تيمة الوحدة والعزلة في الأعمال الفنيَّة لإدوارد هوبر

image_pdf

 هَب أنك تقف في الطابق العلوي لمبنى بمدينة لندن، تكشف المدينة نفسها أمامك بشوارعها الطويلة وأزقتها وترى الناس يسبحون كالغرباء جيئة وذهاباً أو يقومون بشؤونهم الخاصة في ساعاتهم الليلة. بإمكانك رؤيتهم رغم ذلك لا تستطيع الوصول إليهم. وهكذا بإمكانك العثور على هذه الظاهرة الحضاريَّة في أي مدينة حول العالم وفي أي ليلة من الليالي. هذا الشعور يصيب حتى أكثر الناس قدرة على الاندماج برجفة سببها الشعور بالوحدة، بل هي مزيج من العزلة والانكشاف.

 

تُجسِّد أعمال الفنان  إدوارد هوبر، Edward Hopper).   1882-1967 ) هذه الوحدة المخيفة في حياة الناس المعاصرة داخل المدن، حيت أصبح إنسان اليوم رغم كل ما يحيط به من صخب وضجيج يشعر بوحدة شديدة وبرودة مخيفة تجاه الآخرين، تكشف الأعمال المبكِّرة لهذا الفنان هذه التيمة المعقَّدة…تيمة الوحدة والعزلة.

دائماً ما يُركِّز إدوارد هوبر في لوحاته على شخص واحد  أو مجموعة صغيرة من الأشخاص المعزولين في مكان ما، واعتماده على العنصر البشري في لوحاته، يقرّبه كثيراً إلى قرّائه ومتلقِّيه، خصوصاً أنَّه يرسم الإنسان بشكله الواقعي المجسَّد، بلا مقاييس ولا تغييرات في الجسد وملامح الوجه، وهو في رسمه كالمؤلِّف، يجعل لكل لوحة بطلاً، وأحياناً أكثر من بطل في لوحة واحدة… هذه الشخوص التي رسمها هوبر في النصف الأول من القرن العشرين، كانت وحيدة، غارقة في وحدتها. يتعلَّق الخيال بلوحات هوبر، ويستريح إليها، فألوانه درجات من المشاعر والأحاسيس، وشخصياته الوحيدة المنفردة، هي من أبلغ عناصره التي تدعو المتلقِّي إلى إطالة النظر إليها، وتأمُّلها جيِّداً. فهو يصوِّر دخائل هذه الشخصيَّات دون إفصاح كامل، وقد ألهمته الحياة الأمريكيَّة أغلب مواضيع لوحاته، وتحديداً الحياة في مدينة نيويورك. فكان فنَّه أمريكيّاً في شكله وصورته، إنسانيّاً في جوهره ومعناه. ورسوماته هي نوع من البيان، وفيها سرد صامت يجذب المتلقِّي، وبينما هو مشتبك مع هذا السرد، يستظهر بعض جماليَّات اللوحة، ويكتشف ملكات هوبر وطبعه الفني.

يمكننا أن نتتبَّع قبل تحليل لوحات إدوارد هوبر تحوُّلات شخصيّته عبر السنوات، لعلَّنا نفهم السبب الذي يجعل لوحاته تتَّخذ هذا البعد المرتبط بالوحدة والعزلة دون أن نجزم بذلك إعطاء حقيقة مطلقة عن طبيعة شخصيَّة الرجل فهذا الأمر يبقى دائماً نسبيًّا ولا يرقى إلى مستوى الحقيقة العلميَّة.

مند أن كان هوبر يرتدي طاقيَّة قش في شبابه في عشرينيات القرن الماضي حتى وصل لكونه رجل الفن العظيم في خمسينات القرن الماضي، يظهر من صوره الشخصيَّة على أنَّها أُحاديَّة اللون وهو نوع من الاحتواء الذاتي لشخص يخاف من التواصل، ويحتفظ بتعاطفه لنفسه. كان يقف في الصور التي يلتقطها دائماً بشكل غير ملائم، ربَّما يحني ظهره قليلاً، كما قد يفعل رجل طويل مثله، وغالباً ما تكون أطرافه الطويلة مرتَّبة بشكل غير مريح. يرتدي بذلة سوداء وربطة عنق، وقد يكون وجهه الطويل متجهِّماً أحياناً، أو دفاعيّاً، أو تبدو عليه لمحة من الدهشة، وخفَّة الدم المستنكرة التي تروح وتجيء في ومضات. إنَّه رجل نكاد نقول عنه متحفِّظ قد نستنتج ذلك من صوره ولا يبدو أنَّه متصالح مع العالم.

