التعدُّد اللغوي في المنهاج التربوي الجديد للتعليم الابتدائي

التعدُّد اللغوي في المنهاج التربوي الجديد للتعليم الابتدائي
image_pdf

1ـ تقديم

من القضايا التربويَّة والبيداغوجيَّة التي نالت عناية واسعة بين المتدخِّلين في الشأن التربوي، قضيَّة التعدُّد اللغوي، وتداعياته على المتعلِّم بصفة عامَّة.

تعريف المنهج والمنهاج:

يقصد بالمنهج في اللغة العربيَّة الطريق الواضح، والسبيل الراشد، والمسلك المتَّبع والمعين، ومنه قوله تعالى: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا“المائدة: 48.

ثم تحوَّل المنهج مصطلحا في المجال العلمي ليعني ويدلُّ إجمالًا على “الطريق أو مسلك  البحث،  القصد منه هو البحث عن الحقيقة أو المعرفة في أي علم من العلوم،  أو في أي نطاق من نطاقات المعرفة  التي تنتمي إمَّا إلى العلوم الإنسانيَّة، أو العلوم الحقَّة”[1].

وبعبارة  أخرى فإنَّ المنهج  هو مجموعة من الإجراءات  التي يتَّخذها الباحث للبرهنة على إشكاليَّة البحث، أو الإجابة على الفرضيَّات التي عادة ما تتصدَّر بها  البحوث الإجرائيَّة والعمليَّة.

وعرف الدكتور محمد عابد الجابري المنهج  بقوله هو مجموع الخطوات والمسالك  التي عادة ما يتبعها الباحثون في بحوثهم الإنسانيَّة أو العلميَّة، قصد البرهنة على قضيَّة من القضايا للوصول إلى نتائج معينة.[2]

   2ـ تعريف المنهاج في المفهوم التربوي:

المنهج  هو المعرف والموارد، والمقرَّرات الدراسيَّة، والطرائق التعليميَّة المعتمدة في مستوى من المستويات، بشرط التوافق والتناسب مع الحاجيات والإمكانيات التربويَّة الأساسيَّة للمتعلمين،  مع الأخذ بالتحولات في جهة المعارف التي يعرفها حقل التربية والتدريس، كما يشمل المنهاج التعليمي الفلسفة التربويَّة التي يأخذ بها في نظامه التعليمي.

ومن الدارسين والباحثين من يختزل المنهاج ويضيق من مجاله ويحده في كونه الوعاء الحامل للمواد الدراسيَّة والمعارف والأنشطة التي تقدم للمتعلم في مستوى من المستويات التعليميَّة، والأهداف المادة الدراسيَّة  .[3]  

وبصفة عامة يراد  بالمنهاج خطة عمل حاملة للأهداف، والمضامين، والأنشطة التعليميَّة، والأدوات،  والوسائل  الديداكتيكيَّة، وطرق التعليم والتعلم، وأساليب التقويم والدعم، ويدرج في المنهاج ما يعيشه المتعلِّم داخل القسم، وخارجه  من علاقات وتفاعلات صفيَّة وخارج صفيَّة، والمنهج بهذا الوصف أكبر، وأوسع من المقرَّر.

3ـ  أهميَّة اللغة العربيَّة في بناء التعلمات

إنَّ الاهتمام الواسع باللغة العربيَّة تدريسا وتعليما، يعود إلى كون اللغة العربيَّة هي الأداة الناقلة للمعارف، والصانعة للمهارات والخبرات، والمؤسِّسة لشخصيَّة المتعلم، إضافة إلى اتِّصاف اللغة بعدد من الخصائص، منها الخصائص الأسلوبيَّة والدلاليَّة والتركيبيَّة والصرفيَّة، مما يجعلها  الللغة العربيَّة لغة ميسرة وسهلة  للراغبين والمقبلين على تعلمها.

 4المقاربات اللغويَّة  لظاهرة التعدُّد اللغوي 

تباينت المواقف واختلفت الرؤى اللغويَّة والفلسفيَّة، وتعارضت الاختيارات اللسانيَّة والتوجهات البيداغوجيَّة في مقاربة التعدُّد اللغوي الحاضر في المنهاج التعليمي المغربي الجديد، إلى درجة أنه  يمكن القول إن المواقف من  التعدُّد  اللغوي وصلت  إلى درجة  الاختلاف والتباين والتقاطع بين اللسانين والبيداغوجيين والمتدخلين مباشرة في الشأن التعليمي والتربوي..

