في دلالة المنهج الهندسي:
لم يكن الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا أوَّل من ربط بين المنهج الهندسي وبين الكتابة الفلسفية؛ فقد استُخدِم هذا المنهج جزئيًّا في العصور القديمة فقد كان المنهج الهندسي في الكتابات الفلسفية أشبه بتلك التي تكتب الرياضيات وهي طريقة شائعة للشَّرح والبرهان بين فلاسفة العصور الوسطى كذلك. أما في عصر اسبينوزا ذاته فقد أدت نهضة العلوم الرياضية، ونجاحها الهائل في ميدانَي الفلك والفيزياء، إلى دعوة الكثير من المفكرين، مثل ديكارت وهُوبز، ثم ليبنتز و فتغنشتاين فيما بعدُ، إلى الاقتداء بالدقة الرياضية في صياغة الأفكار الفلسفية، وإلى جعل الرياضيات والمنطق بمقدماته الصغرى ومقدماته الكبرى ونتائجه أنموذجًا ومثلًا أعلى للمعرفة البشرية في كافة ميادينها، وإذن فلم يكن اتِّباع اسبينوزا للمنهج الهندسي في كتابَي «مبادئ الفلسفة الديكارتية[1]» و« علم الأخلاق» -الذي نحاول تحليل بعض أفكاره الرئيسية في هذا البحث – بدعةً ليست لها سوابق في تاريخ الفكر الفلسفي، ولكن الذي نودُّ أن نُنبه به في هذا العنوان الفرعي الذي سميناه بـ “في دلالة المنهج الهندسي ” أن استخدام اسبينوزا لهذا المنهج في كتاباته كانت له دلالة خاصة تزيد على كونه مجرد اقتداء بمثل أعلى سائد في عصره.
وإذا حاولنا تبرير استخدامه لهذا المنهج سنجد أن اعتماده للمنهج الهندسي في كتابه هذا هو أفضل وسيلة للتعبير عن الأفكار بدقة كاملة وبشكل أكثر سلاسة، ونضيف أيضا بأن اسبينوزا أراد أن يتجنب الأسلوب البلاغي والإطناب الذي يرتبط عادةً بالكتابة المسترسلة وأن يكتب على نحوٍ يوصله مباشرةً إلى الحقائق. ويمكن أن نشير كذلك إلى أن المنهج الرياضي يستبعد دائما الطريقة الغائية في التفكير، وأنه يتفق مع روح المعقولية والإيمان بالعلم السائدة في فلسفة اسبينوزا، ويتضمن دعوةً إلى التفكير الدقيق واستبعاد الغائية والخيال.
لماذا الطريقة الهندسية؟
لأنها هي التي تجسد النوع الثاني من المعرفة العقلية وهي التي تمكننا من إثبات الحقائق تبعا لنظام الأفكار التامة ولنظام المعاني المشتركة والتي ليست مجردة، بل هي نظام استنباطي باطني للفكر في احترامه لقواعده الداخلية، فنظام الأفكار فيها يحاكي بالضرورة نظام الأشياء كما تتحقق بالواقع.
فيوجد هناك توازن بين الهندسة الميتافيزيقا، فهما العلمان اللذان بمكنتهما وباحترام قبلي لشرائطهما القبلية ان يحققا الأشياء نظريا (أي بشكل هندسي رياضي).
خصص بيندكت سبينوزا الباب الأول من الكتاب ” في الله ” للجزء الميتافيزيقي الذي وضعه كأرضية خصبة تتأسس عليها أخلاقه العملية.
في هذا الباب الافتتاحي يحاول سبينوزا أن يقدم تعريف دقيق وشامل لمجموعة من المفاهيم المهمة التي سترافقنا في الأبواب الأربعة التالية، كمفهوم الله والجوهر والصفة والأشياء المتناهية والحال . إننا إذن أمام بناء نسقي مسترسل منذ الوهلة الأولى التي يضعنا فيها سبينوزا أمام تعريفات وبديهيات حيث يسعى بذلك إلى وضع القارئ أمام مفاهيم ميتافيزيقية الأسس محددة ومنحوتة بحبره الخاص أي يحاول سبينوزا من هذا كله أن يضعنا أمام نسقه الخاص المشيد بمفاهيم قام هو نفسه بإبداعها من خلال فهمه الخاص لله والطبيعة والإنسان .