صرَّح هوبر لاحقاً عندما سأله أحد أصدقائه وهو براين أودورتي في أحد مقابلاته النادرة على قناة اليوتوب عن سبب تواجد أشخاص منعزلين في لوحاته، فأجاب بعد صمت قليل: ” لقد تمَّ استهلاك تيمة الوحدة…ثم هل تعكس لوحاتي العزلة؟ هذا قد يكون صحيحاً وقد لا يكون صحيحاً.” (Hopper، 2012) لاحقاً، سأله  أودورتي عن السبب الذي جعله ينجذب للمشاهد المظلمة، أجاب هوبر” أعتقد أنَّه سبب يتعلَّق بشخصيتي”.

سبب يتعلق بشخصيتي…! يمكن أن نستشفّ من هذه” العبارة الملتبسة “عن علاقة وطيدة ( أنطولوجيَّة)  بين شخصيَّة هوبر وأعماله الفنيَّة. فقد ترك لنا بعض التفاصيل الصغيرة عن حياته مكتوبة لنقرأها، ولكن الأهم من ذلك فهوبر ترك لنا عدد كبيراً من صوره الشخصيَّة التي يحبُّ التقاطها كثيراً .

لا يمكننا إنكار الصلة الوثيقة بين شخصيَّة هوبر ووصف الشعور بالوحدة، رغم أنَّ هذا الفنان لم يحبّ فكرة أن يتمّ تأطير لوحاته بتيمة واحدة كالوحدة مثلا.  يقول كارتر فوستر المسؤول عن متحف وينتي الشهير بنيويورك إنَّ” هوبر يقوم بشكل روتيني بإعادة إنتاج مساحات معينة، وتجارب مكانيَّة شائعة في نيويورك تنتج عن حالة الاقتراب الجسدي مع الآخرين، والابتعاد الروحي عنهم، ويوظف من أجل تحقيق ذلك- النوافذ، الجدران، الأضواء، والظلمة أيضاً-. (Delany, 1990)).

  1. إدوارد هوبر: شاعر العزلة

إذا بدأنا باللوحات التي رسمها هوبر يمكن اعتبار لوحة  Hotel window) ) الأكثر إثارة للاضطراب. فحينما ينظر المرء إلى هذه اللوحة يشعر كأنَّه ينظر إلى مرآة عرافة، ترى فيها لمحة من المستقبل وملامحه المكشوفة. السيِّدة في هذه اللوحة أكبر سنّاً، متوتِّرة ولا يمكن الاقتراب منها، تجلس على أريكة في غرفة فارغة أو في بهو الفندق. ترتدي ملابسها وهي على وشك الخروج، على رأسها قبّعة وعلى ظهرها رداء؛ وتنظر إلى الشارع المظلم عبر النافدة، رغم أنَّه لا يوجد شيء واضح في المشهد سوى النافذة المظلمة في البناية المقابلة.


مثل هذه اللوحة وغيرها لدى هوبر لا تدعوك للدخول إليها، فهي مليئة بالظلال الداكنة والأماكن المظلمة وببقع من الضوء الساطع وأحيانا المزعج. ويصحّ أن يقال إنّها ليست لوحات مضيافة أو ودودة. إنَّها تدفعك إلى الوراء، تردّ نظراتك وتطلب منك أن تتفحّص مشاعرك وأنت تحاول فهم ما تراه أمامك.