ومن متعلقات هذا الإشكال أن التعدُّد اللغوي له تداعيات، وأثاره على متعلمي اللغة العربيَّة في القسم الابتدائي، وهو ما أكدته البحوث الإجرائيَّة المنجزة في الموضوع .

-الاتجاه الأول

هذا الاتجاه يتحفظ  أصحابه من إدخال اللغة الثانية في التدريس في سن مبكرة، ولا سيما في الأقسام الأوليَّة والابتدائيَّة، لما لهذا الإدخال من عواقب وخيمة، وتداعيات سلبيَّة على شخصيَّة المتعلِّم بصفة عامة، وبالتالي فنحن أمام إشكاليَّة لغويَّة معقدة ومركبة  لها تداعياتها، بسبب تموقع المتعلِّم بين اللغة الفصيحة، وبين لغة التخاطب اليومي، أي بين اللغة التي يتعلمها، واللغة التي يتخاطب بها ويتواصل بها  في البيت، وفي الشارع ومع وسطه القريب، مما يرهق منجزه اللغوي، ويؤثره على كفايته التواصليَّة في الأنشطة الصفيَّة والمدرسيَّة، وفي الفصل الدراسي، وهذا الاتجاه ألح  على  لزوم الأخذ بلغة واحدة في السنوات الأولى من التعليم.

وهذا الموقف أخذ  به الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري وفريقه اللساني،  وشرحه وبينه بشكل مفصل في كتيب يحمل عنوان:” اللغة والبيئة”. فأصحاب هذا الاتجاه يصرحون بوضوح، بأن التعدُّد اللغوي يشكل عائقا ثقيلا،  وعبئا كبيرا على المتعلِّم في تحصيله للغة، فهو يحد من تنميّة القدرات اللغويَّة والكفاية التواصليَّة،  وله أثر سلبي على المكتسبات التواصليَّة لمتعلم اللغة العربيَّة  بصفة عامة [4].

والسند التربوي والبيداغوجي الذي استند عليه أصحاب هذا الاختيار هو أن الازدواجيَّة اللغويَّة في التعليم  الأولي، لها تأثير سلبي وعواقب كبيرة، على المتعلِّم، وبالتالي ينبغي تفادي إدخال اللغة الثانيَّة في وقت مبكَّر من التعليم الأولي والابتدائي.

 والمرجع في هذا الاختيار، وسندهم في هذا التوجه أن لكل لغة قواعد خاصة صوتيَّة تركيبيَّة دلاليَّة وثقافيَّة إضافة إلى أن كل لغة حاملة للقواعد الاجتماعيَّة الثقافيَّة الخاصة بالمجتمع التي يتكلم بها .[5]

فهذا التعدُّد اللغوي التي يعيشه  المتعلِّم المغربي هو المسؤول عن التعثر والتراجع والاخفاق اللغوي في مكتسباته  ،  إذ أصبح المنجز اللغوي  والإنشائي والتعبيري للمتعلم  المغربي محل استغراب مريب، وشك مستمر،  وسببا في إدانة المنظومة التعليميَّة، والحكم عليها غيابيا بالفشل  الذريع، وبالإخفاق الكبير….[6].

ويمكن إجمال هذا الموقف في أن أي تعليم لغوي متعدد ينبغي أن يقوم أولا على تمكين المتعلِّم من اكتساب اللغة الوطنيَّة الرسميَّة في سن مبكرة، أولا تلافيا لأثر للازدواجيَّة اللغويَّة، وتداعياتها على النمو اللغوي والمعرفي عند المتعلِّمين، مع الشروع في تعليم اللغات الحيَّة في سن لاحقة ومتأخرة.

ما يعني أنه لا يتم الشروع في تعلم اللغة الثانية في القسم الأولي والابتدائي إلا بعد “أن يكون هذا المتعلِّم قد تعرف على لغته وعلى هويته وفكر في ثقافة مجتمعه بصفة عامة..”.[7].

