” السلام الكلي لا يسود إلا في داخل المقابر ([1]).
بول ليفي Paul Levey
1- مقدمة:
يتأصل الصراع بأشكاله المختلفة حضورا وتجذرا في مختلف مظاهر الوجود المادي والاجتماعي، ويتجلى في مختلف مظاهره على مبدأ تفاوت القوة وتكاملها ناموساً في الكون وقانوناً في الوجود. فالكون يقوم على معادلات التناقض والاستقطاب والتكامل وتوازنات القوى، بدءا من أكثر عناصر الوجود اللامتناهية في الصغر حتى أكثر عناصر الوجود اللامتناهية في العظمة والكبر. فالصراع يبدأ في قلب الذرة ولا يتوقف حتى في مختلف مدارات المجرة. ففي قلب الذرة تتفاعل الإلكترونات وتتفاضل في تضافرات القوة والحركة على صورة التفاعل الذري بين أصغر مكونات الذرة بين النترونات والفوتونات، وفي قلب العالم المظلم المضيء -عالم الأفلاك والنجوم – يجري التقاطب بين الذرات والمجرات والشموس والأقمار في دائرة من التجاذب والتنابذ الكوني الذي يشكل قانون الكون الأساسي في المادة والحركة والطاقة. وقد اقرّ علماء الفيزياء في معظمهم بأن الحركة تلازم المادة والطاقة التي تشكل القوة المحركة للوجود، ويتجلى الكون وفقا لعلم الفلك والنجوم والفيزياء الكونية على صورة عالم متحرك في معترك تفاعلات كونية لا متناهية تقاطباً وتجاذباً.
فكل شيء كما يقول نيوتن ” يجري كما لو أن الأجسام تتجاذب بنسبة أحجامها وبنسبة معكوسة لمربع بعدها بعضها عن بعض ” وهذا القانون النيوتني يتيح لنا أن نفهم الحركات الظاهرة في السماء، وتلك التي تدور على الأرض، لأن قوانين السماء تحاكي قوانين الأرض توغلا في ثنايا الوجود. فالتجاذب والتقاطب والدوران وتشاكلات المادة المتحركة تشكل محكم الأسرار الحقيقية للوجود الكوني والاجتماعي في آن واحد. فالكون يتحرك بالقوة، وكل وجود يَمتثل لمبدأ القوة المحركة له في دورانه وتقاطباته وتجاذباته. وهل يمكننا أن نتصور ما الذي يحدث لو افترضنا بأن الأرض توقفت لبرهة عن الدوران؟ والأكثر هولا أن نتصور وهما بأن الشمس قد توقفت عن الحركة في لحظة ما؟ وعلينا عندها أن نسأل حينذاك عن مصير الوجود في المجموعة الشمسية وما يجاورها من أفلاك وأكوان.
ترتسم نظرية الصراع الكونية في أرقى مظاهرها الفلكية في نظرية الانفجار العظيم (The Big Bang Theory )[2]، الذي يقدر حدوثه قبل 13,7 مليار سنة، وهي النظرية الأكثر أهمية وخطورة في علم الفيزياء الفلكية، فالانفجار تعبير صراعي يدل على حدوث تناقض كوني رهيب في العناصر التي تشكل منها الكون. والانفجار لا يكون إلا بقوة ضاغطة وصراع ما بين الأضداد وهو يمثل حالة انفلاق ذري كوني بدأ في لحظة صفرية حيث لم يكن هناك زمان أو مكان، وفي خضم هذا الانفجار العظيم تشكلت الذرات والنجوم وانبثقت الظواهر الكونية وولدت الأشياء. وتنبئنا النظريات الكونية بأن هذا العالم اللامتناهي ما زال يولد دائما ويتجدد وينمو ثم يلتهم نفسه ويدمر تكويناته ويعيد خلق نفسه من جديد[3].
وقديما قال هيرقليطس في وصف جميل للحركة: إن الإنسان لا يستطيع أن يستحم في ماء النهر الواحد مرتين لأن مياها جديدة تجري من حوله أبدا” . فالتغير يجري في حركة تفاعل وصراع وولادة وموت ، وفي أعماقه تنبثق الحياة في عالم من التفاعلات العميقة بين الأرض والسماء بين الشمس والشجر والحجر والنور والماء في حركة دائمة ، وصيرورة لامتناهية من التناقضات التي لا تكون إلا تبشيرا بالحياة انبثاقا من الموت وبالموت انبعاثا للحياة.
