عوائق تدريس الفلسفة

image_pdf

يروم تدريس الفلسفة ترسيخ جملة من الكفايات الاستراتيجية والمنهجية والقيمية والمعرفية والتواصلية لدى المتعلمين، بحيث تكون الغاية القصوى هي نقل مزايا تلك الكفايات من مستوى المتعلمين كأفراد إلى مستوى الفضاء الاجتماعي ككل، لكي تغدو مبثوثة ومنتشرة في فضاءات المجتمع ومجالات الحياة برمتها، نظرا لما لتلك الكفايات الفلسفية من دور هام في تهذيب السلوك والسمو بالقيم وتحرير الفكر والارتقاء بالأمم من الهمجية إلى التحضر.

بيد أن بلوغ هذا الهدف النبيل تعترضه العديد من العوائق المتداخلة والمتشابكة، التي يتعين تشخيصها وتحليلها في أفق اجتراح حلول ممكنة لها. ويمكن، في هذا الإطار، الوقوف عند عوائق ثقافية وقيمية وتربوية وبيداغوجية-ديداكتيكية وتكوينية-معرفية ومادية-تقنية، بحيث هناك عوائق ترتبط بالمثلث البيداغوجي؛ المقرر الدراسي والمدرس والمتعلم، وعوائق تأتي من القيم والثقافة السائدة داخل المجتمع، وأخرى ذات طابع مؤسساتي، سواء تعلق الأمر بمؤسسات الدولة أو بالجامعات أو بمراكز التكوين. ولكل صنف من هذه العوائق تأثيره السلبي على الوضع الذي يعرفه تدريس الفلسفة بالثانوية التأهيلية المغربية، وهو تأثير تختلف حدته ودرجته من عائق إلى آخر، دون أن ننسى التقاطعات والتداخلات الحاصلة بينها.

  1- عوائق اجتماعية وثقافية

يأتي المتعلمون إلى الدرس الفلسفي وهم يحملون أفكارا وتمثلات قبلية عن الفلسفة وعن مدرسها، وهي تمثلات تختزن في طياتها تصورات قبلية وأحكاما جاهزة حول الفلسفة مستمدة من المحيط السوسيو-ثقافي السائد. ويمكن القول إن هذه التمثلات التلاميذية ذات الحمولة الاجتماعية هي من بين العوائق التي يجد مدرس الفلسفة نفسه في مواجهتها، ومرغما على تصحيحها ونقدها، واستبدالها بتصورات أخرى أقرب إلى حقيقة الفلسفة، كممارسة عقلية وفكرية تجسدت عبر تاريخ الفلسفة..

فهناك إذن تمثلات يستمدها المتعلمون من “اليومي” المتداول، وترسخ لديهم من خلال التربية والتنشئة الاجتماعية، حول طبيعة الفلسفة وحول جملة من السمات والخصائص التي يتميز بها الممارسون للتفكير الفلسفي، سواء كانوا فلاسفة أو معلمين للفلسفة أو دارسين لها. ولهذا تكون مهمة مدرس الفلسفة تصحيح تلك التمثلات وممارسة النقد اللازم عليها من جهة، والعمل على البحث عن وسائل ديداكتيكية مناسبة لتقريب الفلسفة من أذهان المتعلمين من جهة أخرى.

 من بين تلك التمثلات التلاميذية ذات الأصول الاجتماعية اعتبار الفلسفة زيغا وزندقة ومروقا عن الدين، أو اعتبارها ثرثرة وكلاما فارغا ولغوا لا طائل من ورائه، أو اعتبارها حمقا وجنونا، وفي أحسن الأحوال النظر إليها ككلام غامض غير مفهوم أو تفكير بعيد عن الواقع يمارسه بعض الحالمين وهواة التفلسف! 

ويمكن اعتبار هذه التمثلات بمثابة عوائق ذات طبيعة اجتماعية وقيمية؛ إذ إنها مستمدة من الثقافة السائدة المرسخة لدى الأفراد عبر التنشئة الاجتماعية، كما أنها تعكس طبيعة القيم والتصورات الضاربة بجذورها في المخيال الاجتماعي المتغلغل في عقول ونفوس الأفراد. فهناك خوف من الفلسفة من طرف الثقافة الموروثة والمكرسة اجتماعيا، وهو الأمر الذي يحتم ممارسة النقد على الموروث الثقافي من أجل نقده ودراسته دراسة علمية من شأنها أن تمكن من انفتاحه وخلق مصالحة بينه وبين الفكر النقدي والعلمي المعاصر.

