العنف المدرسي: تمثّلات التلاميذ ومقترحات تعديليَّة

image_pdf

مقدمة:

لا ينفصل الحديث عن أزمة المدرسة والتعليم والتربية عن بروز ظواهر العنف المادي واللفظي في الوسط المدرسي، وتعرض التلاميذ إلى أشكال متنوعة من التهديد داخل المدرسة وفي محيطها، ما يمسّ المدرسة في جوهر أدائها، وهو توفير المناخ الآمن للنمو وترتيب عمليات التعليم والتربية. وهو ما كشفته التقييمات الوطنيَّة منذ عقدين[1]  وإشارات “التقييم الدولي لمكتسبات التلاميذ” (PISA) إلى معضلة  الانضباط في المدارس. ولئن أكَّدت إحصائيات اليونيسف[2] على البعد الكوني للعنف المدرسي، فإننا مطالبون كفاعلين بافتحاص الخصوصيات التربويَّة للبيئة المحليَّة بنظرة موضوعيَّة وفهم مبررات هذه الظاهرة.

تتحكَّم في العنف داخل الوسط المدرسي الكثير من العوامل المتشابكة، إلا أننا سنقتصر على رصد العلاقة الجدليَّة بين الفاعل والتلميذ والسياق التربوي، علما أنه لا يمكن للمؤسَّسة التربويَّة مواجهة العنف بنجاعة إلا بمساءلة اشتغالها المؤسَّسي. لهذا فإن الهدف الأساسي لهذه الورقة هو الوقوف على الصلات القائمة بين العنف في الوسط المدرسي وسياقاته، وملامسة بعض محدّداته وأبعاده الميكروسوسيولوجيَّة وأشكاله الصغرى، والاهتمام بالعوامل الداخليَّة، عبر إثارة أسئلة محوريَّة: ماذا نقصد بالعنف داخل المدرسة؟ ما هي تجلياته؟ ماهي طبيعة اشتغال المدرسة وماهي العوامل الممهدة لبروز السلوكات العنيفة؟ أين تكمن أسباب العطل وتشكّل ظواهر العنف في الوسط المدرسي؟ ما هو خطاب التلاميذ حول مستويات العنف المدرسي؟ كيف يهدر العنف عناصر الجودة ويبدِّد بعض ما تحقَّق منها؟ كيف يؤثِّر غياب الجودة التربويَّة في تأجيج العنف في الوسط المدرسي، وفي المقابل هل يسهم إرساء تمشي الجودة التربويَّة في تخفيض السلوكات العنيفة؟  وماهي المداخل المناسبة في التوقي من العنف في الوسط المدرسي وما هي ملامح المقترح التربوي لتقليص ظواهر العنف في المدارس التونسيَّة؟

1/ العنف المدرسي : مقاربات مفهوميَّة ونظريات مركَّبة

  1. 1-      1- تعدّد مفاهيم العنف في الوسط المدرسي

تحيل التعريفات المختلفة للعنف داخل الوسط المدرسي إلى مفهوم يحمل دلالات متعدِّدة، ما يجعل تحديده في غاية الصعوبة، نظرا لتنوُّع معانيه ولبس مضامينه، وخاصَّة تقاطعه مع مفاهيم مجاورة مثل العدوانيَّة والاعتداء والانحراف والجنوح، وهي تصرفات تخالف معايير السلوكات المقبولة مجتمعيا. تُعرِف بلايا العنف المدرسي بأنّه الاستعمال المتعمّد أو التهديد بالاستعمال المتعّمد للقوّة الجسديَّة أو البأس، والتهديد المباشر أو غير المباشر ضد شخص أو جماعة أو مجموعة أخرى، والذي يسبب أو يحتمل أن يسبِّب صدمة أو أذى معنوي أو تمييز أو سوء نمو أو نقص. وبالنسبة لشيلدر العنف هو السلوك العدواني اللفظي وغير اللفظي نحو الشخص الآخر أما ميلر فهو يعتبر أن المفهوم يشمل سلوكيات العنف الجسدي والإيذاء النفسي والتهديد أو سرقة ممتلكات الغير أو إحداث الفوضى والشغب.

يتكثَّف مفهوم  العنف غالبا في تجلياته الماديَّة الأكثر خطورة والقابلة للملاحظة ميشو، والذي يتم التركيز عليه نظرا لظهور آثاره وسهولة التعرف عليه، فإذا قلنا إن العنف في المدرسة نادر، فالأمر صحيح بمنظار الوقائع الخطيرة، في حين يتجاوز التعريف الراهن التحديدات الأحاديَّة والنظرة الاختزاليَّة التي ترى في العنف “مرضا مدرسيا”، حيث يعتبر ديباربيو العنف عنصرا محايثا للحياة داخل الصفوف وفي العلاقات القائمة بين المدرس والتلميذ، فهو ليس ظاهرة هامشيَّة، وإنما مشكل تربوي كباقي المشاكل، فهناك أنماط “عنف تكرار” أي ذلك الذي يرتبط بوقائع صغرى (شجارات بسيطة، تدافع، نبذ..) لا تكتسي أهميَّة في الظاهر، لكن تكرارها يوميا يؤثِّر تأثيرا بالغا في تلويث المناخ المدرسي. لهذا، من المجدي عدم التركيز على العنف المادي فحسب، فالعنف المدرسي، كما تبينه البحوث العلميَّة في مجال التربية، هو تمدد يضم سلّة واسعة من الأفعال، تتجاوز العنف المادي المباشر، ليغطي كامل السلوكات المؤدية إلى الألم أو الخسائر الماديَّة أو النفسيَّة لدى الأشخاص الناشطين في أو حول المدرسة، أو من يستهدفون تدمير تجهيزات المدرسة وعتادها.

أضيفت لهذا التوصيف في السنوات الأخيرة سلوكات الهرسلة أو سوء المعاملة بين التلاميذ (school bullying) التي تعرف بأنها أحد أشكال العنف “المنسيَّة” من الاهتمام، لأن ضحاياه يعانون في صمت، فالتلميذ الضحيَّة يتعرض بشكل متكرر وعلى مدى طويل لاعتداءات صادرة من قبل الأقران بغيَّة إهانته، بالنعوت أو الإيماءات الساخرة والنبذ، ويتم اختيار “الضحيَّة” لضعف ما أو اختلاف ملحوظ (تأتأة، سمنة، صعوبات تعلم…) ، يتعرض لاعتداءات تتم بشكل غير مرئي مشكلة جزءا من الجانب الخفي للعنف الذي تتولد عنه تداعيات خطيرة[3]. ويتجاوز تفشي العنف بأشكاله المختلفة المنحى الفردي أو ردود الفعل الشخصيَّة إلى اعتباره مساسا بالنظام العام للمدرسة وكيانها الشخصي ومكونات المنظومة التربويَّة، ويؤدِّي إلى إعاقة العمليَّة التعليميَّة- التعلميَّة، وشلّ أداء المدرسة ومردوديتها وإلى إخلالات في المناخ المدرسي، وهو يؤشِّر على ” عطالة” معايير الجودة التربويَّة.

