إميليو بيتي والتّأويل الموضوعيّ

image_pdf

الملخص:

في هذا المقال سنحاول تسليط الضوء على مشكلة التأويل عند الفيلسوف الايطالي اميليو بيتي الذي جاء إلى الهرمينوطيقا قادما من فقه القانون . وسنوضّح رسوخ بيتي العميق في الثقافة التأويلية الكلاسيكية والإنسانية، ومركزية إشارته لأعمال جيامباستيتا فيكو (G.B.Vico)، وصياغة نظريته التأويلية بوصفها مكونا للمنهجية الخاصة بالعلوم الإنسانية من خلال تشكل البنية المعرفية لإشكالية الفهم، والتعرّف على قوانين التأويل، فيتم تقديم الهرمينوطيقا هنا كفلسفة أصيلة للقيم .

الكلمات المفاتيح :التأويل، الفهم، الموضوعية الواقعية / الموضوعية المثالية، الحقيقة، المعنى، التاريخ، الانسانية .

مقدّمة

على الرّغم من أنّه ألّف منشوراتٍ عديدةً في مختلف مجالات العلوم القانونيّة (الرّومانيّة الإجرائيّة، المدنيّة، التّجاريّة، القانون الدّولي)، وفي التّاريخ والسّياسة الدّوليّين،يحتلّ إميليو بيتي مكانةً مهمّةً في الثّقافة والفلسفة في القرن العشرين، إذ طالت تأويليّته كلّ شيءٍ، وتمّ تطويرها بشكلٍ صريحٍ بدءًا من عام 1949، على أساس الكتابات النّظريّة والفلسفيّة السّابقة، فضلًا عن أنّ مؤلّفه الضّخم “النّظريّة العامّة في التّأويل”[1] (1955)، الّذي ترجم إلى الألمانيّة بطلبٍ من غادامير عام 1967، ظلّ يحظى بتقديرٍ دوليٍّ أكثر من ذاك الّذي حبته به إيطاليا، وقد كان طموحه الأكبر هو توضيح التّأويل كطريقة عامة للعلوم الإنسانية. من ثمّة تولّد لدى غراندان ما يدلّ على أنّ بيتي قد انخرط بالفعل في الجدل الهرمينوطيقيّ، خاصّةً وأنّه حرّر “مقالتين جدليّتين بالألمانيّة لخّص فيهما الموضوعات الأساسيّة لأفكاره، وهذا جعلها تعرف شهرةً كبيرةً، مقالاته هذه: “الأساس النّظريّ العامّ للتّأويل” (1954) ثمّ تبعها بمقالةٍ أخرى تحت عنوان “التّأويليّة منهجيّةٌ عامّةٌ للعلوم الإنسانيّة(1962)”[2]. هكذا يبدو مبرّرا الخوض في تأويليّة بيتي والكشف عن بنية المعرفة لديه وقوانين التّأويل وأهدافه، انطلاقًا من مدونته، وإنّ علينا، بالتّبع، أن نستبصر دلالة التّأويل الموضوعيّ بوصفه طريقةً مستجدّةً في النّهوض بمطلب الفهم الحقيقيّ. فهل كان الفقيه الإيطاليّ يؤمن حقًّا بمبدأ التّأويل بمعناه الفلسفيّ، أم أنّه كان في الحقيقة يتكلّم عن التّأويل ليعنيَ به ضدّه: التّفسير المنهجيّ؟

في محاولتنا الإجابة عن هذا السّؤال، وجدنا أنّ إيميليو بيتي- من خلال متنه الّذي اضطلع، من نفسه وعلى نحوٍ أصيلٍ،اضطلاعًا موجبًا ببرنامج التّأويل الموضوعيّ- هو أفضل من يقدّم إلينا المعطيات الضرّوريّة للاقتراب منه والتّعرّف عليه، والتّعريف به في الثّقافة العربيّة.

كانت مداخل بيتي في النّظر إلى مسألة التّأويل قانونيّةً، لكنّه غالبًا ما كان ينظر إلى التّأويل من جهة الفهم، ممّا جعلها قادرةً على تجاوز النّطاق القانونيّ الضيّق لتأخذ قيمةً عامّةً- من خلال الحوارات الحيويّة مع شخصيّاتٍ مثل كروتشي وغادمير- أي بوصفها تتأسّس على الفهم. ففي الواقع يُعدُّ التّأويل بالنّسبة إلى بيتي عمليّةً مدركةً منهجيًّا ومتميّزةً عن حدث الفهم، ولكن من دون استبعاد أن تكون أساسيّةً للوجود الّذي يحدّد الاِفتراضات الفلسفيّة.

أمّا جوابًا عن سؤال “كيف سلك بيتي طريقه إلى بيان دلالة التّأويل المأمول”، فيمكن الإشارة إلى أنّ هدفه الأساسي هو بيان قانونٍ للفهم يكون منهجًا عامًّا للعلوم الإنسانيّة، حيث ينظر إلى التّأويل من مستوى الموضوع، لا من مستوى الذّات، وهو ما يحملنا على الإقرار بأنّ التّأويل عنده إمكانيّةٌ معرفيّةٌ دائمةٌ وليس نتيجةً لأزمة الميتافيزيقا في القرن العشرين، وأنّ تشييد الفكرة الهرمينوطيقيّة يكون خاضعًا للقوانين العلميّة لتجنّب النّسبيّة (هيدقر وبلتمان).إنّ النّتيجة الحاسمة هنا، كما صاغها باحثٌ إيطاليٌّ هو المسؤول راهنًا عن ملف تخريج إعادة التّأهيل لمشروع بيتي التّأويليّ، نعني ماسيمو ناردوزا مادزا(M. Mazza)، هي هذه: تأويل النّظريّة العامّة للتّأويل “كمنهجٍ للتّاريخ ودراسة العلوم الإنسانيّة”[3]. وذلك يعني استخدام التّأويل كنظريّةٍ عامّةٍ، والمقصود بالعامّ هو أنّ كلّ أشكال التّأويل والمباني المعرفيّة مشتركةٌ، فتكون الهرمينوطيقا منهجًا لكلّ العلوم الإنسانيّة يهدف إلى تحقيق الموضوعيّة.

يفترض بيتي بشكلٍ مثيرٍ أنّ نظريّته في التّأويل تمثّل تقدّمًا في الاعتراف بتدخّل الذّاتيّة البشريّة في ارتباطنا بالعالم، ولكنّ استنادها إلى بنيةِ الفهم البشريّ الوجوديّةِ غير كافٍ، لا سيّما وقد قادته رغبة تحقيق الموضوعيّة في التّأويل إلى استخدام تقسيمٍ معرفيٍّ نموذجيٍّ بين الذّات والموضوع، معتبرًا أنّ العلاقة بينهما إضافيّةٌ، وسيكون علينا حينئذٍ أن نتساءل عن حقيقة هذه العلاقة الإضافيّة بينهما: هل هو تضايفٌ تقتضيه الموضوعيّة؟ وإذا كان كذلك، فهل تحقيق الفهم مشروطٌ بالذّات، طالما أنّ التّأويل موضوعيٌّ؟ أم أنّه تضايفٌ اقتضته الوضعيّة التّأويليّة، فتدخل الذّات في جوهر التّفسير، على غرار ربط الجزء بالكلّ: فيكون قانون انسجام المعنى في عمليّة التّأويل؟

هذا السّؤال نفسه يراودنا، ولكن بطريقةٍ مغايرةٍ، إذا ما نظرنا إلى التّأويل من جهة الغاية، وهو: هل كانت غاية بيتي الوصول إلى استقلاليّة موضوع التّأويل وملازمة المعيار التّأويليّ عبر التّحكّم في الذّات المؤوّلة، أم كان الأولى بالنّسبة إليه الاحتفاظ بفعاليّة الفهم عبر حركيّة العالم الذّهنيّ للذّات المؤوّلة الّتي تُعيد في داخلها الإجراء الّذي أدّى بالموضوع الآخر إلىإنتاج موضوعاته كنوعٍ من التّحويل؟

ونحن نذهب إلى القول إنّ سؤالًا أكبر يؤمّ هذه الأسئلة وهو:بأيّ معنًى يكون التّأويل الموضوعيّ طريقةً عامّةً للعلوم الإنسانيّة، وطريقةً مميّزةً في التّربية الإنسانيّة كدلالةٍ على فضيلة التّسامح التّاريخيّ؟ أمّا السّؤال النّاظم للدّلالة الإشكاليّة من التّأويل الّذي دشّنه بيتي في نظريّته العامّة فهو: بأيّ معنًى يكون التّقييم الأكسيولوجيّ جزءًا مقوّمًا لظاهرة التّأويل نفسه؟

حقيقٌ بنا على أن ننبّه إلى أنّ بيتي قد أشار صراحةً – في واحدٍ من أهمّ أعماله ونعني “النّظريّة العامّة للتّأويل”- كاشفًا عن التّأثير القويّ الّذي أحدثه فيه أيضًا- إلى أنّه “من الجدير بالاِهتمام والاِحترام دائمًا محاولة تحديد المبادئ العامّة للقانون…والاِستفادة من تحديدها بالمعنى الحديث للوعي التّاريخيّ المنعكس للمشاكل الأخلاقيّة والسّياسيّة الّتي سيتمّ اقتراحها، وقيم الحضارة الّتي يجب حمايتها اليوم”[4].

بالتّأكيد، لا يمكننا التّغاضي عن حقيقة أنّه، في نفس مقدّمة العمل الّذي تمّ ذكره للتّوّ، يوضّح بيتي أنّه يزيل مجال أيّ سوء فهمٍ، معلنًا أنّه يريد أن يبقى على ساحة العلم الظاهراتيّة، دون الاشتراك في أيّ نظامٍ فلسفيٍّ معيّنٍ، لأنّ هدفه هو “نظريّةٌ عامّةٌ، حتّى لو كانت مدفوعةً بالثّقة في الرّوح”[5].

لا ريب في أنّ مذهبه المعروف جيّدا عن المبادئ العامّة، والّذي يتميّز بوجود فائضٍ في المحتوى الأكسيولوجيّ، من خلال الواقعيّة وقوّة التّوسّع، إنّما يضرب جذوره في الصّيغة التّقييميّة.  الآن كيف نقرأ مشروعه التأويلي  في ظل التّطوّرات اللّاحقة، على الرّغم من أنّ بيتي يؤكّد أنّه لا يريد وضع نفسه على أرضيّةٍ فلسفيّةٍ، فإنّه يفشل كما يقول إيريتي(N. IRITI)”في أن يكون له عواقب على وجه التّحديد في هذه النّقطة”[6].

لن أقصد في بحثي هذا الغوص في تأويليّة القانون وتفصيلاته، وإنّما سأقف في مرحلةٍ أولى على إشاراتٍ تحوّليّةٍ، في تحقيق الاِنتقاليّة نحو معنى مسارات التّأويل هذه. وسنوضّح رسوخ بيتي العميق في الثّقافة الكلاسيكيّة والإنسانيّة، ومركزيّة إشارته لأعمال جيامباستيتا فيكو G.B.Vico)).