من هنا، فمهمة تصحيح الأحكام الجاهزة حول الفلسفة ونقد التمثلات السائدة حولها، هي مهمة غير منوطة بمدرس الفلسفة لوحده، بل ينبغي أن تقوم بها أطراف أخرى؛ كالمفكرين والجمعويين والحقوقيين والإعلاميين ومراكز البحث العلمي والمثقفين التنويريين عموما.

وبفعل التأثير الذي تمارسه هذه التمثلات الاجتماعية، تصبح الفلسفة، بهذا القدر أو ذاك، جسما غريبا في المنظومة التربوية. وتصبح مهمة مدرس الفلسفة هي نزع الغرابة عن الدرس الفلسفي؛ وذلك عن طريق ابتكار وسائل بيداغوجية وطرائق ديداكتيكية من شأنها تقريب حقيقة التفكير الفلسفي من أذهان المتعلمين، وتحبيب الفلسفة إلى قلوبهم وعقولهم، وربطها بحياتهم وبمحيطهم الاجتماعي من أجل إبراز جدواها وقيمتها، سواء بالنسبة للفرد أو للمجتمع.

 في هذا السياق، قد يعتبر البعض أنه لا يوجد تناسب أو توافق بين ما يدرس فلسفيا من مفاهيم وإشكالات ونظريات من جهة، وبين ما هو سائد من وظائف داخل المجتمع أو ما يحتاجه هذا المجتمع من جهة أخرى. ونحن نجد بالفعل مثل هذا المشكل مطروحا في المجتمع المغربي وفي المجتمعات العربية عموما؛ حيث إن آفاق التشغيل بالنسبة لخريجي شعبة الفلسفة تكاد تقتصر على ممارسة مهنة التدريس فقط، ومن يشتغل من هؤلاء الخريجين خارج إطار قطاع التعليم، فهو يشتغل على أساس أنه يحمل دبلوم إجازة أو ما شابه بغض النظر عن الحمولة المعرفية والفلسفية لهذا الدبلوم، بحيث لا تكترث الإدارة المشغلة بالتكوين الفلسفي للموظف بل ما يهمها هو أنه يحسن القراءة والكتابة، ويتلقى تكوينا يتناسب مع طبيعة العمل الذي سيزاوله في تلك الإدارة.

ويتطلب انحسار آفاق الشغل أمام خريجي شعبة الفلسفة التفكير في أمرين أساسيين؛ أحدهما ضرورة تجديد المناهج وتجويد المقررات الدراسية الفلسفية، سواء على مستوى الإشكالات أو المضامين، لكي تتناسب مع مستجدات الراهن ومع التحولات التاريخية والاجتماعية الحاصلة في المجتمعات العربية خاصة، وفي المجتمع الدولي بصفة عامة. والأمر الآخر هو أن على الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين أن يجعلوا التحولات والتطورات تسير في اتجاه إرساء دعائم المؤسسات الديمقراطية وتشجيع مراكز البحث العلمي وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، مما سيتطلب ولا شك كفاءات في مجال الفلسفة وعلوم الإنسان، الأمر الذي سيساهم في المزيد من خلق فرص الشغل بالنسبة للأفراد الذين تلقوا تكوينا معرفيا وعلميا في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع.

 هكذا، فإن تحديث المجتمع والعمل على نشر ثقافة الحوار والتواصل والإيمان بالاختلاف، والحرية والنقد والانفتاح، في المجال الاجتماعي وفي الوسط المدرسي، وما يتطلبه ذلك من نقد ومراجعة للموروث الثقافي وإخضاعه للدراسة العلمية، من شأنه أن يضعف أو يحد من عوائق تدريس الفلسفة ذات الطبيعة الاجتماعية والقيمية المستمدة مما هو سائد في الوسط السوسيو-ثقافي.

