عرف فكر كارل ماركس Karl Marx تأويلات عديدة، إذ مارست نظريات هذا الرجل تأثيرا كبيرا في أنصاره ومعارضيه. ويلاحظ بأن المهتم بمنجز ماركس، ليجد نفسه أمام صرح فكري وخزان نظري متنوّع، الذي ساهم في خلق تيارات فكريَّة وسياسيَّة متباينة فيما بينها، سواء من ناحية التفسير أو من ناحية الممارسة العمليَّة. ولهذا الاعتبار، قد لا يبدو غربيا اليوم، رؤية مدى اختلاف المدارس الفكريَّة، التي انبثقت من رحم ماركس، وبالنظر لانتسابها إليه، فقد درجت تسميتها بالماركسيَّة. وسنقتصر في هذا الباب على قراءة لوي ألتوسير Louis Althusser لماركس، ومن ثمة إبراز بصمته في تاريخ القراءات الماركسيَّة.
سعت قراءة لوي ألتوسير لكارل ماركس إلى فتح أفق جديد في تاريخ المدرسة الماركسيَّة. نشر ألتوسير سنة 1965 كتاب الدفاع عن ماركس Pour Marx والعمل المشترك قراءة الرأسمال Lire le capital، حيث احتوى مضمون الكتابين على مقاربة جديدة لأعمال ماركس. سعى ألتوسير في هذا الباب، إلى القطع مع القراءة «الإيديولوجيَّة» للماركسيَّة، من خلال تدشين قراءة علميَّة. وفق هذا التحليل، وجب أن تتوخى قراءة ماركس الانتقال من مرحلة الشباب لمرحلة النضج، بحيث يحيل هذا المنهج الذي صاغه ألتوسير في مقاربة نظريَّة ماركس، إلى الحديث عن قطيعة إبيستيمولوجيَّة داخل هذا الفكر. ومن نتائج الانتقال من مرحلة الشباب إلى النضج، التأسيس لنظريَّة علميَّة، الذي يعني في نظره إرساء قواعد خاصة بعلم التاريخ. يمكن اعتبار هذه القطيعة بأنها مماثلة لتلك التي عرفتها العلوم الدقيقة،[1] حيث حاول ألتوسير أن يقوم بتجديد قراءة الماركسيَّة، على ضوء استلهام معطيات العلوم الدقيقة ونتائج الابيستيمولوجيا.[2] بالرغم من ذلك، لا يتردد إيتيان باليبار tienne BalibarÉ في إبراز اختلاف دلالة مفهوم القطيعة الإبيستيمولوجيَّة، داخل مرجعيَّة كل من غاستون باشلار Gaston Bachelard وألتوسير، وذلك راجع في نظره إلى تبدل استعماله وكذلك لطبيعة موضوعه.
قام ألتوسير بتطبيق مفهوم القطيعة الإبيستيمولوجيَّة على موضوع جديد، هو حقل الماديَّة التاريخيَّة، وذلك على غرار القطيعة الحاصلة داخل حقول معرفيَّة وعلميَّة أخرى. بمعنى آخر، إن مفهوم القطيعة الابيستيمولوجيَّة يشير إلى الباب الجديد الذي فتحه ماركس في المعرفة، حيث اكتشف في هذا الإطار “قارة التاريخ”، وذلك بالمقارنة مع الاكتشاف المعرفي الذي دشنه الإغريق، من خلال ابتكارهم لـ««قارة الرياضيات»، كذلك يلاحظ أن غاليلي Galilée ورفاقه قد قاموا بفتح جديد هو «قارة الفيزياء»».[3] من هذا المنطلق، يمكن تحديد عمل ألتوسير بكونه قد اتجه نحو جعل «الفلسفة الماركسيَّة كنظريَّة خاصة «بتاريخ» الممارسات النظريَّة».[4] إذن، ما هي دلالة مفهوم القطيعة الإبيستيمولوجيَّة داخل حقل العلوم الدقيقة، وما هي دلالته في علم التاريخ؟ هل يمكن الحديث عن حدوث قطيعة نهائيَّة أم أن الأمر أكثر من ذلك، إذ يصبح دلالة على قطيعة مستمرة وليس على نتيجة نهائيَّة؟
