناك؛ في السماء”.

إذا كانت هذه هي المخرجات فعلًا، فيجب علينا التوقُّف قليلًا، والتركيز كثيرًا، وأن نشعر بالخوف على مستقبل هؤلاء الأطفال؛ المستقبل الذي قد يكون سريعًا للذهاب إلى ذاك المكان الأجمل. إنَّ هذه المخرجات في غاياتها تشبه إلى حدٍّ قريب تلك العمليَّات الإرهابيَّة التي يشترك بها أطفال بهدف التخلُّص من  الحياة الزائفة، للوصول إلى  تلك “الحياة الجميلة”.

 

إنَّ هذه المخرجات في غاياتها تشبه إلى حدٍّ قريب تلك العمليَّات الإرهابيَّة التي يشترك بها أطفال بهدف التخلُّص من  الحياة الزائفة، للوصول إلى  تلك “الحياة الجميلة”.

بالرغم من أن تلك الحياة القصيرة ليست مهمَّة، إلا أنها لا تخلو من الكراهية ورفض للآخر، على سبيل المثال: التفسير المزاجيّ لكلمات القرآن الكريم، لو شاهدنا الدرس الثاني من تلك المادَّة حول تفسير سورة الفاتحة الرحمانيَّة، نجد بعض معاني الكلمات الواجب حفظها كالتالي:

  • المغضوب عليهم: اليهود.
  • الضالين: النصارى.

يتناول الكتاب بشكل جيِّد قِيَم التسامح بين المسلمين، وبناء العلاقات الجيِّدة فيما بينهم، لكن الخلل هو أنَّ هذه المساحة من التسامح و احترام الآخر؛ هي لدائرة المسلم مقابل المسلم فقط.

 

مرحلة التعليم الأساسيّ 

تتميَّز مرحلة التعليم الأساسيّ بأنها المرحلة الأولى للتعليم المدرسيّ الرسميّ والتي تخضع مناهجها وكتبها إلى رقابة حكوميَّة، ولكن هناك اختلالًا واضحًا في كتاب التربية الإسلاميَّة لهذه المرحلة، من خلال فقدان التوازن بين الأهداف العامَّة التي وضعتها الوزارة ضمن خطّتها  للنظام التعليميّ، والكتب المقرَّرة لذلك،

على سبيل المثال؛ لا توجد مساحة للتفكير النقديّ أو مواضيع تتعلَّق بثقافة النقد، مع أن الفقرة (ي) من الأهداف العامَّة لهذه المرحلة تنصّ على أنَّ: “‌التفكير النقديّ الموضوعيّ واتِّباع الأسلوب العلميّ في المشاهدة والبحث وحلّ المشكلات.” هدف رئيس في هذه المرحلة، لتمليك الطفل أدوات التفكير والمراجعة التي تشكِّل تغذيةً للعقل.

 

 مرحلة التعليم الثانويّ 

تلقى مرحلة الثانويَّة اهتمامًا ليس فقط من قبل الحكومة والمدرسة، أيضًا من قبل الأهالي لما تحمله مرحلة الثانويَّة العامَّة من خصوصيَّة  تساهم في تحديد مستقبل الطالب أكاديميًّا ومهنيًّا، و كتاب التربية الإسلاميَّة لهذه المرحلة ينقسم إلى كتابين: الثقافة الإسلاميَّة، ويدرسه جميع الطلّاب، وكتاب العلوم الإسلاميَّة ويدرسه قسم من الطلبة إضافة إلى كتاب الثقافة الإسلاميَّة، أي أن هناك جزءًا من الطلبة يدرس الكتابين معًا، قمنا بمراجعة نقديَّة للكتابين اللذين تمَّ اعتمادهما ضمن المقرَّرات الرسميَّة لطلبة الثانويَّة للعام 2017-2018، بعد عملية تحديث للمناهج  عمومًا.

