الفلسفة السياسيَّة: المقاربة بين تعالي المعنى وجاذبيَّة الواقع
توطئة:
يُلْزِمُ القول، بدءاً، بيان إن هذه المقالة ليست مخصَّصة لاستعراض تجربة سياسيَّة معينة، أو رؤية فلسفيَّة نظريَّة تقترب بها من جدل الكلاميَّات، أو كمال الأكاديميَّات، وإنما هي محاولة لفحص معنى الفلسفة السياسيَّة، وتبيان الحاجة إليها، وإمكانيَّة معاينة تَمَثُّلاتها في واقعنا المُعاش. والاقتراب من هذا الواقع يلزمنا بسياحة فكريَّة في بعض المدارس والنظريات، التي حاولت وضع الفلسفة في سياق الفعل السياسي. وتُظْهِر هذه السياحة التنوُّع الكبير للفلسفة السياسيَّة والمراحل المختلفة، التي تطوَّر من خلالها الفكر السياسي العالمي، بما في ذلك تجلياته في واقعنا الخاص، وإسهامات الفلاسفة العرب والمسلمين في إثرائه، خاصَّة في التأسيس لقواعده الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة. وفيما يحاول تاريخ الفلسفة السياسيَّة تقديم حساب متَّصل للتكهنات السابقة حول طبيعة الارتباط البشري؛ في أكثر مستوياته شموليَّة، يمكننا أن نكتفي هنا بمجرد التأكيد على الإطار المفاهيمي للفكر السياسي، وليس الجرد المفصل للتاريخ، أو تطوّر الفلسفة، ومن دون اعتماد على ما إذا كان المبدأ التنظيمي هو التسلسل الزمني، أو السياسيَّة المميزة، التي تحدِّدها مفردات وتركيبات ومشاكل محدَّدة، على سبيل المثال، الجمهوريَّة الكلاسيكيَّة، القانون الروماني، القانون الطبيعي، النفعيَّة. من الناحية الزمنيَّة، كان من المعتاد ملاحظة الانقسامات بين فترات الدراسة القديمة والعصور الوسطى وعصر النهضة وأوائل العصر الحديث.
إنَّ اليقين الراسخ لَدَيَّ يقول إنه لا يمكن لأي شخص درس الفلسفة بعناية أن يشك في أنَّ بعض المشكلات النظريَّة في السياسة قد تمَّ حلّها بشكل دائم، وأن بعض هذه الحلول لها آثار مباشرة على عمل السياسيين اليوم. ورغم أن من بين الفلاسفة من يوافقون على هذا التأكيد، إلا أنَّ الكثيرين لا يرغبون في تحمُّل المسؤوليَّة عن حقيقة أن مساهمات الفلسفة لا تحظى بالتقدير الكافي في المرحلة الأكبر من التقدُّم الفكري الإنساني. وعند التفكير في العديد من الفلاسفة المعاصرين، الذين تعرفت عليهم مباشرة، أو من خلال دراسة متأنية لأعمالهم، يمكن القول إنَّ عدداً منهم لهم تأثير ملموس على المرحلة الأكبر ممَّا يعيشه العالم اليوم. وقد فَصَّلتُ هذا في مقال بعنوان: “الفَلاسفة الذين يؤثّرون في السياسة العالميَّة”، طبع في 14 سبتمبر 2018، في نشرة “أفق”، التي تصدرها مؤسَّسة الفكر العربي، مبيناً أن بعضهم أمضى حياته المهنيَّة في توظيف المعرفة الفكريَّة وأدوات الفلسفة لمساعدة القادة السياسيين من جميع الأطياف على حل المشكلات الصعبة. وما الفيلسوف بول ريكور، الذي عَمِلَ معه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والفيلسوف ألكساندر دوغين، والذي كثيراً ما ترد الإشارة إليه بأنه “عقل بوتين” لقربه وتأثيره على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا نموذجين شاخصين، يمثلان الحاجة إلى الفلسفة والفلاسفة في توجيه الرأي السياسي، أو حل معضلات وإشكاليات ما يستعصي من قرارات. وأستطيع أن أقدر أن استصحاب الرأي الفلسفي في صنع هذه القرارات يقدم للقيادات السياسيَّة خيارات أكثر من مجرد الإلمام بالاستعارات والنصوص البارزة والباردة في فعل السياسة العامة. وذلك لما تُعِين عليه الفلسفة من إِكساب السياسي لمهارات نقديَّة وتحليليَّة تتخلَّل كل جوانب الخبرة بالإدراك المعزّز، الذي يوفّر مستويات جديدة من الفهم، وإعادة على رؤية أشياء ببصيرة لا يمكن ملاحظتها بغيرها.