يظهر تطبيق القطيعة الإبيستيمولوجيَّة بشكل واضح على أعمال ماركس، من خلال تمييز ألتوسير داخل هذه الأعمال بين تلك التي ترتبط بمرحلة الشباب، وأخرى متصلة بمرحلة النضج. بمعنى آخر، يفيد مفهوم القطيعة الابيستيمولوجيَّة في فهم انتقال ماركس من مرحلة طغى عليها التفسير الأنثربولوجي والتأملي الذي أدى إلى السقوط داخل نزعة إنسانيَّة في معالجة قضايا المجتمع، إلى مرحلة اتسمت ببلورة نظريَّة جديدة، يعني إقامة نظريَّة علميَّة خاصة بنمط الإنتاج الرأسمالي. وعوض تفسير نمط الإنتاج الرأسمالي بمفهوم الاغتراب الحامل لدلالة أنتربولوجيَّة كما هو الشأن في كتاب المخطوطات الاقتصاديَّة والفلسفيَّة المنشور سنة 1844، نلاحظ أن ماركس قد تخطى هذا التحليل بابتكار نظريَّة علميَّة في تفسير نمط الإنتاج الرأسمالي، ترتكز على مفهوم محوري يعوض مفهوم الاغتراب، وهو مفهوم الاستغلال. إذا تصفحنا كتاب الرأسمال، فإننا نجده ببساطة، يتحدث «عن الاستغلال الرأسمالي».[5] وفي هذا الإطار، يمثل مصنف الرأسمال عملا «علميا وثوريا يفسر العالم الرأسمالي».[6]
تجدر الإشارة بأن نظريَّة ألتوسير، قد عرفت امتدادا وتأثيرا واسعا داخل الحركة الماركسيَّة، مما يسمح بالحديث عن مدرسة داخل الفلسفة الماركسيَّة. وقد استلهم تلاميذ هذه المدرسة، أسس ومبادئ مقاربة ألتوسير في قراءة فكر ماركس، التي تركز هاجسها بالدرجة الأولى، على وضع مسافة نقديَّة مع الماركسيَّة الرسميَّة في بداية القرن العشرين، وبالخصوص الماركسيَّة السوفياتيَّة. ويمكننا تسميَة هذا التيار بالماديَّة التاريخيَّة، وذلك لتلافي حصره تحت مسمى المدرسة البنيويَّة كما يصرح بذلك روادها. نلاحظ أن الماديَّة التاريخيَّة التي ظهرت مع ألتوسير، وتطورت لاحقا مع تلاميذه، قد استلهمت أسسها من تقليد الماديَّة المنتمي لعصر الأنوار إلى حدود سبينوزا، وكذا استيعابها للإرث الإبيستيمولوجي (خصوصا إسهامات غاستون باشلار وجورج كونغليم Georges Canguilhem). ومن نتائج هذا العمل، تأثر النظريَّة الماركسيَّة بإسهامات حقول معرفيَّة أخرى، وتجلت أساسا في استخدام مفاهيم جديدة، مثل موضوعات القطيعة الابيستيمولوجيَّة، والبنيَّة، وإعادة الإنتاج، واللاوعي، إلخ، ومن جهة أخرى، إقامة روابط بين الفلسفة الماركسيَّة والعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة.
[1] في هذا الإطار يعتبر إيتيان باليبار أن هناك ” تلاق بين الفلسفة الماركسيَّة وأعمال تاريخ العلوم والإبيستيولوجيا، حول «القطيعة الإبيستيمولوجيا»”، بحيث أسس ألتوسير لهذا التلاقي.
Étienne Balibar, écrits pour Althusser, Éditions La Découverte, 1991, p. 9.
[2] يقر إيتيان باليبار بأن ألتوسير قد أكد في كتاباته بأنه استلهم مفهوم القطيعة الإبيستيمولوجيَّة من أعمال غاستون باشلار. أنظر:
Étienne Balibar, écrits pour Althusser, Ibid., p. 10.
[3] Étienne Balibar, Ibid., p. 25.
[4] Étienne Balibar, Ibid., p. 26.
[5] Louis Althusser, Positions, Éditions sociales, 1976, p. 59.
[6] Louis Althusser, Positions, Ibid., p. 60.
____________
الدكتور أحمد الزاهد: حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، باحث ومترجم من المغرب.