نهاية الإيديولوجيا أم نهاية الإنسانيَّة؟ نحو إصلاح إنسانوي

image_pdf

وأنا أطالع  أحد الكتب قابلتني رسالة مسلم كونغولي يقول فيها: نحن المسلمين في الكونغو فقراء ـ ضعافـ جهلة، ينقصنا كل شيء، ونحمّلكم مسؤوليتنا امام الله، إننا رغم فقرنا لا نريد منكم المال بل نطلب منكم من يعلِّمنا  القرآن والإسلام والعربيَّة، لإن فقرنا يحول  بيننا وبين الذهاب الى  بلادكم للتعلُّم”، لا شكَّ أنَّ كل من يقرأ رسالة هذا المسلم الإفريقي الذي سمَّى نفسه محمدا تترك أثرًا في قلب كل ضمير مسلم وبخاصة النخبة من دعاة ومثقفين وسياسيين، لكي يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر في المعايير التي فقدوها من أجل صراعاتهم من أجل التموقع.

الحاضر هو ما خطّطنا له في الماضي، والمستقبل هو ما نخطّطه اليوم للغد، لا يمكن طبعا تحديد مفهوم المستقبل، هل هو الغد أم الذي يأتي بعده أم هو الزمن البعيد، هذا الزمن الذي هل إن كنا سنعيشه يوما ما أم لن نصل إليه لأنَّ عمرنا محدود، كل الأنظمة تضع مخططات على أزمة متباعدة ( قريب، متوسط ومدى بعيد) لتحقيق مشاريعها المستدامة، تكون في خدمة الأجيال، نجد كبار المنظرين السياسيين والعسكريين يتحدثون عن مسائل تدخل في دائرة الإستشراف، كل القوى العظمى تعمل على وضع استراتيجيات لبسط هيمنتها وسيطرتها على الشعوب مثلما قامت به فرنسا على سبيل المثال عندما أرسلت عيونها إلى صحراء الجزائر وتمكَّن المستشرقون من التقرُّب من القبائل الجزائريَّة والاحتكاك بهم، حيث تمكَّنوا من التعرُّف على عاداتهم وتقاليدهم وتعلموا اللغة العربيَّة قراءة وكتابة، ثمَّ نقلوها إلى زعمائهم في كتب ومذكرات،  كانت هذه ضمن الدراسات الاستشرافيَّة التي وضعتها كبار الدول القويَّة لفرض هيمنتها وسيطرتها على الشعوب واستعمارها ومن ثمَّ استغلال ثرواتها، بحجَّة أنها تعمل لتحقيق مستقبل أفضل للإنسانيَّة، ففتحت دير العبادة ( الكنائس) لتشير الجزائريين والعمل بشعار الفوضى الخلاقة.

لقد عملت هذه القوى على خلق ما يسمَّى بالتعدّديات الثقافيَّة والسياسيَّة وزرعت كبار عساكرها داخل المؤسَّسات من أجل التحسّس واختراق اجهزتها، عن طريق اتفاقيات العمل لإنجاز المشاريع ( السكن والبنى التحتيَّة)، إنَّ الأنظمة الاستعماريَّة طبعا ليست غبيَّة، تعطي بعض خبراتها مقابل أن تأخذ ما لم يضعه الآخر في الحسبان، فنجده يقدِّم تنازلات  إنَّه العمل للمستقبل، وما هو هذا المستقبل؟ إنه التأمرك أو الأمركة  والتَّصَهْيُنْ والتَّمَسْيُن ( من الماسونيَّة) هذه المخططات التي تقودها الماسونيَّة لضرب الإسلام والشعوب المسلمة، زرعت سمومها باسم التعدديَّة الثقافيَّة في إطار حوار الثقافات والأديان والتعايش، والسلم المسلَّح،  ولا تزال بتطورها التكنولوجي تحفر لإدماج الأخر (المسلم)، في قالب عولماتي، لطمس هويتّه وتجريده من كل ما هو مقدَّس فعملت على منح الحريَّات.