قيد المعنى:
وعطفًا على كل ما تقدم، يمكن تعريف الفلسفة السياسيَّة على أنها انعكاس عقلاني موضوعي حول أفضل السبل لترتيب حياتنا الجماعيَّة؛ مثل مؤسَّساتنا السياسيَّة وممارساتنا الاجتماعيَّة؛ ومثل نظامنا الاقتصادي ونمط حياتنا الأسريَّة. ورغم أنه في بعض الأحيان يتم التمييز بين السياسي والاجتماعي في مساقات الفلسفة، لكنني سأستخدم “الفلسفة السياسيَّة” بالمعنى الواسع لتشمل كليهما معاً، لأنَّ السياسة معنيَّة بالمجتمع، مثلما هي معنيَّة بالحكم والدولة. لذلك، يسعى الفلاسفة السياسيون إلى وضع مبادئ أساسيَّة من شأنها، على سبيل المثال، تبرير شكل معين من أشكال الدولة، أو إظهار أن الأفراد لديهم حقوق معينة غير قابلة للتصرُّف، أو تخبرنا بعض مدارسها كيف ينبغي تقاسم الموارد الماديَّة للمجتمع بين أعضائه. ويتضمَّن هذا عادةً تحليل وتفسير أفكار مثل الحريَّة والعدالة والسلطة والديمقراطيَّة، ثم تطبيقها بطريقة نقديَّة على المؤسَّسات الاجتماعيَّة والسياسيَّة الموجودة حالياً. وفيما حاول بعض الفلاسفة السياسيين، في المقام الأول، تبرير الترتيبات السائدة في مجتمعهم، رسم آخرون صوراً لحالة مثاليَّة، أو لعالم اجتماعي مثالي يختلف تماماً عن أي شيء اختبرناه على أرض الواقع حتى الآن، الذي هو أقرب لليوتوبيا منه إلى تجسيد حقيقي لنموذج يمكن تطبيقه. وقد لا نخطئ كثيراً إذا تجرأنا على القول إنَّ الكثير من شعارات الأيدولوجيا هي من هذا النوع “الشاطح” من المثاليات، بما فيها شعارات المتدينين، الذين يعتقدون أنَّ مجرد القبول بقناعاتهم، أو نيَّة تنزيلها على أرض الواقع هو “الحل”.