1-2- مقاربات نظريَّة للعنف المدرسي

في بداية الثمانينات برزت نظريَّة التفاعليَّة الرمزيَّة، التي أذكى جذوتها ألان توران ، ومنها ارتقى الاهتمام بالأبعاد الميكرسوسيولوجيَّة والسياقيَّة للعنف المدرسي، واقتربت هذه النظريَّة من فكرة تقول بأنه لا يمكن الإحاطة بحقيقة العنف بمعزل عن المعايير والضوابط المؤسساتيَّة. وهكذا لا يعد العنف فعلا اعتباطيا بل هو سلوك ذا دلالات ضاربة بعمق في نمط التربية السائدة، وتتحكم فيه الكثير من العوامل المتشابكة، مثلما بين ذلك منوال “برونفنبرنر”. من خلال هذا المنوال تتجلى المدرسة كمنظومة تربويَّة منفتحة على خمسة أنساق فرعيَّة، إذ يمكن للعنف أن ينفجر  أو ينشأ في المنظومة الصغرى (القسم، السّاحة، الأروقة …)، والمنظومة الداخليَّة  أي ما هو موجود داخل المدرسة، (الإدارة، التنظيم الزمني، المربون، والتلاميذ..)، ومجموع الأنساق الفرعيَّة المحيطة (مستوى الثقافة الماديَّة، الهياكل الوسيطة،…)، والمنظومة المنفتحة (الهياكل الاجتماعيَّة، أصحاب القرار، ووسائل الإعلام…) التي تمارس تأثيرا على المدرسة وتؤثِّر في الأنساق الأخرى، وأخيرا المنظومة الكبرى الخاصة بهياكل التربية في المستوى الوطني (المؤسسات، الأنساق القانونيَّة والتربويَّة والسياسيَّة…). وأثبتت دراسات قودفردسون أن نقص العدالة المدرسيَّة، في معنى عدم تساوي الكل أمام القانون المدرسي، هو أحد العوامل التفسيريَّة للعنف المدرسي. وبينت أبحاث أورتيغا دور الانضباط الديمقراطي حسب قواعد واضحة وشفافة ومفهومة في التصدِّي للعنف، وأكَّدت عديد الدراسات الدوليَّة أثر المناخ المدرسي في التعلمات والنجاح المدرسي ودافعيَّة التعلّم والثقة المتبادلة. كما أن جانبا كبيرا من النزاعات التي تنشأ داخل المدارس والفصول الدراسيَّة غالبا ما تكون ذات صلة بثقافة التسيير وذلك عندما تصير قائمة على مقاربة إقصائيَّة لذات التلميذ من العمليَّة التربويَّة. في هذه الحال يتقاسم الفاعلون التربويون قسطا من صناعة العنف واستفحاله. وهكذا، تسهم المدرسة ، في ذات الوقت، في تأجيج العنف، وفي الاضطلاع بدور حيوي في تقليص درجته أو الحد منه، استنادا إلى حلول تربويَّة.

لا يمكن للمؤسسة التربويَّة أن تواجه العنف بنجاعة إلا بمساءلة اشتغالها المؤسَّسي ذاته. لذا، يشدِّد (ديبرابيو) على أهميَّة الاهتمام بدور المناخ المدرسي، إذ لا مناص من الانتباه إلى العوامل المؤسسيَّة ومدى حضور الجودة التربويَّة ومناخات المؤسسة والفصل ومفاعيلهما، دون إغفال تأثير المدرس والطرائق البيداغوجيَّة المعتمدة. تحيل المتغيرات السوسيومؤسساتيَّة إلى مفهوم بارز في سوسيولوجيا المدرسة يمكن تسميته بـ “مفعول المدرسة”. يعلي هذا المفهوم من شأن المدرسة إذ يعتبرها تنظيما قادرا على التأثير سلبا وإيجابا في معالجة الظواهر السلبيَّة كالعنف أو الفشل أو الهدر، وقد تناولت البحوث الدوليَّة هذه الصلة بين المناخ والعنف في المدرسة، مبينة دور المناخ في الوقاية من العنف. أضحى من المؤكَّد حاليا الإقرار بأن جودة التعلّم هي من جودة العلاقة التي تربط المدرس بالمتعلّم، فالتلميذ الذي يكون متوافقا مع بيئته المدرسيَّة ويجد العناصر الملائمة لنموه وشعوره بالأمن والتقدير، لا يلجأ  إلى السلوكات العنيفة. أما إذا ساد هذه البيئة الإحباط والتهديدات أو سوء الاعتبار،  فإن ذلك سوف يفضي حتما إلى حدوث اضطرابات سلوكيَّة واتجاهات سلبيَّة لدى التلميذ تجاه مدرسته ومدرسيه وزملائه.  إن الكثير من الممارسات التي تنتشر في الأقسام الدراسيَّة تفتقد الجودة المنشودة، لأنها تركِّز بشكل أساسي على الجانب المعرفي، ولا تراعي الأبعاد الوجدانيَّة[4].

2/ العنف المدرسي: الجودة المتعثرة وتمثلات التلاميذ

لا تنأى المدرسة كغيرها من المدارس في سائر البلدان عن إفراز العنف في أشكاله المختلفة، فكل مدرسة تنتج “عنفها” بأقدار مختلفة حسب الجهات والأحياء والمؤسسات. كما تنشئ كل مدرسة أسلوب تعاطيها و”تمشيها” التعديلي، بالاستناد إلى رؤية مجتمعيَّة وإستراتيجيَّة جماعيَّة تكيف حسب التشخيص الإحصائي والمعطيات الموضوعيَّة، وتنحت “لوحة قيادة” أمام أصحاب القرار لبلورة برامج ومشاريع وقائيَّة. نظرا لغياب قاعدة بينات، يعسر تقديم خارطة واضحة تسمح بتحليل مؤشرات العنف وضبط مآلاته المستقبليَّة، سنتوقف عند صورة تقريبيَّة عن حجم الظاهرة في المدارس التونسيَّة، بالارتكاز على تقارير بعض المؤسسات البحثيَّة. لم يكن تفشي العنف في الوسط المدرسي مستجدا أو مرتبطا بحراك 2011 وما تلاه من تداعيات، فقد كشفت الاستشارة الشبابيَّة الأولى سنة 1995 كثافة العنف الشبابي، وأكَّدت دراسة سوسيولوجيَّة أجراها “المرصد الوطني للشباب”[5] سنة 2004 عمق ظاهرة العنف اللفظي وخطورته حيث شكل أسلوبا تداوليا يتبادله التلاميذ في السياقات التعليميَّة، جعل من المدرسة ثاني الفضاءات من حيث حجم الانتشار بنسبة 43,21 %. كما طال العنف المادي واللفظي كل المستويات التعليميَّة، من السابعة أساسي إلى الباكالوريا، بنسب متفاوتة. وواصلت الظاهرة انتشارها خلال العشريَّة الأخيرة، (94 % مثلا بالنسبة للسنة المدرسيَّة 2018-2019 حسب بيانات المسح الوطني للشباب.[6]

نسب حالات العنف في الوسط المدرسي (2012-2019)

يظهر الرسم نسب حالات العنف من مجموع التلاميذ في المدارس الإعداديَّة والمعاهد الثانويَّة. سجَّلت أرفع نسبة في السنة الدراسيَّة 2013-2014، وأدنى نسبة في السنة الدراسيَّة 2018-2019، أمَّا عدد حالات العنف المادي واللفظي الصادر عن التلاميذ سنة 2017-2018 فقد مثلا قرابة 20344 منها 14792عنف مادي و 5552 عنف لفظي، والعنف الصادر عن الأساتذة قرابة 8312 منها 7392عنف جسدي و 920 عنف لفظي، أما العنف الصادر عن الطاقم الإداري والإرشادي فيصل إلى 5627 حالة، منها 4812 حالة عنف مادي و 815 حالة عنف لفظي. بلغت أرقام الاعتداءات بالفضاءات المدرسيَّة التي تمَّ تسجيلها قرابة 180 ألف شكوى لاعتداءات ماديَّة أو لفظيَّة ما بين 2006-2010 ، بينما تمَّ تسجيل حوالي 218 ألف شكوى في الفترة 2011-2017 أي بارتفاع 20 % حسب الإحصائيات المضمَّنة في تقرير “المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجيَّة”(ITES). ويشير المعهد المذكور إلى تسجيل 34 ألف واقعة عنف لفظي أو جسدي بالفضاءات التعليميَّة خلال السنة الدراسيَّة 2016-2017 ، وهي حالات أعلى من تلك المسجلة خلال السنة الدراسيَّة 2015-2016  بنسبة 57 % تقريبا، وضعف نسب السنة الدراسيَّة 2013-2014. تتوزَّع هذه الحالات كما يلي: حوالي 80 % اعتداءات بالعنف الجسدي و 20 % عنف لفظي، علما وأن المعطيات الرقميَّة تتعلق بحالات العنف المبلغ عنها فقط، ما يعني أن الأرقام الحقيقيَّة تفوق ذلك بكثير.

