موت الفلسفة وحياتها

image_pdf

هلِ تموتُ المفاهيم؟ عادةً ما لا نطرحُ هذا السؤال؛ لأنّنا أكثرُ انشغالاً بحياةِ المفاهيمِ، ومأخوذون بأثرها الذهنيّ، وبعلاقاتها التي تنتسجُ في علاقةٍ بمفاهيمَ أُخرى. المفاهيمُ كياناتٌ عقليةٌ تزدهرُ وتنمو وترتحل (Nomades)، وليسَ فضاءُ هذا الترحالِ سوى تاريخ الفكر. وإذا تقرّرَ أن للمفاهيمِ حياةً، فإنها تواجهُ فكرةَ الموتِ وتُسْلِمُ روحَ المعنى فيها متى لم تعد قادرةً على التجدُّدِ والانبعاث. غير أنَّ موتَ المفهوم لا يحيلُ على الزوالِ والاندثار بقدر ما يصفُ الغيابَ الذي يعكسُ نوعاً من التّواري والاحتجاب. لكنَّ لكلِّ مفهوم القدرةُ على الانبعاثِ والاستمرارِ، إلّا أنَّه لا يكونُ مطابقاً لحياتهِ السابقةِ في دورة التناسخ التالية، لأنّهُ يولدُ في سياق آخرَ ويحمِلُ في جوهره عناصر التّجديد اللانهائية. يعني الموتُ بالنسبةِ إلى المفهومِ حالة الانحسارِ التي يصيرُ بموجبها غير قادرٍ على إنتاج دورات حياته الخاصّة، وعدم القدرة على إنتاج روابط مفهوميةٍ تسمحُ لهُ بأن يصيرَ مفهوماً ذا سلطةٍ.

ليس أدلَّ على ما تقدّم من مثالٍ نظيرَ ما عاشهُ مفهومُ الفلسفةِ، ما الفلسفةُ؟ يجيبُ دولوز وغاتاري: «الفلسفةُ فنٌّ لتشكيلِ، وخلق، وإبداع، وصناعة، المفاهيم» (ما الفلسفة؟). لكنْ أيُّ فارق دلاليّ هو ذلك الذي صارتْ إليه الفلسفةُ؟ أ لم تعد بالتعريف مجرّد: «محبّةٍ للحكمة» (فيثاغورس)؟ هلْ يتناسبُ هذا المعنى مع ما تقرّر لدى أبي إسحاق الكندي من أن «الفلسفة علمُ الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان»؟  (رسالة إلى المعتصم بالله).

يخضعُ “مفهوم الفلسفة” بنفسهِ إلى مقولاته الخاصَّة، إذا أخذنا بعين الاعتبارِ ما جاء في تعريفِ جيل دولوز وفيليكس غاتاري، فالفلسفةُ ما تفتأ تبدعُ معانيها وتجدِّدُ مدلولها بحسبِ سياقاتها الخاصَّةِ وتتناولُ قضايا شائكةٍ، وتعالجُ إشكالياتٍ لا حصر لها. انتعاشُ الفلسفة رهينٌ بمقدرتها على الاستجابة إلى سياقها، وعلى حدِّ تعبير هيغل: «الفلسفة وليدة عصرها»، وهي وإن كانتْ تكتسحُ الأشياء كلَّها، إلا أنها تضربُ بجذورها عميقاً، وتتسربلُ بواقع الإنسان ومصيره. والفلسفةُ عندَ السطحِ هي عينها الفلسفة وقد نفذت إلى الأعماق، من دون أن يكون ثمّة فاصلٌ بين ما يمكنُ أن يتجلّى ك«ظاهر»، أو يتوارى ك«باطن».

الفلسفةُ حركةٌ دؤوبة لا تسكن أبداً، وشغف بالمعنى لا ينضبُ، لكنَّها ظلت مرتبطةً بمجالاتها، ولم تنفكّ عن ميادينها؛ إذ الفلسفةُ قطعاً هي النظرُ التّركيبيُّ في ما ينتجهُ العلمُ، وهي الفكرُ حيث إن «العلم لا يفكر» (هايدغر)؛ لأنّه منغمرٌ في نتائجه وإنتاجاته، لكنَّ الفلسفةَ ستظلُّ تفكرُ بدلا من العلم ونيابةً عنه، لأنَّها تسعى إلى الكشفِ والتعريةِ. غيرَ أنَّ أزمةً لاحت في الأفق، لمّا اغترّ بعضُ المحسوبين على الفلسفةِ، وزعموا أنَّ الفلسفة ينبغي أن تستقلّ، حتى تضمن خلاصها، وتنفذ بجلدها كي لا تضمحلّ وسط تلك العلوم والقطاعات المعرفيّة، لكنّهم بذلك فصلوا الفلسفة عمّا يمكن أن يكون سبباً في بقائها واستمراريتها.

لا حياة للفلسفة ولا استمرارية لها إلا إن هي انفتحت على سائر المعارف والعلوم، والقولُ الفلسفيّ الرصين لابدّ أن ينهلَ من نتائج تلك العلوم، وأن ينظر نظرةً تركيبية-تقويمية في أسسها، لا من جهة التعالي، بل من جهة الاتصال والمحايثة. من الأكيد أنَّ هناك لحظات تكون فيها الفلسفةُ على شفير الموت، إلا أنّها تنبعثُ من مرقدها وتواصلُ المسير، وذلك دليلٌ على الأهمية القصوى للتأمل الفلسفيّ وضرورته في تجديد المفاهيم وبيان العلاقات والروابط التي تضمُّها إلى بعضها البعض.

لا مندوحة لنا من أن نعيدَ للفلسفة قيمتها من خلال عملية الانفتاح التي صارت ضرورة، ومطلباً عزّ نظيره. الفلسفة، إذن، مسارٌ ومصيرٌ يتحدّدُ بها/ومن خلالها وعيُ الإنسانِ ومقدراته، وأن نتفلسف معناه أن نسكنَ المفاهيم، وأن نتتبّعها وجوداً وعدماً، في جليل الأمور ودقيقها، وفي غثّها وسمينها، وفي إبداعها وركاكتها.

جديدنا