لماذا تراجعت المنظومة التربويَّة في الجزائر؟
تراجعت سياسة المنظومة التربويَّة في السنوات العشر الأخيرة بسبب فشل السياسة المنتهجة التي وصفت بالسلبيَّة ،كانت هناك أفكار وضعها خبراء ومنظِّرو المنظومة التربويَّة في الجزائر ومنهم وزير التربية الأسبق المؤرخ محمد الميلي لو عملت بها وزارة التربية الوطنيَّة لكان الوضع التربوي في الجزائر في أحسن حال، هذه الأفكار جاءت انطلاقا من تحليل معمَّق للواقع والضغوط والمشاكل، فالمنظومة التربويَّة حسب هؤلاء مطالبة بتعبيد الطريق من أجل بناء مجتمع المستقبل، والمدرسة وحدها التي تهيئ رجل الغد ليتحمَّل نصيبه من المسؤوليَّة.
فعشيَّة استقلال الجزائر شرعت الحكومة الجزائريَّة في إعادة فتح المدارس لاستقبال التلاميذ واستئناف العمل التربويَّة وتعويض الخسائر التي تسبَّب فيها الاستعمار الفرنسي الذي عمل على تجهيل أبناء الجزائريين وعلَّقت الحكومة الجزائريَّة كل آمالها على جيل الاستقلال في تحقيق الغد الأفضل، مستعينة في ذلك بالإطارات المشرقيَّة في تعليم أبنائها واسترجاع مكاسبها التي فقدتها في فترة من الفترات، وعرفت مرحلة السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات بالفترة الذهبيَّة، ولا شك أنَّه من الصعوبة بمكان استرجاعها، لأنه رغم السياسات التي وضعت والقوانين التي صدرت إلا أنَّها شهدت تراجعا كبيرا وعلى كل المستويات حتى لا نقول إنَّها باءت بالفشل، المنظِّرون التربويّون اعتبروا المنظومة التربويَّة ميدانا استراتيجيا ذو أهميَّة قصوى في بناء الأجيال وتكوين الرجال، ولذا دأبت الجزائر على تكوين المعلمين عملا بالقول المشهور: “قيمة التعليم مستمدَّة من قيمة المعلَّم “، يقول أهل الاختصاص إن كان على الحكومة الجزائريَّة أن تترجم اختيارات الثورة بصفة عمليَّة لتخريج المعلّمين القادرين على تطوير المنظومة التربويَّة إلى أرقى المستويات لكن الصراعات بين التيارين العروبي الفرانكفوني كانت سببا في تراجع المدرسة الجزائريَّة وإفشال التجربة التي انطلقت في بداية السبعينيات ( 1971/72) خاصة ما تعلَّق بالتعريب التي شملت كل فروع التكوين باستثناء فروع اللغات الأجنبيَّة وبهذه السياسة تمكَّنت الجزائر من الاستغناء عن استيراد إطارات تربويَّة من الخارج.
تقول تقارير إنَّ الجزائر عشيَّة الاستقلال اعتمدت على إطارات من 19 جنسيَّة: من فرنسيين، بلجيكيين، كنديين، سويسريين، باكستانيين ، إنجليز وعرب من جنسيات مختلفة أيضا، اتَّسمت بتضارب في الطرائق والأساليب فكانت لها تأثيرات وانعكاسات على تربية الأجيال، كون بعض الإطارات التي اعتمدت عليها الجزائر كانت المخابرات وراء اختيارها، حيث أوكلت لها مهام أخرى خارج إطار التعليم والتكوين وهي “التجسُّس”، وقد عملت هذه الإطارات المدسوسة في المنظومة التربويَّة الجزائريَّة على خلط كل الأوراق من أجل زعزعة هذه المنظومة المقدَّسة بدءًا من ضرب المناشير الوزاريَّة ووضع مكانها قرارات داعية إلى التقهقر بحجّة تحقيق النوعيَّة ووجد المعرّبون أنفسهم على الهامش، ومن المناشير التي صدرت في هذا الشأن، المنشور الوزاري المؤرخ في 24 جويلية 1977 المتضمِّن إزالة التعريب عن المعاهد التكنولوجيَّة وتم تطبيقه عنوة، وعادت المعاهد إلى التكوين بالفرنسيَّة التي كانت في المرتبة العليا وكانت العربيَّة في المنزلة الدنيا وهي إجراءات وصفت بالمرتجلة، أي أنها لم تكن مدروسة بالشكل الكافي، تعقَّدت الأمور أكثر بعد وفاة الرئيس هواري بومدين الذي جعل التعليم مجانا، صدرت مناشير جديدة تنصّ على تكوين معلمي المرحلة الإبتدائيَّة بالفرنسيَّة وأن يكون التعليم المتوسّط للمواد العلميَّة بالفرنسيَّة للمترشّحين الذين فضّلوا التعليم بالفرنسيَّة دون اللغة العربيَّة، وفي إطار حملات التوظيف من الخارج صدرت قرارات وزاريَّة أخرى تتضمَّن إلغاء رخصة الخروج باعتبارها وضعا غير طبيعي لا يتلاءم مع وجود جواز سفر ولا مع ما ينصّ عليه الدستور الذي يكفل حريَّة التنقّل للمواطنين.