وقد بيَّن معهد الدراسات الاستراتيجيَّة أن ظاهرة العنف المدرسي في كل من الإعداديات والمعاهد مرتفعة في الوسط الحضري أكثر من الوسط الريفي، نظرا للكثافة الديمغرافيَّة والظروف السوسيو اقتصاديَّة والثقافيَّة والنفسيَّة. وفي مستوى توزع الظاهرة تتبوأ تونس الكبرى المرتبة الأولى بنسبة 14 % من السلوكات العنيفة صلب المؤسسة التربويَّة، تليها بالتساوي كل من ولايتي سوسة وصفاقس بنسبة 10%. وتشير الاحصائيات إلى أن ثلاثة أرباع (3/4) السلوكات العنيفة تصدر من التلاميذ الراسبين وأن ثلثي التلاميذ (2/3) ممن لديهم اتجاهات عنيفة لديهم نتائج مدرسيَّة متواضعة. وكشف “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة” في نشرته لشهر أفريل 2021 أن المؤسسات التربويَّة تأتي في المرتبة الثالثة كإطار للعنف، بعد الشارع والمنزل، بنسبة 9.5 %، وأن 51 %من العنف في الوسط المدرسي يصدر عن أشخاص لا علاقة لهم بالمؤسسة التربويَّة (دخلاء)، بينما يمثل العنف المتبادل من الإطار التربوي والإداري نسبة 14 % من مجموع حالات العنف المسجلة.

-3- مشاريع تجويد المناخ المدرسي وضعف المردوديَّة:

رغم تنوع المشاريع وكثافة المبادرات التربويَّة لتحسين العلاقات التربويَّة والتواصليَّة وتجويد المناخ المدرسي، لم يكن مفهوم الجودة حاضرا بشكل واضح، حيث دعيت المدرسة إلى “تجويد خدماتها التربويَّة”[7] دون تحديد أسلوب التنفيذ وصيغه، ودون وضوح لثقافة الجودة أو مؤشراتها أو تمشياتها الإجرائيَّة، علما وأن فكرة الجودة لم تتبلور إلا في سنة 2005 التي شهدت صياغة وثيقة مرجعيَّة من طرف وزارة التربية. تضمنت هذه الوثيقة [8] مفهوم الجودة وعناصرها، وسبل إرساء ثقافة الجودة. وشملت الأهداف الاستراتيجيَّة التي ضبطتها تجويد التصرف في الموارد البشريَّة والميزانيَّة والموارد الماديَّة وتنظيم الحياة المدرسيَّة وإنجاز التعلمات، إلا أن أبرزها إحداث مرجعيَّة وطنيَّة للجودة بالمؤسسات التربويَّة (نقطة 3). بدأت الأفكار الأوليَّة تتبلور لإنشاء هيكل مركزي ومؤسسات تهتم بقضايا الجودة التربويَّة، إلا أن إحداث الإدارة العامة للتقييم والجودة[9] واللجنة الدائمة للجودة على المستوى الجهوي ووحدة الجودة بالمؤسسة لم تنجز إلا سنة 2010.  ونوقشت إمكانيَّة بعث مرصد وطني لمتابعة حالات العنف بالوسط المدرسي وإنشاء منصة رقميَّة لرصد حالات العنف وتصنيفها[10] وترجمتها إلى رموز (حالة سكر، حالة مخدرات، استعمال السلاح الأبيض..) وكيفيَّة الإعلام والتصرف، إلا أن المشروع انتهى مع نهاية عهدة وزير التربية.

ونفذت وزارة التربية عديد البرامج بغاية تحقيق الجودة التربويَّة، من أبرزها “مشروع دعم التعليم الثانوي” خلال الفترة 1998-2007، قصد تجويد إدارة التعليم الثانوي وتدعيم الإصلاحات التربويَّة وتنمية جودة التوجهات وضبط الأولويات المحددة في إطار المخطط التاسع. وتواصل المشروع في مرحلته الثانية تحت عنوان “برنامج تحسين جودة المنظومة التربويَّة التونسيَّة ” سنة 2010، ونفذ برنامج آخر في جويليَّة 2012 تحت عنوان ” مشروع دعم التعليم الثانوي”، وخصص جزء من التمويلات لمشروع “بلورة بطاريَّة مؤشرات جودة المنظومة التربويَّة التونسيَّة”. تكونت نواة أولى من 20 مدققا تم تأكيد مكتسابتهم ومهارتهم من قبل مؤسسة فرنسيَّة مختصة، لكن لم تتم الاستفادة من خبراتهم بما أنهم أحيلوا مباشرة بعد مرحلة التكوين على شرف الخدمة.

نظرا لغياب مرجعيَّة للجودة ورؤية متكاملة للإصلاح ولتحسين المناخ المدرسي، فإن المشتغلين على هذا الموضوع غالبا ما يختزلونه في الأبعاد التقنيَّة والماديَّة وفي التعلمات، ولا  يعد في اعتبارهم التوقي من ظاهرة العنف مكونا من مكونات الجودة إذ  لا يحتل  إلا هامشا ضئيلا من اهتمامهم إن لم يكن غائبا تماما في تقاريرهم. وهو ما تأكد لدينا بعد اطلاعنا على منشورات وزارة التربية ما بعد 2011 ومنها “الكتاب الأبيض”[11] ووثيقة “المنهاج”[12]. لاحظنا أن مقاربة الجودة كمفردة تطرح في مستوى نوعيَّة التعلم وجودة مكتسبات التلاميذ وتجويد تدريس اللغات دون ضبط لمعايير الجودة ومؤشراتها، أو تتضمن غايات النظام التربوي ومبادئه ووظائف المدرسة والتربية والحياة المدرسيَّة والتوجهات البيداغوجيَّة وغيرها من النقاط ولا توجد أدنى إشارة إلى معايير الجودة ومؤشراتها. تم  تعديل ذلك بصفة جزئيَّة من خلال عقد برنامج شراكة بين وزارة التربية واليونيسف حول خطّة العمل (2015-2019) احتوت مكونين رئيسيين، المكون الأول، النقطة ( 2-4 ) خاص بإنجاز تربيَّة جيدة لكافة التلاميذ في مهارات الحياة وتطوير كفاياتهم، ويتعلق المكون الثاني، النقطة (3-4 ) بالتصدي للعنف المدرسي. وبعد أن وجهت نقدها لخطة العمل الوطنيَّة ضد العنف التي لم تفعل منذ سنة 2007[13]، اعتبرت خطة العمل المشار إليها العنف في الوسط المدرسي ظاهرة اجتماعيَّة متعددة الأشكال، يمكن مقاومتها  في إطار تطوير الحياة المدرسيَّة ومراجعة الزمن المدرسي لفسح المجال للتلميذ والمدرسين وغيرهم للانصهار التام والفاعل في هذا المسار، فضلا عن تفعيل المجلس البيداغوجي للمدرسين ومجلس المؤسسة.

عديد المشاريع  والمبادرات التي صاغتها وزارة التربية اختزلت الجودة في دلالاتها العامَّة أو في مجال التعليم والتعلم، مستثنية التوقي من العنف بصفة مباشرة وواضحة، فضلا عن عدم اتخاذ إجراءات ميدانيَّة فعليَّة. لقد تبين لنا أن منظومة التربية تفتقد إلى قاعدة بيانات وإلى عمل تشخيصي دقيق، وإلى مرجعيَّة وطنيَّة للجودة أو ميثاق وطني للجودة[14]، وأن كل التعديلات والتنقيحات وحتى أطر الإصلاح التربوي لم يتم وضعها في إطار ثقافة الجودة. هذه المشاريع، كغيرها من المشاريع، “نادرا ما تنجز على الوجه الأكمل”، شأن التعلمات الاختياريَّة[15] والمقاربة بالكفايات[16] . أعتقد أنه، بالرغم من الجهود المبذولة ومن كثافة البرامج والأنشطة، تبقى النتائج شحيحة، بما أنها أختزلت في مشاريع انتقائيَّة وبيروقراطيَّة لم تستند إلى شراكات حقيقيَّة مع الفاعلين التربويين،  ولم تراكم النتائج، وكانت بلا أفق واضح ودون رؤية استراتيجيَّة.

