حرب السَّماء

حرب السَّماء
image_pdf

نقرأ في كثير من المقالات والمنشورات أنَّ الحرب الدائرة في غزة، أو بتعبير أدق، جرائم الجيش الإسرائيلي ضدّ المدنيين العزَّل (أطفال، نساء، شيوخ، صحفيون، مستشفيات وسيارات الإسعاف …) لا توجد خلفها أيَّة دوافع دينيَّة، حجّتهم أن إسرائيل دولة علمانيَّة وغالب ساكنتها متشبّعون بالذهنيَّة والثقافة الغربيَّة حيث الإلحاد (وخاصَّة اعتناق الربوبيَّة وإنكار ألوهيَّة الأديان) هو الفكر السائد، أمَّا حجّتهم الأخرى فتتمثَّل في خروج مئات اليهود في شوارع باريس ولندن ونيويورك وحتى تل أبيب ضدّ الحكومة الإسرائيليَّة وقرار حربها على الغزاويين، رافعين شعارات براءة الديانة اليهوديَّة من هذه الجرائم المخالفة لأبسط القيم والأخلاق الإنسانيَّة.

قد نتَّفق مع أصحاب هذا الرأي ولكن في المرمى وبتحفظ، صحيح أن إسرائيل لا تعتبر دولة دينيَّة (نظام حكم ثيوقراطي)، كما أن العلمانيَّة كتوجه عام نجدها واضحة في مؤسَّسات هذه الدولة وهو من أسباب قوّتها (أقول دولة انطلاقاً من التعريف السياسي الأكاديمي لهذه الأخيرة، حيث اجتماع أرض بشعب بعلم يسمَّى دولة، وليس اعترافاً، فلحد الآن الكثير من الدول والمنظمات الدوليَّة لا تعترف بإسرائيل كدولة بل ككيان احتلَّ دولة أخرى هي فلسطين)، ولكن هذا لا يعني فصلهم الدين عن هذه المؤسَّسات بالمطلق كما يحدث في أمريكا وأوروبا، فتدريس الديانة اليهوديَّة ونقد الأديان الأخرى وتفوّق العرق العبري كشعب الله المختار موجود في مناهجهم الدراسيَّة والتربويَّة، الكثير من رجال الدين عندهم ينشرون خطب الكراهيَّة ضدّ كل من هو ليس عبراني عبر منابر المعابد والصحافة والقنوات الفضائيَّة من دون ردعهم أو محاسبتهم (في بعض الأحيان ترفع ضدّهم دعاوى قضائيَّة شكليَّة لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام)، بل وهناك بعض الأحزاب السياسيَّة التي تستخدم الدين علانية في أجنداتها … أما فيما يخصَّ من انتقد القصف العسكري العنيف على غزة من اليهود، فهم بالتحديد طائفة “ناتوري كارتا”، وهذه الفرقة الراديكاليَّة لا علاقة لها أصلاً بإسرائيل لأنهم وحسب عقيدتهم المستوحاة من التلمود البابلي، مُحرّم عليهم بناء دولة إسرائيل حالياً، وحُقّ عليهم العيش في الشتات (متفرقون بين أمم وشعوب العالم) تطهيراً لأنفسهم من لعنة الرب إلى حين ظهور النبي المسيح كعلامة على انتهاء العقوبة الإلهيَّة والإذن باسترجاع بلادهم في أرض فلسطين (من الغباء الاستشهاد بهذه الفرقة اليهوديَّة لأنَّ اختلافهم مع باقي اليهود يكمن فقط في توقيت احتلال فلسطين لا أكثر).