لهذا، لا يأتي تعريف مساهمة الفلسفة في العمل السياسي؛ في العديد من النظريات المعياريَّة للمعرفة، على أنها إيمان حقيقي مبرر بدورها. إذ هي، وفقاً لبعض المنظرين، مجرد اعتقاد صحيح، ولكنه غير معدود في الحسابات الأخرى، التي عادة ما تناقش على نطاق واسع في التحليل السياسي، رغم ما لها من إسهام حقيقي غير عرضي تم إنتاجه عن طريق الفضيلة الفكريَّة. وهذا يضعنا في أفق يسمح لنا بتقدير ما يسميه بعض المنظرين بمشكلة القيمة الثالثة، التي تتعلق بالسبب، الذي يجعل المعرفة أفضل نوعياً من أي موقف سياسي يفتقر إلى هذه المعرفة. ومن هنا يمكننا أن نضع في الاعتبار أنه إذا كانت السياسة أفضل من الناحية الكميَّة فقط، فإنها من جانب آخر هي تلك المعاني، التي نُدْخِل بها الفلسفة في سلسلة متصلة متصورة للقيمة المعرفيَّة، لذلك، سيكون من الغامض معرفة لماذا نولي الفلسفة مثل هذا الاهتمام، بالذات من مُدْخَلات القرار السياسي. ولكن، مع وضع هذه النقطة في الاعتبار، فإن الأطروحة المركزيَّة، التي ينبغي الأخذ بها، هي أن المعرفة بقيمة الفلسفة في الفعل السياسي توفر الموثوقيَّة، لأنها أكثر قيمة من في المواقف المعياريَّة الإيجابيَّة النشطة لتفسير اتجاهات السياسة، وتوقع نتائجها. ونظراً لسمات هذا الفهم الجوهريَّة، فإن الإيمان الحقيقي الموثوق به هو في صحَّة القرار السياسي المدعوم بالمعرفة الحقيقيَّة، الذي يستحقّ التقدير، والمشاركة النشطة. وهذا بلا شك اقتراح مثير للفضول، ويفتح سبيلاً ممكناً للدفاع عن الفلسفة المنتجة للموثوقيَّة، التي يتمّ النظر فيها للقرار السياسي على أنه يتَّكئ على خلفيَّة فهم عميق للإشكاليات، والذي يستهدف التأثير الإيجابي على توجهاتها. ومع ذلك، فإنَّ إحدى المشكلات، التي يواجهها مثل هذا القرار، هي أنه من غير الواضح ما إذا كان بإمكاننا أن نجعل الجميع يفهمون التمييز، الذي ترسمه فلسفة القرار بين المواقف الإيجابيَّة والسلبيَّة، على الأقل في المجال المعرفي، التي غالباً ما تحتاج إلى التأمُّل والقبول والتأكيد والاحترام، أو كل ما يُساعد على تقييم الحقيقة فيه بشكل إيجابي.
حضور التاريخ:
لقد مُورست الفلسفة السياسيَّة منذ أن اعتبر البشر أن ترتيباتهم الجماعيَّة ليست ثابتة، وليست جزءاً من النظام الطبيعي المستقر، ولكن يحتمل أن تكون منفتحة على التغيير، بل هي كذلك. وبالتالي، فهي في دوامة تغييرها بحاجة إلى تبرير فلسفي يؤسِّس للقناعات العامَّة بجدواها وآنيتها وأهميتها. ويمكن العثور على شواهد تأثُّر القرار السياسي بآراء وأفكار الفلاسفة في العديد من الثقافات المختلفة، وقد اتَّخذت مجموعة متنوِّعة من الأشكال، التي تحيلنا إلى أن نذهب للاعتقاد أن هناك سببين لهذا التنوّع، يعكس الأول الأساليب والمقاربات، والتي يستخدمها الفلاسفة السياسيون والاتِّجاهات الفلسفيَّة العامة لعصرهم، والتطورات في نظريَّة المعرفة والأخلاق، على سبيل المثال، تغير الافتراضات، التي يمكن للفلسفة السياسيَّة المضي قدماً فيها. فيما يرمي الثاني إلى تحديد جدول أعمال الفيلسوف السياسي، إلى حد كبير، من خلال القضايا السياسيَّة الملحَّة السائدة. ففي أوروبا العصور الوسطى، على سبيل المثال، أصبحت العلاقة الصحيحة بين الكنيسة والدولة قضيَّة مركزيَّة في الفلسفة السياسيَّة؛ وفي أوائل الفترة الحديثة، كان الجدل الرئيس بين المدافعين عن الحكم المطلق، وأولئك الذين سعوا إلى تبرير وجود دولة دستوريَّة محدودة. وقد برز في القرن التاسع عشر السؤال الاجتماعي عن كيفيَّة تنظيم المجتمع الصناعي لاقتصاده والدفع بنظام الرفاهيَّة الخاصّ به إلى المقدمة. لذلك، عندما ندرس تاريخ الفلسفة السياسيَّة، نجد، إلى جانب بعض الأسئلة الدائمة: كيف يمكن لشخص ما أن يدعي بشكل مبرر سلطة حكم شخص آخر؟ وعلى سبيل المثال، هناك بعض التغييرات الكبيرة في القضايا، التي يتمّ تناولها، وفي اللغة المستخدمة لمعالجتها، وفي المقدّمات الأساسيَّة، التي يستند إليها الفيلسوف السياسي في حجته.