وإذا ما ألقينا النظر فيما يجري على الأرض وما فيها من حراك صراعي حاكم وجود الكائنات ، لوجدنا أن كل كائن في هذا الكون يصارع فيها من أجل الوجود، ويناضل فيها من أجل الحياة، محكوما بقوانين المادة والحركة، التي تأخذ صورة نضال وجودي بين الكائنات من أصغرها وجودا إلى أعظمها حجما وأهمها قدرة ونفوذا وسيطرة. وما السلسلة الغذائية الكبرى إلا حركة مستمرة تبدأ من أصغر الكائنات الذرية وجودا إلى أعلاها حجما وأكثرها ذكاء. ويقينا أن الانقطاع في سلسلة الصراع قد يؤدي إلى موت الكائنات وفنائها. فالكائنات العشبية ذوات الأخفاف والأظلاف تناضل في المرعى وتتصارع على الماء والكلأ، ثم يأتي دور الكواسر ذوات المخالب والأنياب التي تتصارع على الكائنات العشبية، ومنظومة الصراع يقينا تبدأ بالهوام والقوارض والحشرات وآكلات العشب والشجر ثم بالمفترسات الكبرى آكلات اللحم والشحم ذوات الأنياب وصولا إلى الإنسان الذي يتربع على عرش الكائنات الحية.
2- الصراع في المنظور الديني:
تنص الأديان في ديابيجها على مفهوم الصراع الذي بدأ مع بداية خلق الكون ويتجلى هذا الصراع في رفض قطعي أعلنه إبليس جهارا رافضا السجود لآدم وقد جاء في البيان الحكيم :” ” وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)” وتلك هي أول مظاهر الصراع بين المولى عزّ وجل وأحد كبار ملائكته السابقين. ويحدثنا القرآن الكريم عن حيثيات هذا الصراع في صيغة التخاطب بين إبليس والمولى عزّ وجلّ إذ يقول تعالى: يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } [الحجر: 32 – 44[ ويتضح من خلال هذا الحوار الملائكي أن الله قد أوجد الصراع بين الخير والشر وقدر مساره على نحو أبدي فيما بين الناس. فالحياة وفق الإسلام تأخذ وضعية صراع دائم ومستمر ضد النفس وفي ممانعة لهمسات الشيطان ويأخذ هذا الصراع صورة حية للصراع النفسي الداخلي ما بين الهوى ومطالب العقل والدين.
ويتجلى هذا التوجه الصراعي في مختلف الأديان في البوذية والمسيحية والمزدكية وفي سائر الأديان فالحياة الإنسانية لا تعدو أن تكون صراع بين الخير والشر بين العقل والغريزة بين الروح والجسد بين الخير والشر بين الهوى والدين.
فالبوذية تقرّ هذا الصراع الأبدي في رحلة لا تتوقف من الصراع بين الخير والشر في الإنسان في رحلة قد تنتهي إلى النرفانا أو إلى الجحيم. ويتجلى هذا الموقف في الطاوية التي ترى بأن الحياة عباره عن طريق ” تاو” أو معادلة من التوازن والانسجام بين الين واليانغ أي بين نقيضين أحدهما سالب والآخر موجب وهذا التوازن يقوم على وحدة الصراع بين الأضداد كما هي بين الظلام والنور، والسكون والحركة، والبرودة والحرارة، والأنوثة والذكورة…) [4]. ولا يختلف الحال في الزرادشتية التي تقول بوجود إلهين متصارعين أحدهما إله للخير ويرمز له بإله النور والآخر إله الشر ويرمز له بإله “الظلام”، وبين الإلهين تدور الدوائر في حالة صراع أبدية لا تنتهي إلا بنهاية الزمان، وهذا يعني أن الزرادشتية تقول بالصراع مبدأً كليا وجوديا وميتافيزيائيا. وهذا هو حال المزدكية التي تأخذ بمثل هذه الثنائية التي تتمثل في الصراع بين الخير والشر. وقد أوضح مزدك بأن أسباب التباغض والصراع بين البشر تقوم على أساس تفاوت خظوط الناس من المال والنساء، و”بالتالي فان القضاء على هذا التباغض والصراع يتحقق عند قبام شيوعيه المال والنساء حسب تصوره”[5].