  • خطاب التلاميذ حول العنف المدرسي

يكون التعاطي مع ظاهرة العنف المدرسي بالتشخيص والتخطيط والاستشراف، ومن التقنيات المساعدة الاستماع إلى الفاعل التلمذي لفهم تمثلاته للاعتداءات وكيف يتعايش معها. من أجل هذا، أنجزنا خمس حلقات تركيز مع عينة تلاميذ، شملت مفهوم العنف في الوسط المدرسي ومبرراته وموقف التلاميذ من المناخ المدرسي وعمليات التعليم وطبيعة العلاقات البيداغوجيَّة السائدة صلب المؤسسة التربويَّة ومدى توفر حياة مدرسيَّة نشيطة. وهكذا، توفرت لدينا مادة ثريَّة مكنتنا من تفكيك جزئي لخطاب التلاميذ حول العنف المدرسي. تجدر الإشارة أننا اخترنا مفردة “الخطاب” بعد أن لاحظنا أن تعبيرات المشاركين تجمع بين التصورات والأحاسيس وردود الفعل وتدمج الانطباعات والانفعالات الخام بالخبرات الحيَّة. ولأسباب منهجيَّة صغنا “المعنى الناظم” عند الدلالات المركزيَّة فحسب، وقسمناها إلى ثلاثة  مستويات دلاليَّة، وهي كالآتي : مستوى أول يشمل دلالات العنف وأصنافه ومعانيه، مستوى ثان يتعلق بمبررات العنف المدرسي ومعضلات المناخ المدرسي، ومستوى ثالث يبحث في طبيعة العلاقات التربويَّة ونوعيَّة التفاعل مع البرامج والطرق البيداغوجيَّة.

  • دلالات العنف، أصنافه ومعانيه

تلتقي تمثلات عينة التلاميذ في اختزال العنف في شكله المادي وتحدده في العلامات والتصرفات التي تلاحظ وتعايش من إيذاء مادي وبدني وتبادل اللكمات، مع استعمال “التخويف والتهديد في النقل العمومي” حسب قول أحد التلاميذ. ويعتبر أغلب المشاركين أن العنف الجسدي بمختلف أشكاله، نادر الحدوث داخل المدرسة، باستثناء تلاميذ الإعدادي، وأنه يمارس بشكل مكثف من الأساتذة. وحين نعمق السؤال مع المشاركين حول تقطيع تمزيق الكراسات والكتب والأوساخ والخربشة والكتابة الجداريَّة، لا يمثل عنفا عند عدد منهم ” نعبروا على راحتنا ومجرد لعب، ونوع من حريَّة التعبير والتنفيس”. في حين يأخذ العنف اللفظي أشكالا متعددة، (من التنمر إلى الهرسلة المستمرة: “السب، واللعن، التعيير، التحقير، الاستفزاز والإهانة”)، ويبقى ممارسة منتشرة وموجودة بكثرة بين التلاميذ وداخل المدرسة ومع المربين وحتى لدى التلميذات “البنات زادة يمارسن العنف اللفظي” حسب متعلمة، يتم التخفيف من آثاره واعتباره  غير مزعج ” يقع كل يوم عشرات المرات” بعبارات أحد أفراد العينة. المفاجئ في ذلك أن غالبيَّة المشاركين يرون أن تبادل الشتائم والسباب هي تصرفات عاديَّة في التفاعلات التلمذيَّة ولا تثير القلق إلا إذا تكررت، ويمثل العنف اللفظي أو الكلام البذيء سلوكا تلمذيا لاثبات الذات ” نحس روحي كبير” بمفردات تلميذ. وهكذا تحول العنف اللفظي إلى لغة التداول السائدة بين التلاميذ فيما بينهم، وأصبح استعمال قاموسه “ضمن بنيَّة التفاعل (…) وكأنه وسيلة للتعبير عن مشروعيَّة الانتماء إلى المجموعة الشبابيَّة (…) والتعبير العنيف وسيلة للاندماج[17]، أو  نوعا من التمرد عن النظام المدرسي والنظام اللغوي.

قادتنا “حلقات التركيز” إلى تمييز ثلاثة  أنماط من العنف بالمدرسة. يمكن تعريف هذه الأنماط كما يلي:

أولا، يمارس عنف تلمذي داخل المدرسة في شكل اعتداءات تنفذ في حرم المؤسسة، وفي حالة عنف التلاميذ،  يبرز نمطان ، عنف فردي من قبل تلميذ تجاه تلميذ آخر غالبا ما يكون لفظيا ولا يكون له تأثير كبير إذ غالبا لا يتطور. أما في حالة عنف المربين (مدرسين أو غيرهم) يكون العنف في نفس الوقت لفظيا (تهكم- سخريَّة- شتم) ولكن أيضا عنفا ماديا ” صفع وضربات مع غياب تلاميذ شهود “وفق مشارك، فالعنف المادي يحتكره المربون في القسم أو في مكاتب الإدارة وتم التأكيد أن ممارسة الضرب ما زال تقليدا سائدا رغم منعه قانونيا. ويمارس العنف في مختلف أماكن المدرسة خصوصا في القاعات المنزويَّة وفي الطوابق العليا وفي الساحة، وتتم في الأروقة الخفيَّة، بمعنى في ” حجرات الملابس والوحدات الصحيَّة وبعيدا عن العيون” بعبارات متعلم مشارك، ويقع الإيذاء في أوقات زمنيَّة تقل فيها المراقبة ويكون فيها عدد التلاميذ محدودا مع غياب القيمين والمدرسين.

ثانيا، يمارس العنف من عناصر خارجيَّة تتسلل صلب المؤسسة التربويَّة خلال الزمن المدرسي حيث يتم الاعتداء على التلاميذ وحتى على المدرسين أو الموظفين. ويتم التسلل أيضا خارج الزمن المدرسي، فتُحتل الملاعب وتُجرى مباريات كرة القدم، وتستخدم الفضاءات المغلقة لممارسة سلوكات غير قانونيَّة لا تحترم نظافة المدرسة وحرمتها. وينكشف هذا العنف في مخاطر يفرزها “الشارع” من اعتداءات و”هرسلة” تمارس على التلاميذ أو المربين تحت التهديد بالقوة البدنيَّة أو السلاح الأبيض. ويبدو أن المدرسة  “متورطة” في ذلك بإقصائها التلاميذ خارج المؤسسة، فالفضاء المدرسي لا يستقبل التلاميذ إلا بحضور مدرس، وإلا عليهم مغادرة المؤسسة، وبالتالي فالفضاءات الخارجيَّة هي التي تكون ملاذهم.

ثالثا، أشار بعض تلاميذ حلقات التركيز، وخاصة من الفتيات، إلى عنف مستجد وهو العنف الافتراضي، يتمثل في التهجم على التلاميذ وعلى الإطار التربوي، من خلال الإزعاج بالأنترنت والشبكات الاجتماعيَّة وذلك ببث الإشاعات ونشر الأكاذيب والاعتداء على الخصوصيات بنشر مقاطع فيديو أو استعمال تطبيقات في الصور “تلفيق الصور وإلا إرسال صور مشينة” في الشبكات الاجتماعيَّة. بمعنى أن المدرسة ليست بمنأى عن تصاعد الهرسلة الرقميَّة التي تبدو ظاهريا محدودة وفرديَّة، لكنها قد تتطور في المستقبل وتتضخم مضارها. 

  • مبررات العنف المدرسي أو معضلات المناخ المدرسي

أظهر تقرير اليونسكو (2017) [18] ندرة المدارس التي توفر مناخا ملائما للتعلم وتتيح حياة مدرسيَّة محفزة للتعلمات. ذلك ما أكدته مختلف تقييمات العشريَّة الفارطة ، مبينة أن قرابة  60 % من المتعلمين يدرسون في مدارس تسودها إشكالات انضباط (غيابات-تأخرات- غش) وعنف مادي ولفظي (تخريب- تهديدات…). غالبيَّة الذين تحادثنا معهم عبروا عن شعور قوي بالظلم في المدرسة والإحساس باللاعدالة، ووصفوا الفضاء المدرسي كفضاء اللامساواة بين حقوق الكهول (المربين) وحقوق التلاميذ، وأن “كلامهم لا يساوي شيئا تجاه كلام ورأي المدرس” وفق تلميذ ويذكرون أمثلة عديدة عن سوء استعمال النفوذ، حيث تفضي حادثة سلوكيَّة ولو بسيطة إلى إقصائهم ظرفيا أو طردهم نهائيا من المدرسة. ويمارس التلاميذ العنف إذا ما شعروا بالظلم وعدم الاعتراف والاحتقار والحط من الكرامة، ويتجلى بشكل مكثف في علاقتهم بالمدرسة من خلال المفردات المستعملة ومنسوب الكراهيَّة أو على الأقل النظرة السلبيَّة ” تعيسة والدراسة مقرفة وأتي إلى المدرسة كأني ذاهب إلى السجن” حسب مشارك، وتستفزهم وتدفعهم دفعا نحو الإيذاء والاعتداء على كل العلامات (الجدران- النوافذ- التجهيزات- النظافة- المربين…).