  2- عوائق سياسية وإيديولوجية

مما لا شك فيه أن هناك علاقة جدلية بين ما هو سياسي وإيديولوجي من جهة، وما هو ثقافي وتعليمي من جهة أخرى. ولهذا نجد أن الفلسفة، كمادة مدرسية حاملة لفكر ولثقافة معينة، قد تأثر حضورها وممارستها وفعاليتها بطبيعة السلطة السياسية الحاكمة في فترة زمنية ما. ففي عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، مثلا، عملت السلطة السياسية بالمغرب على محاربة الفكر الفلسفي والتضييق على الأشخاص الحاملين لمبادئ وقيم هذا الفكر، كما عملت على تقليص حضور الفلسفة في المؤسسات التعليمية والجامعية، وذلك من منطلق أن الفلسفة مدرسة تنتج كفاءات تؤمن بمبادئ وقيم يسارية وماركسية وتقدمية تشكل خطرا على النظام السياسي السائد، خصوصا وقد تزامن ذلك مع انتعاش الفكر اليساري وازدهار حركات التحرر على المستويين العربي والدولي.

من هنا، فتوجس السلطة السياسية من الفكر الفلسفي وخوفها من تأثيره على مصالحها السياسية والاقتصادية، سيؤثر تأثيرا كبيرا على طبيعة الدرس الفلسفي وعلى حضوره في المؤسسات التعليمية؛ إذ لا يخفى على أحد أن الدولة تتدخل، بهذه الكيفية أو تلك، في طبيعة المناهج والبرامج والمواد التعليمية وفي حضورها في الخريطة المدرسية، فتشجع مواد دراسية وتطورها وتدعمها على حساب مواد دراسية أخرى، وذلك وفقا لغايات إيديولوجية ومصلحية تتبناها الإرادة السياسية المهيمنة وتسعى جاهدة إلى تنزيلها على أرض الواقع. ولهذا، وكما أشرنا سابقا، فقد تعارضت إرادة السلطة الحاكمة مع القيم والأفكار التي تنتعش في أغوار الدرس الفلسفي، مما جعلها تسعى إلى انحساره والتضييق عليه والحد من توغله في الوسط المدرسي والمجتمعي بكل الوسائل والطرق المتاحة لها.

لكن بعد تراجع الفكر اليساري على المستويين الوطني والدولي، وتصاعد الخطر القادم من الفكر الديني المتطرف، مع بداية القرن الواحد والعشرين على الخصوص، سنجد أن الإرادة السياسية الحاكمة بالمغرب ستنقلب على عقبيها وستحاول أن تشجع وتعيد الاعتبار للفلسفة التي حاربتها بالأمس، وذلك من أجل استخدامها كوسيلة للحد من خطر الإرهاب ومحاربة الفكر الإسلاموي المتشدد.

وإذا كان هذا الأمر قد انعكس بشكل إيجابي على حضور الدرس الفلسفي في المؤسسات التعليمية والجامعية، من حيث تدريس الفلسفة في مستويات تعليمية جديدة وازدياد عدد الساعات المخصصة لها، فضلا عن تعميمها وإدماجها في مسالك دراسية متعددة وتوسيع تواجدها في مؤسسات جامعية لم تكن متواجدة فيها من قبل، وكذلك تطوير منهاجها الدراسي واتباع سياسة التعدد والتنوع في تأليف المقررات المدرسية الفلسفية، فإن كل هذا مع ذلك لم يؤد إلى تجويد الدرس الفلسفي وتطوير مناهجه وتعزيز حضوره وتأثيره في المجتمع بالشكل المأمول.

ولعل السبب يعود بالأساس إلى أن الإرادة السياسية لم تتبن بعد الفلسفة كمشروع مجتمعي متكامل، كما حصل في أوروبا، بل تستخدمها كمناورة أو تكتيك سياسي ظرفي لخدمة مصالحها الإيديولوجية…

  3- عوائق بيداغوجية وديداكتيكية

يمكن الحديث في هذا السياق عن عوائق تخص زوايا المثلث البيداغوجي-التعليمي؛ المدرس والمتعلم والمقرر الذي يخص المادة المدرسة. وهكذا، نجد أن مدرس الفلسفة يشكل أحيانا عائقا يحول دون تحقيق الغايات الأساسية من تدريس الفلسفة، وذلك إما بسبب ضعف تكوينه المعرفي أو البيداغوجي، أو بسبب حمله لثقافة معادية للفكر الفلسفي. وهذا الأمر يحتم النظر في المشاكل التي تعاني منها مراكز التكوين من جهة، كما يتطلب، من جهة أخرى، القيام بقراءات نقدية للتراث وللثقافة المحلية من أجل تنقيتها من عناصر الارتكاس والنكوص والجمود، وجعلها ترتاد آفاقا واسعة ومنفتحة في الإبداع والابتكار والإنشاء الحر.