لقد قوضت المسيحيَّة الاستقلال الذاتي الوثني للسياسة باسم مثال أعلى متسامي. ومع ذلك، فقد تكيفت الكنيسة مع الكثير من العقلانيَّة اليونانيَّة والمفردات السياسيَّة للفلسفة الهيلينيَّة في تطوير عقيدة وشكل مؤسّسي للدولة. في المقابل، أعطت الفلسفة الشرعيَّة لأصحاب المناصب الملكيَّة والإمبراطوريَّة في روما والممالك الوريثة البربريَّة. وكانت الفلسفة السياسيَّة في العصور الوسطى منشغلة بشكل مميز بالعلاقة بين البابا والملك والكنيسة، وكنظام خاضع للاهوت. وجرى تحدي هذا من خلال إعادة اكتشاف المثل الأعلى السياسي العلماني لأرسطو المكتفي ذاتياً، وهو تحد واجهته لفترة من الوقت اجتهادات توما الإكويني. ومع ذلك، فقد أعيد تأكيد استقلاليَّة السياسة العلمانيَّة باستمرار من قبل سلسلة من الكتاب؛ مثل، بارتولوس ساسوفيراتو، ومارسليوس من بادوفا، وبروني ومكيافيلي، الذين أحيوا وأعادوا صياغة الجمهوريَّة الكلاسيكيَّة باستخدام كل من القانون الروماني وتقنيات ورؤى عصر النهضة الجديدة. وعلى الرغم من أن الإصلاح كان هادئاً سياسياً في البداية، إلا أنه أدى إلى نشوء صراعات جديدة بين الحكم العلماني والمقدس. على وجه الخصوص، تغذَّت الادعاءات الراديكاليَّة حول مسؤوليَّة جميع المؤمنين عن خلاصهم بطرق مختلفة في فلسفات سياسيَّة فرديَّة، في أوائل عصور أوروبا الحديثة، وذلك باستخدام المفردات الجديدة اللافتة للنظر، والكاثوليكيَّة في الأصل، للحق الطبيعي. وكان هوغو غروتيوس يطمح إلى توفير أساس علماني مشترك للأخلاق السياسيَّة المشتركة، على أساس الحقوق الفرديَّة المستمدَّة من حق عالمي في الحفاظ على الذات. وجرى استكشاف هذا على نطاق واسع من قبل مفكري القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا سيما هوبز ولوك، وبلغ ذروته سياسياً في الثورتين الأمريكيَّة والفرنسيَّة، التي رُفِضَت لغة الحقوق الطبيعيَّة في أعقابهما من قبل المفكرين المحافظين.