 

كتاب التربية الإسلاميَّة:

يتناول التحديث على كتاب التربية الإسلاميَّة الجديد، إضافات مهمّة تساهم في إضفاء علاقات الودّ والتسامح بين الأفراد، خصوصًا مواضيع حقوق الإنسان في الإسلام، والتحذير من العنف المجتمعيّ. بالإضافة لموضوع التحذير من التكفير وخطورته، والآثار السلبيَّة للأحاديث الموضوعة، إلا أنه يحوي موضوعات لا داعيَ لوجودها، كالحديث عن علامات الساعة، واليوم الآخر بتفاصيل  وبشكل مطوّل وإسقاط اجتهادات إنسانيَّة عليها، وإضفاء القداسة على تلك الاجتهادات.

لا يمكن للطفل أن يشغل عقله بالعلم وإنتاج المعرفة بوجود مواضيع تخيفه “قد تحدث في أية لحظة” -بحسب الكتاب- مثل: قدوم “يأجوج ومأجوج” وظهور” الدجَّال” ونار تخرج من اليمن،  ودخان سيملأ السماء، ويقول الكتاب بوضوح: “وتشتدّ أهوال الموقف في المحشر من طول الوقوف، وانتظار الحساب، حيث يحشر الناس حفاة عراة”.

استحداث موضوع ” آداب المستفتي والمفتي” والتركيز على الرجوع لمؤسَّسات الإفتاء لفهم الدين، هي رسالة مفادها أنه لا يجب أن تستخدم عقلك بالتفكير، فنحن نفكّر بالنيابة عنك، والمشكلة في ارتداء تلك المؤسَّسات عباءة الموروث الثقيلة جدًّا من جهة، والعتيقة بتعميم أحكامها على واقع اليوم دون إدراك مقدار التغيُّر الذي يحدث للمجتمعات من جهةٍ أخرى، إلا أن الخطورة في هذه الجزئية من الكتاب، تكمن في التركيز على مصادر إفتاء عربيَّة غير أردنيَّة، مثل الأزهر في مصر، بالإضافة إلى مجاميع فقهيَّة دوليَّة دون مراعاة الاختلاف والتأثير في بنية النظام السياسيّ أو المجتمعيّ بين الدول.

 

كتاب العلوم الإسلاميَّة:

على الرغم من التعارض بين كتابي الثقافة والعلوم الإسلاميَّة في بعض المواضيع، والذي قد يشكّل نوعًا من الانفصام المفاهيميّ لدى الطالب الذي يتوجَّب عليه دراستهما معًا،  إلا أن إضافة مصطلح “التربية الأخلاقيَّة” مرادفًا لعنوان الكتاب يعتبر خطوة إيجابيَّة، إضافة إلى المواضيع الجديدة التي تتحدَّث عن التفكير الإيجابيّ والبحث العلميّ، ولكن الكتاب لا يخلو من بعض الاختلالات، كموضوع “السياحة”  وتحقيق المنفعة الاقتصاديَّة للبلدان، الذي لا أعرف كيف يتقاطع مع منهج العلوم الإسلاميَّة، والواجب أن يكون في حقل آخر،  وإذا كان لا بُدّ من إضافة موضوع للعلوم الإسلاميَّة، فلا بُدّ من تخصيص مساحة للحديث عن الديانات الأخرى وعلاقتها بالدين الإسلاميّ، حيث لا يوجد موضوع يتحدَّث عن ذلك في جميع المراحل والكتب الإسلاميَّة، ولا توجد معلومات حول المذاهب الإسلاميَّة الأخرى، حيث أن تكرار عبارة ” وكما قال العلماء من أهل السنَّة” في مواضيع تفسير الأحكام، لا تدلّ إلا على أن هذه المناهج هي لأهل السنَّة فقط، واستثناء صريح لبقيَّة الطوائف، واستسلام فكريّ يخلو من التفكير النقديّ من جانب آخر، بحيث تنحصر مخرجاته دون أدنى شكّ في عقد اجتماعيّ إكراهيّ.