حسب المؤرخ محمد الميلي كان مشروع تأهيل معلّمي الابتدائي في الجزائر من أهم المسائل التي تشغل وزارة التربية خصوصا وقد وقع الاختيار على معلمين لم يسبق لهم وأن أعِدّوا مهنيا وبيداغوجيا لممارسة مهنة التعليم، ولتدارك نقص التأهيل أعدّت لهم دروسا بالمراسلة كان يشرف عليها المعهد البيداغوجي الوطني ونظرا لنقص الإطار الجزائري آنذاك اعتمدت الجزائر على خبراء فرنسيين للمساهمة في وضع الدروس الموجّهة لهم، خاصَّة ما تعلَّق بدروس التاريخ، السؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا هو: هل كان الخبراء الفرنسيون حياديّون وعادلون ومنصفون وهم يقدّمون دروس التاريخ، بمعنى هل وقفوا إلى جانب الجزائر التي عانت ويلات الاستعمار الفرنسي طيلة 132 سنة وقد قدَّم المؤرخ محمد الميلي ملاحظاته على هذه التجربة التربويَّة في تكوين المعلمين في كتابه: “حقّ المعرفة وحقّ الأمل ” عالج فيها واقع المنظومة التربويَّة في الجزائر عشيَّة الاستقلال، تبعتها مرحلة ما بعد المرحلة البومديينيَّة، وهي المرحلة الشاذليَّة – نسبة إلى الرئيس الشاذلي بن جديد)، قبل أن تدخل الجزائر في حرب أهليَّة عرفت فيها المنظومة التربويَّة تراجعًا كليًّا، صدرت فيها قوانين ومناشير وزاريَّة ومراسيم تنفيذيَّة لم تكن متماشية مع تطوّر المنظومة التربويَّة التي شهدها المحيط التعليمي العربي والعالمي ككل، ولعلَّ السبب أنَّ الوضع لم يكن متاحًا في ظلِّ السياسات التي انتهجت في فترة من الفترات لو أتيحت الفرصة للأكفاء في تولي تسيير المنظومة التربويَّة انطلاقًا من الوزارة نزولا إلى معلِّم الطور الابتدائي.
علي بن محمد الوزير المظلوم
والمقصود هنا حسب الملاحظين، أنّه لو تركت الوزارة في يد الوزير “علي بن محمد” لما كان وضع المنظومة التربية على هذه الحال الذي يمكن وصفه بالبائس وهو وضع لا يشرف الجزائر الثوريَّة، والدليل أنّ الصعاب التي واجهت الإصلاحات التربويَّة هنا وهناك كما يقول محمد الميلي كان يتَّصل بأزمة هيكليَّة بالغة الخطورة وهذا راجع حسبه إلى انعدام غائيَّة الوزير المؤهَّل لإدارة وتسيير النظام التربوي، وزارة تحرص على بلوغه وتهيِّء له البرامج التي تنتج مواطنًا صالحًا بمقياس مجموعة من المبادئ، كان وزير التربية الأسبق علي بن محمد مثالا للقائد التربوي لكن أطرافًا عملت على الإطاحة به بعد تسريب أسئلة الامتحان الرسمي، وعلي بن محمد الذي ينحدر من ولاية المسيلة حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة الجزائر في الأدب العربي الأندلسي عام 1976، بدأ مشواره المهني بالتدريس في مجال التربية والتعليم بين عامي 1966 و1970، شغل منصب رئيس ديوان وزارة التربية من عام 1970 إلى عام 1977، ليصبح وزيرا للتربية عام 1990، لكنّه استقال من منصبه في قضيَّة تسريب أسئلة امتحانات الثانويَّة العامَّة البكالوريا، ولعلّ دوافع الإطاحة به تعود إلى كونه يعدّ من الشخصيات الوطنيَّة التي كرَّست حياتها التعليميَّة والمهنيَّة للدفاع عن الهويَّة الجزائريَّة وعن اللغة العربيَّة أمام ما يعرف بالتيار الفرانكفوني التغريبي الذي يسعى إلى الحفاظ على اللغة الفرنسيَّة وتكريسها أكثر في المجتمع الجزائري، ورغم أن تداول على وزارة التربية عدة وزراء من بينهم أحمد طالب الإبراهيمي الشرف مصطفى، زهور ونيسي، محمد الميلي وعلي بن محمد الذي سبقت الإشارة إليه إلا أنَّها لم تشهد نهضة قويَّة.