إننا في هذا الباب إذن أمام حديث مستفيض عن الإله وعن صفاته، لعل ما ميز هذا الباب هو أنه بعيد كل البعد عن عنوان الكتاب علم الأخلاق ،لكنه سيكون بمثابة افتتاحية وتأسيس أنطولوجي للأبواب اللاحقة .
يقدم سبينوزا في البداية مجموعة من التعريفات لأهم المفاهيم والعنصر الفلسفية التي تشكل نواة هذا الباب، كمفهوم الله الذي يحتل مكانة أساسية في علم الأخلاق ، فالله من حيث هو جوهر وله صفات ومكانة داخل الطبيعة .
تعريفات:
يقصد سبينوزا بالجوهر كل ما يوجد في ذاته -أي ما يكون علة ذاته حيث تنطوي ماهيته على وجوده ، إذ لا يمكن لطبيعته أن تتصور إلا موجودة – ويتصور بذاته أي ما يكون بناء تصوره غير متوقف على تصور أخر.
الأشياء المتناهية في ذاته تكون دائما محدودة بأشياء أخرى من نفس طبيعتها ، حيث أننا نقول مثلا أن جسما ما أعظم من جسم أخر فهذا يحيل مباشرة إلى أن الجسم الثاني متناه . ونفس الشيء ينطبق على الفكرة المتناهية أيضا التي تحدها فكرة أعظم منها ، حيث أن الفكرة تحدها فكرة أخرى من نفس طبيعتها تكون أعظم منها . نستنتج إذن من هذا التعريف الذي يخص التناهي أن الفكر يكون متناه عندما يحده فكر أخر يكون أعظم منه، والجسم يكون كذلك متناه عندما يحده جسم أخر يكون أعظم منه، إذن لا يمكن للفكر أن يحد الجسم كما لا يمكن للجسم أن يحد الفكر .
يقصد سبينوزا بالصفة كل ما يمكن أن يدركه الذهن في الجوهر مقوما لماهيته، حيث أن الصفة بهذا المعنى هي بمثابه تجلي لما يحتاجه الذهن قصد ترميمه وتقويمه من طرف الجوهر. الصفة إذن هي الجوهر مدركا من جهتنا نحن .
يقصد بالحال ذلك الشيء الذي يكون مماثلا أو متقابلا للجوهر حيث يقول عنه سبينوزا ” أعني بالحال ما يطرأ على الجوهر”، حيث يكون الحال بمثابة تغير وحادث يطرأ على الجوهر الثابت لكن هذا الحال لا يكون قائما بذاته أي أنه ليس علة بذاته بل هو قائم في شيء أخر غير ذاته ، وهذا ما يجعنا نتصوره بشيء غير ذاته ، وبخلاصة فإن الحال دائما ما يكون تابعا لغيره أي أنه تابعا للجوهر .
بعدما عرف سبينوزا الجوهر يسير بنا بشكل مسترسل نحو تعريف أكثر دقة لمفهوم الله بأنه كائنا لا متناهيا إطلاقا أي أنه لا يوجد أي شيء يحده أو أعظم منه كما رأينا بالنسبة في تنهي الفكر والجسم، وذلك راجع يتكون من عدد لا محدود من الصفات وهذه الأخيرة تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية . يؤكد سبينوزا بأن الله كائنا لا متناهيا إطلاقا ويستبعد أن يكون لا متناهيا في ذاته فحسب ،لأنه إذا كان لا متناهيا في ذاته فحسن أمكن للمرء أن ينفي عنه عددا لا محدودا من الصفات لكن مادام الله لا متناهيا إطلاقا فإننا لا نستطيع أن ننفي أي صفة من صفاته .
الله أو الطبيعة
يبدأ باب “في الله” ببعض التعريفات البسيطة للمصطلحات المألوفة لأي من فلاسفة القرن السابع عشر. “أعني بالجوهر ما يُوجد في ذاته، ويُتصور بذاته”؛ و”أعني بالصفة ما يُدرِكه الذهن في الجوهر، باعتباره مُؤسِسًا لماهية الأخير”؛ و”أعني بالله كائنًا لانهائيًا بالمطلق، أي جوهرًا قائمًا بعدد لا متناهي من الصفات، تُعبّر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية”.