 

مرحلة التعليم الجامعيّ (Bachelor Degree)

يُعَدُّ التعليم العالي في الأردن حديثًا مقارنة بالدول العربيَّة المجاورة له، حيث تأسّست أوَّل جامعة حكوميَّة في عام 1962، وشهد قطاع التعليم العالي في الأردن خلال العقدين السابقين تطوّرًا ونموًّا ملحوظين تؤكّده الزيادة في عدد مؤسَّسات التعليم العالي وأعداد الطلبة المسجّلين، وأعضاء هيئة التدريس؛ حيث بلغ عدد الجامعات الرسميَّة؛ عشر جامعات، وسبع عشرة جامعة خاصَّة، وإحدى وخمسين كليَّة مجتمع متوسِّطة، بالإضافة إلى جامعة العلوم الإسلاميَّة العالمية.

 

تدّرس مادة الثقافة الإسلاميَّة متطلّبًا عامًّا لجميع الطلبة، على الرغم من اختلاف الكتاب من جامعة إلى أخرى، ومن معهد إلى آخر ومن أستاذ إلى آخر، إلا أنها تتشابه من حيث العناوين الداخليَّة، ولكنها مختلفة من حيث المضمون، وهذا يرجع لاختلاف اهتمامات الأستاذ الجامعيّ وتوجّهاته الفكريَّة والثقافيَّة، وتشترك في سيطرة الماضي البعيد عليها، والتي في أغلبها لا ترتقي لأن تكون منهجًا بالمعنى العلميّ، وتكتفي بمجموعة أحكام ومعلومات دينيَّة مختلفة – متضادَّة أحيانًا- بعيدة عن العصرنة غالبًا، تذكّرنا بطلبة المرحلة الأساسيَّة الذين يطلب منهم المعلّم في آخر اليوم واجبًا مدرسيًّا؛  أن يأتوا له في صباح اليوم التالي ببحث جاهز من الإنترنت، أو يبتاعوه من المكتبة أو من (صانع الأبحاث). عقليَّة البحث وثقافة النقل هذه، انتقلت من المرحلة التعليميَّة الأساسيَّة والثانويَّة إلى المرحلة الجامعيَّة، لتكرّس “منهجيَّة النقل” التي لن تكون مخرجاتها إنتاج معرفة جديدة، ومأسسة لثقافة تنويريَّة قوامها تجذير النقد وإعمال العقل في مرحلة أبجديَّة (كمدخلات)،  وتكريسه للتفكير النقدي (كمعالجة)، وصولاً إلى التجديد والتحديث الثقافيّ العامّ (كمخرجات).

 

من بين أبرز الاختلالات في كتاب التربية الإسلاميَّة لهذه المرحلة، هو أن مناهجها لا تخضع لرقابة الحكومة كما هو في مرحلة التعليم الأساسيّ والثانويّ، بالتالي فإنها تشترك مع مرحلة ما قبل المدرسة في ذلك، ويتميّز الكتاب في هذه بالمزاجيَّة، حيث أن معظم مناهج التعليم الدينيّ في الجامعات الأردنيَّة لا يوجد لها منهج، حيث أن لكل أستاذ جامعيّ مادّته الخاصَّة به، والتي يقوم بتجميعها استنادًا إلى تحصيله المعرفيّ، والتي  في أغلب الأحيان  تكون مجموعة مراجع لمصادر فقهيّة تعجبه، وبالتالي يختلف محتوى المادَّة ذاتها من جامعة إلى أخرى، ومن أستاذ إلى آخر بذات الجامعة، ممَّا يجعل هذه المرحلة من أهمّ المراحل التي تحتمل اختلالات في مضمونها، من بين تلك الاختلالات؛ تشاركها مع مرحلة ما قبل المدرسة في رفض الآخر، من خلال احتوائها على مواضيع الحروب الصليبيَّة والتركيز فيها على “استمراريَّة روح الحقد الصليبّي” على حدّ قول الكاتب في أحد المقررات.