وسيتبيّن لنا في المرحلة الثّانية، تشكُّل البنية المعرفيّة لإشكالية الفهم، والتي تفضي ببيتي إلى إخراج معالجة تأويلية للموضوع على جهة “الشكل التمثيلي”، بالتعرّف على قوانين التأويل وأهدافه. ذلك أنّ التّأويليّة الموضوعيّة المرغوبة هنا ليست نتيجةً نهائيّةً، بقدر ما هي مطلبٌ أكسيولوجيٌّ، كنمطٍ من الفهم الهرمينوطيقيّ وطريقةٍ مميّزةٍ للتّربية الإنسانيّة، ومن ثمّة تدبّر الحقيقة الموضوعيّة، ضمن حدود المنظور المعتمد من وقتٍ إلى آخر، في أيّ نقطة مراقبةٍ، كطريقةٍ عامّةٍ للعلوم الإنسانيّة.

أمّا الخيط الهادي- الّذي نقترحه لهذا القول الوجيز الّذي لا يسع الوقوف عند كلّ اللّحظات الّتي حرص فيها بيتي على تطوير حاجيّات التّأويل والبحث عن أقصى ممكنات المعنى إلى أبعد الحدود- فهو أنّ مساهمة بيتي علامةٌ متميّزةٌ على حدوث صيغةٍ هرمينوطيقيّةٍ عن ظاهرة التّأويليّة الموضوعيّة، لنخلص إلى كيف أنّ بيتي يمكنه في الواقع اعتبار نفسه فيلسوفًا ضدّإرادته.

  1. المنطلقات القانونية والتاريخية والفلسفية في تشكل الهرمينوطيقا البيتية:

1 – إميليو بيتي فيلسوفًا، نقد الوضعيّة والمعياريّة لكيلسن (Kelsen)

نحن نعرف أنّ بيتي قد عيّن منذ كتابه “النّظريّة العامّة للتّأويل” ليس فقط ماذا يجدر بالتّأويل أن يكون، بل وطبيعة الصّعوبة الجوهريّة الكامنة فيه، واختلاف المفاهيم من حوله. إنّ التّأويل إنّما هو “علمٌ موضوعيٌّ”، وإنّ الصّعوبة الّتي تواجهه إنّما هي “الحالات المختلفة للتّأويل”. ومن ثمّة وجب الاِنطلاق في صياغة قوانينَ أساسيّةٍ تحمي التّأويل من خطر النّسبيّة.  في الواقع، يمكن استخلاص ملاحظاتٍ مهمّةٍ في ما يتعلّق بالفكرة الّتي تكمن وراءها، ممّا يعني أنّنا سنكون الآن قادرين على التّأكّد من الخيارات الدّقيقة في المجال القانونيّ والمجال الفلسفيّ بشكلٍ صحيح.

في المقام الأوّل، عند إعلان خصائص تأويله، يبدأ بيتي بتوضيح ما هو “الحياد التّأويليّ”[7] من أجل تحقيق الموضوعيّة في التّأويل، و يذهب إلى أنّه من الاِختزاليّ حصر علم القانون- على عكس كلسن (Kelsen)[8]– في تحليل الخطاب التّشريعيّ، وترك التّجربة، والتّقييم الحقيقيّ والنّقديّ لصلاحيّة القانون فيما يتعلّق بالحقائق، وبالتّالي مدى ملاءمتها له. يقول: “بعيدًا عن كونه نسخةً من واقعٍ مفترضٍ ومن استنتاج صحّتها (الحقيقة) من كفايتها المزعومة، فإنّ المفهوم الّذي تمّ إنشاؤه على هذا النّحو لن يتمّ تقديره إلّا من حيث قابليّته للاِستخدام: وهذا سيعتمد فقط على درجة الصّرامة الّتي توصّل بها الفقيه إلى وضع قواعد استخدامه”[9]، على العكس من ذلك، فإنّ مطلوب بيتي هو “تحديد” ما يجب على الفقيه القيام به “أن يشرع في تفسيرٍ تاريخيٍّ وتقنيٍّ يراعي كلًّا من المسألة المنضبطة ومعايير الانضباط ذات الصّلة، إذ لا يكفي تحليل منطق اللّغة المستخدمة بموجب القانون: يجب على المرء أيضًا أن يبحث في اتّجاهٍ تاريخيٍّ وتقنيٍّ، في كلٍّ من منطق العلاقات الاِجتماعيّة المنظّمة ومنطق معاملتها القانونيّة”[10]. وهكذا فإنّبيتي يبلغ من حرصه على تحرير المهمّة التّأويليّة من التّحيّز العقائديّ من أجل التّعايش المشترك مع الآخر. وقد قاده ذلك إلى نقد شكليّات كلسن Kelsen ودعم التّأويل الموضوعيّ المحترم للآخرين وللحقيقة التّاريخيّة.

وبالنّظر إلى غرضنا، نحن نجد أنّبيتي قد خلص إلى نتيجةٍ لافتةٍ للنّظر: وهي الاِنتهاء إلى أنّ التّأويل في معناه الحقيقيّ ليس شيئًا آخر سوى ما نسمّيه “الموضوع”. حيث يشرع بيتي في طرح مسألة التّأويل الموضوعيّ خيطًا هاديًا إلى مناقشة التّأويلات السّابقة: سواءٌ أكانت قانونيّةً من جنس القانون، كما حدّدها “كلسن”، أم من جنس الرّؤى الفلسفيّة الأنطولوجيّة كما هي عند هيدقر ومن بعده غادامير.

نحن نجد في مقالة “الهرمينوطيقا بوصفها المنهج العامّ للعلوم الإنسانيّة” (1962)، رسمًا صريحًا لملامح المهمّة التّأويليّة الّتي ما انفك بيتي يعرض خطوطها الأساسيّة في نظريّته العامّة للتّأويل (1955)، ونعني بذلك: أهمّية الموضوع المراد تفسيره، مع إدراك المكوّن الزّمنيّ، التّجريبيّة والفهم المسبق. لهذا السّبب، فإنّ فعل التّأويل هو عمليّةٌ ثلاثيّةٌ، وأقصاها من ناحيةٍ هو المؤوّل، وهو روحٌ حيّةٌ وتفكيرٌ من ناحيةٍ أخرى. الرّوح الّتي جسّدت نفسها في أشكالَ تمثيليّةٍ، وأخيرًا، في الأشكال التّمثيليّة نفسها “كشيءٍ آخر كموضوعيّةٍ ثابتة”[11].

2- أهمّية الموضوع المراد تفسيره، الأصل الفيكويّ:

إنّ التّأكيد على وجود الشّيء المراد تفسيره، في هويّته واستقلاليّته فيما يتعلّق بالمؤلّف والمؤوّل، هو تأكيدٌ لا يخلو من الأهمّية، خاصّةً عند النّظر إليه في المشهد الفلسفيّ للقرن العشرين[12].

من هنا افتتح بيتي محكمة التّأويل وصار مطلوبه هو أن يبيّن أنّ الفلاسفة الهرمينوطيقيّين المعاصرين لم يطرحوا مسألة التّأويل بما هي كذلك. فالأمر لا ينطبق فقط على هيدغر بل على تقليد فلسفة الوعي الّذي رسمه كانط وانتهى إلى تغييب الموضوعيّة.

غير أنّه علينا أن نضع في الحسبان أنّ بيتي لم يهتمّ بمفهوم الموضوعيّة إلّا من أجل عقد نقدٍ    للتّصوّرات الهرمينوطيقيّة الّتي حادت عن مسار التّأويل الصّحيح. ربّ نقدٍ حمله على استدعاء حجّةٍ تأويليّةٍ في نسختها”الأصليّة”، ليعتمد عليها في مرافعته بمحكمة استئناف قضيّة التّأويل في اللّحظة المعاصرة. إنّ النّسخة الأصليّة للتّأويل هي نسخة جيامباستيتا فيكو (G.B .Vico)،المؤسّس الإيطاليّ لعلم التّأويل الموضوعيّ، يقول بيتي: “في الواقع،إذا كان من المؤكّد أنّ موضوع الهرمينوطيقا ليس موضوعًا للطّبيعة، ولا للميتافيزيقا، فهو المصطلح “المعرفيّ”، عالم فيكو المدني”[13]. من وجهة النّظر هذه، هناك ارتباطٌ واضحٌ وواعٍ من طرف إميليو بيتي بفلسفة جيامباستيتا فيكو.

ولكن لم هذا التلفّت من بيتيإلى جهة فيكو إذن؟ وكيف نفسّر أنّ فيكو هو الأوّل، أي قبل الحقبة الرّومانسيّة (شلايرماخروديلتاي) الّذي خصّص له بيتي حيّزًا هامًّا في نظريّته العامّة للتّأويل استدعاه فيه من أجل تصحيح مسار التّأويل؟

   إنّ العالم المدنيّ- بالنّسبة إلى بيتي كما عند فيكو- يخلقه وينتجه الرّجال، وبالتّالي يمكن أن يعرفه الرّجال في حقيقته: حقيقة الفعل (الواقع) الّتي هي مسار هرمينوطيقا التّاريخ، يعرّفها بيتي كونها “وضعًا ابستيمولوجيًّا جديدًا للمعرفة”[14]. هذا العالم المدنيّ للأشكال التّمثيليّة الّتي صنعها البشر، والّتي يمكن أن يعرفها البشر، قد غيّرت في الواقع طرق الوجود والمواقف الّتي وُلد بها هذا العقل. وإذا أردنا معرفة طبيعة الأشياء، فيجب علينا البحث عن ولادتها ونشأتها، ويترتّب على ذلك وجود علاقةٍ وثيقةٍ بين التّعديلات للعقل البشريّ وولادة العالم المدنيّ (المتحضّر). لذلك فإنّ معرفة هذا الأخير ليست وراثيّةً فحسب، بل هي “هرمينوطيقا”، لأنّ العقل البشريّ يدرك حقيقة العالم المتحضّر، ليس فقط في لحظاته الجينيّة، بل في “الأشكال الدّاخليّة” الّتي تجعله مشاركا في المشترك، الإنسانيّة”[15].

نحن نعثر في بداية “النّظريّة العامّة للتّأويل” على إجابةٍ صريحةٍ وحاسمةٍ عن استفسارنا. وتتمثّل هذه الإجابة في هذا: أنّ حقيقة العالم المتحضّر قد تجد مصدرها في ضربٍ من الاستئناف لإشكاليّة التّأويل لدى فيكو، ومعنى الاِستئناف هو تجذير إشكاليّة التّأويل بوصفها مسألةً تاه عنها المعاصرون منذ هيدقر بسبب التّوجّه قبلة الطّبيعة الأنطولوجيّة للفهم وعدم مساءلة الموضوع، أو الواقع بوصفه أصل المسألة التّأويليّة. إنّ غرض بيتي هو الشّروع في ما كان فيكو قد تركه مبيّنًا في الموضع الّذي يصدر منه. هذا المنظور البيتي هو نتيجةٌ لتلك الثّقة في التّرابط والتّواصل بين الإنسان والبشريّة جمعاء، ويجلب معه، من بين أمورٍ أخرى، نقد “الاِنغماس المتمركز حول الذّات الهيدقيري”[16]. يؤكّد بيتي أنّ المنظور الصّحيح هو المنظور المتواضع “لذاتٍ تدرك جيّدا أنّها ليست في مركز الكون الّذي يكتشف”[17]. منظورٌ “غريب الأطوار” بالمعنى الاِشتقاقيّ، أي خارج مركز الكون، من أجل الإدراك المحقّق لحالة الإنسان فيما يتعلّق بالعالم. منظورٌ يكون في نفس الوقت “مركزيًّا للكون”، بأن “يضع الفرد نفسه في شراكة مع كائناتٍ مساويةٍ له، في عالمٍ من القيم يتجاوزه ويكون مركزه خارجه”[18].