3- الصراع فلسفيا:
وقد أولى الفلاسفة مفهوم الصراع اهتماما كبيرا وأبدعوا في بناء تصوراتهم الفلسفية حول مآلاته وصيروراته. وتتمحور تصورات الفلاسفة منذ القدم حول ثنائية الصراع في العالم بين الخير والشر بين الحق والباطل بين العقل والهوى. ويعد هيرقليطس أقدم الفلاسفة القائلين بوجود الصراع في الكون الإنساني بوصفه قانونا كليا. وقد عرف عنه قوله المشهور بأن ” الصراع مبدأ الأشياء”، وقدم لنا صورة للكون يَمتثل فيها الصراع لقانونية التناقض بين الأشياء وقد ابدى لنا بأن التغيير يتم بصراع المتناقضات. ويعد هيرقليطس حقيقة أول من قال بالصراع والتغير. والكون في فلسفته ليس إلا سلسلة من صراع المتناقضات الدائم.
ويرى فيثاغورث ” أن كل شيء يولد من الصراع». لأن الصراع يتجذر في ماهية الأشياء ضمن جدلية الوحدة الكلية بين المتناقضات. فـ ـ«أنت تعيش موتك، وتموت حياتك» وهذا يعني أن الحياة موت والموت حياة وهما نقيضان متكاملان في المعنى والدلالة والصيرورة. ومن الخطأ أن نتصور أن الموت والحياة هما شيئان مختلفان، في الحقيقة، هما وجهان لعملة واحدة [6].
وقد جاءنا هيغل برؤية مبتكرة ابتدع فيها فكرة الصراع بين المتناقضات فأرساه قانونا كليا يفسر الوجود وفقل لقوانين الجدل التي تقوم على أساس وحدة وصراع الأضداد، وقانونية نفي النفي، وهي أكثر القوانين تعبيرا عن مفهوم الصراع ودوره في عملية تشكل الظواهر والأشياء. ومن ثم جاء ماركس فأوقف جدل هيغل على قدميه كما يحلو له أن يقول فجعل من الجدل الهيغلي المثالي جدلا ماديا يدور في فلك الأشياء وفي عالم المادة، وقد هيأ له ذلك ابتكار مفهوم صراع الطبقات فجعله قانونا كليا شاملا للوجود الاجتماعي.
وقد سبق لهوبز إقراره المتواتر بأن الصراع حالة طبعية في الوجود وأن الحرب متأصلة في الطبيعة البشرية. وقد اقر روسو هذه الوضعية ووجد بأن الصراع حالة دائمة في عالم الإنسان وأن الخروج منها لا يكون إلا بعقد اجتماعي يضمن للمجتمع سلامه وأمنه.
ولا يقف الفيلسوف الألماني نيتشه عند حدود الإقرار بوجود الصراع، بل انطلق ليؤكد على جوهريته وأهميته في الحياة، فهتف يمجد الحرب وإرادة القوة، وينادي بضرورة سيطرة الأقوياء على الضعفاء، في عالم لا يعرف الرحمة وهو العالم الذي لا يجب أن يكون فيه مكان للضعفاء. وقد أدرك كانط من بعد روسو حضور العنف والصراع في المجتمع ونادى بنظرية السلام لحماية الإنسانية من خطر الإبادة وويلات الحروب. ونجد أن معظم الفلاسفة الغربيين قد أقروا بوجود الصراع في المجتمع الإنساني بوصفه قانونا يحكم مسارات الحياة الإنسانية ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى هايدجر وسارتر الذي عرف بقوله المشهور “الآخرون هم الجحيم ” وهو أبلغ تعبير عن عمق الصراع القائم بين الناس والبشر[7]..
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى نظرية فرويد في علم النفس التي تقر بوجود الصراع عميقا في النفس الإنسانية وفي مسارات التفاعل الإنساني مع الوجود. وتتمحور النظرية الفرويدية في مسار دراسة التناقضات بين عالمي الشعور واللاشعور والصراعات السيكولوجية التي تأخذ مسارات مختلفة.
