أصفاد الإيديولوجيا؛ الشيء ونقيضه
يُنظر إلى الإيديولوجيا على أنها علم الأفكار، أي علم الفكرة، وهي من أكثر المفاهيم مراوغةً في العلوم الإنسانية بأكملها. وتُعرف الإيديولوجيا ” بأنها مجموعة من المُعتقدات والأفكار التي تؤثر على نظرتنا للعالم “. ونستطيع أن نقول إنها مجموعة من القيم والمشاعر التي نتمسك بها بشكل كبير، وهي تشبه (الفلتر) الذي نرى من خلاله كل شيء وكل شخص. وهي تشبه أيضاً الزجاج الذي من خلاله يرى الفرد ما يدور حوله ويقوم بتفسيره، وفي الغالب تكون هذه الأفكار قريبة جداً من الفرد لدرجة أنه لا نشعر بوجودها. ونحن بالمقابل، نظن أن معتقداتنا وأفكارنا هي الشيء الطبيعي والحقيقي بشكل واضح، حتى لو كانت تلك المعتقدات خاطئة، فإن العقل يجعلك تعتقد أنها الحقيقة، لأنها جزء من مجموعة أفكار تؤمن بها.
يعتبر الفيلسوف الفرنسي ديستات تريسي (1755 – 1836) هو أول من استخدم هذا المصطلح في كتابه (عناصر الإيديولوجيا) وكان يقصد به ” علم الأفكار أو العلم الذي يدرس ويحلل مدى صحة أو خطأ الأفكار التي يحملها الناس، فهذه الأفكار هي التي تبنى منها النظريات والفرضيات التي تتوافق مع العمليات العقلية لأفراد المجتمع “. وفي المقابل يذهب كارل ماركس ( 1818- 1883) إلى أن الإيديولوجيا ” هي مجموعة الأفكار السائدة في حقبة ما التي تفرضها الطبقة المهيمنة في المجتمع على باقي أفراد المجتمع، أي أن الطبقة التي تمثل القوة المادية الحاكمة في المجتمع هي نفسها القوة الفكرية الحاكمة “.
– عندما يتحول الفكر إلى إيديولوجيا: في حقيقة الأمر، تغير معنى الإيديولوجيا تغيراً كبيراً بعد الثورة الفرنسية 1789 واكتسب مصطلح الإيديولوجيا دلالات جعلت منه في نظر كثير من المفكرين صورة من صور انغلاق العقل على نفسه ومرادفاً للوعى الزائف إذ لم تعد الإيديولوجيا مجرد مجموعة من الأفكار والقيم التي تعتنقها جماعة ما وتؤثر في فكرها، وإنما أيضاً قيوداً تكبّل العقل بحيث لا يستطيع أن يرى الواقع إلا من خلال هذه الأفكار وكأنها تعبر وحدها عن الحقيقة المطلقة وتناصب العداء لكل فكر يخالفها.
كما أن الإيديولوجيا لم تبدأ في الأفول والانزواء إلا بعد أن جرّت على الإنسان كوارث ماحقة مثل ما حدث مع الإيديولوجيا القومية التي أدت إلى اندلاع حربين عالميتين سقط فيها عشرات الملايين من الأبرياء والقتلى، وانحسرت بعد ذلك الإيديولوجيا الاشتراكية مع انهيار الاتحاد السوفيتي.
بناءً على أحدث السياق الاجتماعي وتفاعلاته وما ترتب عليه من نتائج وآثار سلبية نتيجة الصراع الإيديولوجي. تعرضت الإيديولوجيا لحملة عنيفة من النقد الابستمولوجي، انطلاقاً من التعارض المطلق بينها وبين العلم من ناحية، وبين النقد الفلسفي من ناحية أخرى، حيث يرى النقد الفلسفي في التفكير الإيديولوجي مجرد تفكير تبسيطي جاهز، ومن ثم فهو أقرب إلى طريقة التفكير الأسطوري حسب ” كاسيرر“. أما ” كارل بوبر” فيُرجع التفكير الإيديولوجي إلى أفلاطون، ويعتبره تفكيراً لا علاقة له بالواقع، وأنه نوع من الهرطقة التي تحل محل فهم الأحداث الواقعية.