الآن نعود إلى سؤالنا، هل ما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي من تدمير وإجرام ممنهج ضدّ المدنيين الفلسطينيين له دوافع دينيَّة؟ أم مجرد بربريَّة وساديَّة ونازيَّة تعكس حيوانيَّة البشر عند الإحساس بالقوة والطغيان؟

يكفي مطالعة بعض أسفار كتابهم المقدَّس لنجد إجابة شافية لا تقبل التأويل، فهذا الكتاب يصف أهل كنعان بالأشرار، بالذين يقتلون أطفالهم في سبيل الأوثان، بالانحراف والشذوذ الجنسي، وطبعاً الإله لا يقبل هذا الفساد في الأرض فاعتبرهم أنجاس، ولكنَّه لم يعاقبهم بالزلازل والطوفان والأمراض بل اختار بشراً لتنفيذ حكمه الإلهي فيهم، هؤلاء البشر هم بني إسرائيل، جاء على سبيل المثال لا الحصر في سفر اللاويين 18 بعدما ذكر مجموعة من الفواحش واقعة فيها أقوام كنعان وبهذا استحقّت غضبه عليهم واستحقّت الطرد من الأرض التي نجّسوها بقوة جنوده العبرانيين “بِكُلِّ هذِهِ لاَ تَتَنَجَّسُوا، لأَنَّهُ بِكُلِّ هذِهِ قَدْ تَنَجَّسَ الشُّعُوبُ الَّذِينَ أَنَا طَارِدُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ (24) فَتَنَجَّسَتِ الأَرْضُ. فَأَجْتَزِي ذَنْبَهَا مِنْهَا، فَتَقْذِفُ الأَرْضُ سُكَّانَهَا (25) […] فَتَحْفَظُونَ شَعَائِرِي لِكَيْ لاَ تَعْمَلُوا شَيْئًا مِنَ الرُّسُومِ الرَّجِسَةِ الَّتِي عُمِلَتْ قَبْلَكُمْ وَلاَ تَتَنَجَّسُوا بِهَا. أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ (30)”، وجاء في سفر التثنية 09 “اسمع يا إسرائيل أنت اليوم عابر الأردن لكي تدخل وتمتلك شعوبا اكبر وأعظم منك ومدنا عظيمة ومحصنة إلى السماء (01) … فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو العابر أمامك نارا آكلة.هو يبيدهم ويذلهم أمامك فتطردهم وتهلكهم سريعا كما كلمك الرب (03) […]حتى في حوريب أسخطتم الرب فغضب الرب عليكم ليبيدكم (08)”، فلا ريب أن النص التوراتي هو مصدر عقيدتهم العنصريَّة الحاقدة على شعوب شرق البحر الأبيض المتوسط، بل ويحتوي على مئات الآيات التي تُفصّل كيفيَّة قتل هذه الشعوب وطردها من أرضها وتشريدها دون رحمة، جاء في سفر عدد 21 ” فَتَجَنَّدُوا عَلى مِدْيَانَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ وَقَتَلُوا كُل ذَكَرٍ(7) وَمُلُوكُ مِدْيَانَ قَتَلُوهُمْ فَوْقَ قَتْلاهُمْ. أَوِيَ وَرَاقِمَ وَصُورَ وَحُورَ وَرَابِعَ. خَمْسَةَ مُلُوكِ مِدْيَانَ. وَبَلعَامَ بْنَ بَعُورَ قَتَلُوهُ بِالسَّيْفِ (8). وَسَبَى بَنُو إِسْرَائِيل نِسَاءَ مِدْيَانَ وَأَطْفَالهُمْ وَنَهَبُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ وَجَمِيعَ مَوَاشِيهِمْ وَكُل أَمْلاكِهِمْ (9). وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ مُدُنِهِمْ بِمَسَاكِنِهِمْ وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ (10). وَأَخَذُوا كُل الغَنِيمَةِ وَكُل النَّهْبِ مِنَ النَّاسِ وَالبَهَائِمِ (11) وَأَتَوْا إِلَى مُوسَى وَأَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ وَإِلَى جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ وَالْغَنِيمَةِ إِلَى الْمَحَلَّةِ إِلَى عَرَبَاتِ مُوآبَ الَّتِي عَلَى أُرْدُنِّ أَرِيحَا (12) […] فَسَخَطَ مُوسَى وَقَال لهُمْ: «هَل أَبْقَيْتُمْ كُل أُنْثَى حَيَّة؟ (15) إِنَّ هَؤُلاءِ كُنَّ لِبَنِي إِسْرَائِيل حَسَبَ كَلامِ بَلعَامَ سَبَبَ خِيَانَةٍ لِلرَّبِّ فِي أَمْرِ فَغُورَ فَكَانَ الوَبَأُ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ (16) فَالآنَ اقْتُلُوا كُل ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُل امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلاً بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا (17)”.