وسنكتفي في هذا التّفحّص بالتّكشيف عن أمرٍ هو عندنا أولى من غيره، ألا وهو “القوانين” الّتي احتكم إليها بيتي في استجلاء حقيقة التّأويل ضمن إشكاليّة الفهم.

  1. التأويل الموضوعي: الأسس الابستمولوجية والأكسيولوجية

 1- بنية المعرفة وقوانين التأويل

  • بنية المعرفة، أو إشكاليّة الفهم:

يضع إيميليو بيتي مبحثه الموسوعيّ “النّظريّة العامّة للتّأويل” (1955)، صراحةً في خانة استئناف “التّأويل الموضوعيّ”- بتجديد التّراث الألمانيّ العريق الّذي يعود إلى الحقبة الرّومانسيّة (شلايرماخروديلتاي)- في أفعال الإنسان وموضوعاته، ولكن مع السّعي إلى تأسيسه على إشكاليّة “الموضوعيّة” في ضوء الدّلالة الأصليّة لفعل الفهم الواقعيّ. فالقصد ليس إنتاج نظريّةٍ أخرى في فنّ التّفسير، أكان ذلك للقانون أم للعلوم الإنسانيّة بعامّةٍ، وإنّما العودة إلى المعنى الأصليّ للهرمينوطيقا بوصفها منهجًا عامًّا للتّفسير”الموضوعيّ” والإحكام المنهجيّ لهذا التّفسير. ومن أجل توضيح نظريّته العامّة في التّأويل واستعادة ضياء الهرمينوطيقا من بعد خفوتها في الوعي الألمانيّالحديث – نتيجة سطوة هيدقر- كتب إميليو بيتي مقالةً تحمل عنوان “الهرمينوطيقا بوصفها المنهج العامّ للعلوم الإنسانيّة” (1962)،- أي بعد عامين من صدور “الحقيقة والمنهج” لغادامير- ضمّنها احتجاجًا عنيفًا ضد غادامير وبلتمان وايبلنج. هذا المشروع يقرؤهقروندان – كأحد رؤوس الإشهاد على العصر التّأويليّ- على أنّه “إعادة فكرة التّأويل الّذي يخضع لمعاييرَ علميّةٍ صارمةٍ تضمن موضوعيّة التّأويل في العلوم الإنسانيّة”[19]. ليست الهرمينوطيقا مجرّد انشغالٍ بظاهرة الفهم بإضفاء معنًى على الموضوع بحيث يغدو الفهم مساويًا للتّأويل، بل إنّ غرض بيتي الأساسيّ هو توضيح “الفرق” الجذريّ بين التّأويل والفهم. فمن الفرق يبدأ التّأويل الحقيقيّ ذلك أنّ “إغفال هذا الفرق هو بالتّحديد ما يهدّد الدّراسات الإنسانيّة وينال من قدرتها على استخلاص نتائجَ صائبةٍ صوابًا موضوعيًّا”[20]. في الواقع يستأنف بيتي الفكرة الكلاسيكيّة الّتي تدعو إلى ضرورة إنشاء تأويلٍ يضمن عالميّة العلوم الإنسانيّة وموضوعيّتها، ويحاول تطبيقها في مجال القانون. وهو على بيّنةٍ من جهة التّقليد الّذي ينخرط فيها بكلّ قصدٍ، ضمن فتحتها الأولى في النّصوص القانونيّة.

تدخّل بيتي في مناقشة التّقليد التّأويلي من خلال النّظر في النّصوص القانونيّة، وقد لفت انتباهه على وجه التّحديد، فيما يتعلّق بمستوى الموضوعيّة، وبالتّالي المساواة أمام القانون. ومن أجل التّحقّق ممّا إذا كان الموقف الواقعيّ الملموس يتوافق مع الاِفتراض الوقائعيّ القانونيّ، يفترض “اكتشاف وإدخال المبادئ التّوجيهيّة ذات الصّلة بالمعاملة القانونيّة[21]. يضع الفقيه الإيطاليّ تفسيرًا لإشكاليّة التّوتّر بين تجربة القواعد وخصوصيّة الحقائق وتكوينها، مشيرًا إلى أنّ مفتاح النّجاح المعرفيّ في التّفسير القانونيّ يكمن في الانسجام الّذي يجب أن يحقّقه المؤوّل فيما يتعلّق بالموضوع المراد تفسيره. على عكس الوضعيّة، فإنّ الهرمينوطيقا الملائمة يجب أن تهتمّ بقطبين: أحدهما ذاتيٌّ، الّذي يفهم منه الذّات، والآخر معياريٌّ يشير إلى النّصّ المقصود أن يفهم. ولكن ما هي البنية المعرفيّة الّتي يبني منها بيتي التّأويلات القانونيّة؟

يشير بيتي في مقدّمة كتابه “نظريّةٌ عامّةٌ في التأويل”(1955) إلى أنّ “النّظريّة العامّة للتّأويل، قبل مواجهة مشكلتها المركزيّة، فيما يتعلّق بموقف الذّات الّتي تفسّر الموضوع، يجب أن تطرح مشكلةً أكثر عموميّةً تتعلّق بموقف الرّوح فيما يتعلّق بالموضوعيّة”[22]. يعني أنّبيتي يدرك أنّه من الضّروريّ توضيح الهيكل الّذي يعمل في كلّ فعلٍ معرفيٍّ قبل البدء في تحليل كيفيّة عمله على وجه التّحديد في القانون.

يعلن بيتي- منذ البداية- أنّه يضع تحليله في الذّاتيّة المتعالية (الكانطية) الّتي تسعى إلى الاستجابة لشرعيّة تطبيق فئات الفهم على بيانات التّجربة المقدّمة إلى حواسّنا. ذلك أنّ كلّ فعلٍ معرفيٍّ هو نتيجة تدخّل عنصرين: ذاتٌ وموضوعٌ، حيث لا يعمل الأوّل كمجرّد وعاءٍ سلبيٍّ، ولكنّه يتدخّل بنشاطٍ في عمليّة تكوين عنصرٍ مّا، كائنٍ معيّن. وفي إجابته عن كيفيّة استجابة الرّوح للوضع الواقعيّ، يقول “تستحوذ على واقعٍ مشروطٍ تاريخيًّا، والّذي يواجهها ليس ككيانٍ متعالٍ، ولكن ككائن خبرة”[23].

وبهذا يكون بيتي قد استعاد طريقة كانط في كيفيّة عمل المعرفة، فالمعرفة الوحيدة الّتي نستطيع الحصول عليها عن العالم وعن أنفسنا هي المعرفة القائمة على الخبرة. إلّا أنّ كلّ ما ينظّم ويضفي بنيةً على خبرتنا لا يمكن أن ينشأ من الخبرة، بل لابدّ من تدخّل الذّات من أجل البناء والمفهمة والتّنظيم والتّأليف بين الوقائع والعقل، ذلك أنّ المفاهيم المحضة، دون حدوسٍ حسّيّةٍ، جوفاء، كما أنّ الحدوس الحسّيّة، دون مفاهيم، عمياء.

أمّا من جهة مسألة المنهج، فإنّ نظريّته العامّة في التّأويل توضّح بصرامةٍ- خاصّةً أنّ كلّ معرفةٍ تبدأ بالخبرة، فما يحرّك فهمنا هو مرجعٌ حسّاسٌ غريبٌ بالنّسبة إلينا- أنّه على مستوى “موضوعيٍّ” و”حقيقيٍّ”، بعبارةٍ أخرى فإنّ موضع الذّات، أو الرّوح باستخدام مصطلحات بيتي “مؤهّلٌ كعلاقةٍ ذات حدّين للموقف والاستجابة”[24]، بطريقةٍ يتمّ في أثنائها تشغيل هيكلنا التّوليفيّ من خلال التّفاعل مع الشّيء الّذي يُفرض على حواسّنا.

ويختلف بيتي عن كانط في فهمه للموضوعيّة المثاليّة، موضوعيّةٍ يمكن وصفها بأنّها مثاليّةٌ بتكوين نمطٍ غير ظاهريٍّ للرّوحانيّة، بعيدًا عن كونه خلقًا تعسّفيًّا لذوات التّفكير الفرديّ ونتيجة تقييماتٍ ذاتيّةٍ فحسب. لقد كان بيتي على بيّنةٍ من طبيعة التّأويل الّذي يجدر به أن يأخذ في استكشافه: بيان كيف أنّ “قيم الرّوح تشكّل موضوعيّةً مثاليّةً تخضع لقانونها الخاصّ بشكلٍ معصومٍ”[25]. وذلك يعني اعترافًا صارمًا بالتّأويل الموضوعيّ. إنّ “ما يعطي” على المستوى الموضوعيّ ليس فقط بيانات التّجربة والظّواهر، ولكن أيضًا ما يسمّيه “القيم الأخلاقيّة والجماليّة”، الّتي تقع في مكانٍ مختلفٍ من معطيات التّجربة، ضمن ما يسمّيه بيتي الموضوعيّة. لكن كيف يمكن ترجمة هذه الموضوعيّة للتّأويل في منطق؟

للإجابة عن ذلك أدخل بيتي مصطلح “الشّكل التّمثيليّ”، فيَفترضُ أنّ التّأويل لا يمكن أن يعطى “إلّا في وجود شكلٍ تمثيليٍّ حيث تُفهم كلمة “شكل” بالمعنى الأوسع… للعلاقة الوحدويّة للعناصر الحسّاسة، ومناسبة لإظهار بصمة من أنشأها، حيث يتمّ فهم الوظيفة المؤهّلة، أو “التّمثيليّة”، بمعنى أنّه من خلال الشّكل يجب أن تُظهر نفسها لنا، وتدعو ذكاءنا، إلى روحٍ متنوّعةٍ، حيث ترتبط بنا ارتباطًا وثيقًا”[26]. بهذه الإشارة الحاسمة نجد أنفسنا أمام نكتة الإشكال في بنية التّأويل البيتي.

إن قصد بيتي هو أنّ التّأويل نشاطٌ يهدف إلى الوصول إلى الفهم الصّحيح، أي أنّ الذّاتيّة المثاليّة يمكن أن تكون موضوعيّةً في الظّواهر الّتي هي جزءٌ من الموضوعيّة الحقيقيّة من خلال “الأشكال التّمثيليّة”، هناك شيءٌ مثل الرّوح الموضوعيّة في الأشياء ذاتها، يمكن الوصول إليها من خلال ذكائنا، حيث يمكن للموضوع أن يطبع شكلًا، أو فكرة. فالمؤوِّل لا يمكنه بشكلٍ مباشرٍ، وبلا واسطةٍ أن ينفذ إلى ذهنيّة الفرد الآخر.