يعني هذا الأمر أنّ الجوهر لا يتقوّم إلا بصفاته التي تعبّر عنه وتحقّقه، والصفات بدورها لا تتقوّم إلا بأحوالها التي تعبّر عنها، وهذا هو المعنى الكلّيّ لمفهوم الوجود عند سبينوزا، حيث يكون هو هذا البساط الذي يشمل في نفس الآن كلّ شيء : المادة والفكر كصفات، والتحقّقات العينية لهذه الصفات كأحوال (شجر، إنسان، حجر، حيوان، معدن، وعي…)، والصفات هي ما يأخذ عنده تسمية الطبيعة “الطابعة”، والأحوال هي ما يأخذ عنده صفة الطبيعة “المطبوعة، وكون الطبيعة طابعة لذاتها ومطبوعة بذاتها، هو ما يعطينا في النهاية معنى “وحدة الوجود”
إن تعريفات الباب الأول، هي تصورات بسيطة واضحة تُؤسِس ما تبقى من نظامه الفلسفي، متبوعة بعدد من البديهيات، التي كما يَفترض باروخ سبينوزا، سوف تبدو واضحة وبسيطة كفاية لأي مُطّلع على الفلسفة ، فمثلا نجده يحدثنا عن الجوهر كل ما يُوجَد، إنما يُوجد في ذاته، أو في شيء آخر”؛ و “مِن علة معينة، ينتج بالضرورة معلول أو أثرمان ومن هذه البديهيات، تصدر بالضرورة القضية الأولى، وكذلك، فإن كل قضية لاحقة، يمكن استنباطها، فقط، بناءً على ما يسبقها
في القضايا الخمس عشرة الأولى من الباب الأول، يستعرض باروخ سبينوزا العناصر الرئيسية لتصوره عن الله. حيث الله لا متناهي، وواجب الوجود أي، غير حادث، ولا جوهر في الكون سواه، وكل ما يُوجَد، إنما يُوجَد فيه.
تأسيسا للأخلاق وللحكمة، يبدأ سبينوزا بوصف الأساس اليقيني لكل معرفة مستقبلية: إن هذا الأساس أوليٌّ وأزلي، ويتعلق بالجوهر. إنه الوجود. وكما أنه لا ينبغي أن يكون تابعًا لأي شيء، فإنه لانهائي؛ بمعنى أنه متفرد، ويشمل كل المظاهر الخاصة بالواقع، سواء تعلق الأمر بالأشياء أو بالأفكار.
لقد عرض نظريته هذه حول الوجود في الجزء الأول المعنون بِـ “في الله” من كتابه “علم الأخلاق”، إلا أنه لم يحدد ما يعنيه بِـ “الله” إلا في القضية رقم 11، قائلًا: «أعني بالله جوهرًا يتألف من عدد غير محدود من الصفات، حيث تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية ولامتناهية، ويوجد وجودًا ضروريًّا.» [2](علم الأخلاق، الباب الأول، القضية 11).
وبما أن الله جوهر فهو بطبيعة الحال متقدم على أعراضه وذلك واضح من خلال القضية 1 ” الجوهر متقدم بالطبع على أعراضه «.
إن الصفات هي التمظهرات المتعددة، أو المظاهر المتعددة واللامتناهية للجوهر. إنها إذن هي الجوهر وتشمل مجموع الواقع؛ أي الطبيعة. من دون شك أن الطبيعة تضم أشياء متناهية ومحدودة، إلا أن هذه “الأحوال” ليست، هي نفسها، إلا تعبيرات عن الصفات، وخصوصًا صفات الامتداد والفكر.
تتداخل هذه المفاهيم المختلفة (الجوهر، الصفات والأحوال) فيما بينها بِشكلٍ لنقل عنه أنه أفقي، وليس تبعًا لتراتبية عمودية ستنطلق من المادة إلى الروح ثم إلى الإله. فنظرًا لكونه يؤسس لوحدة الواقع، فقد قطع سبينوزا مع المذاهب الأنطولوجية التقليدية، التي كانت تميّز بين مستويات موضوعية للوجود. وعلى عكس ذلك، فالوجود بالنسبة إليه هو، في الآن ذاته، عبارة عن مادة وروح، مادام أن الجوهر هو، في الوقت عينه، مجموع الصفات.[3]
إن هذا التسلسل المنطقي، الذي هو في الوقت نفسه تداخٌل، حتمية ضرورية وتسلسل صارم، يُعبّر بالضبط عن ماهية الإله الذي هو أيضًا ماهية الطبيعة. ففي البرهان الرابع من الجزء الرابع من كتابه هذا، يستعمل سبينوزا ضمنيًّا هذا التعبير الذي سيحدد، بشكل رمزي، كل مذهبه الوحدوي أي فيما يتعلق بوحدة الوجود . وفيه يقولDeus sive Natura” الإله بمعنى الطبيعة أو “الإله أو الطبيعة”.