على الرغم من أن الإصلاح كان سياسياً هادئاً في البداية، إلا أنه أدى إلى نشوء صراعات جديدة بين الحكم العلماني والمقدس. على وجه الخصوص، تغذت الادعاءات الراديكاليَّة حول مسؤوليَّة جميع المؤمنين عن خلاصهم بطرق مختلفة في فلسفات سياسيَّة فرديَّة. في أوائل فترات أوروبا الحديثة، باستخدام المفردات الجديدة اللافتة للنظر كالحق الطبيعي، التي كانت مفردة كاثوليكيَّة في الأصل، إلا أن هوغو غروتيوس كان يطمح إلى توفير أساس علماني مشترك للأخلاق السياسيَّة المشتركة، على أساس الحقوق الفرديَّة المستمدة من حق عالمي في الحفاظ على الذات. تم استكشاف هذا على نطاق واسع من قبل مفكري القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا سيما هوبز ولوك، وبلغ ذروته سياسياً في الثورتين الأمريكيَّة والفرنسيَّة. ففي أعقاب الثورة الفرنسيَّة، وعنف “اليعاقبة” رفض المفكرون المحافظون لغة الحقوق الطبيعيَّة. وأدت محاولات فهم الطابع السياسي للتحولات الاقتصاديَّة والإمبراطوريَّة وقتئذٍ إلى تفاعل متزايد مع الطابع التاريخي الأساسي للسياسة، الذي كان الخطاب الجمهوري مناسباً بشكل خاص للاستكشاف. واقعاً، لم تكن الثورة الفرنسيَّة مجرد حدث لعبت فيه الفلسفة السياسيَّة دوراً مهماً فحسب، وإن كان هذا الدور متنازعاً عليه بشدة؛ كما أنه، مثل صعود وسقوط روما، وإنما قدمت موضوعاً مركزياً للتفكير السياسي اللاحق. فأصبحت شخصيَّة الحداثة، وطبيعة الثورة، وعلاقة الأفكار السياسيَّة بالعمل السياسي، وقوة، أو ضعف العقلانيَّة كمبدأ إعلامي، واستمراريَّة واستحسان المثل الثوريَّة للحريَّة والمساواة والأخوة، كلها موضوعات فلسفيَّة. وكَثُرَت تكهنات من قبل مفكري ما بعد الثورة؛ مثل، كونستانت وكابيت ودي توكفيل وبورك ودي مايستر وسانت سيمون وأوين وكوليريدج، بالإضافة إلى جيل لاحق من الفلاسفة، من بينهم أوجست كونت وتوماس كارلايل وكارل ماركس.
وكما أسلفنا، يحاول مؤرِّخو الفلسفة السياسيَّة تقديم حساب جامع للتكهنات المتصلة بطبيعة الارتباط البشري بالفلسفة، فاليونان القديمة هي مصدر أول انعكاس سياسي للفلسفة، ولها تاريخ مستمر في الغرب. وأدى التفكير الفلسفي هنا للنظر في الطبيعة والتنظيم السليم للمجتمع السياسي، وإلى تحفيز البحث عن الاختلاف بين الطبيعة البشريَّة والتوافق الاجتماعي، وبين الجمهور والمجال المحلي، والطابع المميز للحكم السياسي، والعلاقة بين الحياة السياسيَّة والفلسفة، وهويَّة العدالة، وتصنيف أشكال الدولة، بالإضافة إلى العنايَّة بدراسة المجتمع، ودوره في تحقيق استقرار الأنظمة السياسيَّة وانحدارها. وتم تكييف المفردات السياسيَّة اليونانيَّة مع الممارسة الجمهوريَّة الرومانيَّة، من قبل بوليبيوس وشيشرون على سبيل المثال، التي سرعان ما أفسحت المجال لدستور إمبراطوري يؤكد السلام والنظام والوحدة. وهكذا ولّدت روما مثالين سياسيين؛ مثال المواطن الجمهوري النشط الفاضل، ومثل الإمبراطوريَّة الموحدة، التي يحكمها القانون الروماني.