تشكّل “الأشكال التّمثيليّة” الرّكن الرّكين الّذي يبني منه بيتي نظريّته التّأويليّة بأكملها، فهي الرّابط بين الموضوعيّة الحقيقيّة والمثاليّة ديالكتيكيًّا، ويفسّر بيتي ذلك بأنّ البشر لديهم “بنيةٌ عقليّةٌ… قادرةٌ على تجاوز كياننا العرضيّ والتّجريبيّ”[27]. إنّوجه طرافة إشكاليّة الفهم، بوصفها حسب تقديرنا لا تعدو أن تكون تجذيرًا طريفًا للتّوجّه الحديث قبلة سؤال “كيف نفهم؟”، هو اتّخاذ مسألة الموضوع أفقًا علميًّا لتأويليّته، والأمارة على ذلك أنّه يصوغ إشكاليّته صياغةً صريحةً بوصفها: “علمٌ في التّأويل”، وهي علميّةٌ لأنّها تفسّر معنى “عيانيّة” الفهم، باعتبارها عمليّةً دائمةً في الحوار والتّعاون المعرفيّ والمراجعة النّقديّة، هدفها الوصول تدريجيًّا إلى المعرفة ذات الطّبيعة الكونيّة والضّروريّة. يبدأ مسار الفهم من خلال توضيح ما يفهمه المؤلّف، وهو أمرٌ ضروريٌّ من خلال أسلوب عمل الأشكال التّمثيليّة المتمثّل في الخلق والتّشكّل، ثمّ تعرض الرّوح البشريّة الموضوعيّة الحقيقيّة للعالم الظّاهراتيّ، وتشرع في تحديثها وفقًا لقيم الموضوعيّة المثاليّة، وبالتّالي بناء الفرضيّة الّتي تبدأ منها مشكلة التّفسير. لكن كيف تشكّل الأشكال التّمثيليّة مبدأ العمل التّأويليّ؟

وفقًا لبيتي، كلّ نشاطٍ تأويليٍّ يجد أصله في الدّعوة الّتي وجّهتها إلينا الأشكال التّمثيليّة الموجودة في الموضوعات. إذ لا يكون الاِتّصال بالواقع فوريًّا، بل من خلال العلامات ذات المعنى، والّتي يستخدمها المؤوّل للوصول إلى الفهم. يكتب بيتي”نأخذ منعطفًا من خلال الأشكال التّمثيليّة الّتي من خلالها تصبح هذه الرّوح الأخرى معروفةً”[28]. هذا يعني أنّ الأشياء لا تظهر لنا كما هي، بل أنّ موضوعات الأرواح الموجودة في الأشياء المذكورة هي الّتي تواجه ذاتنا في كلِّ عملٍ معرفيٍّ. ونحن نعثر لدى قراندان على توضيحٍ للطّريقة الّتي تعمل بها هذه النّماذج التّمثيليّة في قوله: “يفضل بيتي الحديث عن “أشكالٍ تمثيليّةٍ”، أي عن الأشياء الّتي تمّ إيداعها في الأشكال الّتي تحمل المعنى، لأنّ الفهم، حسب قوله، لا يقتصر على المظاهر المكتوبة، وإنّما يمتدّ أيضًا إلى الأصوات والمسارات والآثار والذّكريات والإيماءات… ويدّعي بيتي أنّ الرّوح دائمًا هي الّتي تتداخل في هذه الأشياء، الفهم هنا يعني أن تكون في وضعٍ يسمح لك بإعادة بناء الرّوح الغريبة، والتّعرّف عليها، وإعادة تكوينها في أشكالٍ تحمل المعنى..تدعوني هذه النّماذج إلى المرور بها حتى أتمكّن من إعادة البناء”[29].

إنّ القصد من ذلك هو أنّ التّأويل مبحثٌ لا تحرّكه مزاعم فلسفيّةٌ تقليديّةٌ، أي مزاعم هرمينوطيقيّةً، من جنس الهرمينوطيقا الأنطولوجيّة الهيدقريّة، وإنّما هو وجهٌ مستحدثٌ من التّعرّف على الموضوع كما يفهم. ليس الفهم إدراك المعنى الظّاهريّ للكلمات والجمل الموجودة في الأثر، بل الفهم هو مشاركة القارئ أو السّامع في ذهنيّة الكاتب، أو المتكلّم، ويساهم في الفكرة الّتي تدور في خلدهما. هذا النّوع من فهم الأثر شبيهٌ بالفهم لدى شلايرماخر، “فهم الأثر – كما ذكر شلايرماخر- عبارةٌ عن نوعٍ منإعادة الإنتاج والتّوليد، ومن خلال الالتفات إلى المسافة الموجودة بين المفسّر والأثر، يتّضح أن التّفسير أمرٌ لازمٌ لأجل إدراكالعالم الذّهنيّ لصاحب الأثر”[30].

أمام تعدّد التّأويلات الناتجة عن اختلاف ماهية القوالب ذات المعنى في فهمها للوجودواختلافها، لا يتردّد بيتي في وضع معايير ترسيمٍ صارمةٍ، من أجل تأويليّةٍ تكون حقًّا النّمط الأصيل من الفهم، باعتباره عمليّةً انعكاسيّةً وغير معصومةٍ، يمكن التّحكّم فيه بشكلٍ متبادلٍ، ويهدف إلى أشكالٍ تمثيليّةٍ متميّزةٍ وواضحة. وقد سمّى بيتي هذه الطّريقة في التّأويل “اللّحظات الأربعُ”:

اللّحظة الفيلولوجيّة: وترتبط بالرّموز والعلاقات الثّابتة كالنّصوص. ويهدف فقه اللّغة إلى إدراك المقصود الواقعيّ لصاحب الأثر، واستجلاء المعنى في علاقته بالواقع. ويتوزّع التّأويل في هذا القسم على إدراك أمرين: الأوّل يتعلّق بمجال القواعد والتّركيب اللّغويّ الّذي استخدم في ذلك القالب، والثّاني يتعلّق بالكشف عن المعنى الّذي قصده المؤلّف وعناه، ومن أجل ذلك توجّب على المؤوّل التّركيز على النّفسيّة للمؤلّف.

اللّحظة النّقديّة: ويمكن تسميتها باللّحظة الإحراجيّة، لحظتذاك يكون التّأويل مساءلةً ومراجعةً نقديّةً في تعقّبه للأثر، تنتهي بكشف التّعارض بين مضامين النّصّ والاستفادة من القضايا غير المنطقيّة الواردة فيه.

اللّحظة النّفسيّة: وهي اللّحظة الّتي يكون فيها التّأويل فعّالًا من خلال إعادة توليد وإنتاج ذهنيّة المؤلّف، وذلك لن يتأتّى إلّا متى كان المؤوّل قد وضع نفسه موضع المؤلّف.

اللّحظة التّقنيّة-المورفولوجيّة: في هذه اللّحظة يكون الفهم منصبًّا على إدراك الظّواهرالاجتماعيّة وتفسيرها، فالتّأويل لا يوجد خارج الزّمن والتّاريخ، بل يجب التّفكير في موضوعيّة القيم على أنّها مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بالرّوح الحيّة والتّفكير، حيث يتمّ الحصول على المعنى الّذي تكتسبه من “احتكاكٍ” بين ما هو موضوعٌ في الكائنات، والنّماذج السّارية. وهو ما يعني أنّ التّأويل في هذه اللّحظة كشفٌ عن بنية الظّواهر الاجتماعيّة وشكلها وتطوّرها وقابليّتها للتّغيير.

إنّ مطلب بيتي هو وضع منهجٍ في التّفسير يضمن النّتيجة الصّحيحة للعمليّة التّفسيريّة، ويسمّي بيتي هذا المنهج: القوانين الهرمينوطيقيّة.

ب – قوانين التّأويل:

يبدو أنّ بيتي قد التزم في إيضاح عملية التّفسير الهرمينوطيقيّة، كما يبسطه في نظريّته العامّة للتّأويل، بإعادة تشكيل الأثر، وليس إيجاد الأثر، لأنّ في إيجاد الأثر تكون ذهنيّة صاحب الأثر ومقاصده هي النّقطة الأولى الّتي تشرع منها عمليّة الإيجاد، أمّا في عمليّة التّفسير الهرمينوطيقيّة، فإنّ الوصول إلى ذهنيّة المؤلّف ومقاصده هي النّقطة النّهائيّة.

وكما أشرنا في القسم الأوّل، يبني بيتي نظريّته التّأويليّة على أساس بنيةٍ معرفيّةٍ ذات حدّين مستوحاةٍ من النّموذج الكانطيّ، لذلك لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أنّه عندما يتعلّق الأمر بتوضيح “قوانينه” يُعلن أنّه “من بين القوانين التّأويليّة الّتي اكتشفها الفقه، بعضها مرتبطٌ بالذّات، وبعضها الآخر أكثر ارتباطًا بموضوع تفسيرٍ”[31]. ويشير قراندان، أحد الّذين نذروا جهدًا خاصًّا لاستجلاء دلالة المنطق الّذي دفع بيتي إلى تقديم هذا الانقسام وشرحه، إلى صرامة مشروعه المنهجيّة: “يستنتج بيتي هذه القوانين من الانقسام بين الموضوع والذّات، والّذي يشكّل، حسب رأيه، كلّ المعرفة في حالة الفهم…هذا الانقسام سيأخذ شكل توتّرٍ، تناقضٍ، بسبب مطلبٍ مزدوجٍ من الموضوعيّة والذّاتيّة… حتميّة الموضوعيّة أوّلًا، حيث يجب تفسير الأشكال التّمثيليّة بأمانةٍ قدر الإمكان، وفقًا لمعناها الأصليّ أو الصّحيح، ومع ذلك، لا يمكن إعادة بناء هذا المعنى الموضوعيّ إلّا بفضل ذاتيّة المترجم، وعفويّته، وحساسيّته وقدرته على الاِنفتاح. تتمثّل مهمّة المؤوّل في إعادة إنتاج فكرةٍ غريبةٍ في نفسه، لتُلائم ما يريد أن يفهمه في تغييره كشيءٍ موضوعيٍّ ومختلف”[32].