كان فرويد يرى أن النزوع إلى الحرب والدمار أمر فطري في طبيعة البشر. وقد أراد ألبيرت أنشاتين (A.Anstien) أن يحاوره في هذا الموضوع عبر رسالة أرسلها إليه في أعقاب الحرب العالمية الأولى ونذر الحرب العالمية الثانية تحوم في السماء، وقد كتب يقول قولا لا يخلو من سخرية مبطنة، سيد فرويد: ما الذي يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب ولعنتها؟ ثم يتابع ليسأل فرويد بعد ذلك: هل يمكن لنظريتك في التحليل النفسي أن تقدم شيئا لمنع أي حرب عالمية في المستقبل وتعمل على إيقاف التدمير والعنف في المجتمع الإنساني؟ وفي معرض الرد قدم فرويد إجابته المشهورة التي تتقطر تشاؤما قائلا: “للأسف هذا مستحيل لأن رأيت جذور الحرب في طبيعة الإنسان نفسه” [8].
4- الصراع سوسيولوجيا :
ومن عالم الفلسفة إلى عالم السوسيولوجيا تطالعنا نخبة من المفكرين الأفذاذ الذين صالوا وجالوا في ميدان الصراع الاجتماعي، فأبدعوا نظرياتهم وقدموا تصوراتهم المبتكرة التي قد تتجانس إلى حدّ كبير مع هذه التي استعرضناها في الجانب الفلسفي للصراع. فالحركة لا تتوقف في عالم الإنسان الاجتماعي ولا يستكين الصراع. والتاريخ الإنساني كما يرى علماء الاجتماع تاريخ صراع لا ينقطع أبدا فيما بين البشر وفيما بينهم وبين عوامل وجودهم: الصراع على الكلأ والماء والسلطة ومصادر الوجود والحياة، ليلحق بذلك الصراع على القيم والعقائد والميول. وفي حمأة هذا الصراع تتشكل الحياة وتنطلق شرارة الوجود.
ويعد ابن خلدون المفكر العربي الإسلامي أحد أقدم المفكرين الذي أسسوا لمفهوم الصراع وشيدوا نظريته. وهو الذي تناول هذه المسألة في مقدمته المشهورة ضمن ما يسميه فلسفة الحرب ليقرر بأن الصراع أصيل في الطبيعية الإنسانية مؤكدا أن الحرب جوهرية أي أنها أمر طبيعي حتمي في جبلّة البشر وليست أمرا عارضا على فطرتهم. وقد سبق علماء الاجتماع جميعا في النظر إلى الحرب بوصفها أساس لبناء الدول وتشكيل الحضارات. وقد بين أن العمران البشري يتم بالحرب والصراع بين العصبيات المتنافرة، ولا يمكن لحضارة أيا كانت أن تقوم دون حرب وضرب وصراع وهيمنة. فالصراع لديه يأخذ صورة قانون سياسي اجتماعي استنبطه عبر ملاحظاته السوسيولوجية حول قيام الدول وسقوطها.
وتتجذر فكرة الصراع بوضوح في أعمال مالتوس ودارون وسبنسر الذي شيدوا نظرياتهم في مجال الصراع وأكدوا أهميته في تطور المجتمعات الإنسانية، وقد أشادوا بوظائفه ورسخوا مقولاته التي تدور حول مفاهيم البقاء للأقوى والبقاء للأصلح، وعملوا على تبرير الحروب والصراعات والإبادات بين البشر بوصفها فعاليات طبيعية تؤدي إلى بناء الحياة وتطويرها إلى أكثر أشكالها رقيا ونضجا وتقدما. ويبدو” أنّ كلاّ من سبنسر ودارون استوحيا فكرة البقاء للأصلح من أعمال مالتوس ونظريّاته، ومع ذلك فإنّهما أضفيا على نظرية مالتوس السّكانيّة طابعا تقدّميا وإيجابيّا كان غائبا في نظرية مالتوس”[9]. ومن المفارقات أنّ سبنسر كان قد اعترض بقوّة على القوانين التي وُضعت لمساعدة الفقراء، ورفض أيّ تدخل من قبل الدّولة في الشّؤون العامّة. وعلى هذه الصّورة بدا موقفه الأيديولوجي مُعادياً للفقراء وللطّبقات العاملة، والمسوّغ عنده أنّ قوانين مساعدة الضّعفاء يتناقض مع نظريّة البقاء للأصلح. ويعزّز فكرة بقاء الضّعفاء الذين يعتبرهم عبئا ثقيلا على المجتمع والإنسانية[10].