 

من بين أبرز الاختلالات في كتاب التربية الإسلاميَّة لهذه المرحلة، هو أن مناهجها لا تخضع لرقابة الحكومة كما هو في مرحلة التعليم الأساسيّ والثانويّ، بالتالي فإنها تشترك مع مرحلة ما قبل المدرسة في ذلك.

لتكون المراجعة النقديَّة أكثر فاعليَّة، قمنا بالاطِّلاع على كيفيَّة تدريس تلك المناهج، بالجلوس بين الطلبة في ثلاثِ جامعات مختلفة. في الحقيقة لم تكن مخرجات تلك الزيارات مفاجئة، لكنها أكَّدت سلطة التلقين المطلقة، وأزمة التيه في تفسيرات النصّ والتسليم لما هو مكتوب.

من بين المواضيع التي يدرسها الطلبة حول العلاقات الزوجيَّة، درس بعنوان (منهج الإسلام في علاج النشوز) والذي يقدّم حلولاً للتعامل مع الزوجة “الخارجة عن طاعة الزوج” بثلاثة حلول، من بينها:

“الضرب غير المبرّح؛ فإذا لم يفلح الوعظ ولا الهجر، سمح الإسلام بالضرب الرقيق غير المبرّح والذي لا يترك بجسمها أثرا” هذا النوع من العنف في مرحلة جامعيَّة، وفي منهاج للدين الإسلاميّ، لا يعكس إلّا  حالة الفكر المتردّي.

 

المشترك في مناهج وكتب الثقافة الإسلاميَّة:

لا ريب أن ما يحدث في مجتمعاتنا من تراجع حضاريّ من جهة،  وتجذّر للكراهية والتطرّف المذهبيّ وصراع الهويَّات الضيِّق من جهة أخرى، يعود بالأساس إلى تهميش ثقافة التنوير والتفكير النقديّ في بنية الفكر العربيّ، إذ يعجز ذلك العقل عن إنتاج الفكر الجديد، بسبب التلقين وإعادة تدوير الأفكار.

 وكما يقول الجابري؛ “ليس مضمونًا أو محتوى وحسب، هو أداة، بمعنى أنه جملة مبادئ ومفاهيم وآليَّات تنتظم وتترسَّخ في ذهن الطفل الصغير منذ ابتداء تفتّحه على الحياة لتشكِّل فيما بعد(العقل) الذي يفكّر به، أي الجهاز الذي يفهم ويؤوّل ويحاكم ويعترض به”.

 

تقول الآية الكريمة:وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ”(البقرة 170) تشترك المناهج من حيث طريقة التعليم؛ في أنها ما زالت كتاتيب تلقينيَّة أحادية المعرفة، يمتلك فيها الأستاذ/ة المعلومة الصحيحة المطلقة، ووقت المحاضرة، وعلى الطلبة فقط الاستماع والحفظ والاستسلام.

حتى مع مواكبة التعليم للتكنولوجيا، بقي التلقين مرافقًا لها، ومن الأمثلة على ذلك: منصَّات التعليم الإلكترونيَّة التي تعمل على تلقين المعرفة، وهي طريقة جيِّدة في مراحل معيَّنة فقط، لأنَّ استمرارها دون إضافة جزئيَّة التفاعل المتبادل، لن تساعد العقل على التفكير وإنتاج معرفة جديدة،  وهذه مشكلة ليست جديدة لنتحدَّث عنها، لكننا نريد تسليط الضوء على خطورتها في ميدان التعليم الدينيّ الذي يعتمد كليًّا على سلطة التلقين، والذي من أهم مخرجاته أنَّ الفكر الجديد لا يجد صدى بين الناس لأنها لا تألفه؛ بمعنى أنَّ الناس دائمًا تحبّ ما تألفه، وتبتعد عن كل جديد لأنه يتطلَّب بذل جهد.

 

منهجيَّة التلقين هذه، “تصوّر العقل على أنّه وعاء يتقبَّل ولا ينتج، وهي علامة تعطيل للفكر ونسخ لجهود السابقين وتجميد لروح النقد والمساءلة، ونشر لمشاعر اليأس وكأنّ السابقين لم يتركوا للاحقين ما يقال وما يعاد فيه النظر، إذ لا مجال للفرادة ولا للفكر النقديّ، وترتكز  على معرفة التسليم والطاعة، بعيدًا عن التساؤل والتفكّر.