لهذا، يمكن القول باطمئنان إن تاريخ الفلسفة السياسيَّة هو كتاب مفتوح منذ قرون طويلة، جرى تحريره بواسطة الفلاسفة السياسيين من أفلاطون وأرسطو إلى الفارابي وابن باجة والماوردي وابن رشد، وحتى المُحدَثِين في الشرق والغرب. وإذا سلمنا جدلاً بأن أفلاطون هو أبو الفلسفة، فإنه غالباً ما يُنظر إلى أرسطو على أنه “أبو العلوم السياسيَّة”، رغم أن لأفلاطون اسهامه المقدر في النظر السياسي الفلسفي، إلا أن أرسطو كان أول من توصل إلى تعريف عملي للعلوم السياسيَّة. لذلك، فإن الحقيقة، التي لا يمكن تجاوزها، هي أن اليونان القديمة هي بالفعل مصدر أول انعكاس سياسي للفلسفة، ولها تاريخ مستمر في الغرب وفي حياضنا، إذ أدى التفكير في الطبيعة والتنظيم السليم للمجتمع السياسي إلى تحفيز البحث عن الاختلاف بين الطبيعة والاتفاق الإنساني، وبين الجمهور والمجال المحلي، والطابع المميز للحكم السياسي، والعلاقة بين الحياة السياسيَّة والفلسفة، وهويَّة العدالة، وتصنيف أشكال الدولة، بالإضافة إلى تحقيق وعي اجتماعي أكثر باستقرار الأنظمة السياسيَّة وانحدارها. ولذلك، فهي إلى جانب الأسئلة الإشكاليَّة حول أسباب صعودها وانحدارها، قدمت روما القيم السياسيَّة للتفكير الفلسفي اللاحق.
تأصيل الفكرة:
هناك من يعتقد أن الفلسفة السياسيَّة في الإسلام هي مجرد تطبيق للتنظير السياسي اليوناني على فهم الوحي الإلهي باعتباره نيَّة تشريعيَّة، ولكن بدلاً من العمل بما يشبه سياسة أرسطو، غير المعروفة في إسلام القرون الوسطى، تولت مدارس لاحقة فلسفة أفلاطون السياسيَّة في تفسير طبيعة وهدف الدولة الإسلاميَّة. لقد تصور الفارابي “النبي” باعتباره ملكاً فيلسوفاً في الأيام الأخيرة لتنظيره الفلسفي، واستمد ابن باجة وابن طفيل إشاراتهما من مصير سقراط، الذي حذر من إمكانيَّة الانخراط بنجاح في مهمَّة فلسفيَّة للجماهير “المبتذلة”، فيما قدم ابن رشد الفلسفة كواجب يفرضه القانون على أولئك القادرين على الفلسفة. ومنها أفكار الفارابي ومقارباته المختلفة، التي أَدْنَت الحالة العربيَّة والإسلاميَّة إلى المثاليَّة الكلاسيكيَّة، بسبب تعليقه على نفس التصميم المنطقي للمدارس والنظريات السائدة في زمانه. رغم أن نظريته الشهيرة تكشف في أصلها عن الحالة المثاليَّة، وعن منطق مختلف للتعاون والتضامن، يبتعد بها قليلاً عن المثاليَّة الكلاسيكيَّة من خلال تحديد القيمة الأساسيَّة للكمال والنضج الشخصي، بدلاً من تعظيم الفائدة الماديَّة، التي غرقت فيها النظريات الغربيَّة والشرقيَّة. وفقاً للفارابي، فإنَّ التضامن والتعاون لا يخلقان فقط الظروف المثاليَّة لوجود حكم جيد، ولكن يؤديان أيضاً إلى الكمال الشخصي، الذي يخدم بشكل أفضل التكامل المستقر للمجتمع، والنظام السياسي الدائم للدولة. ومعنى التعاون والتكامل المقصود هنا هو نوع من التطور المجتمعي للشخصيَّة، التي تبدأ من الأسرة في نطاق الدولة المحصورة داخل حدودها، وتمتد إلى المجتمع الدولي لخدمة عالم أفضل من خلال خلق المواطنة المثاليَّة. في هذا السياق، تسهم أفكار الفارابي في معنى مختلف لمنطق التعاون، إلى جانب تفسيرات المثاليَّة والليبراليَّة. وبالإضافة إلى ذلك، تضمنت تأملاته حول المدينة المثاليَّة، أو الفاضلة، العديد من المراجع للأفكار والمفاهيم السياسيَّة الحديثة. لذلك، قد يكون الفارابي مرجعاً من العالم الشرقي، والتعليم الإسلامي للتأملات السياسيَّة الحديثة؛ مثل، الديمقراطيَّة، والتكامل الدولي، والعالميَّة، وما إلى ذلك.