ومن أبرز المفكرين الاجتماعيين في مجال نظرية الصراع يشار إلى كارل ماركس وماكس فيبر ودارندورف وكوزر وعدد آخر من علماء الاجتماع الذين قدموا نظريات متماسكة وفعالة في الكشف عن المتاهات السوسيولوجية لمفهوم الصراع وتجلياته الاجتماعية [11].
وقد خلص هؤلاء المفكرين إلى أن المجتمع يدور في سديمية الحركة وتموجات المادة تجلياً في صورة صراع لا يتوقف وتناقض لا ينقطع في مجال استكمال شروط الحياة والوجود. فكل فرد في المجتمع يسعى ويناضل ويبذل الجهد والقوة ليصارع الظروف والأحوال والمرض والآخر بحثا عن مصادر الحياة والوجود. وننتهي إلى القول: إن الصراع بأشكاله التناقضية والتنافسية في صيغته التجاذبية والتقاطبية يشكل عنوان للوجود وسرا من أسرار الحياة التي لخصها ماركس وهيغل قبله في قانون وحدة وصراع الأضداد.
وباختصار نستنتج أن التاريخ الإنساني لا يكون إلا تاريخا للصراع: الصراع على الوجود، الصراع من أجل الحياة، الصراع بين الشرق والغرب، الصراع الديني، الصراع الطائفي، الصراع السياسي، الصراع الثقافي، الصراع الطبقي، والصراع في مختلف تجلياته يشكل دينامية وجودية تؤصل للحياة، فالفرد منذ ولادته يدخل في صراع مع الخوف بحثا عن الأمن والطمأنينة والغذاء، إذ تراه طفلا يبكي ويصرخ وينادي ويخاف ويرتجف في طلب الأمن والراحة والشبع، حتى في لحظة الرضاع من ثدي الأم يكون الأمر صراع من أجل الوجود والحياة. وتستمر رحلة الوجود في صراع مع البيئة والعالم الذي يعيش فيه طلبا لأسباب الوجود. فالحياة لا تعطى على نحو عفوي آلي بل تطلب وفي الطلب مشقة وعناء وقوة واجتهاد.
وقد عرف تاريخ الإنسان بالصراع مع البيئة التي يعيش فيها وقد حاول التغلب على مطالبها ودواهيها، ولم يمنعه صراعه الجائر مع الطبيعة أن ينأى عن الصراع مع أشباهه من البشر فتشكلت المجموعات البشرية على صورة قوميات وأعراق وقبائل وأمم وكان التاريخ الإنساني تاريخ حروب وقتال استمر منذ آلاف السنين وما زالت الحروب تهدد وجود البشر وحياتهم ومصيرهم. وهذا كله يأخذنا إلى القول بأن الصراع ناموس كوني وقانون كلي وجودي يحكم البشر والحجر والحيوان والشر.
5- عوامل الصراع ومظاهره :
تركز نظرية الصراع الاجتماعي على المنافسة بين المجموعات وذلك على خلاف أصحاب النظرية الوظيفية الذين يركزون على أهمية التوازن والاستقرار داخل النظام الاجتماعي، وعلى النقيض من التوجهات الوظيفية البنائية فإن منظري الصراع ينظرون إلى المجتمع على أنه تشكيل يقوم على التناقض والتنافس والصراع بين مكوناته ـ وأن الصراع يبدأ من التباين والاختلاف في الثروة والمال والخيرات والسلطة. وعلى هذا الأساسي يرى منظرو الصراع بأن الأفراد والجماعات يتنافسون على الموارد والطاقة والسلطة والقوة الموزعة بشكل غير متساوٍ، وفي حمأة هذا الصراع تسعى كل مجموعة لتحقيق مصالحها الخاصة واكتساب المزيد من الثروات والخيرات واحتكارها. وفي هذا السيناريو، تتحكم مجموعة واحدة أو مجموعات قليلة في هذه الموارد على حساب الآخرين. وهكذا، يبحث منظرو الصراع في الوضعيات الاجتماعية للثروة والقوة والسلطة ويستقصون الأوضاع التي تحيط بالتنافس بين القوى الاجتماعية ويرون بأن الصراع ذاته يؤدي إلى التغيير الاجتماعي. ويمكن القول إن نظريات الصراع لم تكن مجرد نظريات سوسيولوجية فحسب بل يمكن القول مع راندال كولينز أن تاريخ العالم هو تاريخ من الصراع، ومن هذا المنطلق بدأ علماء الاجتماع البحث في الكيفيات الاجتماعية التي يتجلى فيها هذا الصراع فبحثوا في أسبابه الكامنة وفي مقدماته ونتائجه ومحركاته وصيروراته وقد استقر راي معظمهم بأن الصراع يشكل قانون الوجود الاجتماعي وناموس التطور في مختلف ظواهره وتجلياته. [12]