الحرية كوعي بالضرورة
لقد كانت النزعة العقلية عنده توحي إلى أن الفهم كاف وقادر على تجاوز هذا العالم ،وبالفهم يمكن حل مشكلاته وهذا ما جعل الاعتقاد بحرية النفس مجد وهم عنده ، ويرجع ذلك إلى إن الجهل بالعلل التي كانت وراء فعل ما هو الذي يؤدي بنا إلى الاعتقاد بالحرية ،إن كتاب الايتيقا إذن يسعى في جوهره للكشف عن كيفية تحرير الإنسان ، وهذا ليس بالأمر الهين لكن لا يمكن تحققه إلا عبر مسار أنطولوجي جذري ،من خلال طرح أسئلة أنطولوجية ذات بعد وجودي من قبيل كيف هو هذا العالم ؟ وكيف يحصل ما يحصل فيه؟ وكيف نحرر هذا الإنسان من العبودية(الانفعالات ) في نفس الوقت الذي نعرف فيه أن الأشياء الذي ينتجها الاله لم يكن بالإمكان أن تنتج إلا كما هي عليه الان وفق نفس النظام وهذا وارد من خلال القضية 33 من الباب الأول والتي سنعمد على تحليلها بشكل مستفيض ، وذلك من خلال مقارنته بنظرية العوالم الممكنة لدي الفيلسوف الألماني ليبنتز[4]
إن فحوى القضية 33 هي الإجابة على السؤال التالي ؛ كيف يمكن أن نتحدث عن حرية الإنسان من العبودية التي يحيا ويعيش فيها في إطار كون محكوم بالضرورة ؟
إذا عدنا إلى ليبنتز سنجد أنه يفترض أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة الموجودة، وبتعبير أخر أن الاله قد اختار من بين مجموع هذه الإمكانات الموجودة امكانا واحدا فقط وهو هذا العالم الذي نحن فيه . لكن سبينوزا يرى عكس القضية 33 يرى بأن هناك امكان واحد ووحيد فقط من غير وجود عوالم أخرى ،وهو هذا العالم نفسه الذي نحن فيه بالضرورة ، سبينوزا ليس لديه مفهوم الإمكان بل له مفهوم الضرورة ، إن الحرية إذن وبشكل أدق ما هي إلا وعي بالضرورة .
القضية 33 من الباب الأول؛ ” لم يكن بالإمكان أن تنتج الأشياء عن الله بطريقة أخرى وبنظام اخر غير الطريقة والنظام اللذين نتجت بهما “
إن الأمور لم يكن بالإمكان أن تحصل إذن إلا هكذا ، أي أننا أمام عالم و أمام قوانين وأمام طبيعة وجدت على هذا الحال بالضرورة ،حيث لم يكن هناك اختيار للإله بين أكثر من هذا.
الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة
يُصر باروخ سبينوزا على أن للطبيعة وجهين. فمن ناحية، هنالك الوجه الخلّاق والفاعل في العالم؛ أي الجوهر وصفاته، والذي تصدر عنه جميع الأشياء. ويدعو باروخ سبينوزا هذا الوجه بالطبيعة الطابعة Natura naturans (مستعملًا نفس مصطلحات الرسالة القصيرة)، وبعبارة أدق، فإن الطبيعة الطابعة هي الله ذاته. أمّا الوجه الآخر للعالم، الصادر عن؛ والمشروط ب أو القائم بفعل الوجه الأول، فيدعوه الطبيعة المطبوعة Natura naturata] أي الأحوال [ .