فماذا ننتظر من بشر يأمرهم إلههم يهوه بإبادة شعوب عن بكرة أبيها لدخول أرض الميعاد؟ وبقتل الذكور وسبي النساء ونهب الممتلكات وإحراق المدن وهدم أسوارها على رؤوس أهلها؟ بل ماذا ننتظر منهم وهم أصلاً يعانون من عنف شريعته التي ليس فيها سوى القتل؟ مُهدد بالقتل من يعمل يوم السبت، ومن لم يختن، ومن يزنِ، ومن يُغضب والديه بالرجم، ومن يبدل دينه يُقتل أيضا بالرجم، وإن كانت مدينة خالفت الشريعة فيجب حرقها بعد ذبح كل ساكنتها، كل مُصاب بالمس أو التابعة يقتل رجماً، كل من ذبح لغير يهوه يُقتل …الخ، هذا بالإضافة إلى مجموعة لعنات ذكرها إصحاح التثنية 28 تُعتبر تفنن من يهوه في تعذيب شعبه المختار في حالة مخالفة أوامره، عقاب سادي غير معقول، ولا يمكن لعقل يؤمن به ويصدقه إلا الإصابة بالخلل والاضطراب.

إن الدراسات الفينومولوجيَّة للديانة اليهوديَّة أثبتت أن يهوه إله وثني في الأصل، وقد كان معروفاً بهذا الاسم “ياه وياهو” ومعبوداً عند بدو الكنعان والبتراء والثمود وصحراء سيناء وغيرهم قبل موسى وظهور التوراة (انظر أعمال عالم الآثار برستد)، مع التنويه أنَّ إرضاء الآلهة في تلك الحقبة كان فقط عن طريق تقديم القرابين وسفك الدماء (العلاقة بين العابد والإله في الأديان الوثنيَّة القديمة مبنيَّة على ميثاق الدم)، إلا أنَّ ما يميّز يهوه كإله من بين الآلهة المنتشرة في المنطقة أن أهل مدين لم يقوموا بتصويره أو نحته كصنم حجري، ما جعله حالة متعالية غير مرئيَّة، وقد تمّ تبنيه لأول مرَّة كإله لبني إسرائيل من طرف موسى وليس إبراهيم (إله إبراهيم بحسب أسفار التوارة هو “إيل”)، بتعبير آخر، يمكن القول أن الديانة اليهوديَّة تطّورت من التعدُّد إلى التوحيد مع موسى بعبادة إله واحد غير مرئي أصله من كنعان ومدين محافظاً على تعطشه للدماء، فهو كما وصفه جورج أموس دورسي “هو إله الناهبين،‏ المعذِّبين،‏ المحاربين،‏ الغزو،‏ كل انفعال وحشي”.

في الأخير، إنّ ما ترتكبه القوات الإسرائيليَّة من جرائم بشعة وبتحريض من سكان المستوطنات (الآلاف من جنود الاحتياط والمدنيين توجَّهوا طوعاً للتجنيد من أجل المشاركة في عمليَّة الاجتياح البري لغزة) والتي جعلت العالم في ذهول، لا يمكن فهمها وتفسيرها بعيداً عن معتقدهم الديني العنيف رغم محاولاتهم إخفائه بخلق إيديولوجيات موازية تكون كواجهة تتحمّل المسؤوليَّة وعلى رأسها الحركة الصهيونيَّة.

جديدنا