وفي مواجهة معضلة الصراع لم يتوان علماء الاجتماع المعاصرين عن تناول دواعيه ومصادره ودواهيه فقاموا برصده وتحليله وتشكيل النظريات التي تؤسس لفهم هذه الظاهرة الاجتماعية وفق منظور موضوعي تتجلى فيها الأسباب والمسببات وترتسم فيه المتغيرات والضوابط والعلل والاتجاهات. واستطاع علماء الاجتماع مع بداية القرن العشرين تأسيس النظريات السوسيولوجية الفاحصة لظاهرة الصراع بأبعادها وتجلياتها وقد أدلى كل منهم دلوه في هذا الميدان ومن ابرز المنظرين يشار إلى ماركس وماكس فيبر ودوركهايم وكوزر ودارندورف وغيرهم من المفكرين وسنعمل في هذا البحث على استجلاء معالم هذه النظريات لدى ماركس وكوزر ودارندورف وكولينز وسنبحث في طبيعة هذه النظريات وفي مآلاتها الأيديولوجية والسياسية ونبين مقاصدها ومعالمها ونستجلي غاياتها ومناهج البحث التي اعتمدتها وبعضا من نتائجه وسنقوم بتحليل أوجه التباين والتفاضل والتكامل والتناقض بين مختلف جوانب هذه النظريات.
ويمكن القول تأسيسا على ما تقدم بأن جوهر نظرية الصراع ينطلق من حضور التناقض الجدلي في مختلف ظواهر الوجود الاجتماعي والإنساني دون استثناء، وينطلق أرباب هذه النظرية من الاعتقاد بأن عدم توازن القوة يشكل منبع التفاوت والصراع في ميدان الحياة الاجتماعية، ويبنى على ذلك أن التفاعل الاجتماعي لا يكون في أعمق معانيه إلا صراعا من أجل السيطرة والهيمنة، ويؤسس هذا الأمر إلى أن الصراع يوجد في أصل تشكل الهويات والأيديولوجيات والمعاني والدلالات والقيم والمعايير الاجتماعية المتشبعة الصراع الذي يأخذ صورة معادلة التفوق والهيمنة لجماعة دينية أو سياسية أو عرقية أو أيديولوجية على أخرى أو لطبقة اجتماعية ضد أخرى.
وأخير يمكن القول إن نظرية الصراع تشكل منظومة من الجهود الفكرية التي تبحث في مختلف جوانب الصراع الاجتماعي وتوظف في الاستكشاف المعرفي لمختلف تضاريس هذا الصراع والكشف عن بواعثه وتأثيراته وعوامله ومتغيراته. وهي تحاول أن تقدم تفسيرات موضوعية لعوامل نشأة الصراع وحركته ومآلاته وآثاره. وتحاول هذه النظريات أن تقدم إجابات واضحة حول منشأ الصراع وتنوعاته والآثار التي يتركها في المجتمع. وتركز نظريات الصراع على قضايا التوزيع غير المتكافئ للموارد والسلطة والقوة والمكانة. وتحتل قضايا التباين الطبقي والاجتماعي قضايا الصدارة في نظرية الصراع، ويرى منظرو الصراع الاجتماعي أن القوة هي السمة المركزية في المجتمع وهي العامل الحاسم في تأجيج الصراعات وإدارتها، وهم في كل الأحوال يرون أن المجتمع يضج بالصراعات التي تأخذ طابعا الاستمرار في المجتمع في مختلف مستوياته ويرفضون التصورات التي ترى بأن المجتمع يتميز بطابع الثبات والاستقرار وهي الفكرة الرئيسة للاتجاهات الوظيفية التي تتجلى في سوسيولوجيا دوركهايم وسبنسر ومونتسكيو وأوغست كونت.