“أعني بالطبيعة المَطبوعة كل ما ينتج وفق ضرورة الطبيعة الإلهية، أو وفق ضرورة كل صفة من صفات الله. بمعنى آخر، فإنها أي الطبيعة المطبوعة [كل ما يصدر عن صفات الله من أحوال، باعتبارها ]أي الأحوال[ أشياء موجودة في الله، ولا يمكن أن تُوجَد أو تُتصَور بدونه “ب1، ق 29،ح.1
يُوجَد خلاف حول مماثلة باروخ سبينوزا بين الله والطبيعة الطابعة. والتي يُقرّها التفسير الأقرب للصواب، والقائل بأن كل من الأحوال اللامتناهية والمتناهية، ليست أعراضًا لله أو للطبيعة فحسب، بل أنها مُلازِمة لهذا الجوهر اللامتناهي. وأيا ما يكن الأمر، تظل الأطروحة الرئيسية لباروخ سبينوزا في الباب الأول، هي أن الطبيعة كلٌ لا يتجزأ، غير حادث، وأنها كل ما هنالك. وأنه ليس ثمة شيء خارجها. فكل ما يُوجَد، إنما يُوجَد في الطبيعة، ويأتي إلى الوجود بفعل الطبيعة وفق ضرورة مُحددة. هذا الجوهر، الفريد، والنشط، والضروري، هو ما يُطلق عليه باروخ سبينوزا اسم “الله”.
غياب غائية تحكم الكون
ليس ثمة غائية تَحكم الكون. إذ أن الله / الطبيعة لا يفعل / تفعل لأجل غايات مُعينة، كما أن الأشياء لا تُوجَد لأجل أغراض أو مقاصد بعينها. فليس ثمة علل غائية فالله لا يفعل لأي غرضٍ كان. وإنما تصدر الأشياء عن ماهيته وفق ضرورة متمثلةضرورة] متمثلة في القوانين الصادرة عنه والحاكمة لوجوده[، وأي حديث عن مَقاصد، أو نوايا، أو أهداف، أو تفضيلات، أو أغراض، هو مُجرد خيال مُؤنسِن ]لله[. تبقى كل الأحكام المُسبقة التي قصدت الإشارة إليها، تستند إلى حُكم واحد مُسبَق هو؛ أن الناس يفترضون عموما أن كل الأشياء الطبيعية تتصرف مثلهم لأجل غاية ما؛ بل إنهم على يقين من أن الله نفسه يُوجّه الأشياء نحو غايات بعينها، وهكذا، يقولون بأن الله قد خَلق العالم لأجل الإنسان، وأنه خَلق الإنسان كي يعبده[5]
إن الله ليس مُصمِمًا يمتلك أهدافًا مُحددة، يُحاكِم على أساسها الأشياء بحسب نجاحها في تحقيق مقاصده. بل تَحدث الأشياء وفق نفس القوانين الضرورية الصادرة عنه / عن الطبيعة فحسب. “فليس لدى الطبيعة غايات مُقرَرة سلفًا …وكل الأشياء مسبوقة بضرورة أزلية مُعينة مصدرها الطبيعة.” ولا يعني الاعتقاد بغير ذلك، سوى وقوع المرء تحت سطوة الخرافات نفسها المُؤسِسة للديانات المُنظَمة.
إن إلهًا قاضيًا، صاحب خطط، وله أهداف، لابد من استرضائه وطاعته. ومن هنا، بإمكان الدُعاة الانتهازيين التلاعب بآمال ومخاوف الناس بالاعتماد على ذلك. فهم يصفون أشكال السلوك التي تقي عقابه، وتنال مكافآته.
لكن باروخ سبينوزا يُصر، على أن مَن ينظرون لله أو الطبيعة على السواء كفاعليّن لأجل غايات منها البحث عن غاية في الطبيعة، فهمم يسيئون فهم الطبيعة و” يقلبونها رأسًا على عقب”، وذلك إذ يضعون المَعلول (النتيجة) قبل عِلته (السبب).
كما أن الله لا يفعل المعجزات، لأنه لَم ولَن تُوجَد انحرافات عن المسار الضروري للطبيعة، وحدوث ذلك يعني أن الله / الطبيعة يتصرف / تتصرف ضد نفسها، وذلك مُناف للعقل. أما الإيمان بالمعجزات فإن مصدره الأوحد هو الجهل بالأسباب الحقيقية] الطبيعية [للظواهر.
الإنسان بما هو حال من الأحوال:
في الجزء الثاني من الكتاب المعنون ب في طبيعة النفس وأصلها، يتحول باروخ سبينوزا لمناقشة أصل وطبيعة الوجود الإنساني. إننا لا نعرف من صفات الله سوى الفكر والامتداد. وهنا، تواجهنا الأطروحة التي صَعقت مُعاصريه، والتي غالبًا ما أسيء فهمها، واحتُقرِت على الدوام. حيث يَدّعي باروخ سبينوزا في القضية الثانية أن “الامتداد هو صفة من صفات الله، أو بعبارة أخرى، فإن الله شيء ممتد”، وقد تم تفسيره عمومًا وكأنه يَقضي بأن الله هو كيان مُتجسّد بالمعنى الحرفي للكلمة.