 

منهجيَّة التلقين هذه، “تصوّر العقل على أنّه وعاء يتقبَّل ولا ينتج، وهي علامة تعطيل للفكر ونسخ لجهود السابقين وتجميد لروح النقد والمساءلة، ونشر لمشاعر اليأس وكأنّ السابقين لم يتركوا للاحقين ما يقال وما يعاد فيه النظر، إذ لا مجال للفرادة ولا للفكر النقديّ، وترتكز  على معرفة التسليم والطاعة، بعيدًا عن التساؤل والتفكّر.

 

  • التكرار:

تشترك المناهج في المراحل الثلاث؛ ما قبل المدرسة، ما قبل الجامعة، ما قبل التخرّج في الجامعة، من حيث التكرار؛ أي أنه لا يوجد نسق متكامل مبنيّ بشكل علميّ تدريجيّ يتيح للعقل فهم التدفّق الكبير للمعلومات الدينيّة، حيث نجد محتوى الكتب يضمّ ذات الآيّات الكريمة في مراحل مختلفة بتفسيرات مختلفة أيضًا، الأمر الذي يضع عقليَّة الطالب في خيارات مختلفة تجعله يلجأ إلى الاستعانة بشيخ الجامع، أو بشخص متديِّن يثق به، أو إلى البحث الذاتيّ في مصادر الإنترنت المختلفة أيضًا.

 

  • الآخر والآخرون في المناهج:

تتميَّز المناهج بتخصيص مساحة لا بأس بها لمواضيع التسامح والمودّة بين المسلم والآخر المسلم، لكنها في الوقت نفسه تقصي الآخرين من هذه المساحة، وتطبّق حرفيًّا مقولة: ” إن لم تكن معي، فأنت ضدّي”؛ بمعنى أنها تريد للتسامح أن يكون بين المسلمين وحدهم، وهذا الشأن لا يشمل الآخرين من الطوائف الدينيَّة الأخرى سواء ممَّن هم في المجتمع القريب أو البعيد، بما فيهم المذاهب الدينيَّة المسلمة.

 

  • تفسير النصوص:

لا يتوجَّب على الطالب استخدام عقله في فهم النصوص، لأن المناهج تجبر الطلّاب على حفظ التفسيرات ومعاني الكلمات التي يريدها الكاتب فقط، والتي لا تخلو منها أسئلة الامتحانات، ممَّا يجبر الطالب على حفظها كما هي والتسليم لرأي الكاتب، يقول الله تعالى: ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )

 

“أعتقد أنَّ ما من شأنه أنْ يُحدِث تأثيرًا، هو التعليم المدرسيّ في مرحلة مبكِّرة بأنَّ القرآن نَصُّ وحيٍ مفتوحٍ للتأويل وليس كتاب قانون يفرض قيودًا شديدةً على حياة المسلمين اليوميَّة” كما تقول كريمر.

 

الخاتمة:

كي نخرج من مأزقنا؛ ينبغي إعادة بناء المناهج الدراسية ومقرّرات التربية والتعليم بناءً تسلسليًّا في كافة المراحل، والتركيز على التعليم الأساسيّ، والاهتمام الفائق بالطفولة في مرحلة الحضانة والمرحلة الابتدائية، وترسيخ العقليَّة النقدية الحواريَّة، وتجاوز العقليَّة السكونيَّة المغلقة، والاستيعاب النقديّ للتراث والمعارف الحديثة، مع ضرورة بناء قدرات مدرّسي التربية الإسلاميَّة في مرحلة ما قبل المدرسة، والانتقال من مرحلة التلقيني إلى التفاعلي. وتحديث الخطاب الثقافيّ، من خلال تنوير وعي الطالب وتحذيره من الدعوات والمقولات التي ترسِّخ مفاهيم التعصُّب والانغلاق، والعنف، ونفي الآخر.

