ذاكرة المكان في رواية عازفة البيكاديلي

image_pdf

حين أتتني الدعوة من منتدى شرق وغرب ومنتدى ليل الثقافيين للمشاركة في ندوة حوارية مع الكاتب د. واسيني الأعرج وتقديم قراءة في الرواية، وافقت فورا  فالكاتب التقيته أكثر  من مرة في رام الله المحتلة حيث كنت أقيم، والرواية ممتعة وتحمل في طياتها رسالة  مهمة حول ضرورة المحافظة على ذاكرة المكان وإعادة إحياء ما تعرض للعطب، ودوما كنت أقول في ندواتي ومحاضراتي عن ذاكرة الأمكنة في الوطن المحتل أن الأعداء يسعون دوما لشطب ذاكرتنا، وشعب بلا ذاكرة يسهل شطبه، ونحن شعب يمتلك ذاكرة تعود لأحد عشر الف عام قبل الميلاد، وليس من السهل شطبنا ان حافظنا على ذاكرتنا، ولهذا من الضرورة أن نعرف كيف نظر الكُتاب للمكان وكيف وظفوا الذاكرة مع المكان في السرد الروائي بشكل خاص.

الرواية صدرت عن دار الآداب/ بيروت 2023 م في 375 صفحة من القطع المتوسط، ولوحة الغلاف لوحة تظهر امرأة عارية الكتفين والظهر وفستان أزرق كما زرقة بحر بيروت تعزف على البيانو في حالة كبيرة من الانسجام، بينما القسم العلوي من الغلاف عبارة عن “نوتات موسيقية” فكان الغلاف متناسبا ومعبرا عن محتوى الرواية، وإن لم يتم الإشارة لمصمم الغلاف وربما يكون من طاقم العاملين في دار النشر وبالتالي ليس الغلاف لوحة لها حقوق للنشر.

د. واسيني الأعرج عودنا في رواياته على توثيق ذاكرة المكان وخاصة المدن على شكل رواية يحكمها خيال الكاتب، مع الحرص على دقة المعلومات وهذا ما نراه في روايات سابقة، ولو أردت البحث في الأمكنة والاهتمام بها من قبل الكاتب لاحتجت الى كتاب ضخم إن لم يكن أكثر من كتاب، ولذا فضلت أن أركز على محور المكان في رواية عازفة البيكاديلي لأبحث عن سر العشق لبيروت المدينة متمثلا بمسرح البيكاديلي، وهذا ما أثار بذهني التساؤل منذ بدأت بقراءة الرواية: ما سر هذا العشق؟ حيث من الملاحظ أن الكاتب بدأ  كتابه بمقطع من مسرحية الشخص للأخوين رحباني وسفيرة النجوم فيروز، وهذه المسرحية عرضت أول مرة في مسرح البيكاديلي عام 1968 وعرفت بإسم بياعة البندورة وهو دور فيروز فيها، واختيار المقطع لم يكن من الفراغ فهو اختيار مقصود وخاصة عبارة: “بيخلص العمر وما بتخلص القصة” وهانحن بعد 23 عام من حرق البيكاديلي وما خلصت القصة ولم يكتشف الفاعل الذي لم يبحث عنه أحد، وأتت الرواية لتبحث عن ذلك من خلال الصحفية إيما، وجرت التغطية على أسباب الحريق والتي أكدها رجال الاطفاء أنها بفعل فاعل وليس تماس كهربائي كما الرواية الرسمية، ومن هذا المقطع أنتقل الى الرواية وذاكرة المكان في بيروت، وقد أشار الكاتب في تقديم الرواية كيف أنه كان يصر أن يدخل مسرح البيكاديلي المحترق حتى لو اضطر للتسلل من النوافذ المحطمة كما فعل سابقا، وهذا التفكير يقودنا كم هي ذاكرة المكان ترتبط مع الكاتب بقوة.. هذا المسرح الذي كما قال الكاتب: “سحرت بجماله الآسر وعطر نسائه” وهذا يجعلنا نشعر بدور الربط الجمالي في المكان، ومن خلال مسرح البيكاديلي وهو قلب الرواية ينطلق للمكان الأعم والأكبر وهو بيروت.