فكل ما هو مُمتد، صادر عن صفة الامتداد وحدها، وكل واقعة مادية تصدر عن سلسلة لا نهائية من الوقائع المادية الأخرى، وتتحدد وفقًا لطبيعة الامتداد وقوانينه فحسب، في الصلات القائمة بين الجسم والأجسام الأخرى. وبالمثل، تَصدر كل فكرة عن صفة الفكر وحدها. وكل فكرة هي جزء لا يتجزأ من سلسلة لا نهائية من الأفكار، كما تتحدد وفق طبيعة الفكر وقوانينه فحسب.
بعبارة أخرى، ليس ثمة تفاعل سببي متبادل بين الأجسام والأفكار، بين الفيزيائي والعقلي. ومع ذلك، ثمة تلازم وتوازي تام بين كلا النظامين[. ففي مقابل كل حال من أحوال الامتداد، حيث تتآلف المادة بصورة مُعينة، تُوجَد حال مُعينة للفكر. وفي الواقع، يُصرّ باروخ سبينوزا على أن “الحال المنسوبة لصفة الامتداد، وفكرة هذه الحال، هما الشيء نفسه، مُعبَّرا عنه بطريقتين مختلفتين”[6]
وبسبب الطبيعة الراسخة والأوّلية للطبيعة أو الجوهر، فإن الفكر والامتداد ليسا أكثر من طريقتين مختلفتين لإدراك الشيء نفسه. ومن ثم، يكون لكل موجود مادي فكرته المُميزة الخاصة به وهي فكرة كافية أزلية تُعبِر عنه، أو تُمثِله في الذهن.
الفاعلية والنزوع: الإنسان هو جزء من الطبيعة
لقد شَرع باروخ سبينوزا في هذا التحليل المُفصّل لتكوين الإنسان، نظرًا لأهميته في تحقيق مراده: إظهار أن الإنسان هو جزء من الطبيعة؛ وأنه يُوجَد ضمن إطار الروابط السببية نفسها التي تَحكم الموجودات الممتدة والعقلية. بما يترتب على ذلك من نتائج أخلاقية خطيرة. فأولًا: يقضي ذلك بأن الإنسان ليس مَفطورًا على الحرية بالمعنى المألوف للكلمة، وذلك ببساطة لأن كلا من عقولنا والأفكار التي تحتويها عقولنا، تُوجَد ضمن سلسلة علِّية من الأفكار الصادرة عن صفة الفكر الخاصة بالجوهر، وكذلك فإن أفعالنا وقراراتنا مُحددة وفقًا لضرورة سببية أي كحلقة داخل سلسلة لا نهائية من العلل والمعلولات[، كغيرها من الوقائع الطبيعية. “ليس في النفس أي إرادة مطلقة أو حرة، بل يَتحتم على النفس أن تريد هذا أو ذاك بمقتضى سبب يُحدده بدوره سبب آخر ، وهذا السبب يُحدده بدوره سبب آخر، وهكذا إلى ما لانهاية[7]
العلاقة السببية بين الأجسام والأفكار
من خلال القضية 48 أعلاه يلزم عن ذلك وكما يجادل باروخ سبينوزا، أن العلاقات السببية بين الأجسام تنعكس في العلاقات المنطقية بين الأفكار كما تُوجَد في الله. أو كما يُلاحظ في القضية السابعة” إن نظام الأفكار وترابطها، هو عينه نظام الأشياء وترابطها.”
وما يَصح على الإرادة، بالطبع، يصح في نفس الوقت على الأجساد فإنه يَصح أيًا على كافة الظواهر النفسية. والتي يُصر باروخ سبينوزا على أنه لم يَتم فهمها بالشكل المُلائم من قبل المُفكرين السابقين عليه، والذين أرادوا تفسير الإنسان كسُلطة خارجة عن الطبيعة أو فوقها أو كأنه دولة داخل دولة، إن هذا الموقف تجاه الانسان أزال التقديس والذاتية على هذا الكائن المتناهي الذي يسير وفق قوانين طبيعية حتمية بالضرورة.