إنّ رغبة بيتي هي إنشاء قوانين للتّأويل بوصفه نحوًا من التّفسير”الموضوعيّ” والإحكام المنهجيّ لهذا التّفسير، إلّا أنّ ذلك لا يمكن أبدًا أن يتحلّى بطريقةٍ “نقيّةٍ”، إذ سيكون هناك دائمًا تدخّلٌ ضروريٌّ وحتميٌّ للذّاتيّة، لكن أيّ ما كان الدّور الذّاتي في التّأويل فإنّ “التّأويل الموضوعيّ”هو الهدف الأساسيّ من الزّاوية الصّارمة للتّأويل الهرمينوطيقيّ للعلوم الإنسانيّة. شكّل هذا التّقابل الظّاهر بين الذّاتيّ والموضوعيّ بداية النّظريّة التّأويليّة العامّة، ولهذا أصبحت قوانينه تشكّل نفسها كوسيطٍ بين هذين القطبين، ليبدوَ العمل الهرمينوطيقيّ منهجًا في التّفسير. ويسمّي بيتي هذا المنهج: القوانين الهرمينوطيقيّة، وهي بحسب بيتي أربعة قوانين هرمينوطيقيّة: قانونان مرتبطان بالموضوع، وقانونان مرتبطان بالمفسِّر (الذّات):

  • القانون الأوّل: استقلاليّة موضوع التّأويل، أو قانون الملازمة للمعيار التّأويليّ، الّذي من أجله يجب أن تفهم الصّيغ المراد تفسيرها في استقلاليّتها “وفقًا للرّوح الموضوعيّة فيها”[33]. يشترط بيتي في تفسير الأثر ربطه بالذّهنيّة الّتي تبلور فيها، بالكشف عن ذهنيّة صاحب الأثر، وبالتّالي فإنّ معنى الأثر الّذي يقصده المفسّر ليس مستقلًّا عن المؤلّف. والمقصود “بالاستقلال الهرمينوطيقيّ” للقانون الأوّل هو عدم فهم المعنى على نحوٍ مستقلٍّ عن الذّهنيّة الخارجيّة، بل من خلال بنيتها بالتّعرّف على منطق تكوّنها والعلاقات الدّاخليّة الّتي تربط بينها وصولًا إلى النّتائج. ف”الاستقلاليّة التّأويليّة” الّتي هي أساس القانون الأوّل يمكن الحصول عليها بفضل التّحكّم في الذّاتيّة الضّروريّة للمفسّر، بألّا يتضمّن التّفسير أيّ شيءٍ غريبٍ عن محتوى الرّوح الموضوع في النّموذج التّمثيليّ، إذا كانت الأشكال التّمثيليّة الّتي تشكّل موضوع التّفسير هي في الأساس تعارضاتٌ لروحٍ نزلت إلى الموضوع وعبّرت عن نفسها في حدّ ذاتها، فإنّه يتوجّب فهم الأشكال وفقًا لتلك الرّوح الّتي جُسّدت فيها… و”ليس وفقًا لروحٍ أو فكرٍ مختلف”[34].
  • القانون الثّاني: ارتباط الجزء بالكلّ، أو قانون انسجام المعنى في عمليّة التّأويل، فالنّصّ القانونيّ مثلًا لا يفهم فقط من خلال الاِنتباه إلى السّياق الّذي تقرّر إدراجه فيه، ولكن أيضًا مع الأخذ في الاِعتبار الموضوعات الأخرى للفكر الّتي قدّمها المؤلّف، مؤلّف النص. فالعلاقة بين الكلّ والجزء لا تنحصر في “اللّفظ والجملة”، أو “الجملة والنّصّ”، بل التّرابط بين النّصّ بوصفه جزءًا وبين الكلّ الّذي يشكّل أرضيّة المعنى، أو سياق المعنى، يقول بيتي: “من الضّروري ليس فقط فهم الكلمات في سياقها وفي النّصّ الّذي تمّ اعتباره ككلٍّ، بل أيضًا تعميق معناها من خلال إدراجه، ككلٍّ، في مظاهرَ أخرى لشخصيّة المؤلّف”[35]. وهكذا، يوسّع بيتي دائرة الفهم لتشمل النّصّ بشكلٍ كاملٍ من خلال العودة إلى موقعه في السّياق الواسع للمعنى، والمعنى يشمل حياة المؤلّف كلّها بوصفها كلًّا مهما كانتْ نوعيّة العمل: كتابٌ أو شعرٌ أو آثارٌ فنّيّة.
  • القانون الثّالث: موضوعيّة الفهم، ويقتضي من المفسّر أن يدرك في العمليّة التّأويليّة التّشيّؤ الوارد في النّموذج التّمثيليّ، أي إيجاد الأثر في العمليّة الذّهنيّة، بإعادة توليد ذهن الفرد الآخر، بترجمة ذهنيّة موجِدِ الأثر في ذهنه، كفعاليّةٍ تاريخيّةٍ “بين ما كان موضوعًا في الماضي ودمجه كحقيقةٍ من حقائق تجربته الخاصّة عن طريق نوعٍ من التّحويل”[36]. إنّ المقصود بالتّحويل في عمليّة الفهم إنّما هو عمليّة إحضار نموذجٍ تمثيليٍّ، كان موضوعًا في وقتٍ سابقٍ، إلى الحاضر. ويمكن تسمية هذا القانون بـ “قانون فعّالية الفهم”، عبر حركيّة العالم الذّهنيّ للذّات المؤوّلة الّتي تعيد في داخلها الإجراء الّذي أدّى بالموضوع الآخر إلى إنتاج موضوعاته، تحت طائلة الوقوع في الفكرة (السّخيفة) القائلة إنّ الشّيء الرّوحيّ يمكن فهمه دون أيّ مساهمةٍ من الرّوح الّتي تفهمه. هذا القانون الثّالث له نتيجةٌ حاسمة حسَب بيتي، يقول: “فقط روحٌ من نفس المستوى ومنسَّقةٌ بشكلٍ متجانسٍ هي القادرة على فهم الرّوح الّتي تخاطبه بشكلٍ كافٍ”[37].
  • القانون الرّابع: تكييف الفهم، والّذي بموجبه يتمّ تناسُب المعنى في الفهم، أو المطابقة الهرمينوطيقيّة للمعنى، ومن أجل تحقيق هذا المقصد يَفترض بيتيأنّه يجب على المؤوِّل أن “يسعى جاهدًا إلى وضع واقع حياته في التزامٍ وثيقٍ وتناغمٍ مع الرّسالة الّتي […] تصل إليه”[38]. معنى ذلك أنّه يجب على المفسّر أن يفعّل ذهنه في أقصى درجات الاِنسجام مع ما يفهمه من الموضوع من أجل فهم المعنى الحقيقيّ.

إنّ الغرض من وضع قوانين للتّأويل، كما يؤكّد بيتي، هو ترسيخ نفسها كأسسٍ نهائيّةٍ لمنهجيّةٍ في العلوم الإنسانيّة تحكمها قواعدُ وإجراءاتٌ “صارمةٌ تمكّن من تجنّب مخاطر النّسبيّة التّاريخيّة”[39]. إنّه بهذا القصد تبدو القوانين التّأويليّة عند تفحّصها تجاوزًا للنّسبيّة التّاريخيّة، فهي بمثابة صيغةٍ أوّليّةٍ ذات أبعادٍ معرفيّةٍ وأخلاقيّةٍ على حدٍّ سواءٌ، لا ينبغي ملاحظتها من جانبٍ واحدٍ، ولكن فقط في تكييفها المتبادل، وربّما إبرازها بشكلٍ مختلفٍ وفقًا للموضوعات والاحتياجات التّاريخيّة والأكسيولوجيّة.

2 – التّقييم الأكسيولوجيّ كجزءٍ من علم التّأويل:

إنّ وجه الطّرافة هنا إنّما يكمن في كون بيتييفترض أنّ مساءلته عمّا يكون التّأويل هي الّتي قادته إلى الفحص عن “التّقييم الأكسيولوجي” بما هو جزءٌ من التّأويل العامّ. إذ من البحث في منطق القانون،بما هو موضوعٌ مخصوصٌ، اِنساق بيتيإلى البحث في طبيعة التّأويل وارتباطه بالقيم.يدافع بيتيعن أهمّية “إضفاء الرّوحانيّة على منطق القانون، فهو ليس منطقًا رسميًّا أبدًا”[40]. في الواقع، يدافع بيتي أيضًا عن الطّبيعة العلميّة للتّفسير القانونيّ عندما يتمّ أخذ عنصر التّقييم الأكسيولوجيّ في “الاِعتبار”. ولكن ما الّذي يهيئ هذا النّحو من “الاِعتبار”؟ إنّ إجابة بيتي هي: “تمامًا كما هو الحال في المجال العقليّ، سيكون من السّخف إنكار النّشاط المعرفيّوالقدرة على معرفة الحقيقة (…)، كذلك في المجال العمليّ، من السّخف أيضًا افتراض أنّإحساسنا الأخلاقيّ-لأنه معنًى لموضوعٍ مّا فحسبُ- عاجزٌ عن الاعتماد على قيمٍ أخلاقيّةٍ موضوعيّةٍ ثابتةٍ (وإن كانت مشروطةً تاريخيًّا) ويتلمّس طريقه في الظّلام الدّائم للذّاتيّة المتغيّرة باستمرار. على العكس: إنّه ليس بإرادتنا نقل القيم، إزالتها، قلبها، تقليلها، تغييرها، فالتّجربة اليوميّة تعلّمنا”[41].

هذه هي النّقطة الّتي يطوّر فيها بيتي نقدًا وثيقًا للذّاتيّة والنّسبيّة، ودحضًا للأطروحات المعارضة. في الواقع، فإنّ حقيقة القيم الأخلاقيّة تُوجد في ارتباطٍ مع كياناتٍ معيّنةٍ من العالم الحقيقيّ، وبالتّالي فهي في “ارتباطٍ فينومينولوجيٍّ”، لا ينبغي الخلط بينها وبين النّسبيّة المفترضة للقيمة. هذا يعني، بالأحرى، أنّ مثل هذه الحالات توجد بشكلٍ ملموسٍ كلحظاتٍ من صيرورةٍ، وهو الاِفتراض الفينومينولوجيّ لوجودها، وليس الاِفتراض الأكسيولوجيّ المسبق لجوهر قيمهم.

وهكذا يرفض بيتي صراحةً الأطروحة القائلة إنّ القيم الأخلاقيّة من صُنع موضوعٍ واحد. فالقوانين ليست كياناتٍ خاليةً من المحتوى، وهي ليست رسميّةً بحتةً،كما يزعم كيلسن(Kelsen). فالقيم الأخلاقيّة موجودةٌمسبقًا بالفعل، قبل التّجربة كأولويّةٍ، لأنّها تقسيمات وُجدتْ قبل الوجود الملموس. وتنتمي هذه القيم إلى بُعدٍ ثانٍ للموضوعيّة، وهو ليس بعدًا ظاهريًّا بحتًا، يتميّز أيضًا عن ذاتيّة الضّمير.من وجهة النّظر هذه يضع بيتي نفسه في طريقة تفكيرٍ أصليّةٍ، وربّما الوحيدة في الفكر المعاصر، إذ على الرّغم من أنّ التّأويل القانونيّ هو من “طبيعة الأشياء” و”منطق المادّة”، إلّا أنّه يبقى موضوعَ تأويلٍ تاريخيٍّ وتقنيٍّ.