إن مأزق إيديولوجيا ما، ينشأ عندما تصل تلك الإيديولوجيا إلى غايتها وتتحول إلى مؤسسات وممارسات وأعرافاً وعادات، وتحقق تماماً ما وعدت به، فتصبح أمام وضع تقليدي جديد تستمر فيه حتى ينشأ انقلاب اجتماعي تاريخي يستدعي رؤية جديدة تعجز الإيديولوجيا السائدة عن توفيرها، وترفض أن تعترف بهذا العجز. وفي أسوأ الأحوال، تجد النظرية الإيديولوجيا نفسها في طلاق كامل مع الواقع الاجتماعي التاريخي الذي تكونت لأجله، فلا هو يفهم خطابها، ولا هي تفهم تطوره وأسباب ابتعاده عنها، وشيئاً فشيئاً تتحول إلى مجموعة تصورات خالية من المعنى الواقعي والوظيفة العملية. وفي حال بين الحالين يكشف التطور التاريخي والبحث النظري أن الحقيقة الجزئية التي حملتها النظرية الإيديولوجية لم تعد كافية لتأمين حيوية الإيديولوجيا واستمرارها في استقطاب الجماهير وتغذية الوعي والعمل النضالي اللذين ساهمت في تغذيتهما في فترة صعودها وامتدادها، الأمر الذي يطرح بجدية قضية النقص النظري وتقلّص الكفاية النظرية في الإيديولوجية.
أما عن علاقة الإيديولوجيا بالفكر نجد أن من أهم وأخطر التحديات التي تواجه الأفكار والنظريات الفلسفية والاجتماعية هي إمكانية تحولها إلى عقيدة متحجرة تفقد أية مرونة ممكنة لفهم الوقائع ورسم الحاضر والمستقبل، وبالتالي فإن الضرورة تفرض ألا يتحول الفكر إلى إيديولوجيا سواءً أكان هذا الفكر يتسم بالواقعية والموضوعية والمنطقية أم لا، فالإيديولوجيا التي تتجاوز الحالة الإنسانية الفردية والمجتمعية تُفقد الفكر تأثيره الفعّال في خلق استمرارية الإبداع لتغيير الواقع، ولا يخفى أن الإيديولوجيا هي في الأصل فكر تحول إلى عقيدة بتأثير ودفع من السلطة الحاكمة، التي تسعى إلى تقسيم المجتمع إلى فئتين متنافرتين، فئة تنتهج عقيدة السلطة الحاكمة فتكون في المرتبة السامية ما دامت عوامل السلطة الداعمة قائمة، وفئة تقف ضدها لتكتسب صفة العداوة وتكون على الدوام في مهب القهر والعنف والعصيان والتمرد، وتؤدي هذه الممارسة السلطوية للإيديولوجيا إلى تقسيم بنية المجتمع الفوقية، ما بين النخبة المثقفة، فبينما تزدهر ثقافة السلطة المؤدلجة وتفرخ العديد من الأشكال الثقافية المتناسخة والمتماثلة والمتطابقة في كثير من الأحيان مع النظام السياسي القائم، نجد بالمقابل أن الثقافة الأخرى المضادة لها تتوارى وتتراجع لتختفي أو تعود لاحقاً في أشكال عقائدية أكثر صدامية وحدة.