إن الأشياء تصدر عن الماهية الإلهية الواحدة، ومثل هذه الفكرة «تقتضي منهجًا للمعرفة الفلسفية تستمد في الآن نفسه من فكرة الله أفكار الأشياء جميعًا؛ ففي الفلسفة الحقة ينبغي أن يكون نظام الأفكار هو ذاته النظام الفعلي للأشياء، ولكن هذا يستتبع وجوب النظر إلى العملية الفعلية التي تصدر بها الأشياء عن الله من خلال تشبيهها بالظهور المنطقي للنتيجة من أساسها (مقدمتها) أو سببها.
نظام الأشياء هو انعكاس لنظام الأفكار:
إن الحقيقة هي التي هي التي لا تحتاج لأي سند خارجي بل هي معيار ذاتها أي الحقيقة بما هي وعي بما تعي به في ذاتها، إن كل حقيقة تقريرية هي بمثابة انعكاس للأجسام، فهي إذن فهي حقيقة يسندها لا شعوريا وعي ضمني بكونها حقيقة كقولي انني اعرف بأنني أعرف ابتداء، فالحقيقة هنا معيار لذاتها وهي التي تشير لذاتها. إذن فنظام الأفكار في استناده على شرائطه الداخلية يعطي بالضرورة نظام الأشياء، فالفكر في احترامه واعتماده لمبادئه الخاصة والضرورية وفي انطلاقه من الأفكار التي تكون معيار في ذاتها يصل إلى إعطاء صورة عن حقيقة الأشياء ذاتها.
فالحقيقة تصير عنده مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان أي بين العقل والعين فالذهن مطابق للواقع ومطابقة الفكر مع مبادئه الخاصة أي مع شرائطه القبلية، فالحقيقة هي بمثابة اتفاق لما يقرره الذهن مع شرائطه القبلية أو ما يسمى بأوائل العقل.
نظم المعرفة في النسق السبينوزي:
1.التجربة المبهمة: وهي كل تجربة حسية أو تخيلية وهي غالبا ما تكون ظنية لدى عموم الناس ويعبر عنها عموما على شكل علامات ،ويقصد هنا بالعلامة كل ما يتحدد يتجدد إلا بتأويل، إن هذا النوع الذي يستبعده سبينوزا ليس شيئا منضبطا في ذاته ولا يرقى للمعرفة التي تنتج أفكارا تامة وكافية ، ويمكن أن نشير كذلك إلى أن الكتب المقدسة بينت أن الله كان في خطابه للأنبياء لم يكن في بعض الأحيان إلا بالعلامات والإشارات والاستعارات والصور البلاغية التي لن تفهم إلا بتأويلات عديدة .إذن فالتأويل حاضر دائما في النوع من الخطاب .
يمكن أن نورد أمثلة لنوضح مدى ضعف هذه المعرفة الحسية التي تأتينا أحيانا من تجارب سابقة ومن محاكاة ومن إشاعات أحيانا أخرى، مثل معرفة اكتسبتها مما سمعته من الوالدين أو مما تلقيته من المجتمع، فسبينوزا يعطينا مثال التجار الذين اكتسبوا حرفتهم وطريقة اشتغالهم من معلميهم الذين سبقوهم، فهذا النوع من المعرفة يحيل إلى ما تعودت أن أفعله ولا برهان عليه، ويحيل كذلك إلى كل المعارف والتجارب والعادات التي تلقيتها من الخارج.
إن الأصل في هذا النوع هو أن شرائطه وأسسه وبنياته الداخلية لا تأتي من الفكر ذاته، بل تأتي دائما من الخارج.
إنها هذا النوع له مرجعية حسية (سمعت/جربت) أما مصادره فتأتي من الخارج لا تعطي معرفة فأن تتخيل أنك تفكر في قضية ما، هو كون الشرائط الناظمة للتفكير وأصولها أتيه من الخارج، إنها الدرجة الصفر من المعرفة حسب سبينوزا، ذلك سببه أنها مصدرها خارجي وليس باستطاعتنا تعميم تجربة خاصة تم تلقيها من الخارج لم يتم استنباطها من الداخل.
وليس بوسع الانسان العاقل تقبل عادات فكرية على أنها حقائق.