هنا يقف بيتي على أنّه ثمّة ضرورةٌ إلى أن يحدّد بأيّ معنًى يكون سؤال التّقييم الأكسيولوجيّ هو سؤالٌ عن معنى التّاريخ. ونحن نراه قد اعتمد في إيضاح ذلك على أمرٍ أساسيٍّ:كيف نفهم التّاريخ، أو بالأحرى كيف نحلّ مشكلة التّاريخ.وهذا ما عناه بنديتو كروتشي (B. Croce) بقوله: “إنّ لدى بيتي شعورًا تاريخيّا شديدًا إلى درجة أنّه لا ينكر بالتّأكيد… بواسطة تاريخيّة الذّات تاريخيّة الموضوع”[42]. إلّا أنّ بيتي لا يستطيع تعريف نفسه بأنّه تاريخيٌّ بمعنى كروتشويٍّ، لأنّ كروتشي “لم يشارك لا في مفهوم التّاريخ”[43]، و”لا بالانخراط في تقييم الحقائق السّياسيّة في ذلك الوقت”[44].

إنّه يمكننا بلا مشاحةٍ أن نفترض أنّفهم تأويل بيتي لظاهرة التّاريخ كخيطٍ هادٍ لبلورة مسألة  التّقدّم، إنّما يتوقّف على مدى استبصارنا لانتقاداته لفكر التّنوير والمفهوم النّسبيّ للتّاريخ والدّين، يتناسب مع فلسفة التّاريخ لبنديتو كروتشي، الّذي ينفي صفة التّعالي، وينظر إلى الدّين على “أنّه لحظةُ انتقالٍ الدّيالكتيك في الرّوح”[45]

 حقيقٌ علينا أن نسأل هنا لم هذا الاِنصراف البيتي الحادّ إلى فكرة التّقدّم التّاريخيّ وجعلها موضوعًا للتّأويل، ولكن قبل ذلك، إليكم أيضًا الكلمات الّتي يحتفظ بها بيتي لمن يجادلون في “تفوّق الأحياء”، “انه كائن يصنع كونه بنفسه”[46]، إنّ علينا أن نسأل: ما هي دلالة هذه الإشارة؟ يبدو أنّ تلك الكلمات ثاويةٌ في روح التّنوير الّذي اختصر تاريخ الأديان إلى التّطوّر، وبالتّالي إلى “روحانيّةٍ تقدّميّةٍ، والّتي كانت في نفس الوقت علمنةً للدّين وتحويله إلى مفهومٍ أرضيٍّ بحت”[47].

ينطلق بيتي من النّتيجة العامّة لتلك التّحليلات، ألا وهي أنّ المفهوم الّذي ينكر كلّ تعالٍ “يدفع الكائنات الحيّة إلى وضع نفسها في مركز الكون الخاصِّ بها، وربّما تعتقد أنّ العالم المستنير والواعي يبدأ معهم”[48]. هذا يعني أنّ مشكل التّاريخ لم يجد بعدُ معالجةً أصيلةً للصّعوبة الأساسيّة الّتي يثيرها في أفق الفلسفة الحديثة بعامّة. فكيف يتأوّل بيتي ذاتيّة الذّات التّاريخيّة؟

سيكون اكتشاف فيكو[49]Vico مؤثّرًا في العمليّة التّأويليّة لدى بيتي، كيف ذلك؟ إنّ الفهم التّأويليّ ليس مجرّد ممارسةٍ، مهما كانتْ صِلتها بالعقل البشريّ، ولكنّه يشكّل بنية العقل ذاتِها… بالتّشابه مع “ميتافيزيقا العقل” لفيكو، استطاع بيتي الحديث عن “تأويلٍ حقيقيٍّ للعقل”، وهذا يعني التّضافر بالمعنى الموضوعيّ والذّاتيّ. أمّا النّتيجة المباشرة لهذا النّهج فهي القيمة العامّة والمدنيّة للتّأويل، حيث إنّ الممارسة الذاتيّة والحرّة، مثل التّأويل، مرتبطةٌ بشكلٍ أساسيٍّ بموضوعاتٍ أخرى (أي الحقيقة كحقيقةٍ). يفسّر العقل على أنه ينتمي إلى إنسانيّةٍ تاريخيّةٍ مشتركةٍ، وهذه الإنسانيّة التّاريخيّة لا يمكن تقاسمها إلاّ بقدر ما يتمّ تفسيرها من قبل المجتمع المدنيّ. إذ ليس من قبيل المصادفة أنّ تفسير القانون على أنّه “فعلٌ قانونيٌّ” للالتزام هو النّموذج المحدّد لتفسير بيتي، وسيتضمّن الأخير دلالةً اجتماعيّةً كبُعدٍ تأسيسيٍّ للممارسات التّأويليّة.

عمد بيتي إلى تبنّي النّقد الفيكوي للمفهوم “الاِنجذابيّ”، أو التّمركز حول الذّات، الّذي يسمّيه “الغطرسة”، “لأنه يجعل الفرد الباحث، أو الأمّة “حكم الكون””[50]، وينشط هذا التّوجّه في التّأويل ويدفعه إلى الاعتقاد “بأنّ العالم المستنير والواعي يبدأ معهم، كنقاطٍ قصوى للتّقدّم العلميّ الّذي يهدف إلى ترشيد الوجود”[51]. وهو إجراءٌ علينا قراءته بوصفه دليلًاعلى أصالة تأويلات بيتي باعتبارها طريقةً عامّةً لعلوم الرّوح، تكمن قبل كلّ شيءٍ في قانون الاِستقلاليّة التّأويليّة للموضوع، أي من جوهر الموضوع.

 يتّفق الشرّاح على الدّور الحاسم الّذي أدّاه فيكو في مدّبيتي بالخيوط الإشكاليّة اللّازمة للخروج من ربقة النّزعة التّاريخيّة نحو أفق إشكاليّته اللّاحقة، أي ارتسام معنًى للتّاريخ يخرجه من النّسبيّة والدّغمائيّة ابتغاء أن يلج به إلى أفق الموضوعيّة. إنّ الرّهان هو التّحوّل من الذّاتيّة إلى الواقعيّة.لاحظ جوليانو كريفو، أحد كبار الدّارسين لبيتي، كيف على وجه التّحديد، سمحت المهنة التّاريخيّة القديمة لبيتي بتعديل النّسبيّة بوصفها أداة الدّغمائيّة، والتّأكيد باستمرارٍ على المشكلة التّاريخيّة، “الّتي تعطي النّصوص إجابةً لها، ومعنى يجب الحصول عليه، وبالتّأكيد لا يجب فرضه”[52]. أمّا كريفو(Crifo)فيعرّف بيتي بأنّه “متجذّرٌ غير متوقّعٍوغير مشكوكٍ فيه، ولا جدال حول الواقعيّة التّاريخيّة له، ضدّ أيّ تاريخيّةٍ روحانيّةٍ مُشوّشة”[53]. ووفقًا لغاسباري مورا، “ضدّ أيّ نسبيّةٍ تاريخيّةٍ ذات أصلٍ مثاليٍّ، أو وجوديّ[54].

إنّه في ضوء ذلك أتى بيتي إلى إعادة تخريج “المنطق التأويليّ”، في ضوء التّخريج الأكسيولوجيّ، يقول: “إنّ المنظور الّذي تعلّمه الدّراسة التّأويليّة هو منظورٌ آخر تمامًا: على عكس الكائن الّذي يحيل العالم إلى نفسه كما لو كان مركزه، فإنّ الرّوح الحيّة المتعلّمة في المنظور التأويليّ، تنظر إلى أن كون القيم له مركزه في مكان آخر، خارج ذاته، وبالتّالي فهو لا يشير ولا يخضع إلى نفسه، بل يشير إليه ويوجّه نفسه تجاهه، كمثالٍ أعلى، لا يطرح نفسه فقط لأنّه على قيد الحياة،(…)بل على العكس من ذلك يطمح إلى تحويلهم إلى محاوريه ليؤسّس معهم استمراريّة الحوار المشترك من أجل حياةٍ مغايرة”[55].

إنّ بيت القصيد هو معنى “استمراريّة الحوار المشترك”، من حيث ما يحيل الموضوع التّأويليّ إلى موضعةٍ لروح الإنسان وقيمه،معبّرًا عنها في شكلٍ ذي معنى يتجسّدفي الانفتاح على الآخرين ومحاورتهم، هو بوجهٍ مّا البديل الموضوعيّعن رؤية “المعنى الوجوديّ”.هذه هي النّقطة الّتي يشير فيها بيتي إلى فضيلة التّسامح، ويبتعد بنفسه عن التّعصّب الأيديولوجيّ. تحيل موضوعيّة بيتي على عالمٍ يوجد فيه قولٌ وفعلٌ يمكن للآخرين إدراكه وفهمه، حيث يكون الشّكل هو النّداء. ذلك أن الفهم الحقيقي هو الاِستئناف الّذي نحن فيه قادرٌ على تلبية وإرضاء طلب الآخرين، لنجد أنفسنا في إنسانيّةٍ مشتركة.

ينفي بيتي أن تكون “القيم الأخلاقيّة” بعيدةً كلّ البعد عن أن يكون لها الاتّساق الذّاتيّ، أو الرّسميُّ، فهي تقدّم نفسها للمؤوّل في موضوعيّتها وفي جوهرها. كما أنّه يدافع عن الطّبيعة العلميّة للتّأويل القانونيّ أيضًا عندما يتمّ أخذ عنصر التّقييم الأكسيولوجيّ في الاعتبار. “في الواقع اللّحظة المنطقيّة والغائيّة الأكسيولوجيّة لا ينفصلان في العمليّة التّأويليّة”[56]، كما أنّ اللّحظة الأكسيولوجيّة لا تفلت من العقلانيّة. لذلك من الضّروريّ جعل المعيار المجرّد ملموسًا والوصول إلى مبدأ القرار مستندًا بالضّرورة إلى “ذلك المعيار، أو الحدس الأكسيولوجيّ الّذي يعتمد على معيارنا لحساسيّة القيم ومصدرها”[57]. لقد أتى بيتي إلى هذا الرّبط بين التّأويل والحدس الأكسيولوجيّ في نطاق سعيه إلى التّكشيف عن تجربة الحياة العيانيّة وذلك في ضوء مسألة القيم في علاقتها بالتّاريخ والواقع.

خاتمة:

لقد رأينا كيف أن بيتي، عندما يعلن عن نظريّته التّأويليّة، أنه لا يريد أن ينتسب إلى أيّ نظامٍ فلسفيٍّ معيّنٍ، إلّا أنّه في الواقع يمكنه بدلًا من ذلك أن يضع نفسه في تلك فئة الأقليّة من الفلسفة المعاصرة الّتي تقترح بثقةٍ القدرة على رؤية الموضوع “الشّيء في حدّ ذاته”، كما يبدو واضحًا قبل كلّ شيءٍ في المرجع لنطق قانون “الاستقلاليّة التّأويليّة للموضوع”. ربّ ثقةٍ مستمدّةٍ من تدريبه الأصليّ، أي من المنهجيّة التّاريخيّة العلميّة الّتي تطالب بها الدّراسات الرّومانيّة، وهي بالتّأكيد غير قابلةٍ للفهم من وجهة نظر الأفق الذّاتيّ للفهم المسبق وإسناد المعنى بواسطة المؤوّل. لقد أتى ايميليو بيتي إلى الهرمينوطيقا قادمًا من التّاريخ والقانون، وتسعفنا نظريّته في التّأويل إلى أنّ أفكاره تندرج في إطار إرث شلايرماخر وديلتاي، وبأنّ نظامه الكبير كان أكثر توسّعًا وتراتبيّةً ممّا كان عليه نظام أسلافه، وربّما يجد نهج بيتي التّأويليّ اليوم، مع تقليل تأثير هيدقر، قبولًا أكثر ملائمةً، شريطة أن تبيّن أنّ ما تريد إعادة بنائه ليس النّيّة النّفسيّة للمؤلّف بقدر ما هو الهيكل الموضوعيّ للأشكال التّمثيليّة، أي المنطق الّذي يحلّ المشاكل الجوهريّة.