وتدور نظريات الصراع جوهريا حول مبدأ تفاوت القوة بين الناس أفرادا وجماعات وتفاوت الثروات والخيرات المادية والمعنوية فيما بينهم. فالماركسية على سبيل المثال تنطلق من مبدأ اللامساواة الطبقية في الحصول على الموارد والخيرات المادية وترى بأن هذا التباين يشكل الخلل الأساسي في المجتمع، وعلى هذا الأساس يولد الصراع الأدبي بين الطبقات التي تملك وتلك التي تخضع وتعمل ووفقا لهذه الرؤية فإن الصراع بين طبقتي العمال والرأسماليين يشكل السِّيمَةُ الأساسية للمجتمع الرأسمالي، وهو الصراع الذي يتغلغل جميع أشكال ومظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الغرب الرأسمالي.
6- خاتمة:
وظفت نظرية الصراع في تفسير مجموعة واسعة من الظواهر الاجتماعية، بما في ذلك الحروب والثورات والفقر والتمييز والعنف. وتنحو هذه النظرية إلى أن معظم التطورات الأساسية في تاريخ البشرية، مثل الديمقراطية والحقوق المدنية، تقوم على مبدأ الصراع بين القوى الاجتماعية المتنافرة الساعية إلى الإمساك بمقاليد السلطة والثروة. ويمكن للمبادئ الأساسية لنظرية الصراع أن تفسر العديد من أنواع الصراعات المجتمعية عبر التاريخ. يعتقد بعض المنظرين، كما فعل ماركس، أن الصراع المجتمعي هو القوة التي تدفع في النهاية التغيير والتنمية في المجتمع.
وفي هذا السياق تظهر الوقائع أن نظريات الصراع قد تعددت وتطورت مع تطور الزمن وتغير الأحوال الحضارية في المجتمع الإنساني وقد اتخذت هذه النظريات لبوسا أيديولوجية مختلفة وانطلت لتفسر تطور المجتمع بتطور الصراع في مختلف مناحيه وتجلياته وتقاطعاته الاجتماعية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى النظرية الماركسية بوصفها النظرية المركزية ثم إلى النظريات الفرعية مثل نظرية دارندورف وكوزر وكولينز التي تشكل أكثر النظريات الصراعية حضورا وتداولا في الساحة الفكرية المعاصرة.
مراجع المقالة:
[1]– Paul Lévey: Présentation académique de G.Bouthoul lors de la remise du doctorat Honoris Causa de l’Un. catholique de Louvain,13 Mars,1971.
[2] – أطلق على نظرية نشأة الكون مصطلح الانفجار العظيم (BigBang) في عام 1948 .
[3] – أيمن صلاح، العقيدة في نشأة الكون ونظرية الانفجار الكبير (1) مجلة الوعي، العدد 441-442، السنة 38، أيار – حزيران 2023. https://www.al-waie.org/archives/article/18825
[4] – صبري محمد خليل خيري – مفهوما الحرب والسلام في الفكر الفلسفي والديني المقارن . الأنطولوجيا ، مايو ، 2023 .
[5] – صبري محمد خليل خيري ، المرجع السابق .
[6] – صبري محمد خليل خيري المرجع السابق ,
[7] – صبري محمد خليل خيري المرجع السابق .
[8] – أنظر : علي وطفة ، العنف والعدوانية في التحليل النفسي، الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2008.
[9] – ايغور سيميونوفيتش، مفاهيم هربرت سبنسر السوسيولوجية، ترجمة: مالك أبو عليا، الحوار المتمدن-العدد: 6526، 30/3/2020. http://bitly.ws/AeP5.
[10] – ايغور سيميونوفيتش، مفاهيم هربرت سبنسر السوسيولوجية، مرجع سابق.
[11] – سنستفيض في تناول هذه النظريات في مساق آخر وفي مقالات أخرى عن الصراع تناول فيها أهم النظريات الاجتماعية .
[12] – Kathy S. Stolley , THE BASICS OF SOCIOLOGY Basics of the Social Sciences , GREENWOOD PRESS Westport, Connecticut • London , 2005 . P 25-26.
__________
*علي أسعد وطفة/ جامعة الكويت.