وإذا كان تدريس الفلسفة يرتكز الآن على بيداغوجيا الكفايات التي تستهدف تعلم المهارات والقدرات والكفايات، وتجعل المتعلم في قلب العملية التعليمية-التعلمية، فإن الدرس الفلسفي لا يمكنه تحقيق هذه الأهداف والغايات إلا إذا كان درسا حواريا تشاركيا بين المدرس وجماعة الفصل، بحيث يمنح للمتعلمين المبادرة والفرصة من أجل المساهمة في بناء الدرس. لكن للأسف، ولأسباب ذاتية وموضوعية، نجد الكثير من مدرسي الفلسفة يعتمدون في إنجازهم لدروسهم الطريقة الإلقائية-الإخبارية والبنكية التي تستهدف شحن الذاكرة وقصف ذهن المتعلم بالأفكار والمعلومات، مع إغفال إكسابه المهارات والقدرات التفكيرية والقيمية.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن العديد من مدرسي الفلسفة يضطرون إلى اللجوء إلى تلك الطريقة التعليمية التقليدية، التي ترتكز على الإلقاء والإخبار، بسبب عائق مهم يحول دون تحقيق الكفايات المتوخاة من الدرس الفلسفي، وهو عائق طول المقررات الدراسية لمادة الفلسفة. فهناك بالفعل أعطاب تتعلق بالمقررات الدراسية، مثل: كثرة عدد الدروس، طبيعة النصوص الموظفة المجتزأة والمنتزعة من سياقها المعرفي، مشكل الترجمة التي تكون في الغالب اتباعية وحرفية وغير إبداعية وتداولية، طبيعة المفاهيم المقررة التي تظل كلاسيكية وغير منفتحة على المستجدات التي تقع في العالم المعيش للمتعلمين، الأساليب البيداغوجية والديداكتيكية المنقولة المقترحة في البرامج الدراسية، بحيث يتم استنساخها من بيئات مدرسية وسوسيو-ثقافية مغايرة، ويتم إسقاطها عنوة على المدرسة المغربية المرتبطة بمجال ثقافي وقيمي خاص… وكل هذا يستدعي إعادة النظر في تلك المقررات، والعمل على تغييرها عن طريق تكوين لجان ومراكز بحث تطلع بهذه المهمة، ويتم تدعيمها وتمويلها من قبل مؤسسات الدولة.

 هكذا، يرى البعض أن ضغط الغلاف الزمني وطول المقرر الدراسي يجعلان الدرس الفلسفي درسا تلقينيا يرتكز على المعلم؛ بحيث يعمل هذا الأخير على استعراض الأطروحات والمواقف الفلسفية أمام التلاميذ، وهو يلهث مهرولا من أجل إنجاز الدروس في الوقت المحدد. وبطبيعة الحال، فهذا الإجراء الاضطراري، في الكثير من الأحيان، يشكل عائقا أمام ترسيخ آليات وأدوات التفكير الفلسفي لدى المتعلم، لأن ترسيخها يتطلب غلافا زمنيا يتيح القيام بتمارين وتطبيقات وورشات من أجل الاشتغال على مختلف مهارات التفلسف، وهذا ما لا يسمح به طول المقرر الدراسي الفلسفي بالشكل المطلوب.

وإذا كانت الطريقة التلقينية في التدريس قد تتيح، بهذا القدر أو ذاك، تحقيق الكفاية المعرفية، فإن هناك كفايات أخرى لا تسمح بتحقيقها، من قبيل الكفايات الاستراتيجية والمنهجية والتواصلية والقيمية. وإذا كانت المعارف والمعلومات متوفرة بوفرة في الكتب المدرسية والكتب الموازية وفي الأنترنيت، فإن المهمة الأساسية التي تظل منوطة بمدرس الفلسفة هي تعليم التفكير وإكساب مهاراته وآلياته، وهي المهمة التي حددها كانط في تعلم التفلسف وكيف نفكر فلسفيا.