فهذا النظام المعرفي الأول ما هو إلا تطبيق تجارب وتكرارها بالنظر الى نتائجها وليس إلى أصلها. ويضرب سبينوزا لمثال التجار الذين اكتسبوا حرفهم مما حفظوه من معلميهم دونما برهان. فالعادة والتكرار لا تكفيان كي يحصل المرء على نتيجة تكون خلالها صحيحة ومعيارا لذاتها.
إذن فسبينوزا يقصي كل النتائج العملية الصحيحة إذا كانت نظريا غير مستنبطة (غير واضحة في ذاتها) إنه إذن ينفي كل المعارف التي تأتينا من التجربة الحسية.
2.المعرفة العقلية: الهندسية
إن المعرفة العقلية هي معرفة مجردة من تعليمات التجارب العامة ومجردة كذلك من كل التطبيقات والتجارب التي لا برهان عليها وهي تلك المعاني المشتركة (أفكار عامة).
ففي القضية 40 من الايتيقا يحدثنا سبينوزا عن مفهوم الأفكار التامة “كل الأفكار التي تنتج في النفس عن أفكار تامة ،تكون بدورها أيضا أفكارا تامة “[8]
إن المعرفة العقلية الاستنباطية تبقى دائما مجردة من تلك الآراء المشتقة من المجتمع، وهذه المعرفة تصير خاضعة لمنهج استنباطي، وهذا الأخير هو المنهج المطبق في كتاب الايتيقا.
فقد تكون الهندسة والرياضيات هي الشكل الأميز أو الكتابة الصحيحة منطقيا بحسب شرائط المنهج الهندسي (الشكل الأوضح) لما يسمى عنده بالنوع الثاني. ففي القضية 41 يؤكد سبينوزا على أن النوعين الثاني والثالث صادقان بالضرورة.
3.العلم الحدسي:
إذا كان النوع الثاني من المعرفة ضروريا للمعرفة فإن النوع الثالث ليس ضروريا، كون هذا الأخير ليس متاحا لعموم الناس، فالمعرفة الحدسية لا تعني الصوفية، وإنما هي معرفة وإدراك الأشياء كما هي في الإله.
فالفكر عندما يصير حالا في النفس البشرية فإنه يحتفظ بصفة غريبة وهي أنه يبقى لا متناهيا في ذاته أي أنه قابل أن يترقى إلى ما لا حدود له.
إن عمل الفكر في الأحوال يحمل خاصية مشابهة لعمل الفكر في الصفات، كون هذا الفكر غير متناه في جنسه.
ففي العلم الحدسي يرتقي هذا النوع من المعرفة من الفكرة التامة للإله إلى المعرفة الصورية لبعض الصفات الإلهية إلى المعرفة التامة لبعض الأشياء، فسبينوزا ينحو هنا نحو ما يسمى بفكرة الفكرة، فكل فكرة هي بالضرورة وبشكل مباشر فكرة عن الفكرة savoir du savoir وهي بمثابة تفكير في التفكير، فالحقيقة لا تكون حقيقية ما لم تعرف في ذاتها بأنها حقيقية وذلك حسب شرائط النوع الثاني من المعرفة. وكي نوضح ذلك نعود إلى القضية 43 من الباب الثاني “إن من تكون لديه فكرة صحيحة ،يعلم في نفس الوقت أن لديه فكرة صحيحة ، ولا يمكنه أن يشك في صدق معرفته” [9]
ويمكن أن نلاحظ أن الكتاب الخامس من الايتيقا قد كتب بحسب شرائط النوع الثالث من المعرفة وهو العلم الحدسي intuition.
[1] وهو الكتاب الوحيد الذي نشره سبينوزا باسمه طوال حياته
[2] سبينوزا، علم الأخلاق، (الباب الأول، القضية 11) ص 40
[3] Misrahi, Robert (2005): «Dieu» in: «100 Mots sur l’Ethique de Spinoza», Editions Les Empêcheurs de penser en rond/ Le Seuil, Paris. p-p: 136- 14
ترجمة وتقديم حمادي أنوار لنص روبير ميزراحي:مؤمنون بلا حدود
[4] ليبنز هو فيلسوف ألماني عقلاني كان معاصر لسبينوزا و معارضا لبعض أفكاره
[5] انظر : ب1، تذييل
[6] انظر: ” ب2ب 2، ق7، ح.
[7] انظر : . ب2، ق48
[8] المرجع نفسه ص 123
[9] المرجع نفسه ص 128