وإذا تساءلنا حول ما هي الفكرة الرئيسة للفلسفة السياسيَّة، عند الفارابي وغيره؟ فإنَّ الإجابة المباشرة هي أن هذه الفلسفة ما هي إلا دراسة الأسئلة الأساسيَّة حول الدولة، والحكومة، والسياسة، والحريَّة، والعدالة، والملكيَّة، والحقوق، والقانون، وإنفاذ هذا القانون من قبل السلطة. ومن ثم نُكَثِّف السؤال أكثر، ونستطرد: ما هي الضرورة لوجود فلسفة سياسيَّة؟ ولماذا هي مهمَّة الآن، مثلما كانت مهمَّة قبل قرون خلت، أو حتى إذا كانت هناك حاجة إليها في راهننا، فما نوعها، أو حجمها؟ وما، الذي يجعل الحكومة شرعيَّة؟ وما هي الحقوق والحريات، التي يجب أن تحميها الدولة؟ وغير هذه من الأسئلة، التي تتناسل مستفسرة عن تفاصيل كل ما يطرأ على السياسة، ومقتضيات الممارسة اليوميَّة للسلطة، وما يتطلّبه واجب الإيضاح من معلومات جديدة، ومعارف متخصِّصة؛ يُسْتَعَانُ بها لاحقاً في اتِّخاذ القرار. أما إذا حاولنا رسم صورة “بانوراميَّة” للفكر العربي، أو الفلسفات، التي تعلقت بها أصوله منذ عهد محمد علي باشا في مصر، في أوائل القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر، فإنَّ هذه الصورة ستُظهر لنا مدارس الفكر السياسي المختلفة، والتي كان لها تأثير على البيئة الجيوسياسيَّة المتغيِّرة باستمرار. كما تُظهر أن المحاولات الجوهريَّة لتحليل واستيعاب “العقل العربي” من خلال عامل واحد، وبالتحديد من خلال هيكل القوانين الإسلاميَّة (الشريعة)، لم تنجح بشكل كامل، ويعزو إليها البعض سبب إفقار ثراء الثقافة والفكر السياسي العربي.
وفي رؤية مغايرة لما تقدم من تعميم، يستكشف المفكر اللبناني جورج قرم، في كتابه الموسوم بـ”الفكر السياسي العربي: الماضي والحاضر”، الذي نُشر في يناير 2020، الجوانب العديدة للفكر السياسي العربي منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. فقد أوضح جورد قرم حيويَّة الفكر السياسي العربي وأهم الخلافات فيه، وذلك بإظهار أن اللاعبين الرئيسين المعنيين، بعيداً عن كونهم مقيدون بالقيود اللاهوتيَّة والسياسيَّة، أظهروا في كثير من الأحيان تفكيراً نقدياً قوياً عند التعامل مع الدين والفلسفة والأنثروبولوجيا والسياسة. وتتبُّع قرم وضع هؤلاء المفكرين وأعمالهم في غضون قرنين من الاضطرابات في العالم العربي، بقراءة الفكر السياسي العربي عن كثب والتحولات المتتالية للقوميَّة العربيَّة الحداثيَّة. وقدَّم خططاً لفهم الربيع العربي التحرُّري، فضلاً عن الثورات المضادَّة والتدخّلات الخارجيَّة، التي تلت ذلك. الأمر الذي حدا ببعض النقَّاد العرب أن يقولوا إنه منذ كتاب “الفكر العربي في العصر الليبرالي” لألبرت حوراني، لم تكن هناك دراسة شاملة يسهل الوصول إليها مثل رواية جورج قرم الشاملة، التي تغطي مجموعة متنوِّعة من الكتاب من مختلف أنحاء المنطقة العربيَّة، الذين تتراوح أفكارهم من القوميَّة العربيَّة إلى الهويات الأكثر محليَّة، فأنتج بذلك خلاصة وافية عن المثقفين العرب وإسهاماتهم في الفكر العربي حتى الربيع العربي. وقدم سرداً لا يقدر بثمن للتيارات الفكريَّة داخل العالم العربي وخارجه، مما يجعل هذه الدراسة الغنيَّة أقرب إلى فهم سياسة المنطقة ونسيجها الأساس للأفكار السياسيَّة. ويلخِّص بنظرة عامَّة ثراء الفكر العربي وتعقيده، وتفكيك الروايات السائدة، التي تختزل الشعوب العربيَّة إلى ثنائيات عرقيَّة ودينيَّة وعلمانيَّة غير متوافقة، وهذا مما لا تقبله الحقيقة، ولا يقرّه الواقع.