بعد هذه الرّحلة الشّاقّة طلبًا لاستجلاء “معنى التّأويل” لدى بيتي، بات بمقدورنا أن نضع السّؤال المنتظر: هل كان بيتي فيلسوفًا تأويليًّا، أم فقيهًا قانونيًّا؟ على الرّغم من إصراره على عدمالانتماء إلى أيّ فلسفةٍ، وأنّ منطلقه هو القانون، فإنّ اعترافه المبكّر بالتّاريخ قاده إلى الخوض في التّقاليد التّأويليّة الألمانيّة (شلايرماخر وديلتاي)، والتّفكير بشكلٍ عامٍّ في التّأويل كأداةٍ أساسيّةٍ للعلوم الإنسانيّة، وأنّ التّأويل هو إمكانيّةٌ معرفيّةٌ دائمةٌ يحتّمها الوجود والتّاريخ. وبالتّالي فإنّ تأويلات بيتي ليست أقلّ فلسفيّةً من تلك الوجوديّة الّتي يواجهها، والّتي يتفاعل معها بسخطٍ متّهما إيّاها بالنّسبيّة واللّاموضوعيّة.

نحن نقصد بذلك أن نخرّج إشكاليّة بيتي بوصفها ظاهرةً نبتت نبتًا “خارقًا” في أرضيّة الفلسفة التّأويليّة المعاصرة، خارقًا بمعنى ما خالف براديغم اللّغة المعاصر في صيغته الهرمينوطيقيّة (هيدغير وغادامير وريكور). إنّ قصدنا ليس توضيح أسباب الاختلاف والمشاركة مع التّأويل ما بعد الهيدقري وعلى وجه الخصوص القاداميريّة فحسبُ، ولكنْ الكشف عن المزيد من التّأثيرات لنظريّة بيتي التّأويليّة بوصفها مكوّنًا للمنهجيّة الخاصّة بالعلوم الإنسانيّة، من اللّغة إلى القانون، من الدّراما والتّأويل الموسيقيّ إلى علم اللاّهوت الخ… أي كمسار لكشف الحقيقة التي يجب تحقيقها بفضل المعرفة العلمية وصحة الأساليب المعتمدة في العملية المعرفية، في التعامل مع النصوص المراد تأويلها. وقد أدّى هذا إلى إثارة واحدةٍ من أكثر الخلافات الفلسفيّة حيويّةً في القرن الماضي. في الواقع، تمّت مناقشة النّظريّة العامّة للتّأويل وتجري مناقشتها أكثر كبديلٍ لتأويل “الحقيقة والمنهج”، وبالتّالي فهي مرتبطةٌ بشكلٍ خاصٍّ بهذه القراءة الأنطولوجيّة.

إنّ الموضوعيّة التّأويليّة المرغوبة هنا، في الختام، ليست نتيجةً نهائيّةً ومُتاحةً، بقدر ما هي مطلبٌ إجرائيٌّ وإيتيقيٌّ، محميٌّ على الأقل بشكلٍ سلبيٍّ من خلال القوانين الّتي سبق ذكرها للحدّ من تدخّل الذّاتيّة في تحديد معنى الموضوع. فالحقيقة الموضوعيّة يمكن أن تُلمح ضمن حدود المنظور المعتمد من وقتٍ إلى آخر من أيّ نقطة مراقبةٍ كنظريّةٍ عامّةٍ للعلوم الإنسانيّة، وهو ما يعني أنّ التّأويل طريقةٌ مميّزةٌ للتّربية الإنسانيّة، كدلالةٍ على الإخلاص والتّسامح التّاريخيّ.

ولأنّ مقصدنا هو إيضاحُ إشكاليّة الفهم في أفق مسألة “التّأويل الموضوعيّ” في صلب إشكاليّة بيتي نفسها، فإنّنا قد صرفنا جهدنا إلى تعقّب خصوصيّة المبحث البيتي بوصفه ليس ردّة فعلٍ منهجيّةً على الهرمينوطيقا الانطولوجية، بل بوصفه نموذجًا حاسمًا على بنية المعرفة والتّأويلات المعاصرة. من جهة ما هو متهيكلٌ من الدّاخل بمنطقٍ تأويليٍّ مخصوصٍ، يتمّ تقديم الهرمينوطيقا هنا كفلسفةٍ أصيلةٍ للقيم لا تقتصر على البعد المعرفيّ الشّخصيّ، بل تولد موضوعيّةً مثاليّةً (منطقيّةً وأخلاقيّةًوجماليّةً) والّتي تعتبر من التّجربة شرطًا لا غنى عنه للإمكانيّة. وبالتّالي المساهمة في التّوسّع الهرمينوطيقيّ التّدريجيّ للمنظور البشريّ، أفقيًّا، في تفاهمٍ متبادلٍ لأغراض التّعايش، وعموديًّا، في تضامنٍ تاريخيٍّ مع التقاليد. إذ لم يكن بيتي مجرّد فقيهٍ قانونيٍّ ودستوريٍّ، بل بوصفه نموذجًا حاسمًا، فيلسوفًا عانق الإنسانيّة والكونيّة بحقّ. فوضعه للقوانين والقواعد الّتي بموجبها تتحدّد الحريّة والمساواة الّتي تمّ تأويلها على أنّها اعترافٌ من قبل الحاضر بالقوانين تزامن مع ظهور الدّيمقراطيّة (1948)، للحدِّ من الفاشيّة والدّكتاتوريّة، حلّ محلّ القيمَةِ لأساس السّلطة.

إنّنا نفترض في النّهاية أنّ أفقًا “تأويليًّا ضعيفًا” (فاتيمو)،غرضه هو تفتيق معنى طريفٍ للتّأويل الضّعيف، حيث يصبح في المقدور أن نفهم أزمة التّأويليّة المعاصرة الّتي تلتبس بالمعنى. وأن نكفّ عن النّظر إلى الحقيقة من زاويةِ ثنائيّة الذّات والموضوع، بأن نشرع في فهمها من جهة “الفكر الضّعيف”[58] بوصفه دالًّا على الاختلاف. إلّا أنّ ذلك لا يكون ممكنًا دون استحداث منطقٍ جديدٍ ينزاح عن ترتيبات المنطقِ وقياساته وعن صرامة الموضوعيّة وقسوتها، و”تنحيف” الذّات وتجنّب الّنسبيّة، وربط التّأويل بالواقع، كفيلٌ بتحليل الأسئلة المطروحة على بيتي، وإخراج نظريّته التّأويليّة من تحيّزاتها القانونيّة والموضوعيّة إلى مختلف مظاهر الحياة الإنسانيّة…

قائمة المصادر والمراجع

  • B. Corce, Per una poetica moderna, in Nuovi saggi di estetica. Bari, 1948.
  • B. Croce Perché non possiamo non dirci cristiani, in Discorsi di varia filosofia, Bari, 1945.
  • B. Croce, La storia come pensiero e come mazione, Bari, 1954;
  • Betti Emelio, Teoria generale della interpretazione, II, Milano, 1955
  • E. Betti, I principi di scienza nuova di G.B. Vico e la Teoria dell ‘interpretazione storia, in Nuova vivista di diritto commerciale, diritto dell’economia, dinitto sociale, 10, (ora in E. Betti, Diritto Metodo’ Ermenentica, a cura di G. Grifo, Milano, 1991,)
  • E. Betti, L’ermenentica come metodica generale delle scienze dello spirito, con saggio introduttivo di G. Mura, Roma, 1987
  • E. Betti; Interpretazione della legge e degli alti guiridici,
  • Emelio  Betti; Theoria generale della interpretazione; Tome II op.cit p.101
  • G. B. Vico, la scienza nuova (1744), a cura di P. Rossi, Milano, 1963, pp 104-106
  • G. Grifo, Emilio Betti, Note per una ricerca, Milano, 1978
  • G. Mura, Saggio introduttivo a E. Betti; l’ermentica come metodica generale delle scienzedella spritto (1962), Roma, 1987; pp.27-30
  • G. Mura, Verità e storia in vico e in Betti, in AA. VV. Le idee fanno la loro strada. La Teoria generale dell’interpretazione di Emelio Betti cinquant ‘anni dopo, a cura di G. Griffo “suplemento a studi Romani. Rivista trimestrale dell’Istituto Nazionale di studi Romani, Roma,
  • Giuliano Grifo, le idee fanno la lora strada, Roma .2010.
  • Grondin Jean l’hermenentique comme science rigoureuse selon Emelio Betti (1890-1986), Archive de philosophie 53, 1990,
  • Grondin Jean l’herméneutique comme science rigoureuse selon Emelio Betti (1890-1986), Archive de philosophie 53, 1990,
  • Grondin Jean, introduction to philosophical Hermeneutics, New Haren, London, ed University Bill, 1994
  • M. Brutti, Emelio Betti e l’incontro con il fascismo, ne I guiristi e il fascino dell’origine (1918-1925), i, www.intituemiliobetti.worfpress.com
  • M. Mazza, Ermeneutica e storigrafia, in le idee fanno la strada, la teoria generale dellinterpretozione di Emilio Betti ciquant’ anni dopo, a cura di G. Grifo, supplemento a “studi Romani, Rivista trimistraledell Istituto Nazionale di studi Romani”, 2010, p 343.
  • N. IRITI, Per la ristampa di una prolusione bettina, Roma, 1948, in Rivista, it, per le scienze Giuridiche, 5/ 2014,
  • جيانيفاتيمو، الفكر الضّعيف، ترجمة أحمد الدبوبي، دار أبكالو للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، بغداد، 2021،
  • جان غراندان، التّأويليّة، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديد.
  • جيامباستيتا فيكو(Giambasttista Vico)، فيلسوفٌ إيطاليٌّ ولد في 23 جوان 1668 في نابولي من أهم مؤلفاته: scienzanuva » (1725) « la، De Ratione(1725)، De Antiquissimaitalorumsapientia
  • صفدر الهي راد، الهرمينوطيقا، منشأ المصطلح ومعناه واستعمالاته في الحضارات الإنسانيّة المختلفة، تعريب حسنين الجمال، الطّبعة الأولى، بيروت، لبنان، المركز الإسلاميّ للدّراسات الاستراتيجيّة، 2019.
  • مصطفى عادل، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا، نظريّة التّأويل من أفلاطون إلى غادامير، دار رؤية للنّشر والتّوزيع، القاهرة، 2007

[1]Betti Emelio, Teoria generale della interpretazione, II, Milano, 1955.