مع الاعتماد والمراهنة على الانغماس اللغوي، فإذا اكتمل نظام اللغة في ذهنه، أمكنه أن يتعلم اللغة الأجنبيَّة بشرط  أن تتوفر الوسائل  المساعدة  والمعينة على  التعليم…[8].

ومن أبرز هذه الوسائل والأدوات المساعدة على تعلم اللغة الثانية اعتماد المقاربة التواصليَّة، التي تعتمد على التواصل الشفهي لتنمية الرصيد المعجمي واللغوي  لمتعلم اللغات بشكل عام.

-الموقف الثاني

هذا الموقف يمثله عدد من اللسانين، ويرون أن التعدُّد اللغوي لا يشكل عبئا على المتعلِّم، وانه ظاهرة طبيعيَّة وعاديَّة.

وأن التعدُّد اللغوي يشكل غنى ثقافيا، لا  أحد يشك فيه فهو ضروري لكل المجتمعات، لأن اللغة في أحد جوانبها تعكس الحياة بجميع تفاصيلها، وتكشف عن عقائد المجتمع، وتقاليده والقيم التي يحملها والعلاقات والتفاعلات التي يعيشها، ويمر منها.

فهذا الفريق  يعتبر الازدواجيَّة أو التعدُّد اللغوي  ظاهرة طبيعيَّة تعيشها جميع المجتمعات، ولا تؤثر سلبا على تعلم الفصحى، كما أشار إلى ذلك الباحث التربوي احمد اوززي في مقال له اللغة والوعاء[9] .لأن اللغة تحتوي على إمكانات متعدّدة للتعبير والتواصل  والتبليغ،  فهي لا تشكل عائقا أمام  المتعلِّم في التعلم والاكتساب والتحصيل .

فالتعدُّد اللغوي يحقّق بالنسبة إلى الفرد أفاقا أوسع في التصور والتمثل، مما يجعل  اللغة الواحدة  عاجزة عن تحقيقه والوصول إليه.

وهذا الاتجاه راهن عليه أستاذنا الدكتور احمد اوزي[10]  عندما قال بصريح العبارة:” فبالمقابل تباينت  المواقف واختلفت   الرؤى الفلسفيَّة وتعارضت الاختيارات اللسانيَّة والتوجهات البيداغوجيَّة في مقاربة هذا التعدُّد اللغوي إلى درجة  يمكن القول إن المواقف  من   التعدُّد  اللغوي وصلت  إلى درجة  الاختلاف والتباين  والتقاطع بين اللسانين والبيداغوجيين…

لكن التوجه اليوم التي تسير فيه البحوث التربويَّة واللسانيَّة  تؤكد انه بإمكان المتعلِّم  أن يكتسب أكثر من لغة  في مرحلة الطفولة، وان نظريَّة التزاحم اللغوي لم تعد مسايرة للتحولات التي تشهدها الساحة العلميَّة  والبحث العلمي في العلوم السيكلوجيَّة واللسانيَّة …[11].

كما اعتمد أصحاب هذا الاتجاه على ما جاءت به نظريَّة اللسانيات المعرفيَّة التي أكدت أن  الفرد يتعلم في الصغر أكثر من لغة كلما تقدّم في العمر،  قلّتْ قدرتُهُ على تعلّم اللّغة واكتسابها انطلاقا من نظريَّة  The less is more أي الأقل هو الأكثر.

رغم اختلاف الرؤى وفي وغياب البحوث الميدانيَّة المؤطرة التي تشتغل على التعدُّد اللغوي، فإنَّ الحل لهذا الإشكال اللغوي واللساني يأتي من جهة استثمار نتائج الدراسات والبحوث اللسانيَّة واللغويَّة التي تطورت بشكل مثير في السنين الأخيرة kوكان هذا بفضل نتائج هذا العلم المسمى  بعلم  اللغة التطبيقي، أو اللسانيات التعليميَّة -و محوره الأساسي هو  اشتغاله على تدريسيَّة وتعليميَّة  اللغات[12]-.

فلا أحد  يشك في مدى  أهميَّة  اللسانيات  التعليميَّة، وضرورتها  وحضورها في تعليم اللغات وتعلمها، ومعالجة القضايا والإشكالات التي تقف أمام المتعلِّم في اكتسابه للغة.