فوزارة التربية منذ الوزير أبو بكر بن بوزيد الذي وصفه البعض بديناصور التربية في الجزائر لمكوثه أكثر من 19 سنة على رأس الوزارة وألحق بها الضرر، ثم الوزيرة نوريَّة بن غبريط رمعون وهي مغربيَّة المولد التي أحدث لقبها الكثير من الجدل والتي أساءت أيضا للمنظومة التربويَّة في الجزائر منذ تعيينها على رأس الوزارة عام 2014 في حكومة عبد المالك سلال وحتى في عهدتها تمَّ تسريب أسئلة امتحانات البكالوريا في موسم 2016 رغم أنها محسوبة على التيار الفرانكفوني صاحب الأغلبيَّة ، كما تمّ تحميلها مسؤوليَّة الأخطاء التي ارتكبت في كتاب الجغرافيا بعد وضع اسم إسرائيل في الخريطة الجغرافيَّة بدلا من فلسطين وقيل عنها في تلك الفترة أنّ رياح “الفرنسة” تهبّ على قطاع التربية بالجزائر، هكذا تراجعت المنظومة التربويَّة في الجزائر عكس الدول الأخرى التي نجحت في إصلاحها التربوي كفرنسا مثلا التي أنشأت في عهد الوزير روني مونوري عام 1987 ‘إدارة للمستقبليات والتقويم في وزارة التربية’ وهو ما لم يعمل به وزراء التربية في الجزائر التي هي تساير اليوم مشروع “الشموليَّة العالميَّة” بحجّة مواكبة التكنولوجيات الحديثة خاصَّة بعد مجيء الوزير الحالي عبد الحكيم بلعابد المكلَّف بتنفيذ برنامج رئيس الجمهوريَّة عبد المجيد تبون.
هل الأزمة هي أزمة تربية أم هي أزمة مجتمع؟
السبب الرئيسي هو أن وزارة التربية في الجزائر لم تعمل بمدرسة محمد (ص) ولم تنتهج السياسة التربويَّة التي وضعتها جمعيَّة العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة العلامة الإمام عيد الحميد ابن باديس ورفقائه وأهملت كوادرها الوطنيَّة ومدارسهم بدءًا من مدرسة مالك بن نبي الحضاريَّة الأصيلة، فكانت النتيجة ازدياد في المشاكل وتراجع في المكاسب، والطريقة الحاليَّة بعد التراجع تفضيل السوق الأجنبيَّة سواء كانت الفرنسيَّة أو الإنجليزيَّة، وبالتالي انتصار التيار الفرانكفوني على التيار العروبي الذي وجد نفسه على الهامش، لأنَّ أطراف من خارج الجزائر وحتى من داخلها تلاعبت بهذه المنظومة وتلاعبت بالأجيال وقد كشفت الأيام عن مفاجآتٍ كبيرة تعمَّد البعض إحداث مشاكل تقوي صفوفا مرتبطة بمصالح شخصيَّة وتخدم أجندات أجنبيَّة ولا نقول فرنسا وحدها، السؤال الذي يلح على الطرح هو: لماذا لا تأخذ وزارة التربية بالشعب الأدبيَّة في الامتحانات الرسميَّة (البكالوريا) لدرجة أنّ الناجحين يوجّهون إلى التخصّصات الغير مقبولة من قبل الوظيف العمومي حتى بعد تخرّجهم من الجامعة فهم محرومون من عمليَّة التوظيف، بحجّة أن القطاعات الاقتصاديَّة تحتاج إلى الشعب العلميَّة أكثر، وأنَّ خريجي الشعب الأدبيَّة مكانهم كتابة الشعر والقصة والرواية فقط أو في المسرح وما إلى ذلك ، ولا مكان لهم في الوظيف العموميَّة، حتى أننا نجد من خريجي كليَّة العلوم السياسيَّة وفيهم من حاملي شهادة الدكتوراه بعضهم يُدَرِّسُ تلاميذ الأطوار الابتدائي وآخرون يعملون في الجامعة بعقود فقط في إطار ( vacation) مقابل ملاليم يتلقونها، وحتى في الوقت الحالي لم تجدِّد وزارة التربية الوطنيَّة سياستها بما يخدم شريحة واسعة من خريجي الجامعة من الشعب الأدبيَّة، حتى أنّها مؤخّرًا فقط اعترفت بهذه الفئة عندما أدخلت شعبة الفنون في البرنامج التربوي وذلك بعد مطالب تقدَّم بها ممثلون عن النقابات التربويَّة وممثّلون عن المجتمع المدني.