يتعمق هذا الإحساس بالمرارة حين التعبير عن انسداد آفاق المستقبل والتصريح بأن المدرسة ” لا يوجد فيها مستقبل” حسب  تصريح أحد التلاميذ، فالمناخ المدرسي ينمي حالات من الضيق والاختناق ويثير السلوكات العنيفة ويغذيها ويؤجج تعبيراتها ، ويتعكر المناخ المدرسي أكثر من جرَاء سوء تسيير المدارس: تشكيل هرم الأقسام على قاعدة تفريق المجموعات المتضامنة أو ممكنة التضامن، وتفتيت وحدتها وتفكيك روابطها، حتى لا تكون مصدر “إزعاج”  في الوسط المدرسي،  فتتكون بذلك تركيبة الأقسام والصفوف حسب المحاباة، أقسام للتلاميذ المتقاعسين أو من ذوي التحصيل الدراسي الضعيف، وأقسام ذوي النتائج الجيدة ، ولا تنفصل هيكلة الصفوف عن نوع من “تصنيف” الانتماء الاجتماعي الناعم، ذلك أن كل مؤسسة لا تخضع إلى معايير موضوعيَّة، وإنما تتأثر  باعتبارات شخصيَّة أو معرفيَّة أو اجتماعيَّة أو جهويَّة. وتبرز المبررات الداخليَّة للعنف المدرسي في سمة “التسلط” التي تسم بعض الأعوان الإداريين والتربويين في كثير من مواقفهم وتدخلاتهم، فالمدير والمربون يمثلون السلطة والقانون دون أي اعتبار لقيم التعاون والتعاضد، وهي نقطة مهمة استخلصناها من محادثتنا مع التلاميذ، فضلا عن ضمور الاشتغال الجماعي والافتقار إلى فضاءات الحوارات لمناقشة الشؤون اليوميَّة للمدرسة. يمكننا إرجاع ذلك، جزئيا، إلى افتقاد مسيري المؤسسات التربويَّة ومختلف الأسلاك لتكوين عميق في أساليب تنظيم مجتمع المراهقين ولعدم إلمامهم بعلم النفس التربويّ، وكذلك لاعتماد الدولة على تشغيل مؤطّرين تربويّين في الوسط المدرسي بآليات التشغيل الهش. فالعنف صناعة محليَّة ومؤسسيَّة، تنبع من داخل المدرسة ومن بين جدرانها، وأبانت لنا معظم أراء التلاميذ المستجوبين عن تبريرات موضوعيَّة لسلوكاتهم كردود عنيفة داخل المدرسة، ومنها تجاه عنف أعضاء الإدارة وسلك الإرشاد (الضرب حتى من المدير- الإخراج من القسم عنوة- …).

يكشف المشهد التربوي أن المدرسة، بأنشطتها الحاليَّة وهيكلتها وأسلوب اشتغالها الداخلي، تؤكد الخلاص الفردي بالاعتماد على مبدأ الاستحقاقيَّة والتنافس الشرس حسب “فرنسوا دوبي وماري دوري بيلا”، وهي لا زالت توزع “الخيرات المدرسيَّة” (الأعداد)، وتنتج اللامساواة (الانتقاء) بين “المنتصرين” و”المنهزمين” داخلها، ولم تحقق وعودها في تكافؤ الفرص وتقديم الخدمات. انتشرت داخلها مظاهر الوهن العلائقي بتقلص الفرص التربويَّة لتنشئة اجتماعيَّة صلبة داخلها. تبدو المدرسة، على خلاف صورتها المعياريَّة، فضاء لروابط اجتماعيَّة ضعيفة، وفضاء للإقصاء وللإيذاء والاعتداء، جعلها تعيش نوعا من “العجز الديمقراطي” حسب “فرنسوا دوبي”. فالحياة المدرسيَّة لا تعد أرضيَّة لقيم التضامن والتفاعل، بل

” تثير الفدة والانزعاج” وفق مفردات أحد المتعلمين. نلحظ انقلابا عميقا صلب المدرسة العموميَّة، تبدو بعض ملامحه في تأجيج العنف المدرسي، دون أي اعتبار للمهمات الأساسيَّة للمدرسة و التي منها : تثمين الذاتيات، وتنمية شخصيَّة التلميذ وتطوير الكفايات الأفقيَّة والمهارات الاجتماعيَّة كما تنص على ذلك التشريعات والنصوص المرجعيَّة، على خلاف ذلك، كرست المدرسة، في أغلب الأحيان، انمحاء الذاتيَّة التلمذيَّة وغرست الإحساس بالإخفاق الشامل، ” نشعر بالقهرة وأني ما نساوى حتى شيء” بعبارات متعلم ، خاصة أنها تثمن “التميز” و”التفوق” والانتقاء النخبوي ” ولا تولى أهميَّة لمرافقة التلاميذ ذوي الصعوبات الدراسيَّة والسلوكيَّة .

تدفع هذه السياقات الخانقة هذه الفئة (الضحايا) للبحث عن علامات تميزهم وعن الاعتراف بهم  خارج الاستحقاقات المدرسيَّة باعتماد أساليب الإيذاء اللفظي أو المادي مع أقرانهم أو مع المدرسين ومحاولة إثبات الذات بكل الطرق اللامدرسيَّة. وتنبثق السلوكات اللامدنيَّة من تصرف بسيط إلى الاستفزازات البدنيَّة والمس من الحرمة الجسديَّة ” يا طويل، يا قصير،…” وفق تلميذ والقدح في نوعيَّة اللباس أو الانتماء المناطقي، وقد يتدحرج العنف اللفظي إلى شجارات وعراك بسبب ” سرقة الأدوات، تبادل الملابس، علاقات عاطفيَّة”،  كما ينشأ من شجارات بين الأقسام والشعب والمعاهد أو نزاعات بين الأحياء السكنيَّة، وتجاذبات بين أحباء الجمعيات الرياضيَّة. وما استرعى انتباهي في خطاب التلاميذ تطرقهم إلى فضاء “السّاحة”، إذ رغم هامشيتها المؤسسيَّة، وادراكها مساحة استراحة، اعتبروها ميدانا حيويا في تأويج العنف، ففيها تجرب “موازين القوى” والإستراتيجيات الفرديَّة والجماعيَّة، وحالات التنازع والجذب والتدافع، وتبرز في سياقها تصرفات “القيادة” و”التبعيَّة” بين المراهقين، وتتكون فيها ملامح ثقافة شبابيَّة متمردة من خلال الأنشطة المشتركة.

  • 4-3-        المبررات التربويَّة والبيداغوجيَّة للعنف المدرسي

تتفق الأدبيات التربويَّة أن كسب رهان الجودة داخل المنظومة التربويَّة مرتبط بتوفر شروط بيداغوجيَّة ملائمة، وتبني مقاربة نسقيَّة تستحضر مجمل العوامل الكفيلة بدعم نجاعتها والرفع من أدائها، وحث التلاميذ طوال تمدرسهم على تلبية حاجاتهم “للمعنى” (المتعة، المنفعة، الجماعي، الإنساني، والأمن). ويعتبر عنف التلاميذ ردود أفعال تجاه فراغ المعنى، ذي الصلة بالبرامج والوسائل البيداغوجيَّة، حيث تبدو المعرفة المدرسيَّة معزولة عن محيطها، وتتكون من محتويات ووسائل لا تتجدّد دوريا، فالبرامج لم يتم تجديدها فعليا منذ عقدين[19]، ولم تواكب التحوّلات الوطنيَّة والعالميَّة في كل فروع المعرفة، في حين تغيرت العقليات وبرز جيل جديد مع التحولات التكنولوجيَّة وتبدل خارطة القيم والنسيج العلائقي. وتوقف المشاركون مليا عند الأسباب التربويَّة والبيداغوجيَّة للعنف المدرسي، ويرون في الدراسة مضيعة للوقت والجهد والبرامج مملة، ويشعرون بصعوبات التدريس ورفض المدرسين تفسير ما استعصى عليهم من قواعد ” يفسر مرة واحدة” على حد قول أحد المشاركين، تدفعهم للإحساس بهبوط الدافعيَّة والرغبة في التعلم.