الخاتمة:
إنَّ أحد الأسئلة، التي تبرز على الفور، بعد مطالعة ما تقدَّم، هو ما إذا كانت المبادئ، التي وضعها الفلاسفة السياسيون يجب اعتبارها ذات صلاحيَّة عالميَّة، أو ما إذا كان ينبغي النظر إليها على أنها تعبر عن افتراضات وقيم مجتمع سياسي معين. ونوقش هذا السؤال؛ حول نطاق ومكانة الفلسفة السياسيَّة، نقاشاً حادّاً في السنوات الأخيرة، ويرتبط هذا السؤال بسؤال حول الطبيعة البشريَّة ارتباطاً وثيقاً. ومن أجل تبرير مجموعة من الترتيبات الجماعيَّة، يجب على الفلسفة السياسيَّة أن تقول شيئاً عن طبيعة البشر، واحتياجاتهم، وقدراتهم، وما إذا كانوا أنانيين بشكل أساس، وما إلى ذلك. ولكن هل يمكننا اكتشاف سمات مشتركة بين البشر في كل مكان، أم أن شخصيات الناس تتشكَّل في الغالب من خلال الثقافة الخاصَّة، التي ينتمون إليها؟ كما أن محاولات الفلاسفة لفهم الطابع السياسي للتحولات الاقتصاديَّة والإمبراطوريَّة، في أوائل العصور الحديثة، قد أدَّى إلى تفاعل متزايد مع الطابع التاريخي الأساس للسياسة، والذي كان الخطاب الجمهوري فيه مناسباً بشكل خاص للاستكشاف. وتضمَّن تجنّب فقدان الحريَّة، الذي بدا أن الاستحواذ على الإمبراطوريَّة يستتبعه إلى إعادة التفكير في الأنماط المحتملة للتنمية السياسيَّة والاقتصاديَّة، وتقديم تعريف جديد للحريَّة، التي قدمت الحريَّة الشخصيَّة والاقتصاديَّة على الحريَّة السياسيَّة، واُقْتُرِحَ أن الأجهزة المؤسسيَّة غير الشخصيَّة يمكن أن تحل محل المُثل الفاضلة، كدوافع ضمان للحريَّة السياسيَّة والاستقرار. وقد ساعد على استكشاف هذه الاحتمالات مونتسكيو وكونستانت في فرنسا، وهيوم وسميث في بريطانيا، وماديسون وهاملتون وجاي في أمريكا، فيما أعانت على فهمها في عالمنا الإسلامي والعربي كتابات أمثال الفارابي وابن رشد وحوراني وقرم، وغيرهم الكثيرون.
* أكاديمي، سفير سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن
الخميس 25 أغسطس 2022
الخرطوم، جمهوريَّة السودان
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.