وإذا كان المدرس يحمل أحيانا، نظرا لوجود استثناءات، عوائق ذاتية تحول دون تحقيق درس الفلسفة للغايات الأساسية المتوخاة منه، والمسطرة في المنهاج الدراسي للفلسفة، فإن هناك عوائق أخرى يمكن رصدها لدى المتعلم الذي يشكل أحد الأضلاع الأساسية للمثلث البيداغوجي الذي تتأسس عليه العملية التعليمية-التعلمية.

 من أهم العوائق التي يجدها مدرسو الفلسفة لدى المتعلمين ضعف رصيدهم اللغوي، وعدم إتقانهم للتعبير باللغة العربية الفصحى. وهذا ناتج عن ضعف في التربية على القراءة الحرة لدى التلاميذ، وهي مشكلة تتحملها جهات مختلفة، منها الأسرة والإعلام ومؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والمدرسة؛ فمن لم يراكم كما محترما من قراءة الكتب والمقالات والقصص والأشعار والنصوص المختلفة، لا يمكنه أن يعبر بطريقة سلسة عن أفكاره، خصوصا وأن الأمر يتعلق هنا بأفكار فلسفية تستدعي تجييش الكثير من المهارات اللغوية والقدرات العقلية. وكما يقال، فإن اللغة هي أجنحة الفكر؛ فكيف إذن بالمتعلم أن يطير في فضاء التفكير الفلسفي بدون أجنحة؟!

وما يزيد الطين بلة هو أن الهشاشة اللغوية لدى المتعلمين تصطدم باللغة المفاهيمية المجردة التي يستخدمها الفلاسفة في نصوصهم. فإذا كان المتعلم لم يراكم رصيدا مهما في المطالعة، ولم يكتسب من خلاله القدرة المطلوبة على الفهم والتعبير، فإنه ولا شك يصادف صعوبات جمة في فهم العبارات الفلسفية التي تتخذ في العديد من الأحيان طابعا رمزيا ومجردا، فيه من الإضمار والتلميح الشيء الكثير، كما يصادف صعوبات على مستوى التعبير عن أفكاره، نظرا لما يعتري لغته من ركاكة وتفكك وأخطاء نحوية وإملائية.

وإذا وجد مدرس الفلسفة نفسه أمام غالبية ساحقة من المتعلمين يعانون من أعطاب على مستوى التعبير الشفهي والكتابي باللغة العربية الفصحى، فإن هذه الأعطاب تغدو بمثابة عوائق حقيقية أمام المدرس أثناء إنجازه لأنشطة الدرس بالطريقة الحوارية والتشاركية المأمولة؛ إذ كيف لمتعلم يشكو من أمراض لغوية أن يعبر عن أفكار سليمة وينخرط في نقاشات وحوارات فصلية ناجحة، سواء مع مدرسه أو مع زملائه من المتعلمين؟!

 لا يملك المدرس هنا، من أجل المساهمة في معالجة هذا العطب اللغوي، سوى أن يشجع المتعلمين على القراءة، عن طريق ابتكار حيل ووسائل مثل إنجاز العروض والقيام بأنشطة موازية في إطار النوادي المدرسية، أو إنجاز مسابقات ثقافية في القراءة والكتابة الفلسفيتين، فضلا عن توفير كتيبات فلسفية مبسطة من شأنها أن تقرب التلميذ من الفلسفة وتحثه على القراءة الفلسفية.

لكن عمل المدرس يظل غير كاف، ويلزم تدخل مؤسسات أخرى كالأسرة، والجمعيات، والمراكز الثقافية، والمؤسسات الإعلامية وغير ذلك، خصوصا وأن عمل هذه الأخيرة يمتد من الطفولة إلى سنوات الدراسة في الثانوي التأهيلي. أما مدرس الفلسفة، فلا يلتقي بالتلميذ إلا في مرحلة متأخرة وفي حصص معدودة، لا تسمح له بأن يعالج الخلل اللغوي لدى المتعلم بالشكل المطلوب، لا سيما مع وجود إكراهات أخرى تتعلق بالاكتظاظ وطول المقرر وما إلى ذلك.

