1
العلاقاتُ الاجتماعية التي تقوم على تحليلِ مصادر المعرفة، وتفسيرِ التفاعلات الرمزية في السلوك واللغة، تَحْمي الروابطَ الإنسانية مِن الهَشَاشة، وتُبعِد الأفرادَ والجماعات عن القلق الوجودي. وفي ظِل النظام الاستهلاكي المادي المُوغِلِ في عُزلة الأفراد الروحية، والمُتداخلِ معَ انكماش المُجتمع على ذاته وتاريخه، صارت القضيةُ المركزية لَيست كيفيةَ الدُّخُول في العلاقات الاجتماعية والروابط الإنسانية، وإنَّما كيفية الخُروج مِنها بأقل الخسائر، وذلك لأنَّ الشُّعورَ صارَ نَسَقًا نفعيًّا مُؤَقَّتًا، والوَعْي صارَ مُحاولةً للسَّيطرةِ على الطرف الآخَر والهَيمنةِ على مساره الحياتي. لذلك، يَهرُب كثيرٌ مِن الناس إلى الماضي باعتباره الزمنَ الجميل، ويَغرقون في التُّراث باعتباره شرعيةَ الفِرْدَوْس المَفقود. والتاريخُ لا يُبنَى على فِكرة الهُروب، لأنَّ الهُروب ضَعْف، وإنَّما يُبنَى عَلى مُواجهةِ التحديات الراهنة، واقتحامِ الخَوف مِن المُستقبل. وإذا كان الحاضرُ في ذِهن الفَرْد مُجرَّد مَنفى، فإنَّ الفردَ لَن يجد تاريخًا لأمكنة الجسد، ولا جُغرافيا لأزمنة الرُّوح. ولا بُدَّ مِن تكوين آلِيَّة فلسفية قائمة على قواعد المنهج الاجتماعي مِن أجل دراسة الأفكار وتمحيصها، فهذه هي الضَّمانة الأكيدة لإنقاذ الفرد والمجتمع مِن المأزق الوجودي. وعندما يعيش الفردُ في عَالَم الأفكار بهدف اختيارِ الأصلح مِنها لظروف الواقع المُعاش، فإنَّ النظام الحياتي سَيَغدو خريطةَ طريقٍ للخَلاص. وعِندما يَعيش المجتمعُ في ثقافة الحُلُول الإبداعية للمُشكلات، فإنَّ المنظومة الحضارية سَتَغدو خُطَّةً عملية للنهضة.
2
إذا اعتبرَ الفردُ حياتَه تحصيل حاصل، ونَظَرَ إلى إفرازات حياته كَمُسلَّمات غير قابلة للنقاش، فإنَّه سَيَدخل في صِدَام معَ مُكوِّنات المُجتمع، وصِرَاع معَ عناصر الطبيعة، لأنَّه يَعتقد أنَّه مَالِكٌ للحقيقة المُطْلَقَة، ووصيًّا على المُجتمع، وسَيِّدًا على الطبيعة. ويجب على الفرد أن يُدْرِك أنَّه مَحكوم بأعراف المُجتمع وقوانين الطبيعة، ولَيس حاكمًا مُطْلَقًا عليهما. وهذا يستلزم إعادةَ تشكيل مصادرِ المعرفة ومعاييرِ السُّلوك وكِيَاناتِ اللغة، مِن أجل تحقيقِ الاتزان في البُنى الوظيفية في المجتمع، وإزالةِ الحواجز الفكرية بين الرائي والرؤية، وإلغاءِ التناقضات الجوهرية بين الطريق والطريقة. وهذا أمرٌ ضروري وأساسي لإصدارِ أحكام صحيحة على العلاقات الاجتماعية،ورَبْطِها معَ الوَعْي الفردي والعقل الجَمْعي. والعلاقاتُ الاجتماعية لَيْسَتْ شيئًا يَعْثُر عليه الفردُ في حياته، وإنَّما يَصنعه، ويُضْفي عليه الخصائصَ الوجودية والهُويةَ المعرفية. لكنَّ الإشكالية هي تحوُّل الظاهرة الثقافية إلى حقيقية اجتماعية اعتمادًا على مبدأ هَيمنة المجتمع على الأفراد، وتأثيراتِ سُلطته الاعتبارية، بعيدًا عن طرح الفرضيات واختبارها بأسلوب عقلاني. وكُلُّ مُجتمع يَعجَز عن إيجاد الحُلول لمُشكلاته، سوف يتهرَّب مِن الأسئلة الحاسمة، لأنها بحاجة إلى إجابات منطقية. والمنطقُ يُسبِّب إحراجًا بالغًا للذين يَعيشون حياتهم بشكل عبثي وفَوضوي، والتاريخُ يُشكِّل كابوسًا للذينَ لا يَملكونه. وفي كثير مِن الأحيان، تَكُون الحقيقةُ مُرَّةً ومُؤلمةً وصادمةً، ويَكُون الوَهْمُ لذيذًا ومُنْعِشًا ومُريحًا،وهذا هو الفَخ القاتل الذي وَقَعَتْ فيه الحضارةُ الإنسانية.
3
عِندما يُصبح الأفرادُ آلاتٍ ميكانيكية في هُوِيَّة التاريخ المركزية في الزمان والمكان، فإنَّ الوَعْي لَن يَقْدِر على تفسير الشُّعور الذي يُساهم في تفعيل سُلطة المعايير الأخلاقية، والشعور لَن يَقْدِر على إنشاء روابط إنسانية تُساهم في تكريس سِيادة المعنى اللغوي. وإذا اختفت الأخلاقُ واللغةُ فإنَّ النظام الحياتي سَيَغرق في الأوهام. وعندما تُصبح الظواهرُ الثقافيةُ أدواتٍ نفعية في ماهيَّة الواقع الاجتماعية في الظاهر والباطن، فإنَّ المعرفة لَن تَقْدِر على تحليل البُنية التي تَعمل على تجذير شرعية الرموز اللغوية، والبُنية لَن تَقْدِر على توليد أفكار إبداعية تَعمل على تكوين هَيكلية الأسئلة الوجودية. وإذا اختفت الرمزيةُ والأسئلةُ فإنَّ المنظومة الحضارية سَتَسقط في الفراغ. لذلك، لا بُدَّ مِن صِياغة العلاقات الاجتماعية روحيًّا وماديًّا بشكل مُستمر في البُنى الوظيفية المُتَحَكِّمَة بمسار المجتمع، وكشفِ العناصر المنبوذة والأفكار الهامشية في تفاصيل الجسد الاجتماعي، لتحديد التيارات الفكرية التي تمَّ تأسيسها للسَّيطرة على تشابكات النظام الحياتي والمنظومة الحضارية في أعراف المجتمع وقوانين الطبيعة. ولا شَكَّ أنَّ الهوامش تدلُّ على المتن، والأطراف تدلُّ على المركز، وبِضِدِّها تتبيَّن الأشياء.
_________
*إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.