كما يرسم التلاميذ عبر أقوالهم جدولا قاتما عن الممارسات البيداغوجيَّة التقليديَّة، التي تستند إلى الإملاء والحفظ ” احفظ وهذه بضاعتكم ردت إليكم” على ما ذكره أحد التلاميذ، وعلى فقر التجهيزات والحوامل المطابقة تجعل من العسير نقل المعرفة بصفة تفاعليَّة. لئن تأثرت المنظومة التربويَّة وأعداد محدودة من المدرسين بمكتسبات الحداثة البيداغوجيَّة، في مستوى المضمون والأفكار والمنهج، فإنه عمليا، يوجد انحباس للأفكار والمبادرات، وتقلص للمناخ الحواري والعمل في إطار الفرق ، إذ لا يزال الصّف في صيغته التقليديَّة، ولم تتغير كثيرا طرق إدارة التعليم الصفي في الضبط والنظام. لم تبتكر المدرسة ولم تطور وسائل بيداغوجيَّة ملائمة لتيسير التعلمات بالإحاطة والتعديل، ولم تترك مساحات حرة للمدرس ولم تدربه على ترقية أساليب نقل المعرفة، وهو ما أفضى إلى محدوديَّة الأداء المدرسي وضعف استيعاب المواد العلميَّة واللغويَّة ومن ذلك انبثاق السلوكات اللامدنيَّة والمرور إلى التصرفات العنيفة.

تجسد الأقسام مجال التمييز وانسداد التواصل وقادحا للعنف، حيث اشتكى عدد من المشاركين من نقص الاحترام من قبل بعض المدرسين، الذين لا يأبهون بهم وتقتصر علاقتهم على إلقاء الدرس فقط، مع علاقات تربويَّة متعاليَّة وفوقيَّة ” يكلمك من الفوق ويتعاملون معنا بطريقة جافة “تصريح أحد المساهمين، لازالوا يعتمدون أساليب السلطة التقليديَّة، مما يؤدي إلى صراع الأجيال، حيث يجد عديد المربين صعوبة في تفكيك لغة الشباب وفهم انتظاراتهم وأنماط تفكيرهم وسلوكاتهم. شعورهم بالامتعاض يدفعهم، في آخر الأمر، للتفتيش عن مصادر للتعويض وتثمين الذات، للدفاع عن النفس أمام اللاعدالة والظلم، والبحث عن الاعتراف بأي شكل كان. ويتعلق الأمر أكثر بالتلاميذ الذي يعانون من الفشل الدراسي والذين لا يحصلون على التشجيع والدعم، يقودهم الشعور بالمعاناة والإحباط إلى تبني منطق الانسحاب أو ممارسة مختلف أشكال العنف المدرسي. كشفت المحادثات عن الحاجتين الأكثر حساسيَّة للتلاميذ في صلتها بظاهرة العنف وهي حاجة التواصل وحاجة التقدير والقبول، وغياب الإصغاء لمشاكلهم وانعدام مرافقتهم خلال الأزمات التي يمرون بها، بمعنى أن المشهد التربوي يفتقر إلى آليات إصغاء وهياكل المرافقة والمساعدة النفسيَّة والتأطيريَّة. ومن مصادر العنف التي تمَّت الإشارة إليها في حلقات التركيز أخطاء التقييم (إسناد العلامات)، حين لا تخضع إلى مقاييس دقيقة، بل تكشف معايير غير تربويَّة مثل المركز الاجتماعي للوالدين، يشعر المتعلمون بأنهم “ضحايا” التقييم الجزائي غير العادل من قبل بعض المدرسين للضغط عليهم من أجل حضور الدروس الخصوصيَّة، أو التهديد بالحط من العدد فرديا أو جماعيا بسبب سلوك سلبي، يراكم بعض المراهقين هذه المشكلات ويتحولون بالتالي إلى حالات يصعب مراقبتها والإحاطة بها.

4-4/ أنسنة المدرسة وتجويد المناخ التربوي

تتطلب معالجة العنف في الوسط المدرسي عدم الاقتصار على الاستجابة الآنيَّة، ويعني ذلك رسم ملامح خيارات أساسيَّة ومتكاملة تستند إلى مبدأ الجودة التربويَّة وشروطها، وتقديم إجابات ذات منحى هيكلي وإنساني بنفس تجديدي، يؤمن بأن للتربيَّة وللمدرسة دور حيوي في تطويق العنف والوقايَّة من السلوكات العدائيَّة، لهذا فإن المداخل التي نقترحها تنبني على ترقية المناخ المدرسي لتحقيق مؤشرات الجودة التربويَّة، فلا جودة تربويَّة دون مناخ مدرسي إيجابي، ولا مناخ مدرسي إيجابي دون الالتزام بمعايير الجودة التربويَّة وشروطها. لا يعني التوقي من العنف في الوسط المدرسي “صفر عنف”، وإنما المؤمل هو تجويد المناخ المدرسي وإرساء ثقافة مدرسيَّة تعتمد قيم الحوار والتفاهم وتنشئ آليات توطينها وترسيخها، لذلك، من الضروري تبني مقاربة مجتمعيَّة تشرف عليها وزارة التربية بالشراكة مع مختلف الوزارت ذات الصلة بالشأن الشبابي، والتنسيق مع المؤسسات الفاعلة في المجتمع المدني، لبلورة حلول مؤسسيَّة تغير المشهد التربوي والثقافة المدرسيَّة في مستوى القيم والآليات. فالمدرسة ليست فضاء للتعلمات فقط، بل هي تدريب على التعايش وعلى المواطنة وقيم التسامح والتضامن، وهي مصنع القيم الاجتماعيَّة والمدنيَّة بامتياز، لذا فإن التوقي من العنف يتطلب تأمين جودة الفعل التربوي وتكريس الحقوق التربويَّة، وتنويع الأنشطة وتجويد مختلف الخدمات التي تقدمها.

من الضروري أن تتحرر المدرسة من انغلاقها داخل “قلعتها”، وتكون أعمق تفاعلا مع مستجدات عصرها، وأكثر انفتاحا على محيطها، بتوسيع الشراكات مع المنتديات المواطنيَّة والجمعيات التربويَّة بهدف تأطير التلاميذ، وأن تجعل من فضاءاتها مجالا للعيش المشترك وإطارا لتنمية شخصيَّة المتعلم ومواهبه بتعميم النوادي الثقافيَّة والرياضيَّة والصحيَّة والمروريَّة والبيئيَّة، وإعادة النظر في أنشطتها حتى تتلاءم مع رغبات التلاميذ وتنجح في استقطابهم. تستوجب الأنشطة الوقائيَّة من العنف المدرسي حوكمة رشيدة  تعتمد على تقاسم الفاعلين لنفس الرؤية وعلى التعاون الفعال بينهم على تحقيق هذا الهدف بانخراط كافة المتدخلين، ومزيد إدماج المربين والأولياء والتلاميذ في عمليَّة حوار موسع لتبادل الأراء والاتفاق حول نموذج موحد للمدرسة. ما يوحد الفاعلين هو الدعوة لإرساء هياكل للحوار والتشاور داخل الوسط المدرسي على غرار تفعيل “المجلس البيداغوجي” و”مجلس المؤسسة” أو ابتكار أشكال تشاوريَّة أخرى تتيح  لمدير المدرسة هامش تصرف لإنجاز مبادرات والتعاون مع مختلف المتدخلين التربويين من أجل صياغة “مشروع المؤسسة” تبعا لما تمليه حاجيات المدرسة الفعليَّة والخصوصيات المميزة لمحيطها الاجتماعي والجغرافي. ولا يمكن الحديث أيضا عن حوار حقيقي في الوسط المدرسي مالم تتغير طبيعة تشريك المتعلمين في إبداء آرائهم وتقديم مقترحاتهم والتفاعل معها. في هذا الإطار يتعين التفكير في إحداث “مجلس التلاميذ” وكذلك تفعيل انتخاب نواب الأقسام لدعم إسهام التلاميذ وإشراكهم عبر نوابهم في مختلف شؤون الحياة المدرسيَّة، إذ لا يمكن تعليم الديمقراطيَّة للتلاميذ إذا كانوا عاجزين على عيشها داخل المدرسة، فالشبان يؤمنون بالديمقراطيَّة حين التمرس بوسائلها وأدواتها وتملك قيمها وتشرب ثقافتها. 