 

بالتالي، فإننا نجد أن منظومة الإصلاح الأمثل لمناهج التعليم الدينيّ في الأردن، تكون عبر مناهج  تكوِّنُ فهمًا تصاعديًّا متسلسلًا للدين الإسلاميّ، تنخفض فيها نسبة الموروث الدينيّ المبنيّ على اجتهادات إنسانيَّة، وترتفع به قيم الأخلاق الإسلاميَّة والتعدّديَّة والاختلاف وقبول الإنسان الآخر، واستخدام العقل وبناء ثقافة البحث و النقد والمراجعات المستمرَّة.

 

“تعتبر مادة التربية الإسلاميَّة في النظام التعليميّ العربيّ والإسلاميّ من أكثر المواد ارتباطًا بمنظومة القيم، وهي تستهدف بالإضافة إلى تنمية كفايات المتعلِّمين المعرفيَّة والمنهجيَّة، بناء وترسيخ منظومة القيم الإسلاميَّة التي تؤهِّل المتعلِّمين لتدبير شؤون الحياة وفق أخلاقيّات متوازنة، وتعرّفهم قضايا الكون والحياة والمصير برؤية واعية”

تزويد العقل بالسؤال والإجابة، يعمل على إلغاء ملكة التفكير والانشغال بالحفظ والتلقين فقط، الأمر الذي يعمل على تعثّر العقل في سياقه التفكيري، وإبقائه في دائرة التفكير الاعتيادي بدلاً من تطوره إلى التفكير الابداعي، تنمية الروح النقديّة، هو مبدأ ينبغي الدفاع عنه باستمرار، حيث يمكننا اعتبار معظم حالات الفشل في حقل التربية والتعليم، نتيجة مباشرة لفشل المناهج في التجاوب مع المتغيّرات الاجتماعيَّة المحيطة بسبب اعتمادها على تلقين الطلبة لموضوعات  وضعت لأجيال انقرضت.

الهوامش:

[1] راجع احتجاجات على تعديلات بعض المناهج في الأردن.
[2] الموقع الإلكتروني لوزارة التربية والتعليم الأردنية، الكتب المدرسية للعام 2017/2018.
[3] الاجتهاد التنويري الديني كما يراه المفكر عبد الجبار الرفاعي، صحيفة الوسط البحرينية. العدد 5340، تاريخ 21-4-2017.
[4] “كنوز الايمان”  هي مادَّة تدرّس لطلّاب مرحلة رياض الأطفال.
[5] نظام التعليم في الأردن، الأهداف العامَّة. المرحلة الأساسيَّة.
[6] كتاب التربية الاسلامية المحدّث، وزارة التربية والتعليم، (2017-2018). ص120،
[7]  راجع الموقع الالكتروني لوزارة التعليم العالي الأردنية.
[8] كتاب الثقافة الإسلامية، جامعة الحسين بن طلال – معان، ص 84-85  للعام 2014.
[9] محمد عابد الجابري، (إشكاليات الفكر العربي المعاصر) مركز دراسات الوحدة العربية. ص (51) بيروت 2010.
[10]  عبدالرزاق العيّاري وآخرون، (التنوير بين الدواعي الفكرية ومتطلبات المجتمع)، منشورات الرابطة العربية للتربويين التنويريين. (تموز 2017)
[11] القرآن الكريم، سورة محمد، الآية (24)
[12] حوار معها على موقع القنطرة الإلكتروني، بعنوان: “دحر الإسلاموية بقراءة قرآنية نقدية واستنارة إسلامية تراثية“:
[13]  الصمــدي، خالــد. (خطــاب التربيــة الإســلاميَّة في عــالم متغيـِّر: تجديد الفلسفة و تحديــث الممارسة)، منشورات المركز المغربيّ للدراسات والأبحاث التربويَّة الإسلاميَّة، ص 57 الربــاط. ط1 ،2006.

جديدنا