إن ما يميّز الإيديولوجيا عن الفكر هو أن المؤدلجين يطرحون عقيدتهم على أنها مذهب فكري يمثل الحقيقة المطلقة ولا يمكن الجدال أو النقاش حول صحتها، ولابد لجميع أفراد المجتمع الخضوع لها، إن الايديولوجيا بكافة أنواعها وأنماطها تتمثل في مجموعة مبادئ ومفاهيم وقواعد اكتسبت صفة الجمود عند لحظة تاريخية معينة، تدفع بالإنسان المؤمن بها إلى تحجر فكري لا يهدف إلى إجراء التغيير وتحقيق المزيد من العدالة والإنسانية في المجتمع بقدر اندفاعه في سبيل الدفاع عن عقيدته وإثبات صحتها، بحيث تصبح الإيديولوجيا أهم من العلاقة مع الآخر المختلف أو حتى المترقب المحايد، وبذلك تصنع الإيديولوجيا فرداً انطوائياً فكرياً يتعذر عليه التواصل والتفاهم مع الآخرين. وفي هذا السياق، يكشف لنا التاريخ فصولاً مروعة عن مأساة البشرية مع الإيديولوجيات المختلفة (الستالينية، الفاشية، النازية)، فلم تكن هناك إيديولوجيا إلا وقامت بشرعنة العنف الذي خدمها، وأدى ذلك على الدوام إلى المزيد من القهر والدماء، وبالتالي لا تقوم الإيديولوجيا بإباحة العنف وحسب وإنما تبرره، كما يؤكد المؤدلجون على فعالية العنف في إرساء مبادئ الواقعية السياسية عبر التاريخ.
وهكذا يمكن القول إن الإنسانية عانت الأمرين عبر القرون الماضية بفعل الإيديولوجيات التي تصارعت فيما بينها من جهة، وبينها وبين الانسان العاقل الذي رفض الوقوع عبداً لها من جهة أخرى، فنكلت به بمختلف وسائل القهر بهدف إعادة النظام وتوطيد السكوت. ومن هنا نجد أن الإيديولوجيا تجيز فعل الشر بهدف الخير وبالتالي فإن القتل الإيديولوجي مثلاً لا يعتبر شراً بل وسيلة للنضال ضد الشر وبالتالي يكون خيراً من وجهة نظر أصحاب تلك العقيدة.
نستنتج مما سبق أن الفكر يتنافى مع الإيديولوجيا تماماً، فبينما تمثل الإيديولوجيا تأكيداً دائماً وقطعياً ومطلقاً لعقيدة لا تقبل الشك أو النقاش أو الخطأ، يسعى الفكر باستمرار إلى البحث عن الحقيقة بهدوء وتأني واستقلالية فردية تامة، بعكس الإيديولوجيا التي تعتبر تحشيداً وتكديساً وتجميعاً لبشر مستلبي الفكر، يتنازلون طوعاً أو كرها عن حريتهم الفكرية لعقائد لا تقبل منهم سوى السمع والطاعة، وهكذا فإن الفكر هو التزام شخصي يدفع الفرد على الدوام إلى الحرية في البحث والاكتشاف والارتكاز على الواقع والمنطق، وبالتالي نجد أن أكبر التحديات التي نواجهها كأفراد أولاً ومجتمعات بشرية ثانياً هو قدرتنا على بناء فكر جديد على أنقاض الإيديولوجيات التي عصفت بالبشرية وأدمتها لقرون طويلة، حتى نستطيع إعادة المعنى الحقيقي من وجودنا وخلق المزيد من الإبداع.
وهنا يجب أن نشير أن روح كل حقبة تاريخية (إيديولوجيتها) فهي المنطق الكامن وراء كل إنتاجاتها، إذا لم نكتشفه فسوف نعجز عن فهم تلك الإنتاجات والتموضعات التي وصلنا إليها. إن روح العصر – أي التصورات الذهنية التي تحكم الفكر في عصر ما- بمثابة المفتاح الذي يساعدنا على فهم كل ما يجري في المجتمع في عصر معين. ومعنى ذلك أن الإيديولوجيا تنبع من الماضي وتحن إليه، وفي موقف أخرى تعكس الحاضر والأمر الواقع، وأخيراً قد تبشر بالمستقبل والمثل الأعلى. فالإيديولوجيا لها فعالية في غاية الأهمية فهي تستطيع أن تعزل الجماهير عن الواقع في سياق ما، أو قد تبسّط لهم الواقع وتفهمهم إياه في موقف ما. لذلك فإن الإيديولوجيا تعني كل شيء وعكسه، وبوسع كلمة “ إيديولوجيا ” أن تؤدي معاني مختلفة حسب منظور المتكلم وقدرته على التعبير والمناقشة، فهي أداة طائعة في يد من يستخدمها وجب علينا الحذر منها.
الله ولي التوفيق وهو يهدي السبيل.
_________
*د. حسام الدين فياض/الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.