تتطلب كافة المداخل الوقائيَّة المضي بجديَّة في إصلاح تربوي متكامل، من أبرز مكوناتها إرساء الجودة التربويَّة، تتفرع عنها جودة المناهج وأساليب التعليم والتعلم وكذلك اعتماد استراتيجيات جديدة في هندسة البرامج تقوم على تأكيد الجوانب القيميَّة وتعزيز المهارات الاجتماعيَّة. ومن أبرز شروط الجودة التربويَّة تنمية كفاءة الأطر التربويَّة والإداريَّة وتعميق جودة التكوين الأساسي، وتطوير مهارات المرافقة والوقايَّة من السلوكات العدائيَّة في الوسط المدرسي. وعليه، من المجدي تحديث التكوين الموجه للإطار التربوي وتدريبه على الإدارة الصفيَّة وتقنيات التواصل والاعتراف بأحاسيس المتعلمين والإقرار بكرامتهم. وما من شك أن الجميع أصبح واعيا بمحوريَّة المتعلم في العمليَّة التعليميَّة التعلميَّة ومكانته في المنظومة التربويَّة وحقوقه الإنسانيَّة، خصوصا أن منطق التعلم المعاصر يتأسس على مبدأ مساعدة المتعلم على التعلم، ويقتصر دور المدرس على التنظيم والمساعدة، فالتلميذ يتمتع باستقلاليَّة واسعة تمكنه من بناء المعرفة المدرسيَّة والمساهمة في عمليَّة التخطيط. تتطلب احترام خصوصياته الفرديَّة وصيانة حقوقه في تعليم ذو جودة مبني على أساس تكافؤ الفرص، ما يستدعي من المربين استيعاب مبدأ قابليَّة التربية لكافة التلاميذ دون استثناء، وتبني ” أن كل تلميذ يعتبر مهما” دون تصنيفهم والتواصل معهم إيجابيا وبتفهم عميق.

5-مداخل الجودة التربويَّة للتوقي من العنف المدرسي

تنطلق الإجراءات الوقائيَّة من المداخل التالية:

  • تعزيز قدرات المؤسسات التربويَّة وتوسيع العرض التربوي وتجويده في جميع المدارس من أجل الدراسة في أحسن الظروف. وعملا بمبدأ تكافؤ الفرص يجب الاهتمام بالبنيَّة التحتيَّة للمؤسسات التربويَّة ومدها بكافة الوسائل والإمكانيات لتؤدي الأدوار المنوطة بها وتقديم خدمات ذات جودة لكي تصبح جاذبة للتلميذ، لا طاردة له وأكثر حفاوة بالمتدخلين التربويين والأولياء، وفتح المدرسة لكي لا تكون مجرد مساحة للمرور إلى عالم الحياة بل تصبح صورة لعالم الحياة ذاته وللاندماج الفعلي. 
  • تنقية العلاقات الإنسانيَّة في المدرسة حتى يسودها مناخ الاحترام المتبادل بين كافة الفاعلين يطبعه وعي بالحقوق والواجبات، وتغلب عليه روح التعاون والتآزر، مما من شأنه أن يخلق لدى المتعلمين شعورا بالاطمئنان والرضا عن جودة فضائهم المدرسي، وأن يهيِّئ  فضاءات متعدِّدة كالمكتبات والملاعب الرياضيَّة وقاعات الأنشطة وغيرها.
  • الحرص على نقل الممارسة التربويَّة من “التمركز على التعليم” إلى “التمركز على التعلم” كتجدد في أشكال الاندماج، وأن تبنى اتجاهات التلميذ في النموذج التربوي الحديث على التعاون والعلاقات التبادليَّة تعويضا للفردانيَّة والتنافسيَّة، ومن العلاقة المهيمنة إلى العلاقة التشاركيَّة، والاستفادة من النظريات البنائيَّة والسوسيوبنائيَّة في إحياء الصفوف المتضامنة لا المتنافرة، وهو ما يتطلب من المدرسة تجديد عملياتها التدريسيَّة، والاعتناء بالبعد الاجتماعي والتربية على الكفايات الأفقيَّة، وتغذية قيم التشاركيَّة ورفض التنميط عبر “تنمية الحس النقدي في البرامج الدراسيَّة وتطوير التربية على المواطنة العالميَّة ” [20].
  • الارتقاء بالمدرسة لتكون فضاء مواطنيا، بتنمية قيمة الإنصاف، وأن توضع قواعد النظام والانضباط على طاولة النقاش الجماعي صلب المدرسة، وبناء قواعد سلوكيَّة ومرجعيَّة قيم موحدة، بتشجيع مشاركة التلاميذ والمربين والأولياء و ذلك بهدف إنشاء جماعة تربويَّة متماسكة، فالمدرسة مجتمع مصغر، حيث كل فاعل هو مواطن مشارك.
  • العنايَّة بالموارد البشريَّة، نظرا لدورها الحيوي في الارتقاء بمستوى المنظومة التربويَّة والوقايَّة من العنف. فمن الضروري الاهتمام بكافة المتدخلين في الحقل المدرسي، سواء على المستوى المادي وظروف العمل أو على مستوى التكوين الأساسي والمستمر (صناعي وإنساني)  وتبادل التجارب وتجويد شروط انتداب المشرفين على المدارس.
  • تحرير المربين وكذلك الإطار الإداري من الخطط المهنيَّة الروتينيَّة للتصرف بطريقة تجديديَّة تستلهم المبادرات وتثمنها، وتجعل من المدرسة مخبر المستقبل، وتدعم مهارات التخطيط والبرمجة والنظرة العقلانيَّة للزمن. وأن تولي التنشئة الاجتماعيَّة اهتماما أكبر من نقل المعرفة ، وأن تبتكر أدوارا جديدة في مواجهة الانحراف والسلوكات العنيفة واللامدنيَّة باستثمار الزمن  الحر من قبل المدرسة، وأن تفتح أبوابها طوال اليوم  والسنة.
  • تأهيل الفضاء المدرسي عبر حماية التلاميذ من المحيط الخارجي، بتوفير قاعات مراجعة خلال ساعات الشغور تقلل من تعرضهم لمخاطر الشارع ، وضبط روزنامة تخصص قاعة للتلاميذ باستمرار وجدولة زمنيَّة متوازنة تتيح للقيمين القيام بأدوارهم الإرشاديَّة والتربويَّة. وفرض الاحترام الكامل لحرمة فضاء المدرسة من خلال تأمين ذلك الفضاء بسياج، مع الحرص على منع التسللات الليليَّة وذلك بالاعتماد على العناصر البشريَّة (إدارة- يقظة- حراس..) والوسائل التكنولوجيَّة (كاميرات) للمراقبة والحمايَّة.
  • ترسيخ سياسة اللامركزيَّة على مستوى التسيير وتقاسم المهام، وتكييف السياسات التربويَّة مع خصوصيات كل منطقة، ومنح المؤسسات التربويَّة هامشا من الاستقلاليَّة في تسيير شؤونها وإعطائها صلاحيات إداريَّة وماليَّة حقيقيَّة، وإمكانيَّة تكييف المناهج التعليميَّة مع حاجيات متعلميها، بالتوازي مع إخضاعها إلى تقييم أدائها بشكل دوري لمعرفة مدى جودة الخدمات التربويَّة المقدمة.
  • إحداث مرصد وطني لرصد العنف بالوسط المدرسي وتدعيمه بهياكل جهويَّة ومحليَّة وإسناده ببوابة أو منصة رقميَّة لإنشاء قاعدة بيانات دقيقة حول العنف وتحديد البؤر “السوداء” في عدد ارتفاع الاعتداءات، والاشتغال عليها علميا، لضبط الاجراءات وصياغة موضوعيَّة لسبل العلاج والوقايَّة.
  • إصدار نصوص تشريعيَّة وترتيبيَّة لتفعيل سياسات الحد من العنف ورسم الاستراتيجيات وخطط العمل وإبرام الشراكات، وتطوير وثيقة النظام التأديبي[21] وإنجاز وثائق مرجعيَّة لمأسسة الرؤية والاجراءات تشمل مرجعيَّة الجودة التربويَّة ودليل تحسين المناخ المدرسي ودليل إجرائي لمديري المؤسسات التربويَّة وغيرها.
  • صياغة ميثاق استعمال التكنولوجيات الحديثة داخل المؤسسات التربويَّة وتكريس أخلاقيات استعمال الشبكات الاجتماعيَّة والتقنيات الجديدة، وإنشاء نوادي التربية على بيداغوجيات الإبحار في الشبكات العنكبوتيَّة والتفاعل مع المنصات الافتراضيَّة ووسائل الإعلام المختلفة بهدف تطويق العنف الشبكي (الرقمي).
  • بلورة مشاريع مشتركة داخل المؤسسة التربويَّة تحت عنوان “مشروع المؤسسة” مثل إنشاء مواقع إلكترونيَّة، عقد احتفالات متنوعة، إثارة اهتمامات ومشاريع بيئيَّة، تنظيم رحلات علميَّة وترفيهيَّة، إقامة لقاءات رياضيَّة وثقافيَّة وفنيَّة الخ.
  • مراجعة آليات التقييم (الاختبارات)، فالمدرس الذي يقيم جيدا لا يفرز عنفا في صلب هذا المسار، فالتقييم ليس وسيلة للعقاب والضغط والمقايضة، وإنما أداة لتحسين النشاط البيداغوجي وتوفير المعلومة وإجراء التغذيَّة الراجعة للمتعلم لتعديل تمشياته في التعلم، وكذلك للمدرس ليتمكن من تعديل نشاطه.
  • تطوير حلقات الاتصال بين العائلات والمدرسة، وتشريكهم في مشاريع المدرسة، وتخصيص مكان لائق لمقابلة الأولياء وضبط حيز زمني (السبت صباحا مثلا) يطلق عليه مثلا “ساعة الأولياء”.