المثال الثاني المشروع المتعلِّق بتعيين مشرفين تربويين على مستوى المدارس الإبتدائيَّة، فالجهات الوصيَّة وضعت لخريجي الجامعة من حاملي شهادة الليسانس في مختلف الشعب شروطا لقبولهم هذا المنصب ألا وهو التناول عن شهادتهم الجامعيَّة (الليسانس) واشترطت على الذين يرفضون التنازل التوقيع على “تعهد” برفضهم التنازل وهو ما أثار سخطًا لدى هذه الشريحة التي عملت لسنوات طويلة في إطار عقود ما قبل التشغيل، وكانوا أحيانا يستخلفون الأساتذة في فترة غيابهم لتدريس التلاميذ وتمكَّنوا من اكتساب تجربة واسعة في مجال التدريس، معظم حاملي شهادة ليسانس ولتحسين وضعيتهم المهنيَّة أي إدماجهم أجبروا على التنازل على شهاداتهم مقابل الحصول على هذا المنصب وذلك خوفًا من إقصائهم مستقبلا من عمليَّة الإدماج والترسيم في منصبٍ دائم ومستقر، رغم أن الوزارة الوصيَّة تعهَّدت بتحسين وضعيتهم مع صدور القانون الجديد من خلال ترقيتهم لكن يبقى كل شيء مجرَّد كلام طالما القانون الخاص بموظَّفي قطاع التربية في الجزائر لم يصدر بعد ولم تتم المصادقة عليها من طرف مجلس الوزراء والبرلمان، لا سيما المواد التي تحدِّد مهام المرشد التربوي في الطور الابتدائي.
بعض الدين كان لنا معهم لقاء خلال عمليَّة وضع ملفات التنازل أكَّدوا أن مصيرهم لا يزال مجهولا أمام الغموض الذي يشوب القانون الخاص لموظفي التربية وبالخصوص ما تعلَّق بالمشرفين التربويين، لأنّ القانون لم يحدِّد بعد ما هي المهام الموكلين بتأديتها، خاصَّة وأنَّ هذه المهام هي خارج إطار التدريس، وقال البعض إنَّ هاجسهم الوحيد اليوم هو كيف يتعاطون مع الواقع الحالي بعدما تنازلوا عن طموحاتهم التي رسموها طيلة مسارهم الدراسي والفترة التي قضوها في الجامعة ليجدوا أنفسهم في مستوى أقل من مستواهم الجامعي، لا سيما وهذا المنصب يليق بالذين لم يتحصَّلوا على شهادة ىالبكالوريا أو حاملي شهادات التقني سامي .
ووفقًا لما قاله محمد الميلي فإنَّ أحد المشاكل الأساسيَّة التي يواجهها النظام التربوي في العالم العربي وفي الجزائر خصوصا هو أنَّ الملف التربوي والتعليمي نادرًا ما يرقى إلى مستوى الملفات الساخنة بالمعنى السياسي للكلمة، فالإدارة المشرفة على الملف التربوي غالبا ما تكون منشغلة بمسائل الدخول المدرسي فقط، همها الوحيد أن يتمّ الدخول المدرسي في ظروف حسنة، ويكفي بأن تمر امتحانات البكالوريا بسلام حتى يتنفَّس الوزير وحاشيته الصعداء، ولذا نجد بعض المسؤولين في الوزارة الوصيَّة لا يتفقّدون قطاعاتهم إلا مرَّة واحدة في السنة، إمَّا في بداية الدخول المدرسي أو في نهاية السنة الدراسيَّة للحديث عن تحضيرات الدخول المدرسي القادم، ولذا فإنّ التكفّل بمواجهة كل التحدّيات التي تواجه المنظومة التربويَّة في الجزائر يمرّ حتمًا بالتدريب على هضم التعقيدات وفهم المعطيات التي تبدو متناقضة وذلك يتطلَّب وضع بيداغوجيَّة جديدة، مع إعادة النظر في مسالة المقاربة بالكفاءات، كون هذه التجربة لم تلقَ نجاحًا كبيرا ، لأنّها لم تكن في صالح فئة خاصَّة من ذوي الاحتياجات الخاصَّة.
______________
*علجيَّة عيش بتصرف.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.