  • إدوارد هابر الهادئ- المنزعج   

إنَّ الانزعاج والتوتُّر في شخصيَّة هوبر حاضر حتى في أكثر أعماله لطفاً، فلوحة( Morning in a City )، وهي من الأعمال التي أحببتها لهوبر، قد جسَّد فيها كل معاني الوحدة والعزلة. بإمكان المرء أن يرى كيف تقف فيها المرأة في هذه اللوحة  وهي عارية قرب النافذة، وتحمل في يدها منشفة، تبدو مسترخية ومطمئنَّة، وعلى جسدها بقع بلون اللافندر؛ الوردي والأخضر الباهث. المزاج مسالم ولكن رغم هذا فإن أبهت مؤشر للقلق والوحدة يظهر في الجهة اليسرى البعيدة في اللوحة؛ حيث النافدة المفتوحة تتيح المجال للبناية في الخارج، والتي سطع عليها صباح السماء لتتلون بلون الفانيلا والورد. في تلك البناية هناك ثلاث شبابيك، ستائرها الخضراء نصف مسدلة، وما داخلها أسود تمامًا، وإن كنا سنعتبر الشبابيك مماثلة للأعين، فإنَّ هذا الحاجز اللوني المعتم يمنعنا من معرفة ما إن كان أحد يستطيع رؤية الفتاة في اللوحة، أو ربما هي متجاهلة تماماً غير مرئيَّة غير معترف بوجودها، غير مرغوبة.

لماذا إذن نستمر في إلصاق تيمة العزلة بأعمال هوبر؟ الإجابة السهلة هي أنَّ لوحاته تميل إلى كونها تحتوي على أشخاص وحيدين، أو على مجموعات صغيرة منفصلة تماماً عن بعضها، تتكوَّن من شخصين أو ثلاث وغالباً ما تكون ملامح شخصيَّاته في لوحاته تشير إلى الكآبة والحزن.

في لوحته المخيفة( Night Window) ، تتطوَّر هذه المخاوف لتنتقل إلى مرحلة القلق الحاد. ترتكز اللوحة على الجزء العلوي من بناية ما؛ ثلاثة شبابيك ، ثلاثة فراغات، لتكشف لنا عن غرفة مضاءة. في الشباك الأول تتحرك الستائر للخارج، وفي الشباك الثاني تظهر امرأة ترتدي لوناً وردياً وتنحني باتجاه سجادة خضراء، ووركها مشدود. وفي الشباك الثالث، يظهر مصباح مضيء عبر طبقة  من القماش، بالرغم أنه يظهر على أنه جدار من اللهب. هناك شيء غريب كذلك بخصوص زاوية النظر التي تم رسمه للوحة، من الواضح أنها من الأعلى –لأننا نرى أرضيَّة الغرفة، ولا نرى سقفها- لكن الشبابيك تقع في الطابق الثاني على أقل تقدير، وهذا يجعل من ينظر من هذه الزاوية معلقاً في الهواء !! أكثر الإجابات احتمالاً  لهذا التساؤل، هو أن صاحب هذه الزاوية قد تمكَّن من سرقة لحظات قصيرة بينما يتحرَّك به مصعد محطَّة القطار، والذي كان يحب هوبر أن يركبه ليلاً وهو مدجَّج بالأوراق وطباشير وأقلام الصباغة.

-على سبيل الختم

 لا أعتقد أن هناك العديد من الناس في العالم الغربي على الأقل الذين لم يسبق لهم رؤية الجانب المرتبط بالوحدة في لوحات إدوار هوبر، أو لم يسبق لهم رؤية نسخة من هذه اللوحات معلقة في غرفة انتظار داخل عيادة أو ممر مكتب أو في صالونات الثقافة…، لقد انتشرت لوحاته كالنار في الهشيم وبشكل مسرف جداً، لتصبح مألوفة جداً بفعل تجسيدها لمعاني الوحدة والعزلة. كما أنَّنا لا نجد أي لوحة لهوبر وهي مليئة بحشود من الناس، بالرغم من أنَّ حشود البشر هو التوقيع الرسمي لمدينة نيويورك، بدلاً من هذا نجد أن لوحاته تركِّز على العزلة… أفراد وحيدين أو أزواج في وضعيَّة انعدام تام للتواصل.

في سنة 1935 توصَّل الطبيب والمحلِّل النفسي هاري ستاك سلوفيان إلى تعريف ما يزال صامداً حتى اليوم للشعور بالوحدة حينما عرفها قائلاً: ” إنَّها التجربة البغيضة جداً والمتزايدة المرتبطة بالحاجة غير المشبعة للألفة الإنسانيَّة.” وربما هذا ما عاشه الفنان العظيم إدوار هوبر.

_________

المراجع:

-1Delany,Samuel , the Motion of lite on wate,Ed. paradine 1990

2- (27) Edward Hopper’s New York (NGA) – YouTube
________
*يعقوب أمكاســو

-ماجيستير في علوم التربية –جامعة محمد الخامس-كلية علوم التربية-المغرب

-جامعة محمد الخامس،الرباط، المغرب.

جديدنا