خاتمة

خلص المقال إلى أن العنف المدرسي متعدد الأبعاد ومركب في تنوع مفاهيمه وتعدد مبرراته واتساع تداعياته على الفاعلين وخاصة المتعلمين، لذا حرصنا على الاستماع إلى “سرديتهم” ورصد فهمهم للسلوكات العنيفة، عبر منهج تفاعلي يستقرئ ما يجري داخل “العلبة السوداء” من خلال تجربة الفاعلين في الوسط المدرسي. تمحورت المقاربة الكيفيَّة حول دلالات العنف ومظاهره وارتباط قوادحه بنمط اشتغال المؤسسة وتجاويف العلاقات البيداغوجيَّة المتوترة وتأثير الطرائق التربويَّة وأشكال العلاقات السائلة والصلبة في تكثيفه وتأجيجه. وتوصلنا إلى استنتاج محوري أنه حين يتدهور المناخ المدرسي وتتضخم الانحرافات الصغرى وتتكاثر وتتراكم الوقائع والخلافات التي لم تعالج، تنتهي إلى خلق إحساس بعدم الأمان لدى التلاميذ والمربين، وتجعل الروابط المدرسيَّة متراخية، مع انكماش على الذات من قبل الضحايا والجسم التربوي على حد السواء. ورسمنا، في الختام، حزمة من المداخل التعديليَّة بغاية أنسنة المدرسة العموميَّة التونسيَّة ومناصرتها على ترقية أدائها وذلك بتفعيل رهانات الجودة في المناخ المدرسي للتقليص من سلوكات العنف وتوفير الظروف المناسبة لتحسين أدائها وتجويد مخرجاتها وتطوير البرامج والحوامل والوسائل البيداغوجيَّة وحواملها. وبناء على ذلك، على المدرسة أن تقاوم باستمرار وبشكل دوري لتجفيف منابع العنف في الوسط المدرسي، ويكفي أن تكون في المدرسة حالة عنف واحدة حتى تحرج كل الفاعلين وتقلق كل مهتم بالتربية والتعليم عن مصير الشبان وتخدش المثل التربويَّة.


[1]  نحو مجتمع المعرفة، الإصلاح التربوي الجديد، الخطة التنفيذيَّة لمدرسة الغد 2002-2007، منشورات وزارة التربية، جوان 2002.

[2]  يعبر نصف المراهقين في مختلف بلدان العالم عن أحاسيس القلق والانزعاج. فقرابة 150 مليون تلميذ ، ما بين 13 و15 سنة، أعلنوا تعرضهم للعنف من أقرانهم داخل أو  خارج المدرسة. وفي 39 بلدا في أوروبا وأمريكا الشماليَّة، قرابة 17 مليون اعترفوا بقيامهم بهرسلة زملائهم في المدرسة، وفي الفئة العمريَّة 13-15 سنة ، صرَح  ثلثا التلاميذ  بمشاركتهم  في شجارات صلب المدرسة.

[3] تقرير اليونسكو” التعليم من أجل البشر والكوكب، بناء مستقبل مستدام للجميع”، 2016، الرابط: https://bit.ly/2Y5Rwj0

[4]

 UNESCO (2010), En finir avec la violence à l’école, Guide à l’intention des enseignants, at : https://bit.ly/3kK2pzo

[5]  المنجي الزيدي، محمد نجيب بوطالب، محمد المهدي المبروك، ظاهرة العنف اللفظي لدى الشباب التونسي، دراسة سوسيو-ثقافيَّة، المرصد الوطني للشباب، نسخة ورقيَّة، مارس 2004.

[6]   الملخص التنفيذي للمسح الوطني للشباب، 2018-2019،  المرصد الوطني للشباب، الرابط: https://bit.ly/3D6MGRn

[7]  القانون التوجيهي للتربيَّة والتعليم المدرسي، الفصل 32.

[8]  شبكة مؤسسات التميز، إرساء تمشي الجودة بالمؤسسات التربويَّة، وثيقة ورقيَّة. 17 ص.

[9]  اهتم الهيكل الفتي للجودة بملفات انتدابات أصحاب العفو التشريعي العام لمدة خمس سنوات، واتسم بعدم استقرار المسؤول الأول، ولم تهتم فعليا بمسائل الجودة أو بالعنف المدرسي إلا بصفة عابرة ومجتزأة (لقاء مع مدير عام التقييم والجودة) بتاريخ 8/9/2021.

[10] تم تركيز منصة رقميَّة لرصد حالات العنف لم تجد تجاوبا من مديري المؤسسات التربويَّة واعتبار ذلك عبئا إضافيا، كما اتسمت بالبطئ وضعفها التقني.

[11] الكتاب الأبيض، مشروع إصلاح المنظومة التربويَّة في تونس، ماي 2016.

[12]  المنهاج، نشر وزارة التربيَّة بالشراكة مع اليونيسف، سبتمبر 2017.

[13]  وثيقة برنامج خطة عمل (2015-2019) بين الجمهوريَّة التونسيَّة واليونيسف، ص22.

[14]  حسب مدير عام إدارة التقييم والجودة (لقاء بتاريخ 8/9/2021).

[15] انطلقت التعلمات الاختياريَّة في أكتوبر 2003 وأنهتها الوزارة في مارس 2006 ، من أهدافها تنمية المبادرة الفرديَّة للتلميذ والمدرس وانتقال التعليم من المواد المنغلقة على نفسها إلى التكامل بين المواد(interdisciplinarité).

[16] المقاربة بالكفايات تصور بيداغوجي يتبنى استراتيجيَّة تربويَّة تسعى إلى تنمية كفاءات المتعلم بما يتناسب مع قدرات المتعلم من جهة ومتطلبات المجتمع من جهة أخرى .

[17]  المنجي الزيدي، محمد نجيب بوطالب، محمد المهدي المبروك، ظاهرة العنف اللفظي لدى الشباب التونسي، دراسة سوسيو-ثقافيَّة، المرصد الوطني للشباب، نسخة ورقيَّة، مارس 2004.

[18] ملخص التقرير العالمي لرصد التعليم المساءلة في مجال التعليم، 2017، الرابط: https://bit.ly/2XQgfHA

[19]  آخر التعديلات للقانون التوجيهي للتربيَّة والتعليم (2002).

[20] تقرير اليونسكو في التعليم لسنة 2017.

[21] النظام التأديبي المدرسي عدد 93/91 سنة 1991.

جديدنا