المكان والزمان هي أسس مهمة في الروايات وإن كانت أقل أهمية في القصص رغم ضرورتها، فنرى أن د. واسيني منح المكان الحياة والروح وجعل بيروت ومسرح البيكاديلي تروي بعض من الحكاية في عملية أنسنة للأمكنة وليست مجرد مكان من حجر واسمنت، ففي هذه الرواية المكان من فضائين هما فضاء المدينة بيروت بتاريخها وحضارتها وواقعها حين كتابة الرواية، وفضاء المسرح الذي مثل حالة ثقافية ومعلم مهم يؤرخ لمرحلة في غاية الأهمية لبيروت خاصة ولبنان والعرب عامة، فهو مثل ذاكرة مجتمعية وذاكرة فردية لكل من عرفه، فكان أشبه بالذاكرة في بيت العائلة الذي يجعل كل فرد من الأسرة يحمل بعض من ذاكرة المكان والحنين اليه ويورث هذه الذاكرة للأبناء والأحفاد، فكان المكان الجانب الطاغي على السرد الروائي وهو النقطة التي تلتقي حولها الأحاسيس وله المكانة الهامة والقاعدة الأساس للرواية وآفاقها وإطلالتها على سرد الأحداث والتفاعل بينها وبين الإنسان.

ماسي الشخصية الرئيسة في الرواية وراويها والذي عاد إلى بيروت ليبحث عن ذاكرته العاطفية فيها وعن ذاكرة المدينة “بدت له بيروت غريبة، ليست تلك التي دخلها أول مرة بجنون”، وهو هنا يمثل مؤلف الرواية بقوله: “من أجل كتابي عدت” وليس من أجل تلك الفتاة التي رآها في المسرح مرة ولم تفارق ذاكرته، ولكن سيرتا التي يلتقيها أول مرة مواجهة وإن كان يعرفها عبر وسائل الإتصال في العالم الافتراضي تقول له: “أنت أيضا عدت تبحث عن بقاياك في بيروت التي لم تعد بيروت التي عرفت، أنت بالنهاية لم تعد لتبحث عنها”، والتي تقول عن البيكاديلي أيضا: “هناك يد جهنمية محته من الذاكرة” وهذا الكلام اسقاط على بيروت المدينة، فمن يعرف بيروت في السابق ويراها الآن يشعر كم حجم الخراب الذي يسودها، وخاصة بعد تفجير الميناء وتحول حركة البواخر إلى حيفا المحتلة، وهذا ما تأكده بقولها: “قبل أن يحرق كل شيء بضربة قاتلة لم تستهدف فقط المكان، ولكن البلاد بأسرها”.