[2]انظر: جان غراندان، التّأويليّة، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديد، ص 72.

[3]M. Mazza, Ermeneutica e storigrafia, in le idee fanno la strada, la teoria generale dellinterpretozione di Emilio Betti ciquant’ anni dopo, a cura di G. Grifo, supplemento a “studi Romani, Rivista trimistraledell Istituto Nazionale di studi Romani”, 2010, p 343.

[4]Betti Emelio, Teoria generale della Interpretazione, op.cit p. 848

[5] Ibidem, vol I, P. IX

[6] N. IRITI, Per la ristampa di una prolusione bettina, Roma, 1948, in Rivista, it, per le scienze Giuridiche, 5/ 2014, p.4

يفترض إيريتي(IRITI) أنّ مهمّة بيتي “تكمل مهنة فلسفيّة” من خلال إعلانه عن مفهوم “الشّكل التّمثيليّ” بوصفه مفهومًا أساسيًّا في عمليّة التّأويل. وهو افتراضٌ وجه الخطورة فيه أنّه يؤدّي إلى اعتبار تأويليّة بيتي حلقةً أساسيّةً في تاريخ الفلسفة التّأويليّة المعاصرة. ولمزيدٍ من التّوسّع حول هذه المسألة اُنظر أيضًا الإيضاحات الّتي أضافها جوليانو (9 Giuliano Grifo, le idee fanno la lora strada, Roma .2010.p تعقيبًا على عمل جيوفاني ريالي، الّذي “ربط  بيتي بشلايرماخر، ديلتاي، هيدقر، بولتمان، هيرش، وغادامير”)

[7]الحياد التّأويليّ-عند بيتي- هو ما يمنع المؤوّل، أو القاضي، أو الفقيه النّظريّ من اقتفاء آثاره القانونيّة، أو الأخلاقيّة، أو الدّينيّة، أو الاِجتماعيّة، أو الاِقتصاديّة، وفقًا لتفضيلاته الشّخصيّة، وخلفيّة الذّات ومقاصدها واستيهاماتها كذلك.ويتطلّب منه الاِمتثال للتّقييمات التّنظيميّة الّتي تحدّد الاِنضباط الإيجابيّ للعلاقات، وهي جوهريّةٌبالنّسبة إلى النّظام القانونيّ. عن مصطلح الحياد التّأويليّ راجع: (Emelio Betti, Teoria generale dell’interpretazione op,cit,p 796)

[8] كلسن Kelsen، فيلسوفٌ نمساويٌّ كان يعمل أستاذ فلسفة القانون بفينا سنة 1917، وقد صاغ “نظريّة القانون البحت” للتّعبير عن هدفه في الوصول إلى علم قانونٍ حقيقيٍّ، حقيقيٍّ بمعنى متحرّرًا من أيّ عنصرٍ غريبٍ عن القانون كالمبادئ المثاليّة والأخلاقيّة والعوامل الاجتماعيّة والعقائد الدّينيّة والسّياسيّة. وبهذا يكون القانون -حسب كلسن- عبارةً عن مجموعةٍ من الضّوابط، بحيث يتكوّن كلّ ضابطٍ من شكلٍ ومضمون. ولا تقتصر نظريّة القانون البحت على العنصر الشّكليّ أو دراسة المضمون بالنّقد والتّقييم بل تدخل في نطاق علوم أخرى. أما الضّوابط فتتحدّد وفق بناءٍ قانونيٍّ هرميٍّ يستمدّفيه الضّابط الأدنى شرعيّته من الأعلى.

[9]IBIDEM, p797.

[10] IBIDEM, pp 795-798.

[11]E. Betti, L’ermenentica come metodica generale delle scienze dello spirito, con saggio introduttivo di G. Mura, Roma, 1987, p 64.

[12]هذا النّوع من التّأكيد دفع بعض الشّرّاح إلى إعادة بيتي إلى “سياق النّقاش الدّاخليّ لتأويل ما بعد القادمريّين” (انظر G. Mura, Verità e storia in vico e in Betti, in AA. VV. Le idee fanno la loro strada. La Teoria generale dell’interpretazione di Emelio Betti cinquant ‘anni dopo, a cura di G. Griffo “suplemento a studi Romani. Rivista trimestrale dell’Istituto Nazionale di studi Romani, Roma, 2010, p.17-28). في الواقع هناك ميلٌ إلى المجادلة لا سيّما من قبل ممثّلي “التّأويل الضّعيف” (فاتيمو)، حول أنّالهرمينوطيقا ستواجه في الواقع “اختفاء” الموضوع في الفلسفة، وذلك لأنّ الابستيمولوجيا المعاصرة تتميّز، من جهةٍ بأزمة الموضوعيّة، ومن ناحيةٍ أخرى لأنّ الموضوع التّقليديّ للتّأمّل الفلسفيّ -للوجود- قد تمّ إبطاله الآن من قبل النّقد الكانطيّ (نفس المرجع): “ويترتّب على ذلك أنّ التّأويل لا ينبغي اعتباره تخصّصًا له “موضوعُ” بحثٍ خاصٌّ به، ولكن بالأحرى فلسفة الوعي بهذا النّمط كما تعرضه فلسفة ما بعد الحداثة، والّتي لم تعد تحتوي على مواضيع تلجأ إليها نتيجةً لذلك، فإنّ المطلق هو فقط أفق الفهم التّأويليّ المسبق، أو بالأحرى وجهة النّظر الذّاتيّة للمؤوّل الّذي لم يعد لديه موضوعٌ حقيقيٌّ لتأويله. ويظلّ متعلّقًا في استعصاء شاملٍ ذي طبيعةٍ لغويّةٍ أساسا. وهذا ما استنكره بيتي باعتباره تذويتًا، أو الإسناد الذّاتيّ للمعنى (الدّلالة)، واعتبره الخطر الأعظم للتّأويلات المعاصرة، الّتي ينبغي التّخلّي عنه، لأنّه إذا انتزع الاعتراف بموضوع الفرد، من شأنه أيضًا أن يتخلّى عن قصده الصّادق، لصالح منظورٍ تأويليٍّ ذي طبيعةٍ نسبيّةٍ”(نفس المرجع Ibidem, op. cit pp 5-6).

[13]E. Betti, Teoria generale,op cit. p103.

[14] Ibidem

[15] E. Betti, I principi di scienza nuova di G.B. Vico e la Teoria dell ‘interpretazione storia, in Nuova vivista di diritto commerciale, diritto dell’economia, dinitto sociale, 10, (ora in E. Betti, Diritto Metodo’ Ermenentica, a cura di G. Grifo, Milano, 1991, p.462)

[16] E. Betti, Teoria generale,op cit. p104.

[17] Ibidem, pp 104-105.

[18] Ibidem, p 956.

[19]Grondin Jean, introduction to philosophical Hermeneutics, New Haren, London, ed University Bill, 1994, p126

[20]مصطفى عادل، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا، نظريّة التّأويل من أفلاطون إلى غادامير، دار رؤية للنّشر والتّوزيع، القاهرة، 2007 ص، 380

[21]Emelio Betti,op cit, p.77

[22]Betti Emilio, Ibid. op.cit p.88

[23]Betti. E. op.cit p.3-4

[24]Betti. E. op.cit p.3

[25]Betti. E. op.cit p.12

[26]Betti. E. op.cit p.180

[27]Betti. Emelio. Theoria generale della interpretazione; op.cit p.4

[28]Grondin Jean, introduction to philosophical Hermeneutics, op.cit, p126

[29] Grondin Jean, l’herméneutique comme science rigoureuse selon Emelio Betti, op.cit. p.189

[30]صفدر الهي راد، الهرمينوطيقا، منشأ المصطلح ومعناه واستعمالاته في الحضارات الإنسانيّة المختلفة، تعريب حسنين الجمال، الطّبعة الأولى، بيروت، لبنان، المركز الإسلاميّ للدّراسات الاستراتيجيّة، 2019،  ص210 .

[31]Betti Emelio,Theoria generaledella interpretazione; op.cit87p.

[32]Grondin Jean l’hermenentique comme science rigoureuse selon Emelio Betti (1890-1986), Archive de philosophie 53, 1990, p 28-27

[33]Betti, Emelio, p 305

[34] Betti Emelio Theoria generale della interpretazione; op.cit p.99

[35]Betti Emelio ; Theoria generale della interpretazione; Tome II op.cit p.101

[36] Betti E. op.cit. p.103

[37] Betti E. op.cit. p.103

[38]Emelio  Betti; Theoria generale della interpretazione; Tome II op.cit p.101

[39]Grondin Jean l’herméneutique comme science rigoureuse selon Emelio Betti (1890-1986), Archive de philosophie 53, 1990, p181

[40]E. Betti; Interpretazione della legge e degli alti guiridici, p, 180

[41]E. Betti; Teoria generale della interpretazione, I, op cit, p, 180

[42]B. Corce, Per una poetica moderna, in Nuovi saggi di estetica. Bari, 1948, p.315

[43]بالنّسبة إلى كروتشي، فإنّ مفهوم التّاريخ مثاليٌّ، يقوده العقل والتّقدّم المُستمرُّ، “إنّه عملُ ذلك الفرد الحقيقيّ الّذي هو روح التّفرّد الأبديّ”، راجع:

B. Croce, La storia come pensiero e come mazione, Bari, 1954; p.148.

[44] M. Brutti, Emelio Betti e l’incontro con il fascismo, ne I guiristi e il fascino dell’origine (1918-1925), I, www.intituemiliobetti.worfpress.com

[45] B. Croce Perché non possiamo non dirci cristiani, in Discorsi di varia filosofia, Bari, 1945, p53.

[46]E. Betti, Teoria generale, op.cit, p 956

[47]Ibidem

[48] Ibidem, p 956

[49]جيامباستيتا فيكو(Giambasttista Vico)، فيلسوف إيطالي ولد في 23 جوان 1668 في نابولي من أهم مؤلفاته: scienzanuva » (1725) « la، De Ratione(1725)، De Antiquissimaitalorumsapientia

[50]G. B. Vico, la scienza nuova (1744), a cura di P. Rossi, Milano, 1963, pp 104-106

[51] E. Betti, Teoria generale, op, cit, p. 962

[52] G. Grifo, Emilio Betti, Note per una ricerca, Milano, 1978

[53] G. Grifo, Emilio Betti, op, cit, p, 182

[54] G. Mura, Saggio introduttivo a E. Betti; l’ermentica come metodica generale delle scienzedella spritto (1962), Roma, 1987; pp.27-30

[55]E. Betti, Teoria generale, op, cit, p. 956

[56]E. Betti; Interpretazione della legge e degli alti guiridicé, p, 181

[57] IBIDEM. p.10

[58]انظر: جياني فاتيمو، الفكر الضعيف، ترجمة أحمد الدّبوبي، دار أبكالو للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، بغداد، 2021، ص 24.
__________
*الدكتور أحمد الدبوبي، جامعة قفصة.

جديدنا