إن الجواب على هذا الأسئلة من شأنه أن يجد اعتباره في ازدياد الحاجة إلى علم اللغة التطبيقي-اللسانيات التطبيقيَّة- في الآونة الأخيرة، ومن ثم  يجب إدراج هذا التخصص ضمن مواد التكوين والتهليل الأساسيَّة الأساسيَّة في مدارس تكوين معلمي وأساتذة  مواد اللغة العربيَّة.

إن القول والاعتراف باختلاف الرؤى حول التعدُّد اللغويـ مرده  إلى غياب البحوث الميدانيَّة التي تشتغل على ظاهرة  التعدُّد الغوي  على المستوى التطبيقي الإجرائي،  وعليه فإنَّ الحل لهذا الإشكال اللغوي واللساني، يأتي من جهة استثمار نتائج الدراسات والبحوث اللسانيَّة واللغويَّة التي تطورت في السنين الأخيرة وبوثيرة سريعة، وهذا بفضل هذا العلم المسمى  بعلم  اللغة التطبيقي-و محوره الأساسي الذي يدور عليه  هو  اشتغاله على تدريسيَّة اللغات.

*استنتاج وتركيب

إن الجواب على هذه الأسئلة المتعلقة بالتعدُّد اللغوي،  وتداعياتها على المتعلِّم في الأقسام الأوليَّة  يتوقف على  مدى استثمار نتائج  البحوث الإجرائيَّة والميدانيَّة في اللسانيات التعليميَّة، ولا سيما البحوث والدراسات الميدانيَّة  التي اشتغلت على التداخل والتعدُّد اللغوي في الوسط المدرسي  والتعليمي.


[1]ـ  علي سامي النشار:نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام  الطبعة السابعة،  دار المعارف  القاهرة مصر   ج1،  ص: 36.

[2] ـ محمد عابد الجابري المنهج  والمنهجيَّة في العلوم الإنسانيَّة ص”23

[3] ـ.:اللسانيات النسبيَّة وتعليم اللغة العربيَّة لمحمد الاروغاي:22-منشورات اختلاف الجزائر 2013..

[4]– عباس الصوري:اللغة بين الاكتساب والتعلم : ضمن أعمال ندوة تعليم اللغات تعليم اللغات كليَّة الآداب مكناس 2002.ص: 9

[5] —   مبارك ربيع: ظاهرة التعدد للغوي ومضاعفاته في المحيط لمجتمعي   مجلة المدرسة المغربيَّة    العدد:-3-السنة:2011.

 يراجع في هذا الموضوع: احرشاو الغالي 2007  ظاهر نمو الوعي بالازدواج اللغويَّة عند الطفل المغربي منشورات الجمعيَّة الكويتيَّة لتقدم الطفولة:  الكويت.

[5] -مقدمة   الفاسي الفهري:لندوة تعلم اللغة العربيَّة والتعليم المتعدد منشورات معهد الدراسات والأبحاث والتعريب الرباط المغرب 2002.

[6] – محمد  بنعمر التعثر اللغوي عند المتعلم المغربي  لمحمد بنعمر.مجلة أبحاث اللبنانيَّة العدد11-السنة2011.ص92

[7] – ا لدكتور الفاسي الفهري: مقدمة ندوة تعلم اللغة العربيَّة والتعليم المتعدد منشورات معهد الدراسات والأبحاث والتعريب الرباط المغرب 2002.

[8] — الدكتورعبد القدر الفاسي الفهري:اكتساب اللغة العربيَّة والتعلم اللغوي المتعدد   -مجلة أبحاث لسانيَّة المجلد-4-العدد:1-2السنة:1999.ص 19

[9]   أحمد أوزي: اللغة والوعاء مجلة علوم التربيَّة مجلة علوم التربيَّة العدد:-60السنة:2000ص: 2

[10]  -. نفسه

[11] . عبد العزيز العماري:اللسانيات التعليميَّة الواقع والأفاق ندوة تعليميَّة اللغة العربيَّة ص:67

 [12] – عمر اوكان:اللسانيات وتعليم اللغات  مجلة فكر ونقد العدد 36::ص:67

جديدنا