أثر الغموض:
انشغلت الإنسانيَّة برعب اللحظة الفارقة في حياة وجودها يوم أن دهمها وباء الفيروس التاجي “كورونا”، وغَلَّفَهُ الغموض بغلالة رعب قاتل لأشهر وسنوات، أدخلت الجميع في ترجيحات حسابات الربح والخسارة، التي اقتربت بهم البدايات من لطائف الغيب المتعالي أكثر من راهن الحياة الكثيف، وحاولوا التَخَفُّف من عبء الواقع المادي استعداداً لقادم مجهول. وقد تعالت نسب الاكتئاب في كل أنحاء العالم، نتيجة للخوف، والانغلاق، وعدم الحركة وأخذ ما يكفي من ضوء الشمس، الذي وَلَّدَ الحالة المزاجيَّة السيئة، بل أدَّى إلى تغييرٍ في الوعي بحقائق العيش والتعايش، لما أوجبته الإجراءات من تباعدٍ، وشكٍّ في أنَّ الآخر ربما يكون هو القاتل الخفي. وقد فقدت الأرض البيئة الصالحة للسكن، وتخاذلت دعوة العيش المشترك، التي يمتدُّ بها الكون برحابة الوصل في كل لحظة. وما لم نُدْرِكهُ، أو نَتَدَاركهُ، هو أنَّ المكتئبين من ذلك الوضع، أو من أسقطتهم عقابيله في شِباك الاكتئاب، فقدوا شيئاً لا يعرفه الناس حتى الأقربون منهم، لأنَّ شرحه يصعب على فقه اللغة تِبْيَانه.
لقد أيقظتنا منظَّمة الصحة العالميَّة (WHO)، في الثاني من مارس 2022، على حقيقة أنَّ الانتشار العالمي للقلق والاكتئاب زاد في العام الأوَّل للوباء (COVID-19) بنسبة هائلة بلغت 25٪، وتأثير الوباء على توافر خدمات الصحَّة النفسيَّة، وكيف تغيَّر ذلك أثناء الجائحة. ودفعت المخاوف بشأن الزيادات المحتملة في حالات الصحَّة العقليَّة بالفعل 90٪ من البلدان، إلى تضمين الصحَّة العقليَّة والدعم النفسي الاجتماعي في خطط الاستجابة لفيروس كوفيد -19، ولكن ما تزال هناك فجوات ومخاوف كبيرة. وكانت أحد التفسيرات الرئيسة للزيادة هو الإجهاد غير المسبوق الناجم عن العزلة الاجتماعيَّة الناتجة عن الوباء، وما ارتبط بها من قيود مفروضة على قدرة الناس على العمل، وطلب الدعم من أحبَّائهم والانخراط في مجتمعاتهم. وضاعف منها الشعور بالوحدة، والخوف من العدوى، والمعاناة وموت الأحباء، والحزن بعد الفجيعة، والمخاوف الماليَّة، كلُّها عوامل توتُّر تؤدِّي إلى القلق والاكتئاب، وكان الإرهاق بين العاملين الصحيِّين سبباً رئيساً للتفكير الانتحاري وإيذاء النفس.
الوعي الشامل:
لهذا، صاغ علماء الأعصاب وفلاسفة الوعي مؤخَّراً مصطلحاً جديداً أسموه بـ”الحالة الشاملة للوعي” لوصف الخصائص البنيويَّة للتجربة، التي تختلف بين اليقظة العاديَّة والحلم والحالة المخدّرة وحالة الحدّ الأدنى من الوعي. هذه الحالات تُسمى “كلية” لأنها تقوم بتغيير كل التجربة الواعية، وليس مجرد عنصر معين، إذ تتغيَّر التفاصيل الدقيقة لما نختبره في حياة اليقظة اليوميَّة طوال الوقت؛ كالأصوات والألوان والروائح تأتي وتذهب جميعها، لكن الهيكل يظلُّ ثابتاً إلى حدٍّ كبير: أشعر أنَّني حاضر في العالم، في مركز متكامل وجهة نظر متماسكة؛ الوقت يستمرُّ في التدفُّق بنفس المعدَّل؛ الفضاء له نفس الهيكل الهندسي. الحالة العالميَّة هي هذا الهيكل الشامل وعادة ما تظل ثابتة مع مرور تجارب معيَّنة علينا. عندما نحلم، أو نتناول أدوية مخدّرة، أو نعاني من إصابة دماغيَّة، يمكن تغيير هذا الهيكل، وندخل حالة عالميَّة مختلفة. فهل يمكن أن ينتمي الاكتئاب إلى هذه العائلة أيضاً؟ ما يصفه الأشخاص المصابون بالاكتئاب بأنَّه “عالمهم”، أو “كابوسهم” قد يكون حالة عالميَّة مميَّزة، حيث يتمّ تشويه بعض الركائز الهيكليَّة للتجربة العاديَّة؛ مثل، الإحساس بالذات، والمكان والزمان، وليس “حلماً”، أو “رحلة”، بل حالة تنتمي إلى نفس المجموعة.