  4- عوائق معرفية وتكوينية

قد ينظر البعض إلى مدرس الفلسفة نفسه كأحد عوائق الدرس الفلسفي، إما لمحدودية خبرته البيداغوجية والديداكتيكية أو لهشاشة تكوينه المعرفي. وإذا كان مدرس الفلسفة هو في حد ذاته عائقا أمام تدريسها، فإن الأمر يطرح مشكلا يتعلق بالتكوين المعرفي والبيداغوجي في المؤسسات الجامعية ومراكز التكوين.

 هكذا، فالسنوات الثلاث التي يقضيها الطلبة في الجامعة لا تسمح للغالبية منهم بتلقي تكوين معرفي فلسفي كاف، خصوصا إذا لم يصاحب هذا التكوين الرسمي تكوين ذاتي آخر ينجزه الطالب لنفسه، من خلال قراءاته الخاصة لمختلف المقالات والنصوص والكتب الفلسفية. كما أن الشهور التي يقضيها الطالب في مركز التكوين لا تكفي هي الأخرى لتزويده بمعارف، وإمداده بطرائق وأساليب كافية من أجل تأهيله لمزاولة مهنة التدريس بالشكل المطلوب. وهذا ما ينعكس سلبا على مردودية المدرس داخل الفصل، خصوصا وأنه يجد نفسه أمام نصوص متنوعة تنتمي إلى مجالات وحقول معرفية مختلفة، من قبيل: علم النفس، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الفلسفة الإسلامية، الفلسفة اليونانية، فلسفة العلوم، فلسفة التاريخ، فلسفة الفن، الفلسفة السياسية… وما إلى ذلك.

وإذا كنا نعلم أن من مدرسي الفلسفة من تلقى تكوينه المعرفي الأساسي في علم النفس، وآخر في علم الاجتماع، وآخر في الفلسفة، فإن إلمام الواحد منهم بكل تلك الحقول المعرفية سالفة الذكر أمر صعب ومتعذر، خصوصا إذا كان المعني بالأمر لا يتدارك الأمر عن طريق القراءة الدائمة والتكوين الذاتي المستمر. وبطبيعة الحال، فإننا لا نعدم أن نجد استثناءات ممن يواظبون على المطالعة ويصقلون تكوينهم المعرفي بشكل دائم، لكن تغريد العندليب لا ينذر بمقدم فصل الربيع!

ومهما يكن من أمر، فإنه ينبغي تأهيل الجامعات ومراكز التكوين الجهوية بالشكل الذي يسمح لها بالاطلاع بدورها المتوخى في التكوين المعرفي والتأهيل البيداغوجي. هذا فضلا عن ضرورة التكوين المستمر المصاحب للمدرس في مساره المهني، سواء ذلك الذي ينبغي أن يقوم به بنفسه انطلاقا من مجهوداته الذاتية، أو ذلك الذي ينبغي أن تقوم به فرق التأطير التربوي، من خلال الندوات واللقاءات التربوية والورشات التكوينية النظرية والتطبيقية.

  5- عوائق مادية وتقنية

إذا استلهمنا من ماركس أن البنية التحتية تنتج البنية الفوقية، ولو أننا لا نشاطره الفكرة جملة وتفصيلا، أمكننا القول إن تدريس الفلسفة يتأثر، بهذا القدر أو ذاك، بالتجهيزات المادية والمعدات والوسائل التقنية التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بأنشطة الدرس الفلسفي، وبالأهداف والغايات التي ينشدها.

 في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى الوضعية المزرية التي توجد عليها خزانات الكتب في المؤسسة التعليمية؛ فهي شبه مهجورة لأسباب متعددة، من بينها قلة الكتب الموجودة فيها، وغياب القيمين عليها أحيانا، فضلا عن رداءة تجهيزاتها. وكذلك غياب خزانات للكتب في الفصول الدراسية، وعدم تجهيزها بالوسائل والتقنيات السمعية البصرية التي أصبحت دعامات ديداكتيكية ضرورية في درس الفلسفة، بحيث نجد في المنهاج الدراسي للفلسفة حديثا عن الكفايات التكنولوجية بجانب الكفايات الاستراتيجية والمعرفية والمنهجية والقيمية والتواصلية.