كانت المرأة الطعم الوحيد لضرب المجتمع الإسلامي وتكسير شوكته، فظهر ما يسمى بالحداثة لمقابلتها مع الأصالة، من هنا بدأ الصراع الحداثي الأصولي، كما فتحت المجال للجمعيات ومنحها الحريَّة في ممارسة أي نشاط حتى لو كان خارجًا عن المعايير والقيم الإنسانيَّة باسم التحرّر وكسر كل الطابوهات، وجنَّدت جيوشها ( العسكر)  لقهر الشعوب بالدبابات والحروب الامتناهية،  فلم نعد نفرق بين الجيش الأصيل والمرتزقة، فهذا أحد المفكرين واسمه أدورنو يقول: إنَّ الأصالة مفهوم مشتبه يدَّعي عمقا ليس له، وحدث ما سمّوه بصراع المعاني والمفاهيم،  المثقَّف الحداثي والمثقَّف التقليدي، الأوَّل هو المثقَّف الغربي الذي يواكب التطوَّر الحضاري، والثاني المثقَّف العربي الذي لا يزال حبيس العادات والتقاليد والأفكار البالية ولم يطوّر نفسه، وركن إلى السلبيَّة والهامشيَّة.

تعدَّدت العناوين والمضمون واحد

إنَّه ضرب من الجنون واللاعقل على رأي ميشال فوكو،  فالعقل منذ اليونان كان المحرِّك الأساسي للكون، استطاعت العقلانيَّة من إحداث ثورة التنوير، هذه الثورة التي قلبت كل الموازين، حتى في المجالات القانونيَّة من حيث الدفاع عن المجرمين باسم حقوق الإنسان،  حتى لو كان داخل السجون، كان الإنسان محلّ دراسة في إطار ما أطلق عليه بالإصلاح الإنسانوي الهدف طبعا  نشر الأنسنة داخل السجن، فلا يوجد تعذيب ولا أشغال شاقة، ومنح السجين كل الحقوق التي كان يعيشها خارج السجن، إلا أنَّ الواقع يعكس كل شيء، فما هو  معروضا شكلا يخالف الحقيقة وهنا نقف على مدى التلاعب بالمفاهيم كالحريَّة والعقلانيَّة والإيديولوجيا، واليوتوبيا، والإسلاموفوبيا، والديقراطيَّة والبدوقراطيَّة والأنسنة  والمأسسة وغيرها من المفاهيم التي تخدِّر عقل الإنسان المحدود الفكر، الذي وجد نفسه غارقا في  تحديد المفاهيم وفهمها بل شرحها لأبنائه وتلامذته في المدرسة والوقوف على صحّتها.

 الدليل هو أنَّنا لما نقف على بعض الكتابات فهي لا تختلف في المضمون وإنما كان هناك تغيير في الكلمات والعناوين فقط مثل: نحن والآخر، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، مستقبل العلاقة بين المثقَّف والسلطة، نهاية  الإيديولوجيا، نهاية اليوتوبيا… الخ ) هي مصطلحات تهدف “إلى إحداث “التنوّع”  وتحقيق “التميُّز”، هو الثراء الفكري بعينه، لقد وجد الإنسان العادي وحتى المثقف وهو يتلقى هذه الأفكار والفلسفات نفسه عاجزًا على أن يكون فاعلا في المجتمع وعاجز عن إحداث التغيير الإيجابي، وبناء الإنسان وتحقيق الأفضل، فكانت له كما يقول مالك بن نبي “القابليَّة للاستعمار”، ونختم هذه الورقة بما قاله الدكتور عامر ممدوح خيرو وهو يعالج إشكاليَّة الصراع الأصولي الحداثي في كتابه بعنوان: مسارات التراث والتاريخ صدر عن دار الأصالة للنشر الجزائر ما يلي: “إنَّ التاريخ متصل الحلقات،  وإن الوضع الحالي هو نتيجة تطوّرات الماضي، وإنَّ فهم الماضي هو خير وسيلة لفهم الحاضر ولذلك يتقدَّم التاريخ بمهمّته التفسيريَّة لتلك الأحداث متجاوزًا الجانب التوثيقي لتوسيع التحليل صوب الماضي والمستقبل.

___
*علجية عيش

جديدنا