ولهذا، يقول جوناثان بيرش، مؤلِّف كتاب “فلسفة التطوُّر الاجتماعي”، الصادر عام 2017، إنَّ التقارير الذاتيَّة للأشخاص المصابين بالاكتئاب تُشير إلى وجود علاقة عميقة ومثيرة للاهتمام بالوعي. ولفهم هذه الفكرة، دعا إلى تأمُّل تأثير النوم والحلم على حياة الفرد العقليَّة، أو تجربة الخروج من نوم بلا أحلام إلى وعيٍ يقظ. ففي هذه التحوُّلات، يمرُّ وعينا بتحوُّل بنيوي عميق، إذ يمكن ملاحظة، على سبيل المثال، كيف تختلف التجربة الذاتيَّة كثيراً بمرور الوقت عندما يمر بأيَّام وأسابيع في الحلم في غضون ساعات قليلة من الاستيقاظ. وبالمثل، فإنَّ إحساسنا بالذات والهويَّة مرن للغاية في الحلم؛ فنحن ندرك أنفسنا من الخارج، وفي بعض الأحيان، ننظر إلى أجسادنا، ونحلم بأن نكون شخصاً آخر غير أنفسنا، أو نحلم بالانفصال عن الجسد تماماً، في حين إنَّ الأشخاص المكتئبين ليسوا بالمعنى الحرفي للكلمة في عالم مختلف، إلا أنَّهم في حالة وعي مختلفة.
انحلال الأنا:
إنَّ هناك حالات تحدث فيها أنواع مماثلة من التغييرات الهيكليَّة للتجربة الواعية، يُدْرِكها من يتعاطون المخدّرات، وتشمل الأمثلة الظاهرة الموثَّقة جيِّداً والمعروفة باسم “انحلال الأنا”، أو انهيار الذات وفقدانها بالكامل، أو الانحراف الدرامي للفضاء العام. وفي كل من الأحلام والحالات المخدّرة، يبلغ الناس عن تغييرات قويَّة وواسعة النطاق تزعزع وتغيُّر ليس فقط تجاربهم الحسيَّة، ولكن مفهومهم عن أنفسهم وعلاقتهم بالواقع والأشخاص الآخرين. وكما ورد في كتاب عالم النفس جيل هورنشتاين، “سترة أغنيس”، الصادر عام 2009، توجد فجوة شاسعة بين الطريقة، التي يشرح بها الطبّ الظروف النفسيَّة، وتجارب أولئك الذين يعانون من الفصام، والمرض ثنائي القطب، والاكتئاب، والبارانويا، مُطالباً بنموذجٍ جديدٍ لفهم بعضنا البعض وأنفسنا.
قد يفترض الأشخاص، الذين لم يصابوا بالاكتئاب، أنَّه مجرَّد شكل متطرِّف من الشعور بالإحباط؛ ألا نجد جميعاً أنَّ أنشطتنا اليوميَّة يمكن أن تفقد بريقها أحياناً؟ ومع ذلك، تُشير روايات الأشخاص المصابين بالاكتئاب إلى اتِّجاه مختلف. وقد وثَّقَت عالمة النفس دوروثي رو، في كتابها “تجربة الاكتئاب”، الصادر عام 1978، أنَّ شخصاً أبلغها أنَّه استيقظ في عالمٍ مختلف. وكان الأمر كما لو أنَّ كل شيء قد تغيَّر أثناء نومه: “لقد استيقظت ليس في وعي طبيعي ولكن في كابوس”. وتدعم مثل هذه الأمثلة فكرة أنَّ الاكتئاب يختلف عن الأشكال الأخرى للتجربة اليوميَّة، كما أكَّد الفيلسوف ماثيو راتكليف في كتابه “تجارب الاكتئاب” الصادر عام 2015″، غالباً ما يقول الأشخاص المصابون بالاكتئاب أنَّه ينطوي على تحوُّل جوهري، مثل الدخول في “عالم” مختلف؛ عالم منفصل عن الواقع العادي والأشخاص الآخرين.
ويبدو أن أحد الموضوعات الواضحة في تقارير الاكتئاب هو فكرة السكن، أو الوقوع في “عالم”، أو “مكان” آخر. كتبت سالي برامبتون في مقال نشرته عام 2003 في التلغراف: “بالنسبة لي، كان الاكتئاب مكاناً.. المناظر الطبيعيَّة باردة وسوداء وفارغة. إنَّه أمر مرعب وأكثر فظاعة من أي مكان زرته في أي وقت مضى، حتى في كوابيسي”. إنَّ هذا الحديث ليس مجازياً فحسب، لكنَّه لا يقول إنَّ المكتئبين في عالم مختلف، إلا أنَّهم في حالة مختلفة من الوعي؛ حالة يمكن أن يصبحوا مستيقظين عليها، ونأمل أن يكونوا مستيقظين منها. فالاكتئاب يشبه الوقوع في حلم لا يمكنك الاستيقاظ منه. المخدِّرات المخدّرة هي الهزَّة، التي توقظك في النهاية. كما كتبت سالي برامبتون في مذكراتها، التي جاءت بعنوان: “أطلق النار على الكلب اللعين”، والصادرة عام 2008، قائلة إنَّه مثل العيش في كابوس يقظ، وأكثر ما نريده هو شخص ما ليأخذ بيدنا، لمحاولة إعادة ربطنا بالعالم.