 هكذا، فإن الحضور الباهت أو شبه المنعدم للكتاب الفلسفي في الوسط المدرسي، يؤثر سلبا على الأنشطة القرائية لدى التلاميذ، ويسدل بظلاله على الوضعية التدريسية للدرس الفلسفي، بحيث نجد أنفسنا أمام ترد خطير للطاقات والقدرات التعبيرية وكذا المعرفية الموجودة لدى التلاميذ، وهو الأمر الذي لا يساعد على إنجاح المجهودات البيداغوجية والديداكتيكية التي يقوم بها مدرس الفلسفة في الفصل الدراسي. وإذا كان من شأن الوسائل السمعية البصرية أن تخفف، ولو قليلا، من هذه الوضعية المتأزمة لأنشطة الدرس، فإن غيابها أو ضعف التجهيزات المتعلقة بها يجعل العديد من المدرسين يستغنون عنها، ويكتفون بالطرق والوسائل التقليدية في التدريس.

 يمكن الإشارة في هذا الإطار إلى أن عمل النوادي المدرسية يتأثر هو الآخر بغياب أو رداءة تلك التجهيزات التقنية، كما يعاني في بعض المؤسسات من قلة التجهيزات المتواجدة في قاعات العروض والأنشطة التربوية والثقافية. وهذا الوضع لا يسمح للنوادي الفلسفية بأن تقوم، كما يجب، بالدور المنوط بها في ترسيخ القيم وصقل المواهب والتحفيز على القراءة، وإكساب التلاميذ تقنيات وآليات ومهارات الكتابة الفلسفية.

كما يمكن الإشارة في هذا السياق أيضا إلى مشكل الاكتظاظ داخل الفصول الدراسية، وهو مشكل يؤثر بشكل أو بآخر على الأداء البيداغوجي والديداكتيكي للمدرس؛ إذ إن تجاوز عدد التلاميذ للثلاثين أو الأربعين تلميذا في القسم الدراسي الواحد لا يسمح بإتاحة الأجواء المناسبة لتعلم الكفايات والمهارات المتوخاة من درس الفلسفة، خصوصا إذا علمنا أن الاكتظاظ يرتبط بالشغب الصادر عن تلاميذ يعاني أغلبهم من أزمة في القيم، تنعكس سلبا على سلوكاتهم داخل الفصل الدراسي، وتؤثر على عمل المدرس الذي يهدر أجزاء مهمة من طاقته الفكرية والنفسية في محاولة ضبط الأجواء واحتواء الشغب التلاميذي، بدل أن يوظف تلك الطاقة في إنجاز الأنشطة التعليمية-التعلمية، وعلى رأسها ترسيخ القدرات والمهارات وخلق حوار مثمر بين جماعة الفصل حول الإشكالات والقضايا الفلسفية المدروسة.

وإذا كانت درجة الشغب تختلف من مستوى دراسي إلى آخر، ومن فصل إلى آخر، ومن مدرس إلى آخر، بحيث تتداخل فيه عدة اعتبارات تتعلق بسن التلاميذ وتنشئتهم القيمية والاجتماعية والمسالك الدراسية التي ينتمون إليها، وأيضا طبيعة شخصية المدرس والمجهودات التي يقوم بها من أجل تقريب الفلسفة من التلاميذ، فإنه يمكن القول في جميع الأحوال بأن ظاهرة الشغب داخل الفصل الدراسي تعتبر من بين العوائق التي تعرقل السير الطبيعي لدرس الفلسفة، وتحول بين المدرس وبين تحقيقه للكفايات والغايات المنشودة من الأنشطة التعليمية للدرس الفلسفي.

 أكيد أن مختلف أشكال الشغب والفوضى التي أصبحت تعرفها الفصول الدراسية عموما، سواء تعلق الأمر بالفصل الدراسي الفلسفي أو غيره، هي انعكاس حتمي لأزمة تعرفها المنظومة التربوية، ونتيجة ضرورية للتحولات القيمية التي عرفها المجتمع والأسرة، والتي تسدل بظلالها على المدرسة وعلى المدرس الذي يجد نفسه في مواجهة مباشرة مع تلاميذ هم ضحايا لوضع قائم، وعليه أن يجتهد ويبتكر حلولا لمسك العصى من الوسط وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وهيهات أن يتسنى له بلوغ مطمح الإنقاذ هذا بالشكل المطلوب، وهو المحاط من كل جانب بركام من العوائق.

_________
*محمد الشبة.

جديدنا