ونرى التركيز على بيروت بقول الراوي: “من ساعة ما وصلت وأنا أدر في بيروت عن أمكنتنا القديمة، ما وجدت إلا الفراغات القاسية، كل معالم بيروت انسحبت مخلفة وراءها ظلالا باردة، وأمكنة لم تعد معروفة، أو تغيرت هويتها”، ويتحدث عن الأمكنة التي تغيرت في بيروت عبر تاريخها، وعبر الحرب الأهلية التي قسمت بيروت على الهوية وأضاعت الكثير من الأمكنة والمقاهي التي ضمت المثقفين والمبدعين وغيرهم، ويتجلى ذلك حين طلب الراوي افطارا لبنانيا فقالت سيرتا: “خليني اسألهم إن بقي شيء لبناني في لبنان” وفي هذه العبارة لخص الكاتب مشكلة لبنان الذي عملت أطراف كثيرة على تغيير ملامحه وشطب هويته وخاصة في بيروت، وهذا ما لمسته شخصيا حين زيارتي بيروت للمشاركة في مؤتمر عن أمن وسلامة المعلومات في أواخر عام 2015م بعد غياب عن بيروت من عام 1976م، فتجولت أستعيد الذاكرة في الحمراء وفي ساحة البرج ورياض الصلح وغيرها، فلم أجد إلا بعض من ملامح وأبنية شاحبة وبيروت غير التي أعرفها، فهذه بيروت التي قال عنها الكاتب في روايته على لسان نيفليكس عازفة البيانو: “بيروت النائمة على البارود، يمكن أن تصبح في ثانية واحدة مدينة متوحشة تقتل بجنون، وببرودة محيرة، ويمكنها أن تتحول إلى حفنة رماد في لمح البصر، لا شيء في هذه المدينة مضمون، ربما تلك أهم صفة فيها”، وتقول عن بيروت أيضا: “مدينة تنام في الفراغ، إمرأة ميتة، لا تنتظر إلا الدفن”.

“بيروت تقسو أحيانا بلا رحمة على عشاقها” وصف آخر يحمل أبعادا كثيرة في رؤية الكاتب للمكان، ونجد ذلك أيضا بعبارة: “شيء ما في هذه المدينة يشبه الغرابة، ينتصر دوما”، فنرى أن الكاتب يسكنه المكان لكن ليس كما الآخرين، فهنا نجد أنفسنا أمام ذاكرة مدينة مختلفة عن غيرها، برائحتها وقسوتها وعشق عشاقها لها، فهي وكما ورد في الرواية: “بيروت في حرب دائمة مع نفسها, أرض ينبت فيها كل شيء، الورد والشوك معا”، فهي بيروت التي تجاوزت تفجير الميناء هذه الكارثة التي “كادت أن تمسح مدينة بكاملها عن الخريطة”، وهي كما تقول سيرتا أحد شخوص الرواية: “بيروت ليست مظلمة إلى هذا الحد”، ومع ذلك فهي “مدينة تمنحك كل يوم مئات الأشكال من الموت المنتظر”، وتقول أيضا مستغربة من عشق ماسي لها: “لا أفهم بيروت! كلما ظننت أني فهمتها بعمق، وجدتني على الحافة أتسول إجابة ممن عرفوا المدينة قبلي”.

وهذا الحوار بين الاثنين يعطينا إجابة لماذا عشق بيروت كل من عرفها من خارج لبنان أكثر من أبنائها، وهذا العشق يشعر به كل من عرف بيروت في السابق زائر أو مقيم، فهي تعتبرها “وهما” ولكن ماسي يرد عليها: “هذا الوهم يملك جسدا وروحا وعطرا”، وهذا يعطيني الجواب على تساؤلي في البداية ويتجلى بإهداء ماسي روايته لعازفة البيكاديلي لينا حيث شبه بيروت بالأنثى لكنه فعليا كان يوجه الكلام لعازفة البيكاديلي التي التقاها بعد عقود من الزمن ليتجدد الحب، فقال في الاهداء: “بيروت، سيدة الدم والنار والغواية” لينهي الإهداء بالقول: “سيدتي العالية حد السماء، بيروتي التي أحببت واشتهيت، لك هذا الكتاب، لأنكِ المرأة والمدينة والبيكاديلي”، فكان المكان حكاية عشق مازجت بين الواقع وخيال الكاتب في هذه الرواية الممتعة القائمة على المتبادلة والمؤثرة بين المكان والإنسان، فكان المكان هو المسرح الذي لعب الإنسان أحداثه التاريخية باعتباره الجانب الفاعل والمؤثر في أحداث ووقائع السرد الروائي حتى يمكننا أن نقول أن عازفة البيكاديلي هي رواية تاريخية وثقت ذاكرة الزمان والمكان.

“عمَّان 12/9/2023”

جديدنا