بين اليقظة والأحلام:
بعد كل شيء، لا نعرف بعد الآليَّات العصبيَّة الكامنة وراء أي حالة وعي عالميَّة، سواء كانت يقظة، أو حلماً، أو حالة مخدر. وفي الواقع، تفتح فكرة أنَّ الاكتئاب حالة عالميَّة من الوعي تفتح الاحتمال المثير للإعجاب بأن العمل في علم الوعي يمكن أن يقدِّم يوماً ما اختبارات جديدة للاكتئاب. لكن، ماذا لو كان الاكتئاب هو الخوف والعزلة الناشئة عن عدم الفهم؟ إذ عادة ما يعرف الشخص المكتئب أنَّ شيئاً سيّئاً يحدث، لكنَّه لا يعرف ما هو، أو سبب ذلك. قد يكون عدم القدرة على وصف، أو ربط ما يحدث، سواء لنفسك، أو للآخرين، أمراً محزناً بشكل خاص. إنَّ معرفة أنَّك في حالة متغيِّرة من الوعي لن يجعل هذه الحالة تختفي، ولكنها قد تساعدك على فهم تجربتك وإعادة سردها للآخرين. لم يصب الجميع بالاكتئاب، لكن الكثير منا حلم، أو كان في حالة خدر، أو منتشي، لكنَّنا على علم بالتغييرات الأخرى في هيكل التجربة، وبالتالي قد يكون لدينا جسر لفهم ما يحدث لأصدقائنا وأحبائنا.
من هنا، يجب أن يكون علم الوعي قادراً على تسليط الضوء على الاكتئاب؛ لكن العكس هو الصحيح أيضاً، إذ من المعروف جيِّداً أنَّ الحالات “غير الطبيعيَّة” للوعي، مثل الحلم، أو الحالة المخدّرة، تسمح لنا بفهم أفضل لسمات الحالة “الطبيعيَّة”، التي يشغلها الشخص السليم عندما يستيقظ. ومن خلال تشويه تجربة الزمان والمكان والذات، على سبيل المثال، يمكننا التعرّف على ما ينطوي عليه الفهم العادي للزمان والمكان والذات. ومع ذلك، فقد واجه الباحثون مشكلة منذ فترة طويلة: التغييرات، التي أحدثتها الأدوية المُخدّرة دراماتيكيَّة لدرجة أن التدخُّل هو تدخُّل فظ، مثل أخذ مطرقة ثقيلة إلى الحالة الواعية العاديَّة. يمكن أن تكون الفروق بين الحلم واليقظة أقل وضوحاً، لكن الشخص النائم لا يمكنه الإبلاغ عنها بشكل مباشر وموثوق. بيد أنَّ هذا هو المكان، الذي يمكن أن تكون فيه حالة الاكتئاب ذات قيمة، إذ يتضمَّن أحياناً تغييرات طفيفة في اليقظة العاديَّة؛ مثل، عمل مشرط أكثر منه بمطرقة ثقيلة، ولكن يمكن التحقُّق من ذلك من خلال مقابلة الناس.
ونتيجة لذلك، يمكن أن تكون حالة الاكتئاب مفيدة بشكل لا يصدَّق لفضح الجوانب المراوغة لحالة اليقظة الواعية، التي غالباً ما نأخذها كأمر مسلم به. على سبيل المثال، من خلال فحص التغييرات، التي تطرأ على تجربة الشخص المكتئب للزمان والمكان والذات، نتوصَّل إلى فهم أفضل لكيفيَّة مساهمة الزمان والمكان والذات في تجربتنا العاديَّة للعالم. ويلمِّح عالم النفس أندرو سولومون إلى بعض هذه التحوّلات في مذكراته “شيطان الظهيرة”، الصادرة عام 2001، بقوله إنَّه عندما تكون مكتئباً، فإنَّ الماضي والمستقبل يتم امتصاصهما بالكامل في اللحظة الحاليَّة، كما هو الحال في عالم طفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات. لا يمكنك تذكُّر وقت شعرت فيه بالتحسُّن، على الأقل ليس بشكل واضح؛ وأنت بالتأكيد لا تستطيع تخيُّل وقت في المستقبل ستشعر فيه بتحسُّن. فالشعور بالضيق، وحتَّى الانزعاج العميق، هو تجربة زمنيَّة، في حين إنَّ الاكتئاب مؤقَّت، وهو كالأعطال يتركك بلا وجهة نظر. وقد يؤدِّي الانتباه إلى الطرق، التي يغيِّر بها الاكتئاب حياتنا إلى فرض فرضيَّات جديدة مثيرة للاهتمام حول وظيفة الوعي، وما يفعله الوعي للكائنات الحيَّة.
_________
* الدكتور الصادق الفقيه: سفير سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن.
الأحد، 15 يناير